الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذا قربت زادتك شوقا بقربها
…
وإن جانبت لم يغن عنها التجنب
فلا اليأس إن ألممت يبدو فترعوي
…
ولا أنت مردود بما جئت تطلب
وفي اليأس لو يبدو لك اليأس رحمة
…
وفي الأرض عمن لا يواسيك مذهب
وأنا والله يا أخي خشيت عليك من مثل ذلك لئلا يصيبك مع نسائك ما أصاب حجية وزينب وأما الآن فقد كبرا وصارا يمكنهما أن يدفعا عن أنفسهما تعديات غيرهما فأخذهما عبد الرحمن إليه وهو يثني على عائشة.
وكانت رضي الله عنها أفصح أهل زمانها وأحفظهم للحديث روت عنها الرواة من الرجال والنساء وكان مسروق إذا روى عنها يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق البريئة المبرأة وكان أكابر الصحابة يسألونها عن الفرائض.
وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة من أفقه الناس وأحسن الناس رأيا في العامة. وقال عروة: ما رأيت أحد أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة، ولو لم يكن لعائشة من الفضائل إلا قصة الإفك لكفى بها فضلا وعلو مجد فإنها نزل فيها من القرآن ما يتلى إلى يوم القيامة، ولولا خوف التطويل لذكرنا القصة بتمامها، وهي أشهر من أن تذكر، وكان حسان بن ثابت عند عائشة يوما فقال يرثي ابنته:
حصان رزان ما تزن برية
…
وتصبح غرثي من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة لكن لست أنت كذلك. فقال لها مسروق: أيدخل عليك هذا وقد قال الله عز وجل: (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم)[النور: 11] قالت: أما تراه في عذاب عظيم قد ذهب بصره وباقي الأبيات:
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتموا
…
فلا رفعت سوطي إلي أناملي
وكيف وودي من قديم ونصرتي
…
لآل رسول الله زين المحافل
فإن الذي قد قيل ليس بلائط
…
ولكنه قول امرئ بي ما حل
وتوفيت عائشة سنة سبع وخمسين. وقيل: سنة ثمان وخمسين للهجرة ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وأمرت أن تدفن بالبقيع ليلا، فدفنت وصلى عليها أبو هريرة ونزل قبرها خمسة عبد الله وعروة ابنا الزبير والقاسم وعبد الله ابنا محمد بن أبي بكر وعبد الله بن عبد الرحمن، ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان عمرها ثمان عشرة سنة.
عائشة بنت طلحة
عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن معد بن تيم.
وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وخالتها عائشة أم المؤمنين. كانت عائشة بنت طلحة أشبه الناس بعائشة أم المؤمنين خالتها فزوجها بابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وكان ابن خال عائشة بنت طلحة، فلم تلد من أحد من أزواجها سواه. فولدت له عمران - وبه كانت تكنى- وعبد الرحمن وأبا بكر وطلحة ونفسية التي تزوجها الوليد بن عبد الملك ولكل من هؤلاء عقب وكان ابنها طلحة من أجود قريش، وتوفي بعد الله عنها ثم تزوجها بعده مصعب بن الزبير فأمهرها خمسمائة ألف درهم وأهدى لها مثل ذلك.
وكانت عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها من أحد فعاتبها مصعب في ذلك فقالت: إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضله عليهم فما كنت لأستره والله ما في وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد وطالت مراجعة مصعب إياها في ذلك، وكانت شرسة الخلق، وكذلك نساء تميم هن أشرس خلق الله وأحظى
عند أزواجهن وكانت عند الحسين بن علي أم إسحاق بنت طلحة فكان يقول: والله لربما حملت ووضعت وهي مصارمة لي لا تكلمني، ونالت عائشة من مصعب وقالت: لا تكلمني أبدا وقعدت في غرفة وهيأت فيها ما يصلحها فجهد مصعب أن تكلمه، فأبت، فبعث إليها ابن قيس الرقيات فسألها كلامه.
فقالت: كيف يميني؟ فقال: ههنا الشعبي فقيه أهل العراق فاستفتيه، فدخل عليها فأخبرته فقال: ليس هذا بشيء. فقالت: أيحلني ويخرج خائبا فأمرت له بأربعة آلاف درهم وقال ابن قيس الرقيات لما رآها:
إن الخليط قد أزمعوا تركي
…
فوقفت في عرصاتهم أبكي
خبيئة برزت لتقتلني
…
مطلية الأصداغ بالمسك
عجبا لمثلك لا يكون له
…
خرج العراق ومنبر الملك
وكانت عزة الميلاء من أظرف الناس وأعلمهم بأمور الناس، وكان يألفها الأشراف وأرباب المروءات وغيرهم فأتاها مصعب بن الزبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر أو سعيد بن العاص فقالوا: إن خطبنا فانظري لنا. فقالت لمصعب: ومن خطبت يا ابن أبي عبد الله؟ فقال: عائشة بنت طلحة. فقالت: فأنت يا ابن أبي أحيحة. قال: عائشة بنت عثمان. قالت: فأنت يا ابن الصديق. قال أم القاسم بنت زكريا بن طلحة. قالت: يا جارية، هاتي منقلي - تعني خفيها - فلبستهما وخرجت ومعها خادم لها ومضت فبدأت بعائشة بنت طلحة فقالت: فديتك كنا في مأدبة لقريش فتذاكروا جمال النساء وخلقهن وذكروك فلم أدر كيف أصفك فديتك فألقي ثيابك ففعلت وأقبلت وأدبرت فارتج كل شيء منها فقالت لها عزة: خذي ثوبك فديتك من كل سوء. فقالت عائشة: قد قضيت حاجتك وبقيت حاجتي. فقالت عزة: وما هي بنفسي أنت. قالت: تغنيني صوتاً. فاندفعت تغني:
خليلي عوجا بالمحلة من جمل
…
وأترابها بين الأصفير والخبل
نقف بمغان قد محا رسما البلا
…
تعاقبها الأيام بالريح والوبل
فلو درج النمل الصغار بجلدها
…
لأندب أعلى جلدها مدرج النمل
وأحسن خلق الله جيدا ومقلة
…
تشبه في النسوان بالشادن الطفل
فقامت عائشة فقبلت ما بين عينيها ودعت لها بعشرة أثواب وبطرائف من أنواع الفضة وغير ذلك ودفعته إلى جاريتها، فحملته وأتت النسوة على مثل ذلك تقول ذلك لهن حتى أتت القوم في السقيفة فقالوا: ما صنعت؟ فقالت: يا ابن أبي عبيد الله.
أما عائشة فلا والله ما رأيت مثلها مقبلة ومدبرة محطوطة المتين عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب، نقية الثغر، وصفحة الوجه فرعاء الشعر، لفاء الفخذين، ممتلئة الصدر، خميصة البطن ذات عكن ضخمة السرة مسرولة الساقة يرتج ما بين أعلاها إلى قدميها، وفيها عيبان:
أما أحدهما فيواريه الخمار وأما الآخر فيواريه الخف عظم القدم والأذن وكانت عائشة كذلك. ثم قالت عزة: وأما أنت يا ابن أبي أحيحة فإني والله ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان لامرأة قط ليس فيها عيب، والله لكأنما أفرغت إفراغا ولكن في الوجه ردة وإن استشرتني أشرت عليك بوجه تستأنس به.
وأما أنت يا ابن الصديق فوالله ما رأيت مثل أم القاسم كأنها خوط بانة تنثني وكأنها خدل عنان، أو كأنها خشف ينثني وكأنها خدل عنان، أو كأنها خشف ينثني على رمل لو شئت أن تعقد أطرافها لفعلت ولكنها شحنة الصدر وأنت عريض الصدر فإذا كان ذلك قبيحا لا والله حتى يملأ كل شيء مثله فوصلها الرجال والنساء وتزوجوهن.
وكان مصعب لا يقدر عليها إلا بتلاح ينالها منه، وبكل مشقة، فشكا ذلك إلى ابن فروة كاتبه فقال له: أنا
أكفيك هذا إن أذنت لي. قال: نعم. افعل ما شئت فإنها أفضل شيء نلته من الدنيا فأتاها ليلا ومعه أسودان فاستأذن عليها فقالت له: أفي مثل هذه الساعة يا ابن أبي فروة قال: نعم. فأدخلته. فقال للأسودين: احفر ههنا بئرا. فقالت له جاريتها: وما تصنع بالبئر؟ قال: شؤم مولاتك، أمرني هذا الفاجر أن أدفنها حية وهو أسفك خلق الله لدم حرام. فقالت عائشة: فأنظرني أذهب إليه. قال: هيهات، لا سبيل إلى ذلك. وقال للأسودين: احفر ههنا بئرا. فقالت له جاريتها: وما تصنع بالبئر؟ قال: شؤم مولاتك، أمرني هذا الفاجر أن أدفنها حية وهو أسفك خلق الله لدم حرام. فقالت عائشة: فأنظرني أذهب إليه. قال: هيهات، لا سبيل إلى ذلك. وقال للأسودين: احفرا.
فلما رأت الجد منه بكت. ثم قالت: يا ابن أبي فروة، إنك لقاتلي ما منه بد. قال: نعم، وإني لأعلم أن الله سيجزيه بعدك ولكنه قد غضب وهو كافر الغضب. قالت: وفي أي شيء غضبه؟ قال: في امتناعك عنه وقد ظن أنك تبغضينه وتتطلعين إلى غيره فقد جن. فقالت: أنشدك الله إلا عاودته. قال: إني أخاف أن يقتلني. فبكت وبكى جواريها فقال: قد رققت لك وحلف أنه يغرر بنفسه، ثم قال لها: فما أقول؟ قالت: تضمن عني أني لا أعود أبدا. قال: فما لي عندك؟ قالت: قيام بحقك ما عشت. قال: فأعطني المواثيق. فأعطته، فقال للأسودين: مكانكما، وأتى مصعبا فأخبره فقال له: استوثق منها بالأيمان ففعلت وصلحت بعد ذلك لمصعب.
ودخل عليها مصعب يوما وهي نائمة متصبحة ومعه ثمان لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار فأنبهها ونثر اللؤلؤ في حجرها. فقال له: نومتي كانت أحب إلي من هذا اللؤلؤ. قال: وصارمت مصعبا مرة فطالت مصارمتها له وشق ذلك عليها وعليه وكانت لمصعب حرب فخرج إليها ثم عاد وقد ظفر فشكت عائشة مصارمته إلى مولاة لها فقالت: الآن يصلح أن تخرجي إليه، فخرجت فهنأته بالفتح وجعلت تمسح التراب عن وجهه فقال لها مصعب إني أشفق عليك من رائحة الحديد. فقالت: لهو والله عندي أطيب من ريح المسك.
وقال ابن يحيى: كان مصعب من أشد الناس، إعجابا بعائشة بنت طلحة ولم يكن لها شبيه في زمانها حسنا ودماثة وجمالا وهيئة ومتانة وعفة وإنها دعت يوما نسوة من قريش، فلما جئنها أجلستهن في مجلس قد نضد فيه الريحان والفواكه والطيب والمجمر وخلعت على كل امرأة منهن خلعة تامة من الوشي والخز ونحوهما ودعت عزة الميلاء، ففعلت بها مثل ذلك، وأضعفت ثم قالت لعزة هاتي يا عزة فغنينا فغنت:
وثغر أغر شنيب البنات
…
لذيذ المقبل والمبتسم
وما ذقته غير ظن به
…
وبالظن يقضي عليك الحكم
وكان مصعب قريبا منهن ومعه إخوان له، فقام فانتقل حتى دنا منهن والستور مسبلة فصاح: يا هذه إنا قد ذقناه فوجدناه على ما وصفت فبارك الله فيك يا عزة، ثم أرسل إلى عائشة أما أنت فلا سبيل لنا إليك مع من عندك، وأما عزة فتأذنين لها أن تغنينا هذا الصوت، ثم تعود إليك، ففعلت وغنته مرارا وكاد أن مصعب يذهب عقله فرحا وسرورا، وأمرها بالعود إلى مجلسها وقضوا يوما على أحسن حال.
ولما قتل مصعب عن عائشة تزوجها عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي فحمل إليها ألف ألف درهم وقال لمولاتها: لك علي ألف دينار إن دخلت بها الليلة، وأمر بالمال فحمل فألقي في الدار وغطي بالثياب، وخرجت عائشة. فقالت لمولاتها: أهذا فرش أم ثياب؟ قالت لها انظري إليه فنظرت فإذا هو مال فتبسمت فقالت لها مولاتها أجزاء من حمل هذا أن يبيت عزباً؟ قالت: لا والله ولكن لا يجوز دخوله إلا بعد أن أتزين له وأستعد قالت: فيم ذا فوجهك والله أحسن من كل زينة، وما تمدين يديك إلى طيب أو ثياب أو حلي أو فرش إلا وهو عندك وقد عزمت عليك أن تأذني له. قالت: افعلي فذهبت إليه. فقالت: قم بنا فقد قبلت فجاءهم عند العشاء الأخيرة، وقالت حين دخل بها:
قد رأيناك فلم تحل لنا
…
وبلوناك فلم نرض الخبر
وكانت رملة بنت عبد الله بن خلف زوجة لعمر بن عبيد الله بن معمر، ولما تزوج عائشة قالت: فإني لمولاة لعائشة، أريني عائشة متجرة ولك ألف درهم، فأخبرت عائشة بذلك فأشرفت عليها مقبلة ومدبرة، فأعطت رملة مولاتها ألفي درهم وقالت: لوددت أني أعطيتك أربعة آلاف درهم ولم أرها.
فمكثت عائشة عند عبيد الله بن معمر ثمان سنين ثم مات عنها سنة اثنتين وثمانين فتأيمت بعده فخطبها جماعة فردتهم ولم تتزوج بعده أبدا.
وكانت عائشة من أشد الناس مغالظة لزواجها وكانت تكون لكل من يجيء يحدثها في رقيق الثياب فإذا قالوا قد جاء الأمير ضمت عليها مطرفها وقطبت وكانت كثيرا ما تصف لعمر بن عبيد الله مصعبا وجماله وتغيظه بذلك فيكاد أن يموت، وكان شديد الغيرة فدخل يوما على عائشة وقد ناله حر شديد وغبار فقال لها: انفضي التراب عني فأخذت منديلا تنفض عنه التراب، ثم قالت له: ما رأيت الغبار على وجه أحد قط أحسن منه على وجه مصعب قال: فكاد يموت غيظا.
ودخلت عائشة على الوليد بن عبد الملك وهو بمكة فقالت: يا أمير المؤمنين، مر لي بأعوان، فضم إليها قوما يكونون معها فحجت ومعها ستون بغلا عليها الهوادج والرحائل، وكانت سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما في تلك السنة فقال حادي عائشة:
عائش يا ذات البغال الستين
…
لا زلت ما عشت كذا تحجين
فشق ذلك على سكينة ونزل حاديها. فقال:
عائش هذه ضرة تشكوك
…
لولا أبوها ما اهتدى أبوك
فأمرت عائشة حاديها أن يكف فكف واستأذنت عاتكة بنت يزيد بن معاوية عبد الملك في الحج فأذن لها وقال: ارفعي حوائجك واستظهري فإن عائشة بنت طلحة تحج هذه السنة، ففعلت، فجاءت بهيئة جهدت فيها فلما كانت بين مكة والمدينة إذا بموكب قد جاء فضغطها وفرق جماعتها فقالت: أرى هذه عائشة بنت طلحة فسألت عنها فقالوا: هذه خازنتها، ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك الموكب فقالوا: عائشة عائشة فضغطهم. فسألت عنه فقالوا: هذه ماشطتها، ثم جاء مواكب على هذا المنوال، ثم أقبلت كوكبة فيها ثلثمائة راحلة عليها القباب والهوادج فقالت عاتكة: ما عند الله خير وأبقى.
ووفدت عائشة بنت طلحة على هشام فقال لها: ما أوفدك؟ قالت: حبست السماء المطر ومنع السلطان الحق قال: إنس سأعرفه حقك، ثم بعثت إلى مشايخ بني أمية. فقال: إن عائشة عندي فأسمروا عند الليلة فحضروا فما تذاكروا شيئا من أخبار العرب وأشعارها وأيامها إلا أفاضت معهم فيه وما طلع نجم ولا غار إلا سمته فقال لها هشام: أما الأول فلا نكره، وأما النجوم فمن أين لك؟ قالت: أخذتها عن خالتي عائشة فأمر لها بمائة ألف درهم وردها إلى المدينة.
ولما تأيمت عائشة كانت تقيم بمكة سنة وبالمدينة سنة وتخرج إلى ما لها بالطائف وقصر لها فتتنزه وتجلس بالعشيات فتتناضل بين الرماة، فمر بها النميري الشاعر فسألت عنه فنسب فقالت له لما أتوها به: أنشدني مما قلت في زينب فامتنع وقال: ابنة عمي وقد صارت عظاما بالية. قالت: أقسمت عليك، فأنشدها قوله:
نزلن بفخ ثم رحن عشية
…
يلبين للرحمن معتمرات
يخبئن أطراف الكف من التقى
…
ويخرجن شطرا لليل معتجزات
ولما رأت ركب النميري أعرضت
…
وكن من أن يلقينه حذرات
تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت
…
به زينب في نسوة خفرات
فقالت: والله ما قلت إلا جميلا ولا وصفت إلا كرما وطيبا وتقى ودينا، أعطوه ألف درهم. فلما كانت الجمعة الأخرى تعرض لها فقالت: علي به. فجاء، فقالت: أنشدني من شعرك في زينب. فقال: أو أنشدك من قول الحارث فيك؟ فوثب مواليها. فقالت: دعوه فإنه أراد أن يستفيد لابنة عمه هات، فانشدها:
ظعن الأمير بأحسن الخلق
…
وغدوا بلبك مطلع الشرق
وتنوء تثقلها عجيزتها
…
نهض الضعيف ينوء بالوسق
ما صبحت زوجا بطلعتها
…
إلا غدا بكواكب الطلق
قرشية عبق العبير بها
…
عبق الدهان بجانب الحق
بيضاء من تيم كلفت بها
…
هذا الجنون وليس بالعشق
فقالت: والله ما ذكر إلا جميلا ذكر أني إذا صبحت زوجا بوجهي غدا بكواكب الطلق، وأني غدوت مع أمير تزوجني إلى الشرق. أعطوه ألف درهم واكسوه حلتين ولا تعد لإتياننا يا نميري.
وقال أبو هريرة لعائشة يوما: ما رأيت شيئا أحسن منك إلا معاوية أول يوم خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: والله لنا أحسن من النار في الليلة القرة في عين المقرور.
وكتب أبان بن سعيد إلى أخيه يحيى يخطب عليه عائشة بنت طلحة ففعل، فقالت: ليحيى: ما انزل أخاك أيلة قال: أراد العزلة. قالت: اكتب إلى أخيك.
حللت محل الضب لا أنت ضائر
…
عدوا ولا مستنقعا بك نافع
وقال عبد الله بن عبد الرحمن - وقد قيل له طلقها:
يقولون طلقها لأصبح ثاويا
…
مقيما علي الهم أحلام نائم
وإن فراقي أهل بيت أحبهم
…
لهم زلفة عندي لإحدى العظائم
قال بعضهم: أذن المؤذن يوما وخرج الحارث بن خالد إلى الصلاة، فأرسلت إليه عائشة ابنة طلحة أنه بقي علي شيء من طوافي لم أتمه، فقعد وأمر المؤذنين، فكفوا عن الإقامة، وجعل الناس يصيحون حتى فرغت من طوافها، فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فعزله وولى عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكتب إلى الحارث: ويلك أتركت الصلاة لعائشة بنت طلحة فقال: والله لو لم تقض طوافها إلى الفجر لما كبرت. وقال في ذلك:
لم أحب بأن سخطت ولكنه
…
مرحباً إن رضيت عنا وأهلا
إن وجهاً رأيت ليلة البد
…
ر عليه أثنى الجمال وحلا
وجهها الوجه لو يسيل به المز
…
ن من الحسن والجمال استهلا
إن عند الطواف حين أتته
…
لجمالا فعماً وخلقاً رفلا
وكسين الجمال إن غبن عنها
…
فإذا ما بدت لهن اضمحلا
ولما قدمت عائشة إلى مكة أرسل إليها الحارث بن خالد - وهو أمير على مكة -: إني أريد السلام عليك، فإذا خف
عليك أذنت وكان الرسول الغريض فقالت له: إنا حرم فإذا أحللنا أذناك، فلما حلت سرت على بغلاتها ولحقها الغريض بعسفان ومعه كتاب الحارث إليها وفيه قوله:
ما ضركم لو قلتم سددا
…
إن المطايا عاجل غدها
لها علينا نعمة سلفت
…
لسنا على الأيام نجحدها
لو تممت أسباب نعمتها
…
تمت بذاك عندنا يدها
فل ما قرأت الكتاب قالت ما يدع الحارث باطله، ثم قالت للغريض هل أحدثت شيئا؟ قال: نعم، فاسمعي، ثم اندفع في هذا الشعر. فقال عائشة: والله ما قلنا إلا سددا، ولا أردنا إلا أن نشتري لسانه، وأتى على الشعر كله فاستحسنه وأمرت له بخمسة آلاف درهم وأثواب. وقالت زدني فغناها في قول الحارث بن خالد أيضا:
زعموا بأن البين بعد غد
…
فالقلب مما أحدثوا يجف
والعين منذ أجد بينهم
…
مثل الجمان دموعها تكف
ومقالها ودموعها سجم
…
أقلل حنينك حين تنصرف
تشكو ونشكو ما أشت بنا
…
كل بوشك البين معترف
فقالت له عائشة: يا عريض بحقي عليك أهو أمرك أن تغنين في هذا الشعر؟ فقال: لا وحياتك يا سيدتي. فأمرت له بخمسة آلاف درهم ثم قالت له: غنني في شعر غيره، فغناها في قول ابن أبي ربيعة:
أجمعت خلتي مع الضجر بينا
…
جلل الله ذلك الوجه زينا
أجمعت بينها ولم تك منها
…
لذة العيش والشباب قضينا
فتلوت حمولها واستقلت
…
لم تنل طائلا ولم تقض دينا
ولقد قلت يوم مكة لما
…
أرسلت تقرأ السلام علينا
أنعم الله بالرسول الذي أر
…
سل والمرسل الرسالة عينا
فضحكت ثم قالت: وأنت يا غريض فأنعم الله بك عينا، وأنعم بابن أبي ربيعة عينا لقد تلطفت حتى أديت إلينا الرسالة وإن وفاءك له لما يزيدنا رغبة فيك وثقة بك، وقد كان عمر سأل من الغريض أن يغنيها هذا الصوت وقال له عمران: أبلغتها هذه في غناء، فلك خمسة آلاف درهم فوفى له بذلك وأمرت عائشة بخمسة آلاف درهم أخرى.
قم انصرف الغريض من عندها فلقي عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجة عبد الملك بن مروان وكانت قد حجت في تلك السنة فقال لها جواريها: هذا الغريض. قالت لهن: علي به. فجيء به إليها. قال الغريض: فلما سلمت دخلت فردت علي وسألتني عن الخبر، فأقصصته عليها قالت: غنني به ففعلت فلم أرها تهش لذلك فغنيتها معترضا ولها مذكرا بنفسي في شعر مرة بن محكان السعدي يخاطب امرأته، وقد نزل به أضياف:
أقول والضيف مخشي ذمامته
…
على الكريم وحق الضيف قد وجبا
يا ربة البيت قومي غير صاغرة
…
ضمي إليك رحال القوم والضربا
في ليلة في جمادى ذات أندية
…
لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة
…
حتى تلف على خيشومه الذنبا
قال: فقالت وهي مبتسمة قد وجب حقك يا غريض فغنني فغنيتها:
يا دهر قد أكثرت فجعتنا
…
بسراتنا ووقرت في العظم
وسلبتنا ما لست مخلفه
…
يا دهر ما أنصفت في الحكم
لو كان لي قرن أناضله
…
ما طاش عند حفيظة سهمي
لو كان يعطي النصف قلت له
…
أحرزت سهمك فاله عن سهمي
فقالت: نعطيك النصف ولا نضيع سهمك عندنا ونجزل لك قسمك وأمرت له بخمسة آلاف درهم، وثياب عدنية وغير ذلك من الألطاف قال: وأتيت الحارث بن خالد فأخبرته وقصصت عليه القصة فأمر لي بمثل ما أمرتا لي به جميعا، فأتيت ابن أبي ربيعة وأعلمته بما جرى فأمر لي بمثل ذلك، فما انصرف أحد من ذلك الموسم بمثل ما انصرفت بنظرة من عائشة ونظرة من عاتكة بنت يزيد وهما أجمل نساء عالمهما وبما أمرتا لي وبالمنزلة عند الحارث وهو أمير مكة وابن ربيعة وما أجازاني به جميعا من المال.
وقد قدم قادم غلى المدينة من مكة، فدخل على عائشة بنت طلحة فقالت له: من أين أقبل الرجل؟ قال: من مكة. فقالت: فما فعل الأعرابي فلم يفهم ما أرادت، فلما عاد إلى مكة دخل على الحارث فقال له: من أين؟ قال: من المدينة. قال: فهل دخلت على عائشة بنت طلحة؟ قال: نعم، قال: ففي ماذا سألتك؟ قال: قالت لي: ما فعل الأعرابي قال له الحارث: فعد إليها ولك هذه الرحلة والحلة، ونفقتك لطريقك وادفع إليها هذه الرقعة وكتب إليها فيها:
من كان يسأل عنا أين منزلنا
…
فالأقحوانة منا منزل قمن
إذ نلبس العيش صفوا ما يكدره
…
طعن الوشاة ولا ينبو بنا الزمن
ليت الهوى لم يقربني إليك ولم
…
أعرفك إذا كان حظي منكم الحزن
ولقي عمر بن أبي ربيعة عائشة بمكة وعي تسير على بغلة لها فقال لها: قفي حتى أسمعك ما قلت فيك. قالت: أوقد قلت يا فاسق؟ قال: نعم، فوقفت، فأنشدها:
يا ربة البغلة الشهباء هل لك في
…
أن تشتري ميتا لا ترهبي حرجا
قالت بدائك مت أو عش تعالجه
…
فما ترى لك فيما عندنا خرجا
قد كنت حملتنا غيظا نعالجه
…
فإن بعدنا فقد عنيتنا حججا
حتى لو أستطيع مما قد فعلت بنا
…
أكلت لحمك من غي وما نضجا
فقلت لا والذي حج الحجيج له
…
ما مج حبك من قلبي ولا نهجا
ولا رأى القلب من شيء يسر به
…
مذ بان منزلكم منا ولا ثلجا
ضنت بنائلها عنه فقد تركت
…
في غير ذنب أبا الخطاب مختلجا
فقالت: لا ورب الكعبة ما عنينا طرفة عين قط، ثم أطلقت عنان بغلتها وسارت ولم تزل تداريه وترفق به خوفا من أن يتعرض لها حتى قضت حجها وانصرفت إلى المدينة فقال في ذلك:
إن من تهوى مع الفجر ظعن
…
للهوى والقلب متباع الوطن
بانت الشمس وكانت كلما
…
ذكرت للقلب عادوت الدرن
يا أبا الحارث قلبي طائر
…
فأتمر أمر رشيد مؤتمن
نظرت عيني إليها نظرة
…
تركت قلبي إليها مرتهن
ليس حب فوق ما أحببتها
…
غير أن أقتل نفسي أو أجن
ومن أشعاره أيضاً فيها قصيدته التيأولها:
من لقلب أمسى رهينا معنى
…
مستكينا قد شفه ما أجنا
إثر شخص نفسي فدت ذاك شخصا
…
نازج الدار بالمدينة عنا
ليت حظي كطرفة العين منها
…
وكثير منها القليل المهنا
ونقل صاحب الأغاني قال: بينما عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت إذ رأى عائشة بنت طلحة وكانت أجمل أهل دهرها، وهي تريد الركن تستلمه، فهبت لها رآها ورأته، وعلمت أنها قد وقعت في نفسه. فبعثت إليه بجارية لها وقالت: قولي له اتق الله، ولا تقل هجرا فإن هذا مقام لا بد فيه مما رأيت. فقال للجاري: أقرئيها السلام وقولي لها: ابن عمك لا يقول إلا خيرا، وقال فيها:
لعائشة ابنة التميمي عندي
…
حمى في القلب ما يرعى حماها
يذكرني ابنة التيمي ظبي
…
يرود بروضة سهل رباها
فقلت له وكاد يراع قلبي
…
فلم أرقط كاليوم اشتباها
سوى خمش بساقك مستبين
…
وأن شواك لم يشبه شواها
وأنك عاطل عار وليست
…
بعارية ولا عطل يداها
وأنك غير أقزع وهي تدني
…
على المتنين أسحم قد كساها
ولو قعدت ولم تكلف بود
…
سوى ما قد كلفت به كفاها
أظل إذا أكلمها كأني
…
أكلم حية غلبت رقاها
تبيت إلي بعد النوم تسري
…
وقد أمسيت لا أخشى سواها
وقال فيها أشعارا كثيرة، فبلغ ذلك فتيان بني تيم أبلغهم إياه فتى منهم وقال لهم: يا بني تيم بن مرة ها والله ليقذفن بنو مخزوم بناتنا بالعظائم وتغفلون، فمشى ولد أبي بكر وولد طلحة بن عبيد الله إلى عمر بن أبي ربيعة، فأعلموه بذلك وأخبروه بما بلغهم فقال لهم: والله لا أذكرها في شعر أبدا، ثم قال بعد ذلك فيها وكنى عن اسمها قصيدته التي أولها:
يا أم طلحة إن البين قد أفدا
…
قل الثواء لئن كان الرحيل غدا
أمسى العراقي لا يدري إذا برزت
…
من ذا تطوف بالأركان أو سجدا
ولم يزل عمر يتشبب بعائشة أيام الحج ويطوف حولها ويتعرض لها وهي تكره أن يرى وجهها حتى وافقها وهي ترمي الجمار سافرة فنظر إليها فقالت: أما والله لقد كنت لهذا منك كارهة يا فاسق. فقال:
إني واوا ما كلفت بذكرها
…
عجب وهل في الحي من متعجب
نعت النساء فقلت لست بمبصر
…
شبها لها أبدا ولا بمقرب
فمكثن حينا ثم قلن توجهت
…
للحج موعدها لقاء الأخشب
أقبلت أنظر ما زعمن وقلن لي
…
والقلب بين مصدق ومكذب
فلقيتها تمشي تهادي موهنا
…
ترمي الجمار عشية في موكب
غراء يغشي الناظرين بياضها
…
حوراء في غلواء عيش معجب
إن التي من أرضها وسمائها
…
جلبت لحينك ليتها لم تجلب