الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من وراء شجرة ينهش كتفا أو يخصف نعلا فكذبوها وكان ذلك كما ذكرت فغفلوا عن أخذ أهبة الحرب ففي ذلك تقول الزرقاء لجديس تحذرهم:
إني أرى شجرا منخلفها بشر
…
فكيف يجتمع الأشجار والبشر
سيروا بأجمعكم في وجه أولهم
…
فإن ذلك منكم فاعلموا الظفر
فلم يسمعوا لها وهجم عليهم الملك حسان بحمير فأفناهم وشتت شملهم، فلما فرغ حسان من جديس دعا باليمامة بنت مرة فأمر بها، فنزعت عيناها، فإذا هي داخلها عروق سود، فسألها عن ذلك فقالت: حجر أسود -يقال له الإثمد- كنت أكتحل به فنشب إلى بصري وكانت أول من اكتحل به فاتخذوه بعد ذلك كحلا، وأمر الملك باليمامة فصلبت على باب خيمتها -وهو اسم البلد الذي كانت جديس مقيمة فيها- وسميت الزرقاء المذكورة باسمها.
زليخا امرأة قطفير عزيز مصر
قيل: 'نم اسمها راعيل ابنة عابيل، وقيل: اسمها بكا ابنة فيوش وأكثر التواريخ أن اسمها زليخا.
كان والدها من أولاد ملوك القبط الذين حكموا مصر قبل دخول العرب الذين سماهم المؤرخون ملوك الرعاة. كانت زليخا رأت في نومها أنها ستكون ملكة على مصر وأن القمر صار تاجا لها ولبسته يوم توليتها على عرش المملكة فقيل لها: إنها ستتزوج بملك مصر، ومضى على ذلك أيام وليال، ولم يظهر لمنامها تأثير حتى إنها تزوجت بقطفير عزيز مصر الذي كان بذاك الزمان محافظا على البلد من قبل ملكها وظنت أن منامها كان أغاث أحلام فصرفت أفكارها عما رأت.
وفي أثناء ذلك دخلت العرب إلى مصر واستولت عليها وأبقت من دخلوا تحت الطاعة في الأحكام مثل قطفير وخلافه، وبذلك صارت زليخا مسموعة الكلمة مطاعة الأوامر، مقبولة الرجاء عند ملوك الرعاة ولم تطلب أمرا إلا تجاب عليه وبقيت تحت قطفير حتى قيض الله لها يوسف بصفة عبد جاءت به التجار وصارت عليه المزايدة حتى رسا مزاده على قطفير زوج زليخا فأخذه إلهيا وأمرها بإكرامه، فأخذته إليها وأكرمت مثواه إكراما لا مزيد عليه حتى جعلته بمثابة أولاد الملوك وكانت تلبسه الديباج وقراطق الحرير وتوقفه على رأسها وتأمره بما تريد من أمرها، ولما تفرس العزيز في يوسف الخير والصلاح لم ينزله منزلة العبيد بل قال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهو يومئذ ابن سبع سنين. وقيل: سبع عشرة سنة فكانت زليخا تمشط شعره بيدها وتخدمه بنفسها ومازالت زليخا في كل يوم تحسن إلى يوسف وتتولى أمره حتى مال قلبها إليه وتكاثر وجدها وهو مع ذلك لا يلتفت إليها بعينه حياء من ربه ولا ينظر إليها حتى تكاثر همها ودق عظمها وكابدها الشجون وواصلها النحول.
فلما عيل صبرها وضاق صدرها دخلت حاضنتها. فقالت لها: يا سيدتي، أرى غصنك ذابلا وجسدك ناحلا، وقلبك مائلا فقالت لها: وكيف لا وأنا أخدم هذا الغلام منذ سبع سنين ألاطفه بلساني وأتحبب إليه بإحساني، وكلما زدت ميلا إليه زاد إعراضا عني وكلما قربت منه تباعد مني. فقالت الحاضنة: يا سيدتي، لو نظر إليك لكان أسرع إليك منك إليه، ولو نظر إلى حسنك وجمالك وصفاء لونك لما قر له قرار دونك فقالت لها: وكيف لي به؟ قالت لها: مكنيني من الأموال، فقالت: ها خزائني بين يديك خذي منها ما شئت ودعي ما شئت لا حساب عليك في ذلك، فتمكنت من الأموال ودعت أهل البناء والهندسة وقالت: أريد بيتا ترى الوجوه في سقفه وحائط كما ترى في المرآة المصقولة فأجابوا بالسمع والطاعة
ثم بنوا لها بيتا سمته القيطوم، فلما تكامل بناؤه وتم إتقانه دعت بحضور مصور حاذق فصور في الحائط صورة يوسف وزليخا متعانقين ولم يبق من صورتهما شيء غلا صور، وأمرت بسرير من ذهب مرصع بالدر والياقوت واللؤلؤ، فوضعته في صدر البيت وجعلت عليه فرش الديباج والحرير الملون، ثم فرشت البيت وأرخت الستور، ثم ألبست زليخا من نوع من الحلي والحلل النفيسة ما لا يوصف ولا يقدر بقيمة وأجلستها على مرتبة عظيمة مما يليق بمثلها.
ثم خرجت إلى يوسف وهي مستعجلة فقالت: يا يوسف أجب سيدتك زليخا فإنها تدعوك في بيتها القيطوم وكان سامعاً لها مطيعاً، وكان بيده قضيب من ذهب يلعب به، فرمى القضيب من يده وأسرع إلى الباب ليدخل فنادته زليخا مستعجلة له بالدخول فظن السوء في نفسه وأراد الرجوع بعد أن وضع رجله داخل العتبة، فتوقف عند ذلك وزاد إحساس قلبه بالشر فأسرعت إليه وجذبته إلى السرير وقالت: هيت لك، فأغمض عينيه وكف يديه ونكس رأسه حياء من الله تعالى فقالت له: يا يوسف، ما أحسن وجهك· قال: الله صوره في الأرحام· قالت: ما أحسن عينيك! قال: هما أول ما يسقطان مني في قبري· قالت: ما أحسن شعرك! قال: هو أول ما يبلى مني· قالت: يا يوسف: ما أطيب ريحك! قال: لو شممت رائحتي بعد ثلاث لفررت مني، قالت: يا يوسف أتقرب إليك فتتباعد مني! قال لها: أرجو بذلك التقرب من ربي· قالت: انظر إلي نظرة واحدة· قال لها: أخشى العمى من ربي في آخرتي· قالت: ضع يدك على فؤادي· قال لها: إذا تغل في النار يدي· قالت: أشتريك بمالي وتخالفني· فقال: الذنب لإخوتي إذ باعوني حتى ملكتيني· قالت: اصبر معي ساعة واحدة في البيت· قال لها: ليس فيه شيء يسترني من ربي قالت: يا يوسف، بأي وجه تخالفني وبأي حكم ترجع عن مرادي ولا ترعى صنعي؟ قال لها: حكم إلهي الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه وبطشه وإكراماً لسيدي الذي أكرم مثواي وأنزلني منزلة الأولاد· فقالت له: أما إلهك الذي في السماء فإني أفتح بيوت الأموال وأتصدق عنك بها وأهديها إليه حتى يرضى عنك ويغفر لك، ولا أبالي أنا فيما يفعل في حقي لمرادي وقضاء حاجتي، وأما سيدك الذي أكرم مثواك فأنا أطعمه السم حتى ينتثر لحمه ويسقط عظمه ويموت جهداً وكمداً، وأكون أنا وأموالي وما ملكت يداي ملكك وطوع يمينك· قال: إذاً فما يكون عذري يوم القيامة بين يدي ربي إذ أكون فضلاً عن ارتكاب المعصية سبباً في جريمة قتل سيدي الذي أحسن إلي. وبعد هذه المحاورة التفت يوسف إلى صنم داخل البيت وعليه ستر فقال لها: لماذا سترت هذا الصنم؟ قالت: استحيت منه، فقال: إذا كنت تستحين من هذا وهو لا يسمع ولا يدري ولا ينفع ولا يضر فكيف أنا لا أخاف من ربي وقام وبادر بالخروج من الباب من غير أن يكون بينهما سبب من الأسباب وقد شهد الحق له بذلك في كتابه العزيز بقوله تعالى (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)(يوسف: 24) .
ولما رأته فر يريد الباب أدركته وجذبت قميصه من خلفه فتمزق القميص ووافق ذلك الوقت أن العزيز مر بالباب يريد قضاء حوائجه فإذا بوجبة فالتفت فإذا بالباب يحمل ويساق فدفع الباب وقال: من؟ فإذا يوسف مقدود الثوب باكي العين وإذا زليخا ناشرة الشعر محمرة الوجه باكية العين· فقال العزيز: فيم أنتما؟ فقالت زليخا: ياسيدي غلامك العبراني الذي ائتمنته على أهلك ومننت عليه بفضلك، وأحللته محل ولدك يريد بأهلك السوء· فأقبل العزيز على يوسف بوجهه وقال: يا يوسف، هذا جزائي منك ائتمنتك على أهلي وأحللتك محل الأولاد المكرمين، ورجوت الخير والانتفاع بك فصرت تخونني في أهلي· فقال يوسف: معاذ الله أن أخونك في أهلك وأرضى بذلك! بل هي راودتني عن نفسي· فوقف العزيز متحيراً ينظر إليها تارة وإليه أخرى
فقال يوسف: إن لي شاهداً يشهد ببراءتي· فقال العزيز: ما هو الشاهد ولم يكن معكما أحد في البيت؟ فقال: انظر هذا القميص كيف قد من دبر فلو كنت أنا المراود لكان القميص قد قد من قبل وهذا برهان محسوس على ذلك وكان مع العزيز ابن عم زليخا، فلما سمع هذا الدليل وجده قاطعاً فقال: انظر إلى قميصه إن كان قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فنظر العزيز إلى القميص فوجده ق د من دبر فقال لها: إن ذلك من كيدكن إن كيدكن عظيم ثم قال ليوسف: اكتم هذا ولا تبح به لأحد وقال لها: استغفر لذنبك إنك كنت من الخاطئين ثم تركها وانصرف·
وبعد ذلك قالت ليوسف: قد فضحتني والله لأسلمنك للمعذبين يعذبونك حتى ينسل جسمك كما سللت جسمي· فقال لها: إن كنت احتقرتني لغربتي فالله حسبي ونعم الوكيل· واشتغلت عن ذلك بكلفها به وشاع الخبر بمصر أن امرأة العزيز راودت فتاها عن نفسه قد شغفها حباً، وقد اجتمع نساء الملوك والأمراء والقادة مرة وتذاكران أمرها قاستقبحنه وقلن: إنها في ضلال مبين، فبلغ ذلك زليخا وعظم عليها فأرادت أن تبين عذرها لهن فيه فصنعت لهن صنيعاً وأرسلت إليهن تدعوهن لضيافتها، وهيأت لهن مجلس أنس وأوجدت فيه كل معدات الطرب وكن عشرة نسوة من نساء الملوك والأمراء وعشر بنات أبكار من بنات الملوك والأمراء، وبعد أن تناولن الطعام قدمت لكل واحدة منهن صحفة من عسل وأترجة وسكيناً حاداً، وقالت لهن: ما حقي عليكن؟ فقلن لها: أنت سيدتنا وكبيرتنا والمطاعة فينا نسمع لك ونطيع· فقالت: لهن: بحقي عليكن إذا خرج عليكن فتاي يوسف إلا ما قطعتن له مما في أيديكن وأعطيتنه يأكل· فقلن لها حباً وكرامة· فتركتهن وذهبت إلى يوسف وقالت له: يا يوسف، أطعني اليوم واعصني أبداً· قال: أما مالم يكن فيه سخط ربي فلا أبالي · فقالت له: دعني حتى أزينك وإن كنت مزيناً قال: اصنعي ما بدا لك، فرصعت جوانبه بالدر والياقوت وكللت جبينه بالجوهر وألبسته قباء أخطر ومنطقته بمنطقة من ذهب أحمر، ووضعت على عاتقه منديلاً من السندس وكأساً من ذهب في يده وقالت: اخرج عليهن فلو رأين منك ما رأيت لذهبن عن أنفسهن ولتركن الطعام والشراب ولمن أنفسهم كما لمنني· فخرج عليهن وهن قعود يقطعن في الأترج فلما رأينه ظنن أن صنم زليخا الذي تعبده وكن يسمعن به ويحببن أن ينظرن إليه، فلما بدا لهن يوسف أكبرنه وصرن شبه السكارى والحيارى من كثرة تعجبهن من بهائه وكماله وأمعن في نظرهن إلى حسنه وجماله ورمن أن يقطعن ما في أيديهن كما شرطت زليخا عليهن فصرن يقطعن أيديهن وصارت الدماء تسيل في حجورهن ولا يجدن ألم القطع ولا حدة السكاكين ولا وقوع الدم على الأجسام، ويوسف يقول: ويحكن ماذا تصنعن بأنفسكن إنما أنا عبد من عبيد ربي، وزليخا تضحك مما تراه منهن من تقطيع أيديهن وذهاب عقولهن وأمرته بالانصراف، فلما غاب عن عيونهن رجعن إلى حسهن فقالت لهن زليخا: ويحكن من لحظة واحدة فعلتن بأنفسكن هذا وأنا منذ سبع سنين أقاسي منه ما أقاسي، وأخدمه على أطراف البنان وهو لا يعيرني طرفه ولا يلتفت نحوي فقلن لها: حاشى لله ما هذا بشراً أن هذا إلا ملك كريم فقالت لهن: ما هذا الذي فعلتنه بأنفسكن؟ فلما رأين ما نزل بهن أدركهن الخجل وذكرن ما لمنها به· فقالت لهن: هذا الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم وأبى ولئن لم يفعل ما آمره لأسجننه وأعذبنه حتى يكون من الصاغرين· وقد أقرت لهن بأمرها لكونهن عذالها ورأتهن وقعن بما وقعت به فقلن لها: إنك لمعذورة فمرينا أن نكلمه بشأنك عساه أن يطيع ويسمع عندما توبخه عن إعراض نفسه
فأذنت لهن بالخلوة طمعاً في أن يملنه إليها، فجعلت كل واحدة منهن إذا خلت به تدعوه إلى نفسها وتشكو إليه وجدها فقال يوسف: يا ربي كانت واحدة لم أقدر عليها بعنايتك، وقد صرعن جماعة (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) (يوسف: 33) .
ولما رأين أن لا حيلة لهن باستمالته قلن لها افعلي ما بدا لك فيه، فطاولته مدة من الزمن ولما يئست منه قالت لزوجها: إن هذا الغلام فضحني بين الناس ونكس رأسي بين نظرائي وقد شاع خبري وخبره في مصر ولا براءة لي عندهم إلا أن أحبسه في السجن· فقال لها زوجها: لا يحبسه إلا الملك الريان بن الوليد، وكان مراده أن يخرج أمره من يدها لأنه إذا كان مره بيدها ربما حنت عليه وأخرجته من السجن فلما سمعت ذلك لبست ثيابها وزينتها وجعلت تاجها على رأسها وخرجت حتى أتت إلى الريان بن الوليد وكان في بيته الأعظم وهو بيت من الحديد والنحاس فيه الزخارف بأنواع الجواهر والمعادن وكان يجلس في أعلى الباب حتى إذا دخل عليه أحد يراه قبل دخوله، فإن شاء أذن له وإلا ينصرف·
ولما رأى زليخا مقبلة أذن لها بالدخول وأمر الغلمان بفتح الأبواب أمامها، وكانت ذات قدر عظيم عنده مسموعة الكلمة لأنها من بنات الملوك، ولما دخلت على الملك خرت له ساجدة فقال لها الملك: ارفعي رأسك فأنت المقربة المرضية وحاجتك عندي مقضية، فرفعت رأسها إليه وأخذت في الثناء عليه بقولها: أيها الملك دام لك العز والبقاء وألبست ثوب النعمة والرخاء لم تزل لي مكوماً ولقضاء حاجتي مسرعاً وأن عبدي العبراني قد استعصى عليّ وأحب أن تأذن لي بحبسه في سجن المجرمين حتى يتأدب ولو بعد حين فقال لها: قد أجبتك وجعلت أمر السجن بيدك فانطلقي فاطلقي من شئت واحبسي من شئت فأخذت إذنه ورجعت إلى منزلها وأمرت بإحضار الحدادين إليها فمثلوا بين يديها فقالت لهم: إني أريد أن تصنعوا لي قيداً محكماً لعبدي يوسف العبراني· فقالوا: أيتها الملكة المطاعة في أمرها العظيم في قومها إنا نرى بدناً ناعماً وساقاً رقيقاً ووجهاً أنيقاً، وإنه ربي بنعمة كاملة وعافية شاملة، فكيف يقوى على حمل القيد الحديد الثقيل· فقالت: قيدوه وهذا لا يعنيكم· فقال يوسف: افعلوا ما أمرتكم به فإني من أهل بيت البلاء فقيدوه وحملوه على الأكتاف وانطلقوا به إلى السجن وتسامح الناس به فأقبلوا عليه من كل مكان حتى غصت الطرقات وصاروا ينظرون إليه ويقولون: إنه عصى سيدته الملكة وهو منكس رأسه ويقول: هذا خير من عصيان رب العالمين، فلما وصلوا به إلى السجن قالوا للسجان: خذ هذا فإن سيدته غضبت عليه وأمرت أن يسجن في سجن المجرمين، فأدخله السجان إلى السجن ووضعه بين أصحاب الكبائر والجنايات، ودخل العزيز على زليخا وقال: ما فعلت بيوسف؟ قالت: قيدته وحبسته وكان كرادها أن تخرجه عن قريب· فقال لها: أقسمت عليك بالملك الريان ورأسه إلا ما أبقيت يوسف في السجن ما دام املك حياً فلم يمكنها إلا إبرار القسم وأدركها الندم، ولم تجد عذراً تخرجه به، وكانت تصعد إذا جن الليل إلى أعلى قصرها وتنظر إلى جهة السجن وتبكي وتقول: حبيبي يوسف ليت شعري أنائم أنت أم يقظان أجائع أنت أم عطشان، وتبقى على ذلك النحيب والبكاء حتى ينفجر الصبح وجداً عليه وشوقاً إليه وقد أنحلت الغرام وخالطها الهيام وداخلها السقام وهجرها المنام، وتعذر على ناعتها إثباتها ودامت على ذلك لا تشكو إلا بذكره ولا تسأل إلا عن أمره مدة اثنتي عشرة سنة حتى أذن الله ليوسف بالخروج من السجن كما جاء في قصته، ولم يشأ الخروج إلا بعد براءة ساحته، فجاء الملك بالنسوة اللاتي قطعن أيديهن وسألهن عن ذنب يوسف بقوله: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه وكيف دعوتنه إلى الفاحشة فأقررن عند ذلك·
وقلن: حاشى الله ما علمنا عليه من سوء، ولا كانت رغبة فينا ولا دعوة للزنا وإنه لبريء الساحة طاهر الذيل· فقالت زليخا: هذا وقت بيان الحق واضمحلال الباطل إن مراد حبيبي إقراري· فأنا أقر بذنبي، الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين، ولما ظهرت براءة يوسف وتبوأ الملك وحصل القحط في مصر نسي زليخا ولم يفتكر بها لكثرة أشغاله، وقد مات العزيز زوجها وهي لكثرة إسرافها نفذت أموالها خصوصاً في أيام القحط التي حصلت بمصر في مدة يوسف حتى صارت لا تملك شيئاً ومدة يدها للسؤال فقيل لها: تعرضت للصديق لرحمك وأعطاك شيئاً عن الناس يغنيك· وقيل لها من آخرين: لا تفعلي فربما يذكر ما كان منك إليه من المراودة وطول السجن والمخالفة فيسيء إليك ويعاقبك فقالت: أنا أعلم بحبيبي منكم وإن من خلقه الصفح والاحتمال والفضيلة والابتهال، ثم نهضت حتى جلست على ربوة بطريقه وكان ليوسف يوم يركب فيه في كل أسبوع وكان يركب معه من عظماء دولته ووزرائه وقواده وأرباب مملكته نحو المائة ألف نفس، فلما أقبل يوسف وأحست به قامت ونادت بأعلى صوتها سبحان من جعل العبيد ملوكاً بالطاعة، وجعل الملوك عبيداً بالمعصية· فأمسك العنان ونظر إليها وهي واقفة في ذلك المكان فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا التي كنت أخدمك دهراً وأرجل جمتك وكان مني ما كان في ذلك الزمان قد ذقت وباله ولقيت نكاله، وتغيرت كما ترى أحوالي، وصرت أسأل الناس الذين كانوا يسألوني فمنهم من يرحمني ومنهم من يعرض عني، وهذا جزاء من خالف مولاه واتبع هواه·
فلما سمع الصديق كلامها بكى إشفاقاً عليها ثم قال لها: هل بقي بقلبك شيء مما كان؟ قالت: والله لنظرة فيك أحب إلي من الدنيا وما فيها ثم قال ت: ناولني سوطك فناولها إياه فوضعته على قلبها فأحس يوسف بانتفاض يده مع السوط من شدة انتفاض قلبها وقال لها: ما أصاب قلبك؟ فقالت: يا يوسف، هو كما ترى· فقال لها: اذهبي إلى منزلك وإننا سننظر في أمرك، ثم ذهب باكياً وبعد وصوله إلى مستقره أرسل إليها رسولاً فقال: يقول لك الملك إن كنت أيماً تزوجناك وإن كنت ذات بعل أغنيناك· فقالت للرسول: إليك عني فإن الملك أعرف بالله من أن يستهزئ بي فإن لم يلتفت إلي أيام شباب وجمالي فكيف يلتفت إلي الآن ولم تصدق قوله، فرجع الرسول وأخبر الصديق بما قالت وذكرت من شأنها، فعلم أنها غير واثقة تصدق قوله، فرجع الرسول وأخبر الصديق بما قالت وذكرت من شأنها، فعلم أنها غير واثقة بما قاله لها الرسول· فلما كان في الأسبوع الثاني مر الصديق عليها بموكبه فرآها على الحالة التي رآها بها أول مرة وقالت له كما قالت في الأول فقال لها: ألم يبلغك رسولي ما أرسل به إليك فما ترين؟ فقالت: ألم أقل إن نظرة إليك أحب إلي من الدنيا وما فيها· فلما سمع منها ذلك أمر بحملها إلى قصره وأحضر الشهود وتزوجها، فلما زفت عليه وأدخلت إليه نظر إليها فزاد إشفاقاً عليها فأكرمها إكراماً لا مزيد عليه، ورتب لها من يقوم بأودها ولم يمض زمن حتى عاد إليها جمالها ورونقها وبهاؤها وكمالها وذلك من سوروها بما نالت من حبيبها حلاً بعد الحرام، وانتقالها من دنيا إلى أخرى بقدرة الملك العلام· وقيل: إنها طلبت إليه أن يدعو الله أن يرد لها جمالها ففعل، وهنالك تذكرت المنام الذي كانت رأته قبل تزوجها بقطفير فرأت تفسيره قد حصل بزواجها بيوسف، أن لبست تاج مصر في مدته وصارت ملكة كعادة زمانهم ولما دخل عليها يوسف وجدها بكراً فتعجب من ذلك وقال لها: ما كنت تفعلين حين راودتني عن نفسي قالت: أيها الصديق اعذرني ولا تلمني فإن الله كساك حلة الجمال والبهاء والكمال وكان زوجي عنيناً لا يقرب النساء فغلب علي حب الشهوة ففعلت ما فعلت· ولما أتاها ولدت له "افراديم" وبعده"منشا" وذلك في مدة أربع سنوات ولم تلد له خلافهما مدة حياتها·