الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ى التدين والتقوى.
وكان زوجها يعتمد عليها في مقابلة زواره وضيوفه وكان إذا دعا بعضهم إلى بيته يقول لهم: هلم نتمتع بحديث مدام "نكر". واعتزل الأشغال التجارية كلها وأناط بزوجته تدير منزله وأمواله فكانت تحل وتربط وتبيع وتشتري.
وقد بينت ابنتها مدام دوستايل الكاتبة الشهيرة سبب ذلك بقولها: لما رأى أبي أن أمي فقيرة لا مال معها ورآها شاعرة بذلك خاف أن تستصغر نفسها، فسلمها كل أمواله وخول لها التصرف المطلق فيها لكي تشعر من نفسها أن المال لها فتنفذ تخلص من صغر النفس.
وذهب "كين" المؤرخ المتقدم ذكره على باريس فدعاه زوجها إلى بيته وأحسن ضيافته وترحبت هي به وأخبرته أن دخل زوجها السنوي لا يقل عن عشرين ألف دينار، ثم عين المسيو "نكر" وزيراً لمالية فرنسا ومديراً لها، فأصلح شؤون المالية، واهتم بإصلاح السجون والمستشفيات، وكان الفضل الأول في ذلك لزوجته لأنها كانت تتعهد السجون بنفسها وتتفقد كل أحوالها وتدبر الطرق المناسبة لإصلاحها، وأنشأت بيمارستاناً بباريس، فسمي باسمها إلى هذا اليوم.
وأقام زوجها في هذا المنصب الرفيع خمس سنوات وكانت هي المدبرة لأموره لصعوبتها، وأقر زوجها بفضلها وكان زوجها يفتخر بها ويعدد فضائلها فلامه البعض على ذلك لكنهم أخطأوا في لومهم خطأً بيناً لأنه إذا حق الحق للإنسان أن يفتخر بآبائه وجدوده وبعلمه وآدابه كما فعل عمرو بن كلثوم والسموأل بن عادياء وأبو العلاء المعري في قصائدهم الفخرية حق له أيضاً أن يفتخر بآل بيته ولاسيما بزوجته إذا كانت ممن يفتخر بها كمدام "نكر" هذه التي كانت مرشدة لزوجها ومدبرة لأموره وزهرة فضل عرفها في بيته ولكن المناصب محفوفة بالمتاعب ومن رقي العلى استهدف لوقع أسهم الردى فلم يمض على المسيو "نكر" خمس سنوات في هذا المنصب حتى كثر حساده وخيف عليه من عدوانهم فعزم على الاستعفاء وحثته عليه زوجته حتى استعفى وتنحى عن الأشغال السياسية فأسف محبو فرنسا على استعفائه ولامها البعض منهم لأنها حثته على الاستعفاء ولكن عذرها واضح وحجتها دامغة ألا وهي أنها خافت عليه من العدوان وما تنفع المناصب والحياة في خطر وإلى ذلك لم أتأمل في عواقبه فاضطررت في الآخر أن أرغبه في تركه وقد أسفت فرنسا كلها على استعفائه، ونحن أيضاً آسفون جداً لاضطرارنا على ترك هذا المنصب ولاسيما لأننا نخاف أن لا تجرى أموره في مجراها بعد أن تركناه. أما مسيو "نكر" فلم يترك الاشتغال بعد تركه للمنصب -المذكور- بل أكب على تأليف كتاب جاء من أبدع الكتب فبيع منه في أسبوع واحد ثمانون ألف نسخة وألفت مدام "نكر" كتاباً في الطلاق أودعته آيات البلاغة، وطبعته سنة 1794 م.
وتوفيت في تلك السنة بعد أن أصابها مرض عصبي مؤلم فحزن عليها زوجها حزناً مفرطاً. وأورى ضريحها بالعبرات وحق له الحزن والبكاء عليها لأنها رفعت لواء عزه وأنارت سبل حياته بذكاء عقلها وسمو آدابها.
مريم مكاريوس
ولدت مريم نمر مكاريوس في ربيع سنة 1860 م في حاصبيا مدينة من مدن سوريا قبل حدوث المذبحة الشهيرة فيها ببضعة عشر يوماً وتيتمت من أبيها بتلك المذبحة التي شابت لهولها الولدان، فحملتها أمها مع أخيها إلى مدينة صيدا بعدما فرت بهم إلى قرية مجدل شمس بقرب جبل الشيخ، ثم أتت على مدينة بيروت وهي تغذيها بألبان الحزن وتغسل وجنتيها بدموع الحسرات وقامت عليها وعلى أخويها تربيهم بما اشتهر عنها من
الحكمة والذكاء إلى أن بلغوا سن التمييز فأدخلتهم في إحدى مدارس القدس الشريفة ليتعلموا بها العلم الذي لم يكن لأمهم حظ منه لأنها ولدت وربيت في عصر كان تعليم البنات محظوراً فيه بحجة أنه غير لازم لهن ويخشى منه عليهن كذا ظن أهل ذلك العصر وهو ظن أقبح من إثم، فلم تلبث المترجمة في القدس إلا زماناً يسيراً حتى اختارت لها أمها مدرسة من أحسن مدارس بيروت أدخلتها ولم ترض أن تخرج منها قبل أن تتم دروسها كلها وتأخذ شهادتها فدرست من اللغة العربية وفنونها الصرف والنحو والبيان ومن الإنكليزية كذلك ومن العلوم التاريخية والجغرافية والحساب والفلسفة الطبيعية والهيئة وغير ذلك وتمرنت على الأعمال اليدوية من خياطة وتطريز ونحوهما، ونالت الشهادة المدرسية سنة 1877 م وكانت وهي في المدرسة مشهورة بإخلاص النية وسلامة الطوية وذكاء العقل وشدة الحياء.
وبعد خروجها من المدرسة بقليل اقترن بها شاهين مكاريوس، فأنشأت له بيتاً زينته بلطفها ودبرته بحكمتها وفتحت أبوابه للأصدقاء الأدباء من رجال ونساء، فكانوا على مائدتها كأنهم في ناد من النوادي العلمية والمحافل الأدبية وهي تطربهم بعذب كلامها وتكرهم بخمرة معانيه ورزقها الله ثلاثة أولاد ذكرين وأنثى، فربتهم أحسن تربية وعلمت كبيرهم مبادئ العربية والإنكليزية، وكانت عازمة أن تعلم أخاه وأخته متى بلغوا سن التمييز، ولكن أدركتها المنية قبل تحقيق المنى فخسر أطفالها خسارة لا تعوض.
وفي غرة سنة 1880 م اتفقت مع البعض من صديقاتها وعقدت جمعية أدبية سمتها "باكورة سورية"، وانضم إليهن عدد من السيدات المهذبات، فكن يتناوبن الخطب والمناظرات.
ومن خطبها خطبة تاريخية انتقادية في الخنساء الشاعرة العربية الشهيرة جمعت فيها ما تفرق في كتب الأدب وشفعته بانتقاد مكين يدل على توقد ذهنها ودقة نظرها، وقد أدرجها "المقتطف" في سنته التاسعة.
ولها أيضاً مقالة عنونها حرارة الماء أدرجت في السنة الثانية منه ونبذ أخرى ورسائل ومناظرة عنوانها "بنات سوريا" مع البيكباشي الدكتور سليم موصلي. ومناظرة عنوانها "دفاع النساء عن النساء" مع الدكتور شبلي أفندي شميل مؤلف الشفاء سنذكرها في هذه الترجمة لأنها لا يزال صداها يدوي في الأذان حتى الآن وقد كان هذان الدكتوران طبيبيها الخاصين حتى ساعة موتها، وقد بذلا كل الجهد والعناية حفظاً لحياتها الثمينة، فأعياها الداء العياء.
ولها في اللطائف مقالة رنانة في حيات زنوبة ملكة تدمر ورسائل شتى لم تطبع. وقالت مرة في مطالعة النساء للقصص والكتب الفكاهية ما نصه: "نحن نميل طبعاً إلى قراءة سير الناس ولذلك نرى أكثر نساء العالم تقتبس معارفهن وفوائدهن من قراءة الكتب التي من هذا الباب ولا يخفى عليكن أن المرأة الصداقة لا تقصد بمطالعة الروايات وسير الناس مجرد تسلية الخاطر وإشغال المخيلة بما يهيج الأطفال ويسلي الأولاد الصغار، ولكنها تقصد أولاً تحصيل الفوائد اللازمة لها في حياتها مثل معرفة الأخلاق واختلاف الأحوال، وصروف الزمان والتصرف في النوائب، وفضل ممارسة الفضيلة، ووخامة مرتع الرذيلة، واعتبار العواطف الشريفة، والافتداء بالذين فاقوا في حسن صفاتهم وكرم أخلاقهم وفازوا بجميل صبرهم وأفادوا بحسن تربيتهم واهتمامهم بجبر القلوب الكسيرة، وتشجيع النفوس الصغيرة، وإصلاح شؤون هذه الفضائل وأمثالها تقصدها المرأة الحكيمة أولاً في مطالعة الروايات والسير، وتقصد الفكاهة والتسلية ثانياً وإني طالما وددت لو كان لنا نحن بنات اللغة العربية ما لغيرنا من الروايات التي إذا قرأناها لم تعل وجوهنا حمرة الخجل. ومن السير التي نجد فيها ما يوسع العقول ويهذب الأخلاق ويلطف العواطف، ويكمل الأدب ويعلم أحوال
العالم ويكشف لنا خبايا الطبع البشري فلم أنل المنى إلا في قليل مما وقفت عليه ولم أزل أضطر إلى مطالعة كتب الإفرنج لتحصيل ما أشتهيه من هذا القبيل مع أننا في زمان تتبارى فيه أقلام الكتاب ويتباهى فيه أولوا النباهة والذكاء.
وقالت أيضاً منتقدة إغفال ذكر الأمهات من تراجم البنين والبنات ما نصه: "ولم يذكر لنا المؤرخون عن اسم أم الخنساء ولم يكلفوا النفس أي كلمة عن التي قاست الأهوال وأحيت الليالي حرصاً على حياة بنتها وحباً لتربيتها فأين الإنصاف من ذلك وفضل البنت من فضل أمها وقد قال الفيلسوف: إن الباري إذا شاء أن يخلق في أرض فيلاً عظيماً خلق فيلة عظيمة تلده. وما أدرانا أن الخنساء لولا فضل أمها لم يكن فيها فضل تشتهر به ولولا حسن تربية أمها لها نبغت بما نبغت نعم إنها ولدت من نسل امرئ القيس أشعر شعراء العرب، والأقرب إلى العقل أن تكون قريحته قد اتصلت إليها بحكم الوراثة ولكنها اتصفت أيضاً بصفات أدبية أسمى من صفاتها العقلية ومن المعلوم أن امرأ القيس لم يفق في آدابه ولو فاق الشعراء في شعره فالمتأمل في سيرة الخنساء يجد مندوحة لإسناد الفضل إلى أمها وإن يكن على سبيل الزعم والتخمين ولو تنازل المؤرخون إلى ذكر أم الخنساء وصفاتها لظهر الحق وانتفت الظنون وكفى بذلك فائدة إن يكن في ذكر الأم غيرها.
وقالت أيضاً منتقدة "سكوت" الكتاب في السير والتراجم عما يحدث للإنسان في صباه من الحوادث والنوادر ونحوها: "وقد ضربوا صفحاً أيضاً عما جرى للخنساء في صباها ولم يشيروا إلى أيام حداثتها والحال أن الإنسان لا يتكمل الفائدة ولا اللذة في مطالعة سير غيره إلا متى اطلع على أحوالهم فعرف نقائصهم وفضلهم، وحسناتهم وسيآتهم وما فاقوا فيه وقصروا عنه وكيف طرأت عليهم التجارب والمصاعب فتخلصوا منها وتغلبوا عليها وكيف توسعت قواهم العقلية واستقامت قواهم الأدبية، ونمت أبدانهم واشتدت قواهم الجسدية وما كانت نوادرهم ومزاياهم وسائر خصائصهم وهذه الأمور كلها تظهر في زمان الطفولية والصبا أحسن ظهور، ولذلك يجد القارئ معظم اللذة والطلاوة إن لم نقل معظم الفائدة أيضا في معرفة أحوال الشخص في طفوليته وحداثته".
وقد عرفت المترجمة في ردها على الدكتور شبلي شميل بقولها: إن الزوجة الفاضلة هي المعزية الحزين المفرجة الكروب الصابرة على مضض العيش ونغص الحياة الراضية بمشاركة الرجل في سرائه وضرائه المحافظة على ولائه الطالبة ستره الناسية نفسها في خدمته الباذلة حياتها في مسرته، وتربية عائلته الممتازة بالوراعة والعفاف والطهارة وهذه الأوصاف قد كانت دأبها في حياتها وقد استكملتها واحدة فواحدة كما يعلم ذلك أصدقاؤها ومعارفها وأما أنا فلم يسعدني الحظ برؤيتها وبالاقتباس من أنوار معارفها.
وفي سنة 1881 م أنشأ بعض المحسنات الأميركانيات والوطنيات جمعية لتعلم النساء البائسات والتصدق عليهن فشاركتهن في هذا العمل المبرور وجعلت بيتها داراً لتلك الجمعية فكن يجتمعن فيه كل أسبوع يتعلمن ويأخذون ما يتصدق به عليهن من كسا ونقود.
وفي أواخر سنة 1885 م انتقلت المترجمة مع زوجها إلى الديار المصرية، ولما استقر بها القرار عكفت على المطالعة والدرس استعداداً لعمل حميد كانت ناوية أن تشرع فيه خدمة لبنات عصرها لو فسح في أجلها ولكن باغتها على غرة مرض له "باشلس" يدخل الأبدان مع الهواء وينشب في الرئتين أظفاره، وهو المنية بعينها ولا دافع له من دواء ولا رقية:
أمر رب العباد يقضي بما شاء
…
تعالى عن الخلائق سرمد
فأرجعت مريضة إلى بر الشام في صيف تلك السنة نزلت في قرية من أطيب قرى لبنان هواء وماء فأقامت
هناك على ربى لبنان تصارع الداء بجودة الهواء إلى أن دخل فصل الشتاء فقال الأطباء: قد أزف الرحيل ومصر لمن كان مثلها خير دواء، فرجعت إلى مصر ومضت إلى حلوان وعادت على القاهرة وامتحنت كل علاج قديم وحديث أشاربه الأطباء، وكلهم من صفوة المعارف وأخلص الأصدقاء لها ولكن ماذا ينفع الدواء والداء عياء.
ولم يذهب المرض الطويل والألم الشديد بشيء من بشاشة وجهها ولا من طلاوة حديثها ولا من حصافة رأيها فكانت تبش بوجه العواد مهما كانت آلامها قوية وتسامرهم وتطايبهم وترتئي الآراء السديدة وتقص الأحاديث المفيدة، وهي عارفة بسير مرضها وبأن الشفاء فيه نادر، ولما قطعت الرجاء من الحياة كاشفت ذويها فأرادوا أن يقووا آمالها فقالت: إليكم عن المحال فقد أزف الرحيل وستحضرني الوفاة هذه الليلة ونادت زوجها وأخاها وكل واحد من أصدقائها باسمه وتكلمت معهم كلاماً يلين له الجماد، ويفتت الأكباد، ثم أغمضت جفنيها وأسلمت الروح في الساعة الأولى من يوم 22 آذار (مارس) سنة 1306 هـ في غرة فصل الربيع وهي في غرة ربيع الحياة.
ومن آثارها رسالة بعثت بها إلى جمعية السيدات اللواتي نلن الشهادة المدرسية في مدرسة البنات السورية في بيروت وذلك في شهر نيسان (أبريل) سنة 1887 م وهي:
"إلى حضرة الرئيسة المحترمة والأعضاء المكرمات بعد التحية أقول: إني لو خيرت لاخترت الحضور بينكن والتمتع بمجالستكن، واجتناء لذيذ أحاديثكن على المكاتبة وتبادل الأشواق بالحبر والقرطاس، ولكن هذا نصيبنا فقد قسم لنا أن نترك الوطن العزيز وأن نفارق صاحبات حبيبات، وداراً ضمتنا جميعاً فقضينا فيها أوقات أنس من أظرف الأوقات، وتعلقت قلوبنا بها فصارت تحن إليها وتتحسر عليها ألا وهي المدرسة التي أنتن مجتمعات فيها الآن والتي تغذينا منها بألبان المعارف والعلوم. لا ريب عندي أن كلاً منكن تذكر الآن تلك الأيام التي كنا نجتمع فيها معاً كالأخوات، بنات العائلة الواحدة، مشمولات بنظر اللواتي كن يسهرن علينا سهر الأمهات على البنات ونحن نرتع في نعيم الطهر والصبا نملأ منه صافي كأس الحياة لا هم لنا إلا العلوم ولا غم إلا عدم حفظ الدروس. أما الآن فقد تبدلت تلك الأحوال وتشتت عملنا في كل الجهات حتى صار يصعب علينا الاجتماع جميعاً في محل واحد ومكان كما هو مقتضى جمعيتنا هذه وقد وصلت دعوتكن إلي وأنا بعيدة عنكن غير قادرة على الاجتماع معكن وقد قيل: إن الطاعة خير من الذبيحة فلذلك رأيت أن أكتب إليكن ببضع ما شاهدته بعد اجتماعنا الأخير إجابة لطلبكن في الدعوة راجية منكن المعذرة على إشغال وقتكن بمطالعته لقلة ما تضمن من الفوائد فأقول: فارقت بيروت في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1885 م مع رفيقتي الصادقة الوداد السيدة ياقوت صروف قاصدين القاهرة محل إقامتنا الآن فمررنا بمدن رأيت فيها جماعة من بنات مدرستنا اللواتي سبقننا إلى هذه البلاد، ثم ركبنا القطار وسرنا أسرع من الطير في تلك المركبات العجيبة التي أزالت عناء الأسفار وقربت ما بعد من الديار فقطعنا في نحو ساعات ما يقطع عندنا في أسبوع من الزمان، ولما دخلنا القاهرة وجدناها مدينة كبيرة متسعة الأزقة والشوارع تختلف عن بيروت اختلافاً عظيماً، ولكن لم تطل إقامتي فيها حتى صرت أشعر بالوحشة العظيمة لجبال لبنان التي حوت بيروت في كنفها والبحر المتوسط المنبسط أمامها كالبساط الأزرق في رواق أجمل القصور، هذا ومن يسمع عن القاهرة أو يقرأ كلام الكتاب فيها يتوهم أنها هي الفسطا المدينة
القديمة الشهيرة والحال أن تلك لم يبق منها إلا أطلال بالية وبيوت قليلة خربة أو متداعية وكلها في جهة تعرف بمصر العتيقة في هذه الأيام.
وأما المدينة ففي 30 درجة من العرض الشمالي و 28 درجة من الطول الغربي في وسط سهل فسيح، قد اختلطت فيه رمال البادية بالطين الذي جرفه نهر النيل إلى مصر من قلب أفريقا ويحاذيها من ناحية الشرق الجبل المقطم وهو كبعض التلال المنبسطة في ربى لبنان أو أوطأ منها، ومن ناحية الغرب نهر النيل ملاصقاً للبيوت التي على أطرافها ولغزارة مائه واتساعه العظيم يسمونه هنا بحراً وقد صدقوا فلو جمعت أنهار سوريا كلها معاً لما ساوت جانباً منه.
والمدينة مؤلفة اليوم من بيوت قديمة وبيوت جديدة فالقديمة مبنية ومرتبة على الاصطلاح الشرقي والشوارع بنيها ضيقة والأزقة يغلب أن تكون قذرة والهواء غير نقي لانحصاره والمباني غير جميلة ولكنها لا تخلو من محاسن كثيرة يلذ بها ذو الذوق السليم كمنجورها المعروف بالمشربية فإنه بديع الجمال ويزيده طول عهده حسناً وجمالاً لأن طول الزمان كبعد المكان يكسو الشيء أثواباً من الجمال والجديدة مبنية على الطراز الغربي الجديد ولا حاجة لوصفه وأحقر المباني القديمة أكواخ الفلاحين وهي صغيرة قذرة في جميع أنحاء القاهرة فيرى الإنسان في الأرض الواحدة قصوراً فخيمة ومباني رشيقة، وزخارف تسبي العقول وتبهر الأبصار بجانبها تلك الأكواخ الحقيرة البناء القذرة الظاهر النتنة الداخل المعروفة عند المصريين بالعشش فكأني بمصر قد جمعت أبدع الصناعة الأوروبية مع أحقر الصناعة الأفريقية في رقعة صغيرة من الأرض.
وكانت القاهرة قديماً محاطة بسور لا تزال آثاره ظاهرة في بعض الجهات إلى الآن. ويقال: عن الرياح كانت تسفي عليها رمال الصحراء قديماً حتى تغشيها بها كما يغشى الضباب جوانب الأنهار، ولذلك كثر رمد العينين فيها وتلفت عيون الجانب الكبير من أهاليها ولكن لما حكم محمد علي باشا وإبراهيم الذي تغلب على سورية وحكم عليها زماناً ولا يزال اسمه أشهر من نار على علم عندنا في بلاد مصر عمرها إلى درجة سامية في التمدن فأنشأ المدارس والمعامل وبنى المستشفيات، وفتح الطرقات، وغرس الأشجار وجعل القاهرة ثانية القسطنطينية في الاتساع، وبنى جامعة المعدود من أشهر جوامعها العديدة على مقربة من الجبل وكله مبني من المرمر اللامع الذي يكاد يكشف عما تحته ومزين بالنقوش والكتابات البديعة، وفيه الثريات الكبيرة والطنافس النفيسة التي لم تر عيني أعظم منها ولا أبدع صفة، ولما توفي إلى رحمة ربه دفن فيه، وأحيطت الحجرة التي دفن فيها بمشبك من النحاس الأصفر المتقن الصنعة البديع الشكل والجامع يطل على المدينة، وقد وقفت بجانبه فرأيت أمامي معظم القاهرة مقطعة بالشوارع تقطيعا هندسيا، وقد رفعت فيه قباب الجوامع على ما سواها من المباني وعلت المآذن مئات كأنها شجر غاب في سهل أو سواري السفن في البحر.
ويلي المدنية غرباً نهر النيل جارياً بين حقول الزرع وغياض الشجر، وغابات النخيل كأنه سيف صقيل مسلول على بساط أخضر وثير ويلي حواشيه الخضراء رمال الصحراء والأهرام الناطحة عنان السماء، وهذا المنظر من المناظر التي تستحق أيدي أبدع المصورات وتعرضها قرة للعيون ونزهة للنفوس، وبجانب هذا الجامع قلعة عظيمة كانت تسك فيها النقود ويعرف مكان سكها بالضر بخانة، والقلعة اليوم في قبضة الجنود الإنكليزية التي دخلت البلاد مصر بعد النازلة العربية.
وفي القاهرة جوامع عديدة بعضها موصوف بجمال داخله رونق ولكن أشهرها في الاسم يكاد يكون أدناها في البناء أريد به الجامع الأزهر الذي سمعتن به كثيراً فهو جامع للتدريس وفيه من الطلبة ما ينيف من عشرة آلاف طالب على ما يقال فهو أكثر مدارس
الأرض طلبة وأقدمها عهداً فيما يظن ومنه يخرج أشهر علماء العربية والفقه والأدب من المسلمين والذي اعتنى كثيراً بتحسين القاهرة وهندستها وترتيبها إسماعيل باشا والد سمو الخديوي الحالي.
قيل: إنه كان معلقا خارطة باريس في غرفته الخاصة حيث يقع عينه عليها في دخوله وخروجه، وكان باذلا جهده في تخطيط القاهرة بحسبها، فمد الطرق الواسعة فيها من طرف إلى طرف حتى صارت المركبات تخترقها في أكثر جهاتها وغرس الشجر على جانبيها، ونور أشهر شوارعها بنور الغاز، وشيد فيها المباني الضخمة من قصور ونحوها وأشهرها مرسح للتمثيل يسمونه "الأوبرا" بالاسم الفرنساوي قد أنفقت عليه أموال كثيرة جدا حتى صار الناس لا يستكثرون فيها أعظم المبالغات.
وددت لو أن قلمي العجز يستطيع وصف محاسن هذه "الأوبرا" فكنت أوفيها حقها أما الآن وأنا على ما أنا عليه من العجز والقصور، فأكتفي بوصف وجيز لها ففي وسط قاعة التمثيل ثريا -أي نجفة- تنار بالغاز لها أنابيب من الصيني على هيئة الشمع فيتوهم الناظر إليها أنها شمع وقد صنع بعضها أكبر من بعض حتى كأنه ذاب مشتعلا وبعضها كأنه الشمع الذائب يقطر عن جوانبه وقد عبث النسيم باللهيب فأصاب حافة الشمعة فإذا بها إلى غير ذلك مما قلد فيه الشمع تمام التقليد، وحجم هذه الثريا معتدل الاتساع.
وفي وسط القاعة أمام مرسح الملعب نحو ثمنمائة كرسي مشدودة بالمخمل العنابي وحولها أربع طبقات مستديرة بعضها فوق بعض وقد قسمت كل طبقة إلى أربعين غرفة في كل غرفة خمس كراسي ومقعد مشدود بالمخمل العنابي اللون وجدرانها مدهونة بمثل ذلك اللون، وعلى بابها ستار من لونها وقد علقت مرآة كبيرة على جدار منها وفرشت أرضها بالطنافس وكل غرفة معدة لخمسة أشخاص، وأما سقف القاعة فمرسوم فيه صور أشهر الممثلين والموسيقيين وللخديوي غرفة خاصة ولحرمه غرفة خاصة مقابلها وكلتاهما على غاية الإحكام والهندام، وفيها من الفرش والوشي والتطريز ما يدهش الأنظار.
هذا عدا ما فيها من قاعات الجلوس ومخازن الملابس والآلات وسائر المعادن وملابس للممثلين من المنسوجات المختلفة الألوان والأشكال من حرير وقطن وكتان، ومن يجول في مخازن الأوبرا يحسب أنه يجول في أسواق مدينة قد حوت مخازنها ما لا يوصف بخط القلم على القرطاس.
ومن مشاهد القاهرة أيضا الجسر الكبير على نهر النيل تمر عليه المركبات لاتساعه ويمشي على رصيفين بجانب طريق المركبات ولطوله لا تقطعه المركبات في أقل من ثلاث دقائق أو أربع وكله من الحديد المفروش بالبلاط وهو يفتح ويقفل في ساعة معنية من اليوم لمرور السفن بالجسور التي نقرأ وصفها في كتب الإفرنج.
ومن مشاهد القاهرة مدارسها العلمية وأشهرها مدرسة قصر العيني حيث يعلم فيها الطب والجراحة، وهناك صف من النساء يتمرن على التمريض ويدرسن علم الولادة وبعض فروع الطب ويمتحن جهارا كبقية التلامذة من الشبان ومدرسة المهند سخانة وتدرس فيها العلوم العالية ولاسيما الرياضيات وصناعة الهندسة والمدارس في مصر كثيرة أعظمها وأشهرها للحكومة ولكن أكثرها تعلم بالأجرة.
ومن المشاهد العلمية أيضا المرصد الفلكي والمعمل الكيماوي والمكتبة الخديوية ولعلها أحسن مكتبة في الشرق وخصوصا في كتبها العربية.
وأعظم مشاهد القاهرة اعتبارا معرض الآثار المصرية المعروفة هنا بالأنتيكخانة ففيه من الآثار المصرية ما يعز وجوده في غيره من معارض الدنيا من تماثيل وصور ونقوش، وكتابات وآنية وأجسام محنطة قد حنط بعضها من قبل أيام موسى الكليم، ولا يزال على رونقه
الأصلي حتى إن الكفن ما عليه من الألوان كالزنجاري والأصفر والأحمر لا تزال على ما كانت عليه من البهاء منذ آلاف من السنين مع أن ألوان هذا الزمان لا تقيم بل تحول وبهاؤها يزول.
وهذه الآثار يمتد زمانها من أيام الفراعنة إلى الإسكندر فالبطالسة فالرومانيين فالأقباط بعدهم، وبينها كثير من جثث ملوك المصريين وعيالهم محنطة من قبل أيام الخليل إبراهيم، ولا تزال شعورها على رؤوسها ولفائفها وأكفانها باقية عليها غير بالية وشاهدت هناك شيئا كثيرا من الجواهر والحلي القديمة المصنوعة كحلي هذه الأيام من أقراط وخواتم وأساور وعقود مرصعة بالحجارة الكريمة ترصيعا متقنا.
ومن الغريب أن بين الأساور ما هو على شكل الحية وعيناه حجران كريمان كأساور هذه الأيام وشاهدت أيضا أسلحة كثيرة الأنواع مختلفة الأشكال ومرايا مصنوعة من المعادن الصقيلة وأحذية ذات سيور وقمحاً وحمصاً وفولاً وعدساً وبيضاً وإجاصاً ودوماً وهو كبير يشبه السفرجل في هيئته وكتانا من أحسن أنواع البوص، وأمراسا ومكانس.
وأدوات البناء من الخشب والنحاس المعروف بالبرنز ولم أر أبين تلك التحف أثرا للحديد حتى مسامير التوابيت وغيرها كلها من الخشب أو النحاس إذ الحديد كان لا يزال مجهول الاستعمال في تلك الأيام على ما أظن.
وهناك تماثيل لأكثر الملوك القدماء منها من المرمر أو الحجر الصلد أو النحاس، وأبدع ما في صنعتها بوضع العيون التي رأيتها وهي متخذة من الحجارة الكريمة ولإتقان صناعتها في الشكل واللون واللمعان لا تمتاز عن عيون الأحياء إلا بالجهد وهي أفضل كثيرا من العيون التي يصنعها أبناء هذا الزمان ومن أغرب التماثيل التي رأيتها هناك تمثال من الجميز قد أمسك بيده عصا أظنها من العرعر والمظنون أنه صنع قبل أيام النبي موسى وأنه من أقدم مصنوعات البشر، ومع ذلك فكأنه تمثال رجل من المصريين في هذه الأيام.
ويسمى عندهم سيخ البلد، وكل من دخل هذا المعرض علم بعض العلم عن عبادة المصريين واعتبارهم لجثث موتاهم مما يرى فيه من تماثيل الآلهة التي على صورة التمساح والسلحفاة والقرد والنسور والضفدع والخنفساء وغيرها من تماثيل الحيوانات مما يرى من الجثث المحنطة الملفوفة لفا محكما بلفائف الكتان المتناهي في الرقة، وهي موضوعة في توابيت من الخشب.
وهذه التوابيت ترسم على ظواهرها صور موتى وتغطى ظواهرها وبواطنها بكتابات بالخط المصري القديم المعروف بالهيروغليف ويوضع فيها من الجثث المحنطة والمآكل المحنطة المجففة مثل الأرز والبيض واللحم والأثمار ونحوها وكانت عادتهم أن يضعوا التابوت المتضمن الجثة ضمن تابوت آخر وهذا ضمن آخر وهكذا حتى يبلغ عدد التوابيت أربعة أو أكثر أحيانا.
ثم يضعونها داخل تابوت من الحجر الأصم، وقد رأيت تابوتا لإحدى الملكات قد صنع كله من الكتان المرصوص طاقا على طاق.
ثم عولج بنوع من الطلاء حتى صار كالخشب سمكا وصلابة والغالب أن كل أثر من هذه الآثار يكون مقرونا بكتابة هيروغليفية تبين ماهيته وما حالته، وقد رافقنا داخل المعرض رجل مصري يقرأ هذا الخط ويترجمه لنا كما نقرأ نحن كتب الإفرنج ونترجمها.
وفي القاهرة منتزهات مختلفة عظيمة الإتقان فيها تصدع الموسيقى وتسمع آلات الطرب في كثير من الأحيان بعضها في وسط المدينة وبعضها خارجها كمنتزه شبرا وهو قديم العهد والعباسية والأزبكية والجزيرة وقد فضلت الجزيرة على ما سواها لأنها قريبة الشبه من بقاع كثيرة في سوريا ولبنان والمفاوز بنظرة واحدة وهي تبعد نحو ميل عن وسط المدينة والطريق إليها واسعة نظيفة محاطة بالأشجار الملتفة على الجانبين ترش بالماء يوميا كجميع طرق المدينة فيتلبد ترابها ولا يثور غبارها تحت الحوافر والعجلات والأقدام، وتظهر من خلالها
المروج المختلفة الألوان، والنيل ينساب في وسط انسياب الأفعوان، وهي تؤدي إلى قصر فخيم بناه إسماعيل باشا الخديوي السابق في وسط حديقة غناء كثيرة الأشجار لطيفة الأزهار، واسعة الطرق، عديدة التماثيل وجلب إليها الأنواع العديدة من الوحش والطير حتى أشبهت معارض الحيوانات في أوروبا، ولم يبق بها إلا القليل في هذه الأيام والمنتزه العمومي قرب هذا القصر مركزه يعرف بالجبلايه ولعل المراد بها تصغير الجبل وهي تقليد الجبل الطبيعي، قد صنعت حجارتها من الحصى والرمل يمر الصاعد إلى قمتها في مغارة واسعة كثيفة الظل رطبة الهواء يتسلسل الماء من نواحيها، ويتدفق من بعض الثقوب التي فيها، ويقطر من سقفها خيوط مدلاة قد رسب الكلس عليها وكستها الطبيعة فأشبهت الرواسب الكلسية التي تتدلى من سقوف بعض الكهوف السورية، وفي جوانبها حياض كالنقر من الصخور قد سدت بالزجاج السميك كأنه ماء قد جمد فكون جدارا من الجليد، وفي أرضها الحجارة كأنها أنفذت من سقف المغارة وجوانبها وتدحرجت في أرضها على ممر السنين وتوالي الحوادث والأيام، ثم يرقى على درج ملتف وكأنه طبيعي لم تمسه يد البشر حتى يصل إلى قمتها فيجد هناك في طريقه بقعة كانت مزروعة بالأعشاب والأزهار والأشجار ويرى حوله منظرا فسيحا من غياض الصنوبر (من شجر الفتنة ولعلها كتبت الصنوبر سهوا) والسنط وسهول القمح، والحبوب والنيل ينسحب بينها كأسلاك الفضة وصحارى الرمال إلى غير ذلك مما يشرح الصدر ويطيل العمر.
وأخبت أنه يوجد ما هو أجمل من هذه الجبلاية في قصر يسمى قصر الجيزة، ولكني لم أره -ويوجد جبلاية أصغر منها في المنتزه الكبير في وسط المدينة المعروفة بجنينة الأزبكية- وهي جنينة مساحتها لا تقل عن مساحة إحدى قرى لبنان المتوسطة في الاتساع في وسطها بحيرة متسعة تسير فيها القوارب الصغار والكبار ودائر البحيرة الأشجار الكبيرة والأزهار النضيرة، والأراضي الخضراء، والحدائق الغناء، وفيها مرسح للتمثيل ومبان للطعام وقباب تضرب الموسيقى العسكرية فيها يومياً وأبوابها مفتوحة لعموم الناس، ومخازن القاهرة الكبرى بيد الإفرنج من الأجانب، وأكثر جهاتها المطروقة من الخاصة والعامة مزدحمة بالقهاوي والحانات والخمارات ولم يترك الأوروبيون المتعاطون الأسباب في القاهرة واسطة إلا أجروها لاجتذاب الأهالي إلى الإسارف واللهو والطرب، ولذلك ترى العامة من الأهلية يتهافتون على ما به خرابهم وبوارهم تهافت الفراش على لهب النار، ولم نسمع حتى الآن بجمعية علمية أو أدبية للأهالي تذكرنا جمعيات بيروت أو اجتمعات مفيدة للشبان والشابات كالاجتماعات التي عندنا إلا أننا منذ مدة حضرنا افتتاح جمعية علمية أدبية في دار المرسلين الأمريكيين كان فيها نحو مائة وخمسين نفسا حاضرين واجتماعاتها أسبوعية وقد تزايد عدد الحضور جلسة فجلسة حتى صار يبلغ خمسمائة في هذه الأيام، وقد ضاقت القاعة دونهم فالأمل أن هذه الجمعية تثبت وتنمو وتكون سببا لقيام غيرها من الجمعيات العلمية الأدبية حتى ينتشر التهذيب الصحيح بين الشبان والأهالي الذين أوتوا حظا وافرا من اللطف الطبيعي ولين العريكة وسهولة الانقياد. والله أسأل أن يقدرنا على قضاء خدمة نافعة لبنات هذه البلاد. انتهى.
ومن كلامها مقالة أدرجت في السنة الأولى من جرنال اللطائف تحت عنوان تربية الأولاد وهي خطبة الأخلاق من أدب ولده صغيرا سر به كبيرا وهما قولان جديران بالمراعاة، وحريان بكل اعتبار لأنهما صادران من أعقل الناس وأحكمهم متعلقان بأهم ما في العالم من الأعطية والكنوز فإن الأولاد هم عماد الهيئة
الاجتماعية منهم يقوم الأفاضل ومنهم يقوم العلماء وولاة الأمور، ومنهم تتألف القبائل والأمم والشعوب فهم أساس الهيئة الاجتماعية وبهم يتم انتظامها وتمدنها وارتقاؤها في مراتب الكمال.
ولما كانت تربيتهم أقوى الوسائط لعقولهم المهذبة لأخلاقهم المقومة لاعوجاجهم وكانت هذه التربية متوقفة على الوالدين خصوصا وغيرهم عموما كانت واجبات الوالدين نحو أولادهم من أعظم الواجبات والوديعة التي أمنهم الباري تعالى عليها أجل الودائع، ولذلك لا يسع الوالدين الحنونين إلا الاهتمام بتربية أولادهم والبحث عما يجعلها قويمة المنهاج، شافية العلاج.
وهذا ما قصدت الكلام فيه بوجه الاختصار فأقول: إن التربية ليست علما بقواعد وأصول كسائر العلوم يتعلمه الإنسان من بطون الصحف ولكنها نوع من السياسة يراعى فيها الإنسان أحوال الأولاد والزمان والمكان مع أنها لا تخلو من (مبادئ) عمومية يصح الجري عليها في كل حال لكن أكثرها يتوقف على حكمة المربي وفطنته وغيرته وحسن أخلاقه، ويمكنني أن أقول بالإجمال: إن التربية يلزم لتمامها شروط بعضها يتعلق بالمربي وبعضها بالمربى فمن أعظم الشروط اللازمة في المربي أن يكون هو نفسه مرب حسن الطوية، مهذب الأخلاق والأقوال حميد السيرة، صافي السريرة وإلا ذهبت مساعيه عبثا، وربما زادت أضرارها على منافها لأن المربى يميل بالطبع على الاقتداء بمربية في كل شيء وتقليده قولا وفعلا حتى كأنه صورة خلقته أو صدى صوته، فإذا لم يجر المربي على حسب تربيته للمربى كذبت أقواله وأفعاله وأبطلت أمياله ومساعيه.
يحكى أن السرطان أراد يوما أن يقوم خطوات ابنه فقال له: ما لك يا بني تمشي مجانبا ولا تقوم خطواتك؟ قال: رأيتك يا أبي تمشي كذلك قبلي فاقتديت بك وحسبي أن أشبهك ولقد أصاب قول من قال: "ومن يشابه أبه فما ظلم". ويلزم المربي أيضا مع ذلك أن يكون حكيما متأنيا مالكا طبعه خبيرا بمواقع الأقوال ونتائج الأفعال فيجعل كلامه مع المربى على قدر حكيما متأنيا مالكا طبعه خبيرا بموقع الأقوال ونتائج الأفعال فيجعل كلامه مع المربى على قدر الحاجة اللازمة لتقويم أوده وتهذيب أخلاقه ويقصر أفعاله على ما يؤثر في نفس الطفل أحسن تأثير يحثه على الخير وينهاه عن المنكر. وأما الشروط اللازمة في المربي فسأتكلم عليها في أواخر هذه المقالة.
قلت: إن التربية تتوقف خصوصا على الوالدين وعموما على غيرهم ومعلوم أن معظم تربية الوالدين يتوقف على الأمهات لا على الآباء لوجودهن غالب الأحيان مع أولادهن أيام الطفولية، ولكون الاهتمام بهم من أخص واجباتهن وبما أن كثيرات منا نحن الحاضرات ههنا أمهات أولاد يقصدن تربية أولادهن أحسن تربية ويتقدن غيرة على تحسين طباعهم وتهذيب أخلاقهم فقد رأيت أن أبدي بعض ما عندي في هذا الشأن لعله يقع موقع القبول عند إحدى السامعات، فيفيد أو اسمع عنه ملاحظات من إحداهن فأستفيد فأتقدم في الكلام بناء على أن الشروط اللازمة متكملة في المربيات السامعات لعلمي أنهن من اللواتي ربين أحسن تربية ولكن يعوزنا الاختبار والانتفاع بأثمار التجارب.
أرى أن الوالدة لا تقدر أن تربي ولدها على ما تريد إلا بعد ما تستولي على عقله وعواطفه، وتعرف طباعه. والذي يدلني على ذلك هو أن التربية لا تنمي في نفس الطفل ما ليس له أثر ولا وجود فيها بل ما هو موجود قد أودعه الباري تعالى فيها، ولا تقتصر على إنماء هذا الموجود بل تقدم النامي وتهذبه وتقويه وتشدده فمثل الوالدة في تربية ولدها مثل الغارس في تربية غرسه ألا ترين كيف يمهد له الأرض ويسويها ويسمدها ويرويها حتى يتأصل فيها كلما نما وطال يقومه إذا رآه معوجا ويقضبه ويهذبه حتى يقوى ويعلو ويتحسن منظره. هكذا تفعل الأم في ولدها بالتربية تنظر إلى جسده وتقويه بالطعام والرياضة والإتقان من الآفات وتنظر على عواطفه وقواه العقلية والأدبية فتوسعها وتقويها وتقوم اعوجاجها وتهذبها فإن لم تكن هذه بيدها وطوع أمرها فكيف تقدر عليها ولكن تكون خاضعة لها وطوع إرادتها.
يجب على الوالدة أن تنبه على تربية ولدها وهو طفل صغير ضعيف الإرادة وتتعهده منذ ذلك الحين تارة بالأمر والنهي كالسلطان المطلق وطورا بالحب والرفق كالصديق الحبيب حتى تكون مهيبة عنده مسموعة الكلمة ومحبوبة منه ومقبولة الأوامر، وهذا غاية عظمة الملوك والحكام، ومنتهى ما يبلغون إليه في سياستهم مع الرعية. وهو أن يكونوا مهيبين محبوبين مسموعي الكلمة معزوزي الجانب.
إذا راقبت الأم ولدها وجدت أنه لا يبلغ من العمر نصف سنة حتى تظهر عليه علامات الفهم وتبدو منه أفعال الإرادة فيغضب ويرضى ويبكي وقت الغيظ، ويتبسم وقت الرضا. وحينئذ يجب على الأم أن تتخذ ما عندها من الحكمة لتطبع إرادتها على لوح نفسه وتغرس محبتها في أعماق فؤاده وتنفذ كلمتها في أمرها ونهيها له متدرجة من الأمور الصغيرة إلى المبادئ الكلية على توالي الأيام فمتى صار يطلب شيئا لا يناسب إعطاؤه إياه تمنعه عنه ولا تطاوعه، ولو بكى وصرخ صراخا شديدا، حتى يرسخ في ذهنه أن البكاء والصراخ لا ينيلانه المطلوب إذا لم ترد الوالدة ذلك، ولو بكى وصرخ صراخا شديدا، حتى يرسخ في ذهنه أن البكاء والصراخ لا ينيلانه المطلوب إذا لم ترد الوالدة ذلك، وأن الطاعة خير من العناد. وإذا أصر الطفل على مسك ما لا يخصه بعدما منعته والدته من ذلك مرارا فلا تخفيه من أمامه خوفا من بكائه بل ترده عنه بكل لطف وحزم وتفهمه بقدر الطاقة أن ذلك الشيء لا يخصه، وأنه يجب أن يطيع والدته ويخضع إرادته لإرادتها ولا تزال تعلمه بمثل هذين المثلين حتى تتأصل الطاعة لوالدته في نفسه وتنمو فيه مع نماء قوى عقله ولكن ليس بالغضب والعنف بل بالرفق واللين واللطف.
ومن خطأ الوالدين والوالدات في التربية أنهم يحبون البشاشة في وجه الولد والملاطفة في معاملته تؤل إلى استخفافه بكلامهم وتمرده عليهم، فلذلك تراهم لا يكلمونه إلا زجرا ولا ينظرون غليه إلا شزرا، وإذا ارتكب أقل ذنب أو سعوه ضربا وتعنيفا، وإذا ضحك أو لعب في حضرتهم وبخوه وانتهروه كأنه قد جنى ذنبا زاعمين أن ذلك كله يزيد سطوتهم عليه ويمكن الطاعة في نفسهم لهم. وهذا صحيح ولكن إلى حد معين لأن هذه المعاملة تمكن سلطة الوالدين على أولادهم، ولكنها تكون ثقيلة عليهم مكروهة عندهم يترقبون الفرص لمخالفتها ويتحايلون للتخلص منها، ولذلك كثيرا ما تكون نتيجتها فيهم تربية الخوف والخيانة والبغض
والكراهة في نفوسهم ويتلو ذلك المكر والرياء أو العصيان والتمرد كما لا يخفى إذا القسوة والعنف في المتسلط يجعلانه مهيبا ولكن مكروها ومطاعا، ولكن مستثقلا والنفوس الأبية لا تذل إلا إلى حين ولا تصبر على الضيم إلا ريثما تجدبا بالدفعة.
فيجب على الوالدين والوالدات خصوصا أن يعاملوا أولادهم في التربية بالرفق وأن يقابلوهم بوجوه باشة إلا حيث لا تقبل البشاشة وأن يكون كلامهم في الإنذار والتوبيخ مقرونا بالتأني والهدو حتى يفهم الولد مؤداه ويقبله عن اقتناع لا عن خوف ورعدة كما يكون إذا أدبته أمه عن غضب وحنق إطفاء لنار غيظها والحزم والهدو والتأني في تربية الطفل وتأديبه تلقى لمربيته هيبة في فؤاده ليس فوقها هيبة فتبقى مقرونة بالطاعة له طول أيامه، ولاسيما لأنها تكون ممزوجة في نفسه بالحب والمودة.
والخلاصة أنه يجب على الأم أن تجعل لها في نفس ولدها طاعة مؤسسة على الحب تدوم إلى طويل لا طاعة مؤسسة على الخوف تدوم إلى قصير وكما يطلب من الوالدة أن تكون حاكمة متسلطة عل عقل ولدها وعواطفه يطلب منها أن تكون بمنزلة الصديق والرفيق له تخصص جانبا من وقتها لملاعبتها بالملاعب المختلفة وتسليه تارة بقص القصص المفيدة عليه وطورا بتعليمه ما ينير ذهنه وحثه على ما يميل إليه من طبعه حتى تتعلق نفسه بها تعلقا شديدا، ويفضل مجالستها واستماع أقوالها على مجالسة كل واحد سواها فيكتسب منها في أثناء ذلك ما تريد أن تلقيه في ذهنه من الأفكار والمبادئ، وينمو على ما تحب أن ينمو عليه وههنا مندوحة واسعة للكلام على الأتعاب التي يجب على الوالدة أن تهبها لأولادها حتى تدفع عنهم الملل والضجر، وما ينشأ عنهما من المساوئ الكثيرة التي تفسد التربية والأخلاق. وههنا محل الكلام على تدبير ما يلزم لتحسين ذوق الولد وتعويده على حسب ما هو جميل واعتبار ما هو نافع ومفيد وتربيته على مراقبة الأمور، وملاحظة ما حواليه من الكائنات وعجائب طبائعها، وغرائب أفعالها. وههنا محل الكلام أيضا على ترويضه وتقوية جسده ولكني لا أتعرض لشيء من ذلك كله لئلا يضيق المقام واعتمادا على ما هو شائع منه في كتبنا وجرائدنا.
وصدق الوالدة مع ولدها في كل مواعيدها أمر لا بد منه في التربية وكذبها عليه يربيه على الكذب لا محالة والدعاء عليه يحط قيمتها في عينه ويفسد آدابه. وتكثير الأوامر عليه والطلبات منه تلقيه في الحيرة والارتباك فيصير يطلب الابتعاد عنها ولا يصدق أن يتيسر له الفرار من وجهها حتى يغافلها ويسرع إلى أصدقائه وملاعبه.
قال بعض الحكماء: الصدق أهم ما يجب إتباعه في تربية الصغار وتهذيبهم، فمن كذب على ولده كذبة علمه الكذب.
وقال أيضا: إن تهذيب الولد يبتدئ بنظرة أمه والتفات أبيه وتبسم أخته أو أخيها أو أخيه.
ومن أغلاط التربية عندنا أنه إذا قامت الأم لتأديب ولدها فكثيرا ما يعارضها الأب ويحمى من التأديب كأن أمه عدو له تقصد الانتقام منه وإذا قام الأب لتأديب ولده عارضته الأم وكل ذلك مما يمنع فوائد التربية عن الولد ويحمله على الظن بأنها صادرة عن الغضب والانتقام لا عن حب الواجب وحسن
المقصد ومن أغلاطنا في التربية أيضا إننا لا نتحرى تعويد الأولاد على الاعتماد على أنفسهم والاستقلال عن سواهم بل إذا رأينا في ولدنا ميلا إلى شيء من ذلك أمتناه إجابة لدواعي الخوف والشفقة التي في غير محلها فإذا رأت الأم ابنها يميل إلى حز الخشب والنجارة بسكين أخذت السكين من يده خوفا من أن يجرح إصبعه جرحا طفيفا ولا يخطر لها أن توصي أباه ليبتاع له عدة صغيرة للنجارة ليتعود بها على عمل أعمال كثيرة تنفعه في أيامه وتبعد عنه الضجر والسآمة، والحال أن أكثر مخترعي الإفرنج يربون على حب الاختراع بأمور كهذه وهم أولاد صغار وإذا رأت الأم ولدها يركض في الشمس وراء الفراش والجنادب صاحت وولولت خوفا عليه من حر الشمس وكان الأولى بها أن تشتري له كتابا ذا صور وتربيه على مراقبة المخلوقات الطبيعية. قيل: إن لبنيوس المعدود من أعظم علماء النبات كان في صغره يحب الأزهار، فزرع له أبوه أرضا وقسمها على وفق ذوقه، فكان يتفقدها ويعتني بها، ولما شب ولع بدراسة علم النبات حتى طار صيته في الآفاق ويجب الحذر في التربية من أضعاف عزيمة الولد وإرادته فإن والدات كثيرات يذللن الولد حتى لا تبقى له إرادة فإذا شب كان ضعيفا، وكانت تربيته أعظم مصيبة عليه وكثيرون ينكرون فوائد التربية ويقولون: إن وجودها وعدمها سيان ويستشهدون على ذلك بقولهم: إن فلانا ربي في صغره أحسن تربية فكان أحسن الأولاد وكان يقدر له أعظم النجاح، فلما كبر أتى المنكرات ولم يجن إلا ثمار الذل والفشل، والآخر ربي في صغره أردأ تربية، ولما كبر فاق فضلا ونبلا وكرم أخلاق وخالف ظن الناس فيه.
أقول إن إنكار هؤلاء الناس لمنافع التربية مبني على وهم فاسد، وهو أن التربية إنماء الموجود وتحسينه كما مر في بدء الكلام، ولا توجد ما ليس موجودا فقد يخص البارئ بمواهب أناسا دون آخرين حتى إنهم مع قلة التربية يفوقون سواهم ممن ربي تربية حسنة، ولكن لو تساوت مواهب الفريقين لفاق المربي بالأخلاق ولذلك اشترط في المربى أن يكون قابلا للتربية من طبعه وقليل من لا يقبلها ومهما قوي في الفطرة حسك الشرور وغلطت أصول المساوئ والآثام، فإنها تضعف حتى تضجر وتزول بحسن التربية وجميل الاعتناء". اه.
ومن كلامها المقالة التي أدرجت في جريدة المقتطف العلمية ردا على الدكتور شبلي شميل ونصها بحروفها: "إن حضرة الفاضل الدكتور شبلي يعد من جملة الذين إذا أطعموا أشبعوا، وإذا ضربوا أوجعوا. فمقالته التي عنوانها "الرجل والمرأة وهل يتساويان" (المندرجة في الجزأين السادس والسابع من مقتطف هذه السنة) قد حوت من الشواهد والحقائق ما يشبع عقول القارئين ومن التحامل على المرأة والإجحاف بحقها ما يوجع نفوس القارئات وليس لنا وجه لدفع قوله بأنه خصم ذو غرض أو رجل قليل المعارف لا يعبأ بقوله لأنه قال: وأعاد القول مرارا إنه ليس قصده حط شأن المرأة بل تقرير الحق الواقع والذي نعهده فيه من الصدق في القول والإخلاص في القصد يكذبنا إن سميناه خصما أو نسبنا إليه الغرض وأقواله وكتاباته تشهد له بسعة الاطلاع وغزارة المعارف، فلا نصدق إذا حططنا في علمه ومعارفه ومع ذلك فلا ريب أنه لم ينصف في حكمه على المرأة ولم يعدل في ذكر مناقبها وأخلاقها، وما ذلك في حكمي إلا عن سهو إذ الإنسان عرضة للسهو
والنسيان. والظاهر أن اعتقاده في المرأة منقول أصلا عن ألسنة العامة، فلما تحرك في أقوال العلماء وغاص على أداتهم لم يلتقط منها إلا ما أيد ذلك الاعتقاد المتداولة خلفا عن سلف، وأغفل ما يؤيد خلافه وكم من مرة زل العلماء وضل الفقهاء من تأثير الأوهام المتوارثة والأغلاط السائرة، ولولا ذلك لكان من المحال أن يرضى حضرة الدكتور الفاضل بما في خطبته من الانحراف والإجحاف كما سنرى.
أولا: إن القسم الأول من المقالة المذكورة مقصور على إثبات أن الذكور من الحيوانات العالية أشد من الإناث وأن الرجل أضخم من المرأة جثة وأكبر جمجمة وأثخن عظما، وأقسى عضلا، وأنضر سحنة. ودمه أثقل نبضانا وأغلظ قوما وجسده أكثر فسادا وانحلالا إذ يفرز من الحامض الكربونيك أكثر مما تفرز هي وغير ذلك مما يدل على أن الرجل أشد من المرأة. وما لبث أن جعل هذه الأوصاف دليلا على الشدة حتى انتقل إلى جعلها امتيازا يمتاز بها الرجل ولم يؤيد هذا الامتياز بأن حضرة الدكتور يذكر مقابله امتياز المرأة على الرجل بالجمال واعتدال القوام ولطف التركيب والغضاضة والبضاضة ونحوها من الأوصاف التي تميزها عليه كما هو مسلم به إجماعا أيضا لأنه إن كانت ضخامة الجسم والقوة الوحشية تعدان امتيازا للرجل من وجه فلطف القد وحسن الخلق يعدان امتيازا للمرأة من أوجه، والإنصاف يقتضي ذكرهما عند ذكر غيرهما. لكن حضرة الدكتور أغفلهما تمام الإغفال.
ثم إنه ذكر تقوس القدم في الرجل وانبساطها في المرأة دليلا على ارتقائه في الخلق أكثر منها وكذلك يزرر ثيابه عن اليمين وهي تزررها عن اليسار وكذلك بطء نموه وسرعة نموها إلى غير ذلك من الأدلة التي لم يسلم بصحة مدلولها واحد حتى ينفيها آحاد وترك الأمر والإنصاف يقتضي ذكر الأمر المقرر قبل الشواهد التي لم تثبت صحتها ولا صحة ما يشتهد عليه بها.
ثانيا: إن فحوى القسم الثاني من مقالة حضرة الدكتور هي إثبات أن الرجل أعظم عقلا وإدراكا من المرأة. وقد عدد فيه القوى العقلية التي زعم أن الرجال يفوقون فيها النساء ولم يذكر للنساء قوة يفقن فيها والذي أعلم أن كل الباحثين (حتى الذين بحثوا قديما عما إذا كان للمرأة نفس) لم ينكروا أن المرأة تفوق الرجل في بعض القوى العاقلة مثل الإدراك عن طريق الحواس المعروف بالشعور وسلامة البداهة والذوق العقلي، ثم إن حضرته يبني حكمه بصغر عقل المرأة عن عقل الرجل بكون دماغه أثقل من دماغها.
ولما كان لا يحق لي الاعتراض في معرض مثل هذا فحسبي أن أسأل جنابه هل يعتبر ثقل الدماغ دليلا قاطعا على كبر العقل لأن الذي نعلمه (وهو مأخوذ عن أحدث مناقشة للعلماء في هذا الشأن) إن كبر العقل بمعزل عن ثقل الدماغ فقد يكون الإنسان من أعقل أهل زمانه ودماغه خفيف جدا أو متوسط في الثقل وقد يكون من أصغر الناس عقلا ودماغه ثقيل جدا، ولذلك لا تقنع عقولنا القاصرة بأن ثقل الدماغ دليل كبر العقل حتى يتبين لنا ذلك بالبرهان القاطع.
ثالثا: إن معظم الإحجاف كان في كلام حضرة الدكتور عن آداب المرأة وفضائلها. وهنا لا أخشى أن أخالف