الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على معلومات كثيرة كان يلزم أن أطالع عدة كتب حتى أتمكن من الحصول عليها فأبثك أيتها المادام شكري وأعلن امتناني الحقيقي.
قالت المادام: سيبقى أثر هاته الليلة وأثر الاجتماع بك ثانيا في الذهن إلى ما شاء الله. قالت هذه العبارة الأخيرة ثم ودعتني وذهبت في عجلتها.
على أنني وإن كنت لا أعرف ما إذا كانت تحافظ حقيقة على الذكرى كما قالت قد شعرت بتأثير كلماتها في قلبي فإنني لا أزال أهز بذكرى تلك الليلة وأفتكر بمحادثتنا غير أنني لم آخذ منها حتى الآن كتابا، وقد علمت أنها ذهبت للتسوح في البلاد العربية، وسمعت أنها ستضع كتابا في سياحتها، فلا ريب أن هذا الكتاب سيكون مجمعا للحقائق، وهذا متوقف على إتمام السياحة ومتعلق بالتوفيق الإلهي.
المحاورة الثالثة
إن شهر مايس (نوار، أو أيار) بغاية اللطف والنشاط فهو متوسط بين حر الصيف وبرد الشتاء بمعنى أن حره أقل من حر الصيف وبرده أخف من برد الشتاء، ففي مثل هذا الشهر الذي انتشرت به الروائح الزكية وضاعت أرواح الأزهار المتنوعة كنت جالسة صباح يوم منه في إحدى عرف البستان وكانت نوافذ الغرفة مفتوحة يدخل منها ألطف الروائح العطرية التي تشبه المسك أستغفر الله إنني لم أحسن الوصف والتمثيل، فشتان بين تلك الرائحة وبين رائحة المسك التي قد توجب لبعض الناس سروراً ولبعضهم كدراً في حين أن رائحة الورد والقرنفل والياسمين وما ماثل من الأزهار التي كانت منتشرة في أرض الجنينة وفي جدرانها يتضوع منها أريج ينعش الأرواح، ورائحة الأشجار التي كانت قريبة من نوافذ الغرفة وأزهارها الناصعة البياض كل هاته الروائح الزكية كانت تفوق بنشرها على رائحة المسك، ومع هذا فإن رائحة كل فصيلة منها تختلف عن الأخرى فلم يكن ثمة مشابهة بينها الإطلاق، حتى أن رائحة الجنس الواحد منها كانت تختلف باختلاف أشكاله بين الأصفر والأحمر والأبيض، وهكذا يقال عن سائر أنواع الأزهار. وفي ذلك حكمة صمدانية تدق على الأفهام أما البلابل فكانت في صباح اليوم -المذكور- تطرب الجماد بنغماتها الشجية وتغرد تغريداً ترقص له القلوب في الصدور فتردد بأصواتها المطربة ما يمثل حالة العاشق الذي يطارح معشوقه كلمات الحب حتى إذا لم ينل منه جواباً ظهرت في عنقه إشارات الذل والانكسار.
وجملة القول: إن روائح الأزهار المتنوعة، وأصوات البلابل، ومناظر الأشجار المنتشرة في البستان كانت تشترك بلذتها حاستا السمع والنظر.
وعلى مثل ما تقدم وصفه كانت هذه العاجزة جالسة حوالى منفذة يحيط بها اثنتان من صويحباتي لمناولة قهوة البن بالحليب، وكانت إحداهما تدعى ص.. خانم، أما هذه السيدة فإنها تحسن اللغة الإنكليزية وتعرف قليلاً من الفرنسية بمعنى أنها تفهم هذه اللغة ولكن ببطء، وتتكلم ولكن بصعوبة، وتكتب باللغة التركية بدرجة تتمكن بها من التعبير عن فكرها وإفهام مرادها، والسبب في تضلعها في اللغة الإنكليزية زيادة عن اللغة التركية إنما كان منشؤه مربيتها التي كانت إنكليزية المتحد ولأجل ذلك تلقت منذ الصغر عنها اللغة الإنكليزية فأتقنتها كل الإتقان، فكانت أخلاق هاته السيدة قريبة من أخلاق الإنكليز إذ إن للتربية تأثير كلياً في الأخلاق كما لا يخفى، فكانت منزهة عن شوائب الكلفة تحب الصحة
وتألف العزلة وتميل إلى الأزياء، ولما كنت على بينة من صفاء نيتها وحسن طويتها وكانت من قلبها ظاهرة للعيان ظهور الشمس في رابعة النهار قلت لها: إنني سأعرض ذكرها في رسالتي، والتمست لها أن تأذن لي في ذلك فلبت طلبي، وأجابت مسؤلي، وصرحت بسذاجة تامة أنها لا مانع من ذلك أصلاً حتى حملني هذا التصريح على أن أسألها عن الطريقة التي تحب بها آتي على ذكرها في هاته الرسالة. فقالت جواباً عن ذلك إنها على يقين من محبتي لها فهي واثقة بأنني لا يمكن أن أذمها أو أعرض في ذكرها بالسوء ثم قالت: وهب أنك هوجتني أو طعنت علي فلا يؤثر ذلك شيء في قلبي لما أنك ستكتمين اسمي ولا تصرحين به بل إن الانتقاد علي أحسبه مفيداً جداً لي لما أنني أضطر على إصلاح الفاسد من صفاتي وأخلاقي.
وأما رفيقتي الثانية فكان اسمها ن
…
خانم فكانت تحسن لغتها التركية تكلماً وقراءة وكتابة على أنها كانت تدل بعلمها وتحسب نفسها فوق درجتها، وهذا الوهم قد بعثها على الوقوف عند الحد الذي كانت فيه فلم تتقدم عن تلك الدرجة شيئاً على أنها لم تكن خالية من الذكاء، وكانت أيضاً ميالة إلى مساعدة غيرها، راغبة في فائدة السوي وكانت ودودة راسخة في الصداقة لأحبائها تكره الأزياء إلا أنها كانت تضطر عند الذهاب إلى الولائم وجميعات الأفراح أن تجاري غيرها في الاكتساء بألبسة على آخر طرز، وأما في سائر أوقاتها فكانت تلبس الألبسة التركية وهذه الألبسة التركية هي عبارة عن ثوب بسيط مما يقال له: ثوب الغرفة على أن هذا الثوب إن لم يكن يعرف حقيقة ما إذ كان يصح أن يقال له ثوب تركي إلا أنه يستعمل على هذه الصورة.
وجملة القول أن السيدة "ن" كانت تميل إلى الأزياء التركية في حين إن السيدة (ص
…
) كانت لا تهوى ولا تحب سوى الألبسة الافرنجية.
وكانت السيدة (ص
…
) كثيرة الملل والضجر في ذاك الصباح لأنها قد اضطرت على عمل ثوب جديد للذهاب به إلى أحد الأفراح كلفها 35 ليرة، وحيث أن الزفاف تأخر إلى فصل الشتاء مست الحاجة إلى عمل ثوب آخر إذ أن الثوب الأول لا يصلح للفصل المذكور وفضلاً عن ذلك فإنها لو قصدت أن تلبس ثوب السنة الماضية الذي لم تلبسه أصلاً لامتنع عليها الأمر بسبب ما طرأ على الزي من تغير، وقد صرحت هذه السيدة بضجرها وكدرها من التغيرات المذكورة ومن غلاء الأسعار في قيم الأقمشة وغيرها من صاحبات الأثواب ذاكرة أنها ابتاعت ذراع التخريم بثلاث ليرات، ونظراً لتغير الزي الأول قد أحوجها الأمر إلى طرحه في زاوية الاهمال.
وكانت السيدة (ص
…
) تروي أسباب كدرها على الوجه المذكور غير أن السيدة (ن
…
) التي كانت تكره الأزياء قد أدت بها تلك الرواية إلى الحدة والانتقاد، فصرحت بما أورثها بيان تلك السيدة من التأثر والكدر، ثم عقب ذلك جرت المباحثة الآتي بيانها بين السيدتين فقالت السيدة (ص
…
) : إنني منذ السنة الماضية قد ازددت سمناً بحيث إن مشد الألبسة قد ضاق علي فهل يمكنني أن أجد من جنس القماش من أجل توسيعه، وعلى كل فإنني لو وضعت له قماشاً بسيط اللون لوجب مزجه لا فقط من جهة الصدر بل من سائر أطرافه.
قالت السيدة (ن
…
) : (كلا لا يجب أن تحملي نفسك ثقلة لهذا الأمر) .
قالت "ص" لها: ولماذا؟ قالت: ربما هزلت إلى أن يحل الأجل المضروب فحينئذ ينطبق عليك المشد كما يلزم.
قالت لها: إنك تحملينني عناء بهذا الفكر.
فقالت: (كلا إنني لم أقصد ذلك وإنما أنت التي تحملين نفسك عناء فلا أخفي عنك إنني سأدعى إلى ذلك الزفاف ولكنني إذا رأيت أنه سيطول الأجل علي الذهاب إليه فإنني أستغني عن ذلك.
فقال السيدة "ص": كأنما تعنيني بما تقولين أنك لا تحبين أن تكتسي في الأفراح على مقتضى أصول الزي.
قالت: لا، لا أقصد ذلك وإنما متى أردت أن أصنع ثوباً آخذ القماش إلى الخياطة وأطلب منها أن تصنع لي ثوباً من آخر زي، وعند الحاجة أكتسي بهذا الثوب.
قالت: فإذا بطل زي الثوب التي تكونين لم تكتسي به فماذا تصنعين؟.
قالت لها: أنادي الخياطة وأطلب منها أن تحوله إلى الزي الجديد.
قالت: لا أعترض على ذلك وإنما أخبرك أنني أنفقت على هذه الأثواب خمساً وثلاثين ليرة، والنظر إلى التغيير الذي طرأ على كسمه أصبح يحتاج إلى خمس أو ستة أذرع من القماش. آخر ومعلوم أن القماش العاطل لا يصلح أن يضاف على الجيد وأقل ثمن ذراع القماش فهو من نصف ليرة إلى ثلاث ليرات ويلزمه خمسة عشر ذراعا من التخريم فإذا كان الذراع بخمسين غرشا بلغ ثمن الأذرع سبعمائة وخمسين غرشا ، وإذا أضيفت إليه أجرة الخياطة وهي ثلاث ليرات كان المجموع ثلاث عشرة ليرة ونصفا، ثم إن الخياطة لا بد أن تضيف إلى ذلك لا أقل من ليرتين بحجة أنها أنفقت على بعض اللوازم الطفيفة فتصبح النفقات خمس عشرة ليرة ونصفا، أليس إن هذه القيمة تكون قد ذهبت جزافا؟ قالت السيدة "ن": إذن ما تقولين عن الخمس والثلاثين ليرة الأولى ألم تذهب جزافا أيضا؟ قالت: لسنا نجول عراة، كما لا يخفى.
قالت السيدة "ن": لا أقول يجب أن نكون عراة الأبدان ولست أتأسف على الدراهم التي تنفق في مشتري الأقمشة وإنما أتأسف على الأموال التي تصرف في سبيل التخاريم وما ماثل ذلك من الزوائد والأطراف، وعلى القيم التي تدفع للخياطة لأنها تكاد توازي نصف الخمس والثلاثين ليرة.
قالت السيدة "ص": ما العمل هل يمكننا أن نلبس القماش كما هو ألست أنت تخيطين أثوابك أيضا ثم تلبسينها؟ قالت لها: لقد أتيت بشيء يمنع ضرر الأزياء في الوقت الحاضر فإنني فصلت ثوبا على الزي التركي من القماش الثقيل لا يضيق ولا يحتاج إلى الإبدال والتغيير، وجعلته بسيطا لا زخرفة فيه، ولا زوائد وقد اقتصدت من إهمال التكاليف وزوائد عدة الأثواب، واشتريت قطعة من الماس البرلنتي بحيث إنني متى رغبت في بيعها لا أخسر من ثمنها شيئا بمثلها وبما ماثلها. قالت السيدة "ص": ستكونين بمعزل عن العالم! قالت لها: أنا لا أقول إنه يجب على الجميع أن يكتسوا بمثل كسوتي ولكن لو اكتسيت بالثوب الذي تغير زيه الأول لعرضت نفسي للهزء والسخرية.
فقلت للسيدة "ص": إن ذلك ليدهش كثيرا ولست بمنفردة فيه بل إن الأوربيات أنفسهم يرينه غريبا
أتحسبين متانة أقمشتنا الوطنية ورخص أثمانها قبيحا ونبتاع ذراع القماش الإفرنجي المزركش بالنحاس بليرتين لا تعجبنا أقمشة حلب والشام وبغداد وديار بكر وكلها من الفضة الخالصة لأن ذراعها لا يتجاوز ثمنه الخمسين غرشا إن كون القماش من متاعنا لا يمنع من أن نخيطه على الطرز الإفرنجي أفلا يعجبك هذا القماش الذي ترينه علي فإنه عبارة عن ثوبين طولهما عشرون ذراعا دفعت ثمنها ثمانية مجيديات فيكون ثمن الذراع ثمانية غروش، ولو كان هذا القماش من أقمشة أوروبا الحريرية ما أمكن مشترى الذراع منه بأقل من عشرين غرشا، ولقماشنا مزية أخرى وهي أنه إذا تلوث بشيء فيمكن غسله وكيه وحينئذ يعود إلى حالته الأولى! فقالت السيدة "ص": لا جرم غير أن أقمشتنا كلها على نسق واحد فلا يمكن تغيير أزيائها.
قلت لها: الإنصاف أيتها السيدة لو كان عندنا للأقمشة الوطنية نصف الرغبة في الأقمشة الإفرنجية لترقت أقمشتنا أيما ترق فعلينا في بادئ الأمر أن نسعى في أن تباع أقمشتنا الحاضرة ليمكن إيجاد ألوان أخرى وأن نهتم بها اهتمامنا بالأقمشة الأوروبية إذ لا يحق لنا أن نقول: إننا طلبنا اللون الفلاني من الأقمشة الوطنية فلم نحصل عليه ومعلوم أن في الوقت الحاضر أخذت تنسج في البلاد المحروسة الشاهانية جميع الأقمشة كالأطلس والخز وغير ذلك وهي أكثر مما يلزمنا، وهذه الأقمشة لها محل من القبول في أوروبا فلا أدري لماذا نحن ننفر منها، أتظنين أن الإفرنج يرضون ويسرون بما نفعله وما نسلكه من طرق التقليد لهم؟ كلا، إنهم يعيبون علينا هذا الأمر ولقد يخجلني ما تقول كثيرات من النساء الإفرنجيات عن ميل الأوروبيين إلى أقمشتنا ونفرتنا منها إذ إن هاته الأقمشة ترسل إلى أوروبا على سبيل الهدايا ونحن لا نكتسي بها على الإطلاق نعم إننا مضطرون إلى الاكتساء ببعض الألبسة الإفرنجية ولكن هاته الألبسة هي كناية عن الفانيلات والجوارب والشيت والباتسته فإن بلادنا خالية منها.
قالت السيدة "ن": أليس عندنا من القماش الكتاني ما يعادل الشيت (بصمه) ؟ فقلت لها: كلا، إن الأقمشة الكتانية لا تغني عن الشيت شيئا، فإن الفقير يمكنه أن يشتري ذراع الشيت بستين باره، ثم يخيطه ثوبا فيلبسه ويغسله وهلم جرا. أما الأقمشة الكتانية فإنها قاسية بحيث إذا غسلت ازدادت خشونة عن الأول، انظري إلى هذا الجمع الحاضر فإنك ترين أن الألبسة الليلية التي نكتسي بها في هذا الوقت كلها من الباتستة ولا يمكن أن نظفر لهذه الغاية بأحسن منها، أما أنت فترجحين الأقمشة الكتانية عليها.
قالت السيدة "ن": كلا، إن ألبستي الليلية كلها من الباتستة ولا أكتسي بقماش آخر على الإطلاق.
قلت لها: إذن يجب على الإنسان في بادئ الأمر أن يهتم بنفسه ثم بغيره وأنا لا أقول أنه يجب أن نحرم أنفسنا من المتاع الإفرنجي تماما ولكن أريد أنه يلزمنا أن نروج بضائعنا ولا ننبذها ظهريا.
قالت السيدة "ن": صدقت، فإن الشيت أفاديا كثيرا واستنفد أموالنا أيضا.
قلت لها: أجل إن الشبت والباتستة تتوارد إلى بلادنا من أوروبا بكثرة لأن الحاجة إليها عمومية ولا شك أنه إذا أردنا أن نحسب الأموال التي تخرج من بلادنا بمقابلة هذه الأقمشة نراها كثيرة جدا وموجبة للحيرة والدهشة.
قالت السيدة "ص": إذن عزمت أن اشترى بالخمس عشرة ليرة التي سأنفقها على إصلاح ثوبي للسنة الماضية قماشا وطنيا وأخيطه على الزي.
قالت السيدة "ن": ما المانع من أن تخيطيه على الطرز التركي.
قالت لها: أي طرز تعنين؟ أمثل ثوبك الذي تلبسينه الآن -يعني ثوب الغرفة وثوب الصباح- فإن هذا لما أنه يسمى العلوي أيقال عنه إنه طرز تركي؟ قالت السيدة "ن": إن ثوب الغرفة (روب دي شامير) إنما يكتسى به في الغرف بمعنى أنه لا يمكن الظهور به أمام الناس والقصد منه أن يحصل المرء على راحته، وثوب الصباح يكتسى به لكي يكون الإنسان مرتاحا في وقت الصباح أي إنه بعكس ثوب الغرفة أما نحن فإنه يمكننا أن نلبس أيا شئنا منهما قصد الحصول على الراحة في جميع الأوقات.
فقلت لها: إن السيدة "ص": يميل قلبها إلى الأزياء الإفرنجية فتخيطها كما تريد، وأنت أيتها السيدة تميلين إلى الزي التركي وهكذا تفعلين، أما أنا فلأنني لا أكره الطرزين ترينني أخيطها أحيانا على الزي الإفرنجي وأوقاتاً على الطرز التركي حسب ما تميل إليه نفسي، ولقد قلت: إنه بما أننا لم نخرج عن عاداتنا لذلك لا نعرض أنفسنا للهزء، على أنه متى أردنا أن نكتسي على الطرز الإفرنجي ولا شك أن حريتنا في مسائل الكسوة إنما هي نعمة مخصوصة والخلاصة أقول وأرجو أن لا يصعب عليكما مقالي إنني لا أذهب مذهب إحداكما من جهة التمسك بالتقاليد الإفرنجية ما أقيد نفسي فيها تقييدا، ولا أرد بعض الفوائد التي تشاهد في الألبسة الإفرنجية تعصبا للعادات التركية إذ إنه لا ينكر أن الأزياء قد أتت بفائدة أخصها منع جر الأذيال.
قالت السيدة "ن": إن الأزياء تختلف كثيرا فلا تستقر على حال فيبينا تكون على النسق الفلاني إذ انتقلت إلى طرز آخر وبينا تكون ضيقة على الحقوين إذ تنفرج عنهما وبينا يجب أن تكون بسيطة للغاية إذ تتغير تغيرا مطلقا، ثم ترين أيضا أن زي الأذيال قد عاد تكرارا. فقلت لها: نحن، يجب علينا أن نتبع الأزياء التي تعجبنا ونرضاها فالتي نراها غير ملائمة في ذاك الوقت يلزمنا أن ننبذها ظهريا. وفي تلك الأثناء دخلت علينا سيدة مسنة فقالت: آه من فتيات هذا الزمان أرى أنهن لا يزلن مكتسيات بألبسة النوم حتى أنهن لم يسرحن شعورهن أيضا وا أسفاه عليهن من مسكينات إنني لما كنت مثلكن لم أكن أعرف المحل الذي أطؤه.
فقلت لها: ألم تكوني تفتكرين بأي إنسان؟ قالت العجوز: كلا، يا روحي لا أقصد ذلك مما قلت وإنما قصدت فيما ذكرت مجرد المزاح لا غير ولعمري إنني إلى مثل هذه الساعة لم أكن أقف في محل معلوم بل كنت ألبس ثيابي وأطير ركضا.
قالت السيدة "ص": هل لك أن تنبئينا كيف كانت كسوتك في أيام صباك؟ قالت: عند النهوض من الرقاد كنت أقف أمام المرآة فأربط عصابتي - المسماة (حوطوز) - وألبس ثيابي التي كانت مفتوحة تماما على الصدر.
قالت السيدة "ص": هل كان الثوب المفتوح من الصدر موجودا في ذلك الزمان إذن يفهم مما قلت إن هذا الزي كان هو الزي الدارج في العصر السابق.
قالت العجوز: لا جرم فإنه كان من جهة مفتوحا على الصدر، ومن جهة ضيقا كثيرا وا أسفاه عليكن أيتها الفتيات إنكن لم ترين شيئا فأين هذا العصر من عصرنا الماضي.
قلت لها: ألم يكن في عصر صباك عجائز لم يكن يستحسن ذوقك؟ قلت: كيف لا؟ فإن عجائز ذلك العصر لم يكن يرضين ذوقنا وزينا.
قلت: ماذا كن يقلن عنه، وكيف كانت كسوتهن؟ قالت العجوز: إن العصابة المسماة (حوطوز) لم تكن عامة وإنما كان للعجائز عصائب مخصوصة بهن يسمينها (قايق حوطوز) وكانت مؤلفة من سبعة أو ثمانية مناديل يعلوها ثلثمائة إبرة.
قالت السيدة "ص": خطابا إلى السيدة "ن": أيتها السيدة الميالة إلى الأزياء التركية إنك ما دمت شديدة الميل إلى هذه الأزياء فعليك بعمل هاته العصابة لأنها تمثل الأكسام التركية كل التمثيل وإلا فاقصري عن التضجر من الألبسة الغربية كأثواب الصباح والغرفة والجاكتا إلخ.
قالت السيدة "ن": إنني أرى راحة في استعمال الأثواب التركية ولأجل ذلك أكتسي بها وما الفائدة من وضع مثل هذه الأحمال على رأسي.
قالت السيدة "ص": إذن أرجوك أن لا تعترضي على كل الناس لأنه قد تبين لك أن الأزياء تتغير من وقت إلى آخر وأن هاته الحال موجودة عندنا أيضا على أن الفرق بين الزمانين أن الألبسة - في الماضي - كانت تتغير مرة في كل أربعين أو خمسين سنة، أما الآن فإنها تتغير في كل ستة شهور.
فقلت: أجل، إن ذلك تأثير السرعة في أزمنتنا، فإن سكان الدنيا الذين يتقلبون أبدا من حال إلى حال لا يمكن أن تبقى ألبستهم على حال واحدة.
قالت: فإذن صار يجب أن نلبس ثيابنا.
قلت: فليأتوا بألبستك إلى هنا.
وبعد أن قلت ذلك جاءوا إليها بالألبسة فأخذت الجارية تلبسها، وبينما كانت تربط رباطات المشد قالت: آه إنني حتى الآن لم أتعود تحمل هذه المشد فإنه يضايقني ويسلب راحتي، فكيف أعمل لا أدري؟ فقلت لها: لا تلبسيه.
قالت: إذ لم يلبس لا يبقى من كسم للأثواب.
فقلت لها: إلبسيه إذا قالت: أنا لم أقل لك إنه يؤثر على معدتي.
فقلت لها: ماذا أقول يا سيدتي فإما أن تلبسيه أو لا.
قالت: الأمران ممتنعان.
قلت لها: إذا وجدت لهما ثالثاً فافعليه.
قالت السيدة "ن": آه يا عزيزتي إن ثوبي الواسع لا يحملني شيئا من هاته الأثقال.
فقالت السيدة "ص": إنه لا يعرف لك كسم لأنه لا ينظر بل يبقى محجوبا.
فقالت لها: أيحسب ذلك عيبا فإنه إذا كان به قصور فلا يشاهد؟ فقلت للسيدة "ص": ألم تقرئي ما كتبه مدحت أفندي بشأن المشد في كتابه المسمى بالمصاحبات الليلة؟
قالت: أمان يا عزيزتي ماذا قال بهذا الشأن؟ فقلت لها: ها هو على مقربة منك فخذيه واقرئي.
قالت: أريني المحل المقصود منه.
فأخذت الكتاب ولما عثرت على الفقرة المتعلقة بالمشد دفعته إلى السيدة "ص": فما أعتمت بعد قراءته أن قالت: يا عزيزتي إن لم يضع له قرارا قطعيا فقد استصوب المرين أي أن يلبس وأن لا يلبس.
فقلت لها: إذا تريدين أن يقول أكثر من ذلك، فإنه وافق على قول الحكماء وعلى قول الخياطين فقد قال مدحت أفندي: إذا شاءت المرأة عمرا عزيزا فلتبسه، وإذا أرادت عمرا لذيذا فعليها أن لا تلبسه، وأنت مخيرة بين المرين وبعد أن انتهت الجارية من تلبيس السيدة وتبكيل الأزرار أخذت ملاقط الشعر لتحميها على النار ثم تعود بها لتصلح شعر سيدتها فقالت السيدة "ص": ما هذا الكسل أيتها السيدات أليس في نيتكن أن تلبسن أثوابكن؟ فقلت لها: لا يجب أن تهتمي بهذا الأمر إنني أستطيع أن ألبس ثيابي قبل أن تنتهي من تزيين شعرك.
فقالت مخاطبة إلى جاريتي اذهبي أنت وألبسي سيدتك ثيابها فإنني أراها لا تحب أن تفعل ذلك من نفسها.
فقالت لها الجارية: إن سيدتي تكتسي بيدها ولا تحب أن ألبسها ثيابها.
قالت: أصحيح أنها متعودة على ذلل؟ لعمري إنها لا تعرف راحتها.
فقلت لها: لا يمكن أن أتصور تعبا يزيد عن الاحتياج إلى شخص آخر في أمر اللبس وكثيرا ما كنت ألاقي من العذاب ألوانا عندما كانت تأتي البنات أحيانا إلي ويطلبن مني أن أسمح لهن في مساعدتي بلبس الثياب، وقد قلت لهن مرارا: إنكن إذا كنتن راغبات في راحتي فدعنني وشأني ولا تتعرضن لمساعدتي، ومذ حينئذ أصبحن لا يتعرضن لي بشيء من ذلك.
قالت: كيف تستطيعين أن تعقدي ربط المشد؟ فقلت لها: عندما ألبسه لأول مرة أضيقه من الوراء إلى درجة اللازمة وأتركه معقودا هكذا فلا يبقى إلا ربطه من جهة الصدر وتزريره، فأفعل ذلك بنفسي خصوصا وأنت تعلمين أنني لا أستعمل المشد يوميا إذ لست بميالة إليه كل الميل ومتى استعملته لأشد كثيرا.
قالت: أنت تسرحين شعرك بنفسك أيضاف أما أنا فإنني منذ صغري كانت مربيتي هي التي تسرحه والآن قد تعلمت هذه الفتاة طريقتها فصارت ترتب شعري أحسن ترتيب.
قلت لها: فإذا لم تكن هذه الفتاة ماذا تفعلين؟ قالت لا جرم، إنني حينئذ ألاقي كثيرا من المشقة لأنني ميالة إلى الترتيب التام، وأولئك البنات لا قدرة لهن على هذا العمل. فقالت جاريتي: إن سيدتي تحسن تنظيف وصف الشعر كل الإحسان حتى إننا عندما نكون متهيآت للذهاب إلى فرح ما تأخذ هي في تسريحنا إذ ترى أننا لم نحسن صنعته.
فقالت: لعمري إن ذلك حسن جدا فإن أمكن رتبي لي شعري إلى أن تكون الفتاة قد انتهت من إحماء الملاقط.
فقلت لها: أتحبين أن أرتبه كما كان مرتبا بالأمس؟
قالت: نعم. فبادرت في الحال إلى جمع الشعر وتسريحه ثم قلت: قد تم المقصود يا سيدتي.
قالت: يا عجبا ما هذه العجلة.
فقلت: ماذا يهمك الاستعجال ما عليك إلا أن تنظري إذا كان أتى حسب المرغوب أم لا فأخذت السيدة "ص" شعرها بيدها ونظرت إليه مليا ثم قالت: لا جرم انه في غاية الإتقان.
غير أن زينتها لم تكن قد تمت لأنها كانت تنتظر (الكي بالملاقط) وفي تلك الأثناء دخلت جاريتها الملاقط المحماة فخرجت إلى غرفة ثانية لألبس ثيابي وبعد أن لبستها عدت إلى حيث السيدة "ص" فوجدت أن عملية الكي لم تنته.
فقالت: يا عجبا، أراك قد لبست ثيابك وزينت شعرك في هذه الفترة.
قالت السيدة "ن": لقد رأيت هناك رسما فما هذا الزي؟ فقلت لها: وجدته في غرفة صناديق والدتي فهو رسم إحدى المادامات في الزمن القديم.
قالت: ما هذا الفستان أرى أنه لا فرق بينه وبين المضرب (الخيمة) انظري إلى هذه العصبة وأنت أيتها السيدة "ص" تعالي وشاهدي زي ذاك العصر.
فقالت لها: أتقصدين أن أستعجل ليحترق جبيني.
قالت السيدة "ن": إذا كنت لا أصنع مثل هذا الفستان فإنني أقدر (أن) أصنع نظير عصبتها أنت تزينت بالزي الجديد، وأنا أنيا بالقديم أليس كله يحسب زيا فلا فرق بين أن يكون جديدا أو قديما، ثم قالت لي: يا عزيزتي وصديقتي أيوجد عندك قليل من البطانة السوداء وشيء من القصب؟ فقلت لها: بلا كسل، أتشغلين نفسك بهذا الآن؟
قالت: لا جرم إن الزهور الموجودة في البستان هي مرجحة على الزهور المنتشرة في هذا الرسم لكونها طبيعية فإذا لم يكن ثمة مانع أن أجمع شيئا منها. قالت ذلك وخرجت إلى الجنينة ثم عادت بالزهور التي رغبت فيها فصنعت شيئا مماثلا تماما لشكل العصبة المرسومة في الرسم تعصبت بها، وقد اشتهينا أن أحدا يسمع قهقهتنا إذ ذاك.
فقالت السيدة "ص": عجبا، هل كانت هاته العصبة في زمن عصبة القايق الذي أشارت إليه المربية فإن من تأمل شكلها الغريب أدرك أنهما كانتا متعاصرتين.
قلت: يحتمل ذلك.
وفي تلك الأثناء أطلت إحدى الجواري رأسها من الباب قائلة: لقد جاءت السيدة الكبيرة، أما السيدة "ن" فإنها لم تجد فرصة لرفع العصبة عن رأسها، ولذلك دخلت الخزانة الموجودة في الداخل لتعلق الثياب محتجبة عن أعين والدتي التي دخلت علينا وخاطبتنا بما يأتي: لقد ذهب عني أن أخبركن أيتها الفتيات أنه جاءنا أمس خبر يفيد أنه سيأتينا اليوم زائرتان أجنبيتان وأنهن يرجوننا أن نستقلهن بالأزياء التركية.
وفي ذاك الوقت ظهر وجه السيدة "ن" وكشفت العصبة لأن المومى إليها لم تتمكن من إخفاء نفسها ضمن الخزانة فتمسك بالتعليق ولكن لم يجدها ذلك نفعا حيث فتح باب الخزانة وظهرت العصبة التي كانت تحاول
إخفاءها، فأخذنا جميعنا بالقهقهة بحيث اضطرت السيدة "ن" أن تهرب إلى خارج الغرفة، ولما سكنت ضوضاة القهقهة سألتنا الوالدة عن أسبا الضحك فأفهمناها حقيقة الواقعة.
فقالت الوالدة: أسرعن بارتداء ملابسكن فإن السعاة قريبة من الرابعة.
فقلت: يا عجبا، ترى في أية ساعة عزمن على المجيء؟ قالت: لقد أنبأن أنهن يحضرن بعد الظهر على أنهن لم يعين ساعة معلومة.
ثم خرجت ولما كانت السيدة "ن" تحب الاكتساء بألبسة تركية لم تكن معرضة للنقلة وقد قضت الضرورة أن أحضر رداء للسيدة "ص" فأحضرت ثوبين من الأثواب التركية أحدهما للسيدة "ص" والآخر لي. وبعد أن ارتدينا بهما وضعت كل منا على رأسها عصبة مزينة بالأزهار المماثلة للون الأثواب مما كنت صنعتها بيدي، ولما مررنا من أمام المرآة رأيت أن زينة السيدة "ص" تفوق زينتنا حسنا وجمالا، وقد اعترفت لها بذلك لأن المشد الذي كانت تلبسه قد زاد بحسن كسمها فظهرت بمظهر لا يكون إلا بمن يستعملن المشدات، وقد تبين لي أن المشد يجعل انتظاما كليا للألبسة التركية أكثر منه للألبسة الإفرنجية، كما أن وضع الزهار في مفرق الشعر مما يزيد الوجه رونقا ولطافة.
فقالت السيدة "ص" إذا كان أعجبك هذا المظهر فعليك أن تفرقي شعرك كشعري وأن تلبسي المشد فقلت لها: نعم، إنني سألبس المشد ولكن فرق الشعر يستغرق وقتاً طويلاً، ولقد آن وقت مناولة الطعام وكما كنا لا نعمل الساعة التي يأتي بها القادمات إلينا أرى من المناسب أن نكون على استعداد لاستقبالهن.
وبعد عشر دقائق كنا جميعا على قدم الاستعداد، فدعونا إلى المائدة وبعد الطعام عدنا إلى غرفتنا.
فقالت السيدة "ص": إن الظلم الذي تلاقيه من زوجها قد سلب راحتها ومنعها من الخروج.
قالت السيدة "ن": من العبث أن يعيشا معا على أنهما إذا افترقا زالت تلك الصعوبة في الحياة وكثرا ما قالت السيدة "ق": إنني لا أريدك فلنفترق، أما هو فقد كان له عن قولها إذن صماء.
قلت: ما هي أسباب عدم راحتها؟ قالت السيدة "ص": إن الرجل سيء الأخلاق وهو لأقل سبب يضربها وهي كثيرا ما قالت له أن يتركها لأنها لم تعد تتحمل معاملته وهو كان يقول لها إنه يموت ولا يتركها.
قالت: فإذا هو يحبها؟ قالت السيدة "ص": ليتها لم تكن هذه المحبة.
قالت السيدة "ن": إن الرجل لا خلاق له فإنه لا فقط يعامل امرأته هذه المعاملة بل هو كذلك مع الخادم والخادمة ولا قبل له على نبذ هذه الأخلاق السيئة ولا على ترك امرأته.
قالت السيدة "ص": إن زوجته لا تقبله فهل تجبر على البقاء معه.
قالت السيدة "ن": أجل إنها في اليوم الماضي كانت تقول: إنه من نفسه لا يريد أن يتركها وإنها ستضطر في آخر المر إلى مراجعة المحكمة.
قالت لها: إن الطلاق إنما هو راجع لإرادة الرجال لا غير فإذا قصدوا أن يطلقوا نساءهم أمكن لهم ذلك
بكلمة واحدة، أما المرأة فإذا كانت راغبة في الطلاق تضطر إلى مراجعة المحكمة، ثم قالت لي: وأنت كنت تقولين منذ مدة أن الأمر مشكل عن المسيحيين فإنهم لا يستطيعون أن ينفصلوا عن بعضهم بعد الزواج وإنما يجبر الرجل أو المرأة - أي منها كان سيء الأخلاق - أن يصرف عمره بالنكد والكرب بعد جواز الطلاق وإننا نحن أحسن حالا لوجود الطلاق عندنا فانظري لنا وسيلة للطلاق؟ فقلت لها: كيف ترغبين أن يكون؟ قالت: أرغب أن يكون في الأمر مساواة بين الرجل والمرأة بمعنى أن النساء يكن كالرجال قادرات أن يطلقن رجالهن بنفس السهولة الموجودة عند الرجال.
قالت: ماذا تقصدين بذلك؟ قلت: إن المرأة متى لبست ثوبا أزرق تطلق من زوجها والسلام.
قالت السيدة "ن": أتقولين حقيقة أم أنت راغبة في المزاح؟ قلت لها: إذا كنت ترتابين في قولي اذهبي إلى إنطاكية وتتأكدي ما قلت.
قالت السيدة "ص": وضحي أكثر من ذلك وزيديني معرفة.
قلت: إن المرأة في إنطاكية عند زفافها تأخذ معها ثوبا أزرق ففي أي وقت أرادت ترك زوجها تلبس الثوب الأزرق وحينئذ يعتقد بأنها صارت مطلقة، وهذه الحال معتبرة في عرف البلدة أيضا.
وأما المرأة الفقيرة التيب لا تملك ثوبا أزرق فإنها تستعيره من امرأة أخرى وتلبسه، ومتى انتهت من غرضها تعيده إلى صاحبته.
قالت السيدة "ن": كيف يمكنهم توفيق هذا الأمر على الأحكام الشرعية؟ فقتل: ألم تكن المسألة الشرط موجودة شرعا فالظاهر أنهم حين الزواج يتزوجون بهذا الشرط فيعتقدون مقاولة من مقتضاها أن المرأة تطلق متى لبست ثوبا أزرق.
قالت: الذي اعلمه أن النساء يشترطن على رجالهن المر الذي يرغبنه فإذا فعلوه أصبحن طالقات منهم على أنني ما كنت سمعت بما تقولين الآن؟ فقلت: يفهم من ذلك أن نساء إنطاكية أعقل منا كثيرا فإنهن متى تزوجن يضعن شروطا ويتزوجن بموجبها وليس ذلك منحصرا بنساء إنطاكية فقط وإنما في عشيرة (عنزة) عادة مألوفة وهي أن يربط سجف في المضارب ويبقى مربوطا على الاستمرار فإذا كانت المرأة راغبة في ترك زوجها حلت رباط السجف وفي ذلك إشارة إلى أنها أصبحت طالقة منه ولعشيرة التركمان - المسماة (تحبر لي) - عادة أخرى من هذا القبيل وذلك أن المرأة متى أرسلت سفيرا إلى زوجها تخبره بواسطته أنها نفرت منه فحينئذ تصير طالقة وكل ذلك موقوف على الشرط.
قالت السيدة "ص": لعمري إنهم عند النكاح عندنا لو وضعوا شرطا بثوب وردي أو أفلاطوني لكان ذلك حسنا جدا.
فقلت: لو وضعوا عندنا مثل ذلك من يعلم عدد الرجال الذين كنا نطلقهم فيكل شهر؟ قلت: لأي سبب، أليس عندنا عقل يوازي عقل نساء إنطاكية ونساء العشيرة؟ قلت: إن الأشياء التي تولد عندنا الأسباب كثيرة إذ من المعلوم أن نساء الخارج متى شبعت بطونهن ولبسن
ثوبا ما لم تبق لهن حاجة من الحاجات وليس عندهن ما عندنا من ضروب النزهة والترف حتى تأخذن الحدة من أزواجهن إذا منعوهن عن الذهاب إلى الحدائق والمنتديات.
قالت: ما معنى هذا الكلام إن أكثر رجال الخارج والعشائر يتزوجون عدة نساء فهل من سبب يبعث على الحدة والكدر أكثر من هذا السبب؟ فقلت: إنهن يكن مسرورات من الضرائر وهن اللاتي يرغبن في تزويج رجالهن حتى تبلغ أزواجهم أربعا لأنه كلما كثرت الضرائر قلت عنهن الخدمة، فإذا أخذ الرجل على زوجته امرأة ثانية خفت عنها نصف الخدمة فإذا اقترن بثالثة كانت مطالبة بالثلث، وإذا أخذ الرابعة هبطت خدمتها إلى الربع، وهؤلاء النساء المسكينات يرغبن في تخفيض خدمتهن إلى الخمس لو كان ذلك بالإمكان، ولكن الشريعة لا تأذن بأكثر من أربع.
قالت: إن ذلك للعجب لأجل الخدمة يقبلن الضرائر.
قلت: أيتها السيدة أعندك نظيرهن حيوانات وبهائم وجمال ومعاول لنقب الأرض؟ وهل تضطرين إلى تحميلها الأخشاب والأعشاب؟ أذهب عنك كيف نستثقل عقص الشعر وتسريحه وإنا مفتقرات إلى أن نستمد المعونة والمساعدة من الجواري؟ قالت: أنا لا أريد هذه الخدمة التي يتحملنها ولا الضرائر أيضا وإنما يعجبني من عادتهن مسألة الثوب الأزرق قالت السيدة "ن": لننظر فيما إذا كان ذلك حسنا هنا وإلا فإنه كما قالت رفيقتنا إذا لبس النساء ثوبهن أبصرن إلى حالة الرجل غير المتأهل.
قلت: إنني أنقل لكن فقرة تكون مثالا لما نحن بصدده فقد اتفق أن امرأة كانت في أثناء بحثها مع زوجها عن محبتها له تقول دائما: (آه يا سيدي إنني أسأل الله أن يقبض روحي بين يديك فإنني أفضل الموت على الانفصال عنك) . وكان الرجل نبيها واقفا على أسرار العالم. أما المرأة فقد كانت جاهلة بالقراءة والكتابة لا تعلم شيئا من أحوال الدنيا، ففي ذات يوم جاء الرجل إلى بيته وكان مغموما جدا بحيث إنه كان لا يقوى على فتح فيه والتلفظ بكلمة من الكلمات فزوجته حملت ذلك على انحراف في صحته، وأخذت تسأله عن سبب كدره.
أما هو فأجابها إنه لم يكن منحرف الصحة وإنما طرأ عليه حادث عظيم كدره جدا وان هذا الحادث مهم إلى حد أنه لا يقوى على بيانه، وبعد إلحاح كلي من المرأة عقبه سكوت طويل من الرجل قال لها (أخيرا) : آه يا زوجتي المحبوبة أنت تعلمين أنه لحد الآن كان الرجال يطلقون نساءهم ولكن وضعت الآن أصول جديدة من مقتضاها أنه يجوز من الآن فصاعدا للنساء أن يطلقن رجالهن فأنت لا تنكرين علي محبتي لك وتعلمين أنه لما كان عدم الانفصال عنك متعلقا بي دون غيري لم يكن لي أقل هم وكدر من هذا القبيل، أما الآن فإنني أفتكر ماذا يحل بي من القهر والنكد لو قصدت أن تطلقيني) . فأجابته هي قائلة: أقلع عن هذا الفكر ولا تهتم به فأنا لا أتركك ولا أطلقك بالكلية) .
وبعد أن مر على ذلك نصف ساعة طلب الرجل منها شربة ماء فالتفتت إليه قائلة: (عفوا أنا لست بقائمة فقم أنت واشرب)، فأجابها الرجل بقوله:(يا عزيزتي، هل من العدل أن أقوم أنا وأنت لا تقومين إنني أشتغل من الصبح إلى المساء لأجل القيام بحاجتك رغائبك، والله يعلم ما ألاقي من المتاعب حتى إذا أتيت إلى البيت بعد تلك المشقات ألا يلزم أن أرتاح فيه قليلا) أما هي فأجابته قائلة: (إن رجليك غير مكسورتين، فقم
واشرب) . وفي خلال هذه المحاورة بينهما غلبت الحدة على المرأة فقالت له: (لا تزدني فوق طاقتي فإنني أسمعك من فمي ما لا تحب) .
قالت السيدة "ص": إن هاته الأمثلة قد وضعت بقصد المزاح بين الرجال والنساء وإنني أتأسف على كلامك الذي قلته.
فقلت لها: أنا لم أر وما رويتك حقيقة وإنما نقلته من الفكاهة ولكنه مثل ما جرى بالنقل ومع ذلك فإنه لا يسعنا أن ننكر أن النساء هن أقل صبرا وجلدا من الرجال.
قالت: لماذا إنه ليوجد بين النساء من هن أكثر عقلا وأشد صبرا من الرجال، كما ان كثيرا من الرجال هم أدنى معرفة واقل جلدا وأعظم جهلا من النساء.
قلت: نعم، لا أنكر صواب القول ولكن ذلك من قبيل الاستثناء أيتها الصديقة والاعتبار في كل شيء للأكثرية وهكذا تصدر الأحكام حتى إن الأوروبيين الذين يطلقون عنان الحرية لنسائهم لما أنهم يعلمون أن النساء أدنى معرفة من الرجال يسلمون المهر الذي يخصصونه كثمن جهاز لبناتهم إلى الرجال ولا يبقونه بأيدي النساء قالت: وهذا لا أريده بأن أرى أموالي بيد زوجي.
قلت: حيث إن الرجال يستطيعون أن يحسنوا إدارتها جرت العادة عندهم أن يسلموها لهم.
قالت: فإذا خطر للرجل ابتلاع أموال زوجته مع أهوائه واسترسالا إلى إهانتها واحتقار لها؟ قلت: هذا محول علي طالعها.
قالت: كلا، أنا لا أمكنه أن يخونني بواسطة دراهمي.
قلت: ماذا تعملين؟ قالت: إنني أطلقه من تلك الساعة.
قلت: إن الطلاق عندهم لفي غاية الأشكال، والطلاق لأجل بلع أموال المرأة إنما هو في عداد المستحيلات وأما عندنا فلا حاجة أن نتحمل مشقة الطلاق لأجل ذلك لأن أموال المرأة لا تدخل تحت حكم الرجل حتى يتمكن من هضمها.
وحينئذ سمعنا صوتا يشير أن إحدى السفن تتقرب من الشاطئ، فانصرف ذهننا إلى أن الضيوف قادمون عليها، فنهضنا ووقفنا على النافذة المطلة على الساحل، فرأينا في جملة الخارجين منها ثلاث نساء مرتديات بألبسة جميلة.
قالت السيدة "ص": انظري إلى هاته المدام البيضاء وتأملي في حسن ألبستها البسيطة.
قلت: لعلهن من ضيفاتنا.
قالت: ولكن أراهن قد تجاوزن الباب.
قالت السيدة "ن": ربما أنهن يأتين إلينا من باب المنزل انظري الرجل الذي يصحبهن وهذا طبيعي لأنهن لا يحضرن منفردات. قالت السيدة "ص": أنعم ها قد دخلن من باب المنزل ولعمري إنهن جميلات وألبستهن من آخر زي فكيف تحبين أن تدخليني عليهن بألبستي الحاضرة لا جرم أنهن يحسبننا لا ندرك (شيئا) فلا أحب أن أظهر أمامهن بألبسة بسيطة في حين إنهن مكتسيات بألطف كسوة، ولو عرفت أن الأمر سيكون كذلك للبست
أحسن الأثواب وأكملها فتفضلي يا عزيزتي بإعطائي ثوبا من الأثواب الإفرنجية الجميلة لأرتديه وأظهر به أمامهن.
قلت لها: يا عزيزتي، هل من الممكن أن تحضر خياطة لتخيط لنا أثوابا موافقة؟ نعم إن ثوبي التركي قد جاء ملائما لك من حيث إنه مفتوح الصدر ولكن مشدي لا يمكن أن يلائم كسمك وأنت تعلمين أنه لو وجد قماش من لونه وأحضرنا خياطة مخصوصة لتخيطه على طريقته موافقا لك من آخر زي للزم لأجل ذلك نهارا كامل، فهل نؤجل مقابلة ضيفاتنا إلى غدا؟ قالت لعمري، إنني أخجل من الظهور أمامهن في حالتي الحاضرة. قالت السيدة "ن": يا عزيزتي، يمكن أن تحتجبي فلا تظهري أمامهن.
قالت: ما شاء الله، كيف يمكن ذلك وأنا راغبة فيا لتفرج عليهن وعلى ألبستهن الجميلة؟ قالت: (أيتها السيدات، إن المدامات القادمات إلينا لو لم يكن عارفات بأن لنا ألبسة إفرنجية ما كن طلبن منا أن نكتسي بألبسة تركية، ومن المعلوم أنه يجب علينا أن نخدم ذوق ورغبة الضيف أكثر من ذوقنا ورغائبنا.
وبينما كنا نهزل ونهذر على هذا الوجه كانت المدامات دخلن إلى القاعة فنهضنا لاستقبالهن وبعد أن حيياهن جلسنا إلى مقربة منهن، وقد تبين لنا من منظرهن أن إحداهن ذات بعل وتبلغ السابعة والعشرين أو الثامنة والعشرين من سني العمر، ممشوقة القوام طويلته، حسنة الكسم، زرقاء العينين، شقراء الشعر، بيضاء البشرة، جميلة الجملة. والثانية: ذات خدر في التاسعة عشر أو العشرين من العمر وكانت هاتان الصبيتان شقيقتين، والشقيقة الثانية معادلة للأولى بحسنها ولطفها ومع أن الجمال واحد لا أكثر غير أن أنواعه متعددة جدا إلى حد أن ما يراه هذا جميلا يراه ذلك بالعكس، بمعنى أن الأميال مختلفة في الناس لا يمكن أن تتفق على وجه واحد، وذلك مما يمنعنا من البحث في أسرار الطبيعة. ألا ترى أن فلانا يستحسن الحاجب الأسود والعين السوداء، وفلانا يميل إلى الشعر الأشقر والعين الزرقاء، وفلانا يقف بين الذوقين فيعجبه الحد الوسط من النوعين والبعض لا يرى جميلا في غير السمينات، والآخر يحسب الجمال في الرفيعات الهزيلات. وكثيرا ما نسمع قول فلان عندما يرى سمن: آه لو كانت أقل سمنا مما هي عليه الآن. وقول الآخر عن الهزيلة: لو كانت أثر سمنا لبلغت أقصى درجات الجمال.
لا جرم أن القول هذه وعدم جمال تلك بالنظر إلى الأمزجة والأذواق ليس من الإنصاف في شيء. نعم، إن كلا من الناس مخير في ميله ورغبته له أن يستحسن ما يستقبحه الآخر وبالعكس، غير أنه لا يناسب أن يقال: هذا جميل، وذلك غير جميل بالنسبة إلى الميال والأذواق لأن الحق سبحانه وتعالى قد برأ أهل الجمال على ألوان وأشكال شتى فإغماض العين عن قدرته وحكمته غير موافق للحقانية.
وقد كانت الصغيرة جميلة الصورة إلا أن جمالها يختلف عن جمال الكبرى ومع أنها أقصر من شقيقتها بأصبعين غير أن هيف قامتها ووجود الأولى أكثر سمنا منها يظهر للعين أنهما متساوين قدا. وهي أن الصغيرة ذات عينين زرقاوين مائلتين إلى الاخضرار وأهدابهما طويلة سوداء، وحاجباها معتدلان في الوضع والرسم متوسطان بين القصر والطول، وشعرهما أسود وشعر رأسها أكلف (كستنائي) وهي بيضاء اللون كشقيقتها غيران الفرق بين بيضاء الاثنتين إن بياض الكبرى مشرب بلون أحمر على حين أن بياض الصغرى كان ناصعا شفافا.
وكان جمال الكبرى لأول نظرة بالعين الناظرة. أما الثانية فكانت على حد قول الشاعر:
يزيدك وجهه حسنا
…
إذا ما زدته نظرا
والمباينة الموجودة بينهما في الهيئة من حيث إن الأولى: كانت شقراء الجملة، والثانية: سوداء شعر الحاجبين والهدبين زرقاء العنين كستنائية الشعر على كونهما شقيقتين لا تقد غريبة في بابها لأن الأولاد الذين يأتون من آباء شقر وأمهات شقر تكون هيآتهم كهيآت آبائهم وأمهاتهم، وهكذا الذين يكونون من أب أشقر ووالدة سوداء العنين والحاجبين، والشعر وبالعكس فإن بعضهم يشبه الأب والبعض الآخر يشبه الأم كما حصل في هيئة ذات الخدر المختلفة عن هيئة شققتها.
ولما زايلنا ظهر السفينة رفعتا عنهما ثوب الزيارة الذي كنا نظرناه عليهما فتبدت للعين ألبستهما التي كانت مستورة بالثوب المذكور، وكانت جميلة جدا، وكانت ذات الخدر تلبس ثيابا حريرية بيضاء وقماشها بسيط للغاية، والثانية لابسة ثوبا يضرب إلى لون الفضة ظريفا وبسيطا أيضا.
فلنأت الآن على وصف الضيفة الثالثة التي عرفنا أنها ذات خدر أيضا وهي كانت حسنة في وقتها أما الآن فإنها تبلغ نحو الخمسين من سني الحياة ومع أن محياها وجسمها قد أقالهما العمر من عذاب الزي والزينة إلا أنها كانت تحملها هذه المشقة، فقد كانت ألبستها وشعرها الممزوج بياضا في غاية الترتيب ومنتهى الانتظام.
وقد كنا في القاعة مع الضيفان والوالدة وسائر أفراد العائلة فعرفتهن بالوالدة وتبادلن معها رسم السلام بالإشارة وقد فهمنا أن ذات الخدر المسنة تكون خالة الصبيتين الشقيقتين.
وكانت السيدة "ص" تشارك هذه العاجزة في الترجمة باللغة الفرنسية فأخبرتنا الضيفات أنه لم يمر على مجيئهن إلى الأستانة إلا ثلاثة أيام، صرفن اليوم الأول في الراحة من عناء السفر، واليوم الثاني في قبول زيارة أقربائهن وأحبائهن الساكنين في دار السعادة، واليوم في التفرج على أسواق (بك أوغلي) ومخازنها بحيث اتضح لنا من إفادتهن أنهن كن ينظرن إلينا كأنهن من عالم الترك ونسائهم.
وفي خلال ذلك أخذت الشقيات تتكلمان معا باللغة الإنكليزية.
فقلت خطابا للسيدة "ص" إليك لقد تم الأمر فإنهما سيتكلمان باللسان الإنكليزي بمعزل عنا ولذلك يلزم أن لا تجعلي لهما سبيلا يدركان أنك تفهمين اللسان المذكور.
قالت: كلا، لا أتركهما يفهمان ولكن أرى أنهما ينما هما يتكلمان بالإنكليزية فخالتهما ملتزمة جانب الصمت فالظاهر أنها لا تعرف اللسان المذكور.
فقلت لها: ماذا تقولان؟ قالت السيدة "ص": إنهما قالتا إننا نعرف المعاملة الحسنة آه يا عزيزتي أمل أقل لك إنه يجب أن نلبس من آخر زي ثم نظهر أمامهن فلا نشك أنهن سيحسبننا جاهلات لا ندرك شيئا.
وفي خلال ذلك التفتت إلينا ذات البعل قائلة: إننا كنا رجوناكن أن تكتسين ألبسة تركية فهل كان ثمة مانع لو أنكن قبلتن رجاءنا؟ فحينئذ التفتت إلي "ص" قائلة بحيرة واستغراب: (يا عجبا أيوجد أكثر من هذه الألبسة ألبسة تركية؟) . وكادت تصرح عن فكرها وتلفظ هذه الكلمات بالإنكليزية إلا أنها لما كانت على مقربة مني وكان كلامها همسا وقد فطنت إلى الزائرات اجتهدت في تحويل الكلام إلى الفرنسية، ثم مزجته بالتركية فصار كلامها مركبا
من ثلاث لغات بحيث لا يمكن لأحد أن يفهمه وعلى ذلك لم يشعر الزائرات بأن أحدا منا يعرف اللسان الإنكليزي، وكان هو المطلوب.
فقلت: إن ألبستنا وأكسامنا هي تركية محضة.
قالت ذات البعل: لا يا عزيزتي ليست هي الأكسام التركية فننا نرغب في مشاهدة الأكسام المذكورة.
قالت السيدة "ص": كيف تكون الألبسة التركية تشيرين إلهيا.
قالت: ألا يوجد أثواب مذهبة؟ قلت إلى (ن خانم) : اذهبي يا صديقتي والبسي ثوبي المقصب الذي أعجبك منذ برهة وتعالي به، ثم التفت إلى ذات البعل وقلت: إن السيدة ستلبس الثوب المذهب وتأتي به على الفور.
قالت ذات البعل: أشكركن كل الشكر ولعمري إنكن عنوان الرقة.
وما مر على ذلك غير برهة قصيرة حتى دخلت (ن خانم) مكتسية بثوبي المذهب غير ان زائراتنا لم يكن مطمئنات تمام الاطمئنان.
قالت ذات البعل: لا ليس مقصدنا هذا وإننا نحن راغبات في الأكسام التركية الصرفة.
قالت ذات الخدر: نعم، الزي التركي ما أجمله.
فقتل: أيمكنكما أن تفهمانا ما هي الأكسام التركية التي ترغبانها وقد أعجبتكما وكيف يكون شكلها.
قالت ذات البعل: إنها جاكيته (نوع ملبوس يصل للحزام فقط) قصيرة مطرزة بالذهب، وقميص رفيع وشروال مقصب.
فقلت لها: ا؟ لآن ترين هذا الزي.
قالت السيدة "ص": ماذا تقولين من أين يمكنك إيجاد هذا الزي والظهور به.
قلت: الآن تنظرين.
وحينئذ نهضت فأحضرت مجموعة الرسوم وقد كنت شاهدت في الطريق امرأة مكتسبة بصدرة مطرزة بالذهب وشروال مقصب فأخذت رسمها وقد فتحت المجموعة وعرضت على الزائرات الرسم المذكور. وقلت: أهذا الزي الذي تطلبينه؟ فأجاب الزائرات الثلاث بصوت واحد: نعم، نعم هذا هو بعينه وكنا نود أن نراكن وأنتن مكتسيات بمثل هذا الزي.
قلت: أين رأيتن النساء اللاتي يلبسن هذه الأزياء؟ قالت ذات البعل: لم نشاهد المكتسيات به عيانا وإنما رأين رسمهن في باريز.
قلت لها: ففي مثل هذه الحال لا يمكنك هنا أيضا أن تشاهدي أكثر من ذلك.
قالت ذات البعل: لماذا لم يبق بين النساء التركيات من يكتسين بهذا الزي؟ فقلت لها: كلا.
قالت ذات الخدر: وا أسفاه إنه لزي جميل للغاية فإذا لا يتسنى لنا أن تشاهد في دار السعادة من ربات هذا الزي.
فقلت لها: لا يمكن أن تشاهدن إلا مثل هذا الرسم.
قالت الخالة: من هي صاحبة هذا الرسم؟ فقلت: لا أدري لقد رأيتها في الطريق فأخذت رسمها.
فقالت ذات البعل: كأنما هي من ممثلات الروايات.
فقالت الخالة: لا جرم إنها كما أشرت.
فقلت: إن ممثلات الروايات عندنا جميعهن مسيحيات ففي مثل هذه الحال لا تكون هذه المرأة تركية وهي امرأة مسيحية. قالت ذات البعل: إننا في باريز ننظر إلى مثل هذه الرسوم كأنما هي من رسوم السيدات التركيات وندقق كثيرا في زينتهن ووجوههن فإذا يفهم من ذلك أن الزينة ليست بزينة التركية وذوات هاته الأزياء لسن من السيدات التركيات.
قلت: أجل، فكما أنه يمكن لأي الناس أن يرتسم بالزي الذي يرغب فيه هكذا أيضا بعض النساء المسيحيات يرتسمن بمثل هذه الأزياء غير أنني لا أدري ما هو الزي الذي يلبسنه لأنه على نحو ما تشاهدن في هذا الرسم ترين على رأس صاحبته كفية من صنع البلاد العربية وعلى عاتقها صدرة من صدرات نساء الأرناوط وفي رجليها شروال والكرسي المنزل بالصدف الذي على قرب منها إنما هو من صنع الشام والفنجان الموضوع عليه من متاع الهند والنارجيلة التي في يدها لا أعرف حقيقة من استعمال نساء أية ملة من الملل أما شعرها فإنه مقصوص على الزي الإفرنجي، وقد قص من أسفل على النسق الأوروبي فإذا أمعنت النظرية حققت ذلك.
قالت ذات البعل: لا جرم أنه على الزي الإفرنجي تماما فإذا كان هذا الزي لم يمكن من الأزياء التركية كذلك لم يكن هو زيا منه آخر فليس إلا زيا قد ركب عن عدة أزياء.
ثم جاءوا إلينا بصينية القهوة على العادة التركية وقد وضع الإبريق في السلسة (أو السنبل) أو العازقي باللغة المصرية وهي مغطاة بمنديل فأعجب المسافرات بها كل الإعجاب وساتأذننا في معاينة كل قطعة منها على حدة وقد استحسن غطاء الصينية لنه كان مزركشا بالذهب وسألننا عن المحل الذي يباع به أباريق القهوة الفضية فهديتهن إلى سوق الصاغة، ثم بين لنا رغبتهن في مشترى الأقمشة التركية وطلبن إلينا أن نعرفهن عن الموضع إلي يباع به أحسنها فعرفتهن أن أقمشتنا متنوعة جدا وأوصيتهن أن يشترين من أقمشة بورسة أو الأقمشة العربية، وقد صرفنا في هذا الحديث قسما من الوقت، وبعد ذلك فهمنا أن الشقيقتين هما بنتا تاجر كثير الثروة، وأن أمهما وأباهما في باريز، وأن الأخت الكبيرة متأهلة من خمس سنوات، وأن زوجها أيضا من مسلك والدها، وأن خالتها تسكن مع والديهما، وأن ذات البعل تقيم في بيت زوجها.
قالت السيد "ص" إلى الخالة: لماذا أنت لم تتأهلي؟ قالت: هكذا كان نصيبي.
فقالت لها: أأنت لم ترغبي في الزواج؟ قالت: إن الزواج عندنا لا يخلو من الصعوبة.
فقالت لها: لأي سبب؟ قالت: لمسألة المهر (الدوتة) ؟
فقالت: ولكن أليس إن عدم الحصول على زوج بلا مهر إنما هو مخصوص بغير الجميلات فإننا نستمع أن المجيلات يتزوجن بلا مهر.
قالت: نعم، يتفق مثل ذلك ولكن غير الجميلات ذوات المهر كثيرا ما كن سببا في حرمان الجميلات اللاتي لا مهر لهن من الزواج لأنه لا تبقى واحدة منهن بلا زوج على حين إنه ينذر وجود من يقترن بالجميلات الخاليات من المهر.
فقالت لها: ألم تقترن شقيقتك.
قالت ذات البعل: إن والدي أخذ والدتي عن حب ولقد كان يهوى أن يقترن بها ولو لم يكن لها مهر غير أن جدي دفع المهر بإرادته وبعد تأهل والدتي بست أو بسبع سنوات أفلس جدي وكانت خالتي فتاة في ذات الوقت.
قالت السيدة "ص": وبعد ذلك ألم يتفق لها راغب على الإطلاق. قالت الخالة: نعم، تيسر ذلك وليس فقط أنه رغب في الاقتران بي وإنما حصل بيننا حب.
فقالت السيدة "ص": ففي هذه الحالة لم يبق حكم لمسألة المهر ولماذا لم تقترني به؟ قالت لها: إنني أنقل إليك المسألة من أولها فأقول بعد إفلاس والدي كنت قطعت أملي من الزواج على الإطلاق، ثم اتفق لي أن صادفت شابا غنيا بالمال والتهذيب والمعرفة محبا للعمل، موافقا من سائر وجوهه قد اكتسب ثروة بكده واجتهاده، فوقع في قلب كل منا حب الآخر وهو الحب الظاهر الذي يتم به الزواج، ولما كنت خالية من المهر اجتهدت كثيرا أن أتغلب على حبي وانبذه ظهريا إلا أن ما رأيته فيه من الميل القلبي إلى الزواج قد ولد في الجراءة على توطيد الآمال، وتقررت المسألة بيننا قطعيا، كما أن والدي قد قبل بكمال الامتنان حسن نية هذا الشاب الذي سيقبلني على علاني خالية الوفاض من المال وثروته كافية لأن أعيش فيها بكمال الراحة ولهناء، وكنا إلى ذاك الوقت نعرف هذا الرجل أنه ينتسب إلى إحدى العائلات من الإيالات فلما حان الزمن الذي سيتقرر به زواجنا نهائيا اجتمع به والدي اجتماعا طويلا، وتحادثا مليا، وطلب منه إيضاحات عن أحواله وعن عائلته، ففهم حينئذ أنه لا ينتسب إلى عائلة معلومة وإنما هو من الأولاد الطبيعيين (المنبوذين) .
قالت السيدة "ص": وا أسفاه ما أصعب ذلك إذا وجد الحب.
قالت لها: نعم، إنني كنت أحبه ولكن أيبقى موجب بعد ذلك لهذه المحبة إن معرفتي كونه ولدا منبوذا كافية لأن تبعثني على النفرة منه ولا يلزم الحب أكثر من هذا النفور.
قلت لها: وهل أمكن له أن يتناسى ذاك بمثل هذه السهولة؟ قالت: كلا إنه تأسف أسفا لا مزيد عليه، وأصر كثيرا على الفرار بي إلى بلد آخر حيث يقترن بي قائلا لي أنه لا يتركني أن أفتقر إلى أي كان مادامت عائلتي لا تقبله، أما أنا فكيف يمكنني أن أرضاه فإنني إذا لم أفتكر بنفسي فيجب أن أفتكر بأولادي لأنن من حيث وضعتهم في هذا العالم من أب منبوذ (نفل) سأبقى مخجولة أمامهم طول العمر، وعندما افتكرت بأنني سأترك اسم عائلتي للانضمام إلى رجل لا تعرف له عائلة ولا اسم لكي افتخر بالانتساب إليه رددته خائبا وأخبرته إنني لن أقترن به وأنني صممت على أن لا أكلم رجلا، فلست بمكلمته على الإطلاق.
قالت السيدة "ص": هل تزوج هذا المنكود الحظ بعد ذلك بسواك؟ قالت: لم اعد أره بعد هاته الحادثة لأنه زايل بايز قاصدا وجهة أخرى، ولا أدري ما الذي جرى به أما أنا فحيث لم يكن عندي مهر (دوته) لم يتقدم لي طالب آخر، وبعد، فأنبئني أنت ألا يوجد عندكم بنات متقدمات في السن بلا زواج.
قالت لها: لو دفع مليون من الدراهم لما وجد واحدة على الإطلاق فإن القبيحات والفقيرات لا يكن قواعد في البيوت.
قالت ذات البعل: إنه يوجد عندكن مسألة لا تخلو من الإشكال ألا وهي أن الرجال يستخدمون النساء كالجواري.
قلت: إن إدارة البيت والإنفاق على الزوجات عندنا إنما هو من وظائف الرجال والنساء مهما كن مثريات فلسن مطالبات بالإنفاق على البيت، أما الرجل المقتدر فإنه يستخدم في يته خادمة وطباخة وإذا لم تتجاوز مقدرته حد الخدمة نفسه فزوجته مروءة تقوم بخدمة البيت وإلا فإن الرجل لا يستطيع أن يجبرها شرعا بذلك، فقد اتفق في أيام خلافة عمر خارجا من حرمه الأصحاب الكرام جاء إلى دار الخلافة متظلما مشتكيا من زوجته فنظر عمر خارجا من حرمه وهو يتكلم بحدة فقال له:(أي شيء حدث يا أمير المؤمنين) فأجابه عمر بقوله: (إن حال النساء معلوم لا يحتاج إلى إيضاح فزوجتي قد سببت لي هذه الحدة. وأنت ما الذي جاء بك إلى هنا. فأجابه: إنني لأشكو إليك زوجتي أما وقد رأيتك على مثل هذه الحال فلا أرى محلا للشكوى) فقال له عمر: صه لا يجب أن نرفع صوتنا فإن نساءنا يقمن بإدارة بيوتنا مع أن ذلك خارج عن وظيفتهن ويرضعن أولادنا ولسن مكلفات به فإذا أظهرنا هذه المسائل ينتج عنها ضرر لنا) . فمن هذه القصة يتضح لك جليا أن النساء غير مطالبات ولا مكلفات شرعا بالخدمة.
قالت ذات البعل: أحسنت وإنني منك سؤالا من عاداتكم أن الأزواج عندما يدخلون على زوجاتهم في غرفتهن ينظرون من داخل باب الغرفة فإذا رأى الزوج أن زوجته وضعت خفها أمام الباب يدخل إلى الداخل حسبان أن ذلك إشارة على السما له بالدخول، وإن لم ينظر الخف فيعود من حيث أتى.
قالت السيدة "ص": باللغة التركية أحسنت أن يكون ذلك من الغلط المأخوذ عن الفرجية الزرقاء قالت ذلك ولم نستطع نحن الاثنتان من ضبط قهقهتنا.
أما السيدة "ن" فلما كانت لم تعلم شيئا عن مسألة الفرجية ولم تكن أحاطت عملا بعبارة الخف التي أشارت إليها الزائرة التفتت إلي قائلة: ما الذي طرأ عليكما؟ فأفهمتها القضية، وحينئذ اشتركت معنا بالضحك، وكان دوي قهقهتنا يملأ فضاء القاعة.
أما الزائرات فقد استغربن منا ذلك وقد لاحظت استغرابهن فقلت: عفوا أيتها الزائرات إننا لم نضحك من كلامكن وإنما قد اتفق أن سبقت بيننا عبارة قبل مجيئكن مشابهة لعبارة صدرت منكن فكان ما كان من داعي الضحك. ثم نقلت لهن مسألة الفرجية الزرقاء وقلت: إنه كما يوجد بعض منا لا يكون لهن علم بأشياء واقعة في بلادنا هذه ألا يستبعد أن تتصل بكن معلومات مغلوطة عن كثير من الأشياء، ولا جرم أنه كلما بعدت المسافة كثر الوهم وزاد الغلط.
قالت ذات الخدر المسموع عندنا: إن النساء التركيات كلهن سمينات يندر بينهن وجود الهزيلات فهل ذلك صحيح؟ قلت لها: عجباً، فما الموجب لذلك يا ترى؟
قالت: يقال إن ذلك ناشئ عن احتجابهن وعدم خروجهن إلى الأسواق إلا نادراً على إنني مذ وصلت إلى هذه العاصمة دققت كثيراً بنسائها فرأيت عكس ما سمعت، أي إن السمينات بينكن قليلات جدا كما أنني قد رأيت في الطريق من (بك أوغلي) حتى وصلت إلى الوابور كثير من النساء المستترات، وفي الوابور أيضا يوجد نساء مستترات متحجبات.
فقلت: إن النساء عندنا لا ينحبسن في البيوت وإنما يمكن لهن أن يخرجن إلى الأسواق في أي وقت شئن وأن تشتري ما ترغب.
فقالت ذات البعل: إن النساء التركيات هن أسيرات بأيدي أزواجهن فإننا نسمع أنهن لا يستطعن أن يعملن شيئا بدون إذن رجالهن.
قلت: لا جرم إنه من وظيفة النساء في أية ملة كانت أن يطعن أزواجهن على أن مثل هذه الوظائف هي عند المسيحيين أشد منها عن المسلمين لأن صك النكاح عندكن إنما يحرر مشروطا فيه أن تكون الزوجة في كل حال تابعة لزوجها ومرتبطة به ففي مثل هاته الحال يحق للرجل أن يذهب بزوجته جبرا أي محل شاء.
قالت: لا شك ولا ريب في وجوب ذلك إنه من الأمور الحسنة أن يكونا دائما مجتمعين.
قلت: فما قولك إذن فيما لو كان الزوج من عشاق السياحة وأراد الصعود توا إلى القطب للاكتشاف أو كان ممن يميلون إلى السياحة البحرية وأحب التوغل في أعماق البحر على ظهر جارية تميل مع الأرياح أو كان من المنطاديين (البالونجيين) ورغب في الصعود على طبقات الهواء.
قالت: ألا يحق للرجال عندكم إجبار النساء على الذهاب معهم؟
قلت: يمكن لهم أخذهن إلى الأماكن القريبة غير أنهم إذا كانوا قادرين الأسفار الطويلة الشاسعة فالمرأة ذات الشهامة إنما تذهب مع زوجها طوعا ومروءة لا غير وإذا لم تذهب فلا تجبر وعندكم لا يجوز للمرأة أن تبيع شيئا من ما لها إلا بإذن من الرجل أما نحن فإن المرأة عندنا حرة مستقلة في بيع واستهلاك ما تملكه.
قالت الخالة: كنا سمعنا أن السيدات التركيات يلبسن الألبسة الإفرنجية أكثير من الألبسة التركية، وذلك ما حدانا إلى الرجاء بان تقبلننا وأنتن بالأكسام التركية أحقيق ذلك؟ قلت: أجل، إن أكثرهن على مثل ما وصفت.
ثم التفتت ذات البعل إلى البيانو قائلة: أتعزفين بالبيانو (آلة موسيقية) ؟ فأجبت مشيرة إلى السيدة "ص": إن هذه السيدة تحسن العزف أكثر مني بها لأنها درسته نحو عشر سنوات.
قالت: لا جرم أن الضرب على هذه الآلة لا يمكن بأقل من عشر سنوات.
فقلت لها: يمكن الضرب على البيانو بعشر سنوات على شريطة الاستمرار والتعود بلا انقطاع، ولكن في كم سنة يمكن حفظه تماما.
قالت: أما أنا فقد ابتدأت به منذ السنة السادسة من عمري وها أنا ذا في الثامنة والعشرين وقد مر على زواجي ست سنوات كنت إلى ذلك العهد أي مدة ست عشرة سنة أعزف يوميا بهذه الآلة أربع ساعات وعند ما تأهلت صرت أعزف به يومين في الأسبوع، وحتى الآن لم أتعلم البيانو، أتعلمين ما المراد وما المعنى بعلم البيانو؟
قلت: نعم إن علمي به قد حداني إلى صرف النظر عن تعلمه فما أكثر العازفين عدا وأقلهم معرفة تامة به لأن علم البيانو إنما هو علم يراد هـ معرفة الأنغام من أول مرة بحسب أية نوطة كانت وسرعة عزفها والوصل إلى هذا الحد من المعرفة لا يحصل بمدى عشر سنوات، وإن كانت متمادية وها نحن الآن نكلف هذه السيدة أن تضرب على الآلة فتنظرين أنها تحسن الضرب جيدا ولكن ليكن معلومك أن الأنغام التي ستطربنا بها قد كررتها على النوطة عدة مرات حتى أمكن لها الإجادة بها على أن المقصد من البيانو هو غير ذلك وما دام أنه يوجد من يعزف على البيانو في هذا المجلس فالبيانو موجود والنوطة موجودة أيضا، وفي هذا الحال يجب ضرب النغم على البيانو عند النظر إلى النوطة، لن مراجعة الأنغام على النوطة عدة مرات وتكرير العزف بها لا يسمى عزفا ولا يترك في المرء ميلا لسماعها.
أما أنا فإنني عندما بدأت في درس البيانو اشتغلت به أربع سنوات متولية بمزيد الرغبة والاجتهاد، وتعلمت النوطة بسرعة لا مزيد عليها، وقد أخبرني العارفون بالبيانو أن عزفي به كان حسنا وملذا غير أن وصولي إلى الدرجة المقصودة حقق عندي ما جيب من المدة لبلوغ المطلوب فإن تجربتي أرتني أن أستاذي لم يتوفق إلى هذا الأمر فحملت ذلك على عدم كفاءته واستبدلته بأستاذ طائر الشهرة في هذا الفن، وأول عمل بدأت به أنني فتحت أمام نوطة لم يكن له عهد سابق فلم يسحن نغمها إلا عد أن كررها ثلاث مرات فعدلت عن التحري على أستاذ آخر ولكن أخذوا يستغربون عملي ويقولون: إنه لا يمكن الحصول على أستاذ اعرف به فأخبرتهم بمطلوبي فأنبؤني أنه قد يمكن أن يوجد في دار السعادة شخص أو شخصان من الطرز المطلوب وعلمت من نتيجة تحقيقاتي أن مع الاستعداد التام والاستمرار على العزف يوميا أربع أو خمس ساعات يمكن تعلم البيانو خلال خمس عشرة سنة من حياتي على تعلم هذه الآلة تأسفت على التعب الذي نالني في مدة أربع سنوات وضربت صفحا عن درس البيانو، فالآن صرت إذا رأيت نغما أعجبني أفتح النوطة ولا أتمكن من إتقانه إلا بعد أن أكرره لا أقل من خمس عشرة مرة، فهل ذات الخدر تحسن العزف بالبيانو؟ قالت ذات البعل: نعم، تعرف أن تعزف به ولكنها لم تصل بعد إلى درجتي بل يلزمها وقت أيضا.
قلت: تلطفي وأسمعينا قليلا من أنغامك اللطيفة.
فنهضت ذات البعل وجلست إلى البيانو ورفعت غطاءه وبعد أن نظرت إلى العلامة التي في داخله قالت: إنه بيانو بارزي لا جرم أن أحسن أجناسه إنما تصنع في باريز غير أن في بعض الجهات في أوروبا يصنعون منه جنسا حسنا ما أمكن، ولقد نظرت في حوانيت (بك أوغلي) كثيرا من هذه الآلات التي تنتسب إلى عدى أماكن فسألت عما إذا كان يوجد كمن صنع هذه البلاد فأخبروني انه لا يوجد فتعجب ولأجل ذلك أسألك ألا يصنعون عندكم من هذه الآلات.
فقلت لها: كلا، فإن العامل عندنا لم تترق الترقي المطلوب إلى هذا الحد ولقد كانت هذه الأشياء في الأزمنة السالفة ترسل من الشرق إلى أوروبا فانعكس الموضع وأصبحت ترد إلى الشرق من أوروبا. قالت: هل إن البيانو أرسل إلة أوروبا من الشرق؟ قلت: معلوم أن (شارلمان) كان أرسل بعض الهدايا إلى هارون الرشيد وبالمقابلة أهداه هارون الرشيد ساعة (وأرغون) وبعض الأقمشة النفيسة بحيث لما وصلت إلى أوروبا كان لها عند الأهالي وقع أشبه بالأمور السحرية، فكما أن الشرقيين يقلدون الأوروبيين في هذه الأيام هكذا كان (شارلمان) في عصره يقلد الدولة
العباسية بعلومها ومعارفها إلا أنه لم يتوفق إلى ذلك، ولا يخفى أن الأرغون الذي يعزف به في كنائس أوروبا في الوقت الحاضر إنما ورد إليها من بغداد في لأزمنة السالفة. أما البيانو فليس إلا فرعا منه.
قالت: يا عجبا أيصنع إلى الآن (أرغون) في بغداد؟ فقلت: كلا، فإنه ليس في بغداد حتى ولا من يعرف ما هو الأرغون.
قالت: إن ثروة البلاد إنما تحصل بترقي مثل هذه الصنائع والمعارف.
قلت: أن العلوم والمعارف والصنائع إنما هي مع المدنية نظير اللازم والملزوم تترقى بنسبة ترقي المدنية.
أما المدنية فهي نظير سائح يطوف العالم مصحوبا بالعلوم والمعارف وسائر أنواع التجملات واللطائف ففي الأزمنة المتوغلة في القدم جالت في مصر وبابل ومرت في طريقها على البلاد اليونانية حتى إذا سقطت هذه البلاد وصارت خرابا سارت إلى الإسكندرية وأشرقت أنوارها في حكومة الملوك البطالسة وزادت أيامها رونقا وبهاء.
ثم ذهبت في أيام الدولة العباسية إلى العراق وألقت عصا التسيار في بغداد مستعيضة بها عن باب، ثم سرت أشعة عمرانها إلى إيران وتركستان، وفي خلال ذلك امتدت من جهة إلى العرب فحلت فيا لأندلس.
ثم وردت على أوروبا فأشرقت فيه إشراقا، وكما أن الحكماء المسلمين أخذوا العلوم الحكيمة عن اليونانية وأضافوا محصول أفكار الحكماء اليونانيين على اختراعاتهم فوصلوا بالعلوم إلى درجة هي من الرفعة والتقدم بمكان عالي هكذا فعل الأوروبيين فإنهم رأوا محصول مساعي العرب حاضرا مهيئا فصرفوا إليه أفكارهم وغاياتهم، ورفعوا بجدهم شأن العوم والمعارف إلى درجة تحير العقول وتسحر الألباب، وفي الوقت الحاضر يوجد سهولة كلية للاستفادة من محصول مساعي الأوروبيين المشاهدة عيانا لأجل انتشار العلوم والصنائع عندنا.
قالت: إذا كان الواقعة هكذا يلزم الاهتمام بأصدقائهم القدماء.
قلت: لا شك أننا راغبون فيهم في حضرة سلطاننا الحالي فإنه منذ جلوه الهمايوني قد تقدمت المعارف والصنائع في بلادنا تقدما خارقا للعادة، ولا نرتاب أنه في وقت قريب نرى المعارف والصنائع إجمالا بحالتي الكمال والإتقان، ولا جرم أن مجيء السواح من أصحاب المعارف نظيركن إنما هو علامة بينة على ما تقدم.
قالت ذات الخدر: إذا حسن لديك أعطنا نوطة يروق لديك نغمتها وشقيقتي تعزف فيها البيانو.
فبيت الطلب وأتيتها بنوطة مخصوصة (بالأوبرا) فأخذتها ذات البعل ولحنتها على البيانو بأحسن تلحين أطربنا وأدهشنا ولعمر الحق إنني إلى هذا العهد ما كنت سمعت بمثل عزفها، وقد كانت كلما جئناها بنوطة تبادر إلى تلحينها في الحال فتحققت من ذلك أنها بلغت في هذا الفن الدرجة المطلوبة، ثم أطربتنا بإيقاع بعض الألحان المحفوظة في ذاكرتها، فجعلتنا حيارى من مهارتها، ثم أخذت الشقيقتان تعزفان على البيانو بوقت واحد أي بأربع أيد مما يقال له بالفرنسية:(كاترمن) فأطربتنا أيما إطراب وشهدنا لذات الخدر أنها من البارعات جدا في هذا الفن.
فقلت لهما: ناشدتكما الله أن تعفيانا من الإيقاع على البيانو بعد هذا الذي سمعناه.
فقالت ذات البعل: إذا حسن أطربينا ببعض الأنغام التركية.
فقلت لها: لا بأس، إننا نلحن بعض الألحان التركية وإذا شئت بآلة تركية.
قالت: أكون ممتنة للغاية.
وبعد أن وقعت والسيدتين "ص" و"ن" كل منا بفصل على البيانو من الأنغام التركية نهضت إحدانا إلى العود.