الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رأسها ما درسته من الفنون وما اطلعت عليه من سائر آداب وآثار الدنيا أخذت تطوف في كل جهة من العالم بصورة لائقة بمركزها قصد التسوح والتفرج على آثار الكون.
وكانت هذه المدام ناقلة مروحة جميلة جدا قد سلمتها مع ردائها إلى الجارية، وهذه المروحة من المراوح ذات القيمة التي تنقلها أكبر المدامات لا لأجل رفع الحر وترطيب الهواء، ولكن لأجل إظهارها للناس وبيان قيمتها وغلاء سعرها حتى ولئن كان الهواء رطبا وليس من حاجة إليها، ولما كان هواء تلك الليلة غير حار إلى حد أن يكون هناك حاجة إلى استخدام المروحة لم تشأ هذه المدام أنت تبقيها معها عند دخولها إلى القاعدة فتركتها مع الجارية في الخارج، وقد دل هذا العمل دلالة واضحة على أنها لم تنقل هذه المروحة بقصد الفخفخة وإنما تقصد المحافظة على شأنها وشهرتها ليس إلا، وبالجملة فإن هذه الرقة المجسمة التي لم تكن تعرف ما هو الغرور ولم تختبر العظمة والكبر كانت بادية عليها آثار التواضع ومخايل أنس الجانب وكانت تتكلم بصوت لطيف يقع إلى أعماق القلب، ويدخل الآذان بلا استئذان، وكان شعرها الكستنائي النادر في الإنكليز وعيناها الزرقاوان تزيدان سيماها الجميلة جمالا وعذوبة. أما ألبستها لأنها وإن كانت كما فصلت قبلا حسنة، ومن آخر زي غير أنها كانت في غاية البساطة ولم تكن مزينة بالأزهار وما مائل من أنواع البهرجة، وكانت تشير إلى نبالتها وكمالها
.
بعد أن نزعت ردائها وقبعتها وكنت قد سرحت بجملتها نظر الانتقاد قدمت لها ساعدي.
قالت: أيتها المدام إن جمعيتنا لما كانت خلوا من الرجال أقدم لك ساعدي فعساك أن تتفضلي بقبوله.
قالت: أشكر لك أيتها السيدة مكارم أخلاقك أفلست أنا متشرفة بالسيدة التي أثنت عليها صديقتي مدام ج.
قلت: إن العناية بالضيف فرض واجب القضاء علي فلا حاجة لما تفضلت به من عبارات الشكر والشرف الذي أشرت إليه إن هو إلا إحسان أولتنيه مدام ج.
…
على غير استحقاق.
وبعد أن أخذت المدام بذراعها إلى القاعة عرفتها بصاحبة المنزل وأفراد العائلة وسائر من كان من الأقرباء والأنسباء كل منهن على حدة وترجمت لصاحبة الدار وأفراد العائلة التحيات التي كلفتها بها مدام ج. المومى إليها وبلغتها تشكر كل واحدة منهن وحينئذ تقدمت للمدام القهوة فشربت فنجانا كاملا وقالت: إنها مل تكن تألف شرب القهوة ولكن إنها لم تذق إلى الآن مثلها، ولذلك شربت الفنجان بتمامه أما أنا فقد بينت لها أن للترك طريقة مخصوصة لطبيخ القهوة تختلف عن طريقة الإفرنج وعرفتها كيفية طبخها، ثم أنبأتها أن القهوة هي من البن عكس التبغ فبمقدار تطوافها في البحر بمقدار ذلك يفسد طعمها، وأن هذه القهوة هي من البن اليمني قد أتى بها إلى الشام بواسطة عربان غزة وجلبت منها إلينا فلم تمر على البحر إلا من بيروت إلى هنا ولذلك كانت مرجحة على غيرها، ثم سألتني المدام عما إذا كان في عزم السيدات الموجودات عندنا أن يبتن في منزلنا هذه الليلة أم لا فقلت: أن منازل أكثرهن قائمة على الخليج فسيذهبن إليها على ضوء القمر وأن هاته الليلة هي الليلة الرابعة عشرة من الشهر فقد اخترنها للإفطار على قصد أن يستفدن بل يتمتعن بلطافة نور القمر وقت تمه.
قالت: إنني على حين كنت راضية بأن أجتمع بعائلة تركية فاجتماعي هذه الليلة اتفقا بعدة عائلات قد
ملأ فؤادي سرورا فأنا أشكر لهن اختيارهن هاته الليلة للإفطار ومجيئهن إلى هذا المنزل حيث أسعدني الحظ بمرآهن.
فترجمت كلام المدام لهن ونقلت لها كلامهن الدال على أنهن يشعرن بمثل ما تشعر به من المسرة والامتنان، ثم قلت لها: إن السيدات قد تولتهن الدهشة من جمالها ورقتها وأنهن لن يقنعن ببيان منتهن لها ولكن يتأسفن لعدم معرفة اللسان لمسامرتها مباشرة.
وجملة القول: إنني بواسطة الترجمة ونقل كلام الفريقين إلى البعض الآخر مكنت اللغة والصحبة بين المدام وبين السيدات ومع أنه لم يمر على مجيء مدام ر.
…
إلى دار السعادة أكثر من أسبوع واحد فقد خصصت من وقتها ساعة واحدة لتعليم التركية فحفظت منها جملة مفردات، وبينا كنت أترجم لها كلام السيدات المومى إليهن كانت في بعض الأحيان تجيب بلفظة نعم أو لا إشارة إلى أنها كانت تفهم بعض الكلمات، وكنت أترجم لها ما خفي عنها من سائر العبارات، وكانت المفردات التي حفظتها في خلال أسبوع مسطرة في محفظتها وهي كثيرة جدا إلى حد يوجب التعجب وقد أنبأتني أنها عند رجوعها إلى بلادها لا تهمل تعلم التركية وإنما ستستمر على الدرس والمطالعة، وكانت تلفظ المفردات التي تعلمتها لفظا حسنا مما يثبت لها الاستعداد الطبيعي ومع أنها إنكليزية المحتد والمولد فقد كانت تتكلم الفرنسية كإحدى الباريسيات.
وكانت منذ دخولها إلى القاعة تمعن النظر أيما إمعان بجميع من كان هناك من السيدات منتقلة من الواحدة إلى الأخرى على أنها لم تكن تنظر إليهن بعين البلهاء الحمقاء، وإنما كانت تلقي عليهن نظرة التدقيق والإمعان أما أنا فقد حملت ذلك عنها على رغبة التأمل بالنسبة للسيدات التركيات وطريقة زينتهن، وبعد مدة انقطعت عن الكلام توا وضاعفت تدقيقها وإمعانها لكل من الخواتين على حدة، ثم ما عتمت أن ظهرت على وجهها آثار التفكر كما يحصل في الغالب لكل إنسان يحاول الحصول على شيء يراه ممتنعا عليه وقرنت حاجبيها قليلا فباحت شفتاها بما في ضميرها والتفت إلي قائلة: لقد بذلك جهدي هذه الفترة على أمل أن أتمكن من كشف شيء كنت أدعي الحصول عليه فلم أتوفق إليه وذهب ذلك التفكر أدراجا فإني ألجأ إلى مروءتك بإزالة ما حصل لي من اليأس على أثر إخفاق مسعاي وعساك أن تمني بإيضاح يكون لي منه ما أرجوه من السلوى.
فقلت: مري أيتها المدام.
قالت: مَن مِن هؤلاء السيدات الموجودات في القاعة ضرة للأخرى؟ قلت: عفوا أيتها المدام أتسمحين لي قبل أن آتيك بالبيان عما أمرت به أن أسألك سؤالا واحدا.
قالت: تفضلي أيتها السيدة.
قلت: على أية صورة تدعين كشف المسالة.
قالت: بنظر أن كلا منهما ضرة للأخرى فلقد مر علي هنا نصف ساعة تحريت بها عمن تنظر إلى الثانية منهن بعين الخصومة والبغضاء، ولكنني لم أر إلا أن كل واحدة منهن تنظر إلى الأخرى بعين الحب والتودد لا جرم أن فقدان الضرائر في مثل هاته الجمعية الكبيرة كان يحملني على التفكر بأن ذلك ممتنع الإمكان في تركيا لعلمي أن عدم وجود الضرائر نادر بدرجة يشير بها الزوج إلى زوجته بالبنان أما الآن فدق تأسفت إذ علمت أن نظري الذي كنت أظنه قد خدعني.
قلت: لم يخطئ نظرك أيتها المدام وإنما أنت على مثل ما علمت إلا أن الجهة الثانية معاكسة لما تعلمين على الخط المستقيم لأن وجود الضرائر هو نادر إلى درجة يشار إليها بالأصابع.
قالت: عفواً أيتها السيدة، فما هذا القول؟ قلت: لا أقول إلا الحقيقة أيتها المدام.
قالت: فإذن لا يوجد ضرائر بين السيدات الموجودات هنا في الوقت الحاضر.
قلت: كما أنه لا يوجد بينهن ضرائر كذلك لا ضرة لإحداهن مع الأخرى.
قالت: إنني بحسب الأنوثة ولئن كنت ممتنة بسبب محبتي وميلي إلى السيدات بنات النوع من ندرة تلك الحال إلا انه من حيث وجود الضرائر فلو تمكنت من مشاهدة مثل هؤلاء لأصبحت في غاية الامتنان.
قلت: لقد نطقت بالصواب من ذلك أنه على حين أنك تركية فأنت بهذا الخصوص من رأيي.
قلت: إنني إلى الآن لم أفهم ماهية فكرك أيتها لمدام فإنني لست منفردة بالتأثر على السيدات اللاتي يتزوج رجالهن بعيرهن وإنما السيدات التركيات بجملتهن متفقة معك على فكرك.
قالت: أما أنا فقد كنت أسمع أن المرأة التي يقترن زوجها بامرأة غيرها لن تتذمر من فعله وإنما تحسب ذلك أمرا إلهيا فتمتثله بالطاعة والإذعان.
قلت: لو كان ذلك أمرا إلهيا على الإطلاق لوجب على كل رجل أن يقترن بأكثر من زوجة واحدة إن الله سبحانه وتعالى يأمر الرجال أن يقترنوا حالا بزوجات على زوجاتهم وغنما سمح وأجاز ذلك عن مسيس الحاجة فلو كان هناك أمر إلهي كما تقولين ففي وقت الموت أيطلب فقط أمر الله لا جرم إنك تعتقدين مثلنا أن أمر الموت بيد الله ولكن هل أتى عليك زمن طلبت به هذا الأمر.
قالت: لا أنكر عليك الحق في مثل هذا الوجه ولكنني سمعت أن الله في الشريعة الإسلامية أمر الرجال أن يقترنوا بأربع زوجات.
قلت: إن هذا الأمر الذي تقولين عنه إنما هو بمثابة إذن إجازة الله بحسب الإيجاب، ولقد كان تعدد الزوجات جائزا في الشرائع السالفة بل لم يكن له حد معلوم أيضا، فالشريعة الإسلامية نهت عن أكثر من أربع وهذه مقيد بقيود وشروط صعبة جدا بحيث إن في إجرائه على صورة موافقة للشرع إشكالا لا مزيد عليه لأن الرجل الذي يقترن بزوجات متعددات يجبر أن يفرز لكل منهن منزلا على حدة وأن تكون نقوش غرفه مماثلة لبعضها البعض الآخر فضلا عن الأثاث والرياش وأن لا يكون ثمة بون وفرق بين ألسبتهن وزينتهن، وفي مثل ذلك لا أزيدك علما بما هناك من صعوبة المتعسر تذليلها، ولما كان من واجبات الرجل عندنا أن يهتم بإدارة زوجته وطعامها وكسوتها وسائر حاجاتها كان تعدد الزوجات نادرا بالنظر إلى تعذر القيام بضروريات واحدة فضلا عن كثيرات في عصرنا الحاضر، وزيادة عن ذلك أن المرأة التي لا ترى من زوجها عناية بشؤونها وإدارتها يحق لها أن تذهب إلى المحكمة فتشكو ظلامتها والمحكمة تأمر الرجل أن ينفق على زوجته كما أمن الزوج يصبح حينئذ مجبرا على امتثال هذه الأوامر.
قالت: إن الرجل المتمول يقتدر على إدارة أربع زوجات فلا يمنعه ذلك من تعددهن.
قلت: كلا، لا يمنعه من ذلك ولكن مشروط عليه أن يساوي بين كل من زوجاته وان لا يميز إحداهن عن الأخرى
بالعطايا والهدايا ولا يظهر لواحدة منهن حبا يزيد عن حبه للأخرى فإذا خاف أن لا يعدل بينهن فيجب عليه شرعا الاكتفاء بواحدة.
قالت: يا عجبا إن المشاكل كثيرة أمل يكن أولى من التعصب ووضع هذه المشاكل والعقبات منع هذا الأمر؟ قلت: يا أيتها المدام فإذا كانت الزوجة عقيمة والزوج راغبا في البنين أو كانت المرأة مريضة والزوج يطلب زوجة أفلا يساعد بزوجة أخرى؟ قالت: ألا يوجد طلاق فإن طلقها ويأخذ غيرها ويجتمع بزوجة واحدة.
قلت: إننا نصرف النظر مراعاة لخاطرك عما تلاقيه المرأة العقيمة من المحنة والمشقة إذا لم تتمكن من الحصول على زوج آخر ولكن كيف نسمح بطرح الزوجة المريضة في قارعة الطريق؟ قالت: إنني أوافق على هذا القول بالنظر إلى كونه صوابا فقط ماذا تقولين عن رجل يتزوج على زوجته مع أنه ولدا ومع أن زوجته حسناء ومتمتعة بأحسن صحة؟ قلت: أيتها المدام إن الحمام يكتفي بأنثى واحدة على أن الديك يتسلط على عدة دجاجات أليس الإنسان نوعا من أنواع الحيوان؟ قالت: أليس التمثل بالحمام أقرب إلى الملاءمة والصواب؟ قلت: لا جرم أن ذلك منتهى الحكمة والحق والأكثرية على هذا المذهب إلا أن الشريعة اللازمة لجمعية مدينة مؤلفة من ملايين من النفس يجب أن يكون لها أحكام موافقة لأي الأحوال تدفع بها عن ذويها سائر المحذورات وتنيلهم ما يبتغون المسرات والطيبات وإنني لأحكم معك أيضا أنه في سوء استعمال المساعدة الممنوحة في تعدد الزوجات مظلمة للنساء غير أن النساء اللاتي لا يحتلمن هذا الظلم والاعتساف لهن حقوق معلومة على حدة تنقذهن من هذا الجور، فالمنع القطعي في تعدد الزوجات قد أورث الجمعيات المدنية أضرارا وخسارات شوهدت رأى العين.
ومن جملة ذلك أن كثيرا من الرجال الأوروبيين في الوقت الحاضر أصبحوا بلا زوجات وعددا غفيرا من النساء بتن بلا أزواج فاتسع بذلك مجال العادات السيئة ألا وهي كثر المسيكات والخليلات، فول شئنا أن ننقذ النساء من تأثر الضرائر أي من أن يكون لرجل واحد ثنتان أو ثلاث لفتح خرق أمر وأنكى من الخرق الأول، بمعنى أنه يظهر إذ ذاك أكدار لعدد من بني الإنسان وأورثهم هذا الأمر خجلا يلازمهم طول العمر، على انه إذا اتفق عندنا أن رجلا كان قليل الوفاء واقترن بامرأة ثانية علاوة على زوجته الحسناء الفتاة الصحيحة البنية أمكن لها أن تطلق منه وتقترن بزوج آخر كما تريد وتجدد سعادة حالها.
ولكن هل في وسع الأطفال الذين لا علم لهم بأنفسهم وما يصيرون إليه في مؤتنف الأيام وما يتقلب عليهم يوميا من صنوف الضر الذي تسود به وجوههم أن يمتنعوا عن المجيء إلى الدنيا؟ إن المرأة المسلمة تحرم شيئا من الحقوق الإنسانية في أي الأحوال على أن أولئك المساكين الذين يدعون أولادا طبيعيين محرومون من جميع الحقوق الإنسانية فإنهم مهما بذلوا من السعي والإقدام ومهما أجهدوا نفوسهم ومهما بلغوا من المعرفة والعلم والثروة الواسعة لا يمكن الافتخار بهم.
وإنما يكونون حطة لوالديهم ويضعون من قدرهم ويوجبون لهم الحياء والخجل، وليس من عائلة تقبل في تزويج إحدى بناتهم برجل منهم إذ من حيث إنه لا عائلة له لا يليق به الانتساب إلى عائلة ما. أما البنات ومصيرهن فلا أرى
من حاجة للإفاضة بهذا الموضوع لما أن ذلك معلوم لديك فإنهن محرومات من أن يحببن ويكن محبوبات لأن علامة (النقولة) منقوشة على جباههن بصورة لا تمحى على الإطلاق فما ذنب هؤلاء أيتها المدام؟ قالت: لا جرم إن هؤلاء المساكين لم يأتوا إلى الدنيا في الحالة التي يرغبون بل بعد ذلك لا مناص ولا مخرج لهم من هاته الحال وإن كانوا غير راضين عنها.
قلت: أما المرأة المسلمة فتكون ضرة برضاها وإذا أبت ذلك فتطلق وتذهب إلى زوج آخر، والشريعة الإسلامية لكي تمنع مجيء أولاد الزنا إلى الدنيا منعت الزنا قطعيا وأجازت للرجال الذين لا يكتفون بزوجة واحدة تعدد الزوجات، ومقابلة لذلك وضعت الطلاق بحيث إن النساء اللاتي لا يرغبن أن يكن ضرائر يمكنهن أن يبحثن عن زوج يرضى بزوجة واحدة.
قالت: لقد أصبت فيما رويت من هذه الجهة فلا أزيد على لفظة الاستحسان شيئا ولكن من حيث إننا من نوع النساء يجب أن تندرج في مراقي الغيرة قليلا ونتكلم كلمات لأجل حماية أهل النوع إن الزوج والزوجة هما جسم واحد فبينا يجب أن يعيشا بالحب الكائن بينهما دون أن يتخلله شيء من الشبهات إذ نرى الزوجة المسكينة في كل يوم بل في كل ساعة تناجي نفسها قائلة: (هل إن زوجي يتزوج علي بامرأة أخرى) فبحقك أية لذة من حياة الخوف والقلق والاضطراب؟
قلت: إذا وجد نساء يفتخرن بمحبة أزواجهن فليس إلا نساء المسلمين أيتها المدام إن تزوج الزوج على زوجته حالة كونها في قبضة يده أي حالة كونه لم يتركها فيفيد كأنه لم يتزوج، لأن المحافظة على زوجته دليل محبته لها ولا يمكن أن يقام أعظم من هذا الدليل على إثبات حب الزوج ووفائه والرجال عندنا لا يكونون تحت منة النساء كما يحصل عندكم بسبب المهر المعكوس ليتحاشوا الزواج ثانية بل بعكس ذلك فإن الرجل حين الزواج هو الذي يدفع الدراهم لتجهيز البنت، وهناك قسم من المال يبقى دينا بذمته واجب الداء وهو المهر المؤجل فإذا وقع بحيث إنها لا تتحمل شيئا من الضيق حتى تتمكن من الحصول على زوج آخر.
قالت: ف الواقع إننا وإن كنا ندفع الأموال إلا أن الرجال راغبون فينا كل الرغبة.
قلت: إذا انتقلنا إلى البحث بأمر الرغبة نرى الحرمة والرعاية التي تؤدي للنساء عندنا لا تقل عن مثلها عندكم وربما كانت على نوع ما أعظم نحن لا نغتر بالظواهر ننظر إلى الحقائق فإن النساء في الإسلام محترمات بمرتبة القرآن حتى إنه لا يجوز لفرقة عسكرية سيارة صغير غير خليقة بالأمنية أن تستصحب معها المصحف الشريف والنساء، واما الفرق الكبيرة العسكرية التي تكون سلامتها مأمولة في الغالب فتستصحب معها المصحف الشريف والنساء أيضا.
أما المدام فإنها بعد أن أعملت الفكرة قليلا التمست مني أن أترجم كلامها والتفتت إلى النساء قائلة لهن إجمالا: من حيث في الإسلام يجوز للرجال متى أرادوا أن يقترنوا بزوجات علاوة على زوجاتهم أفليس عندكن خوف من ذلك؟ فأجابت إحدى السيدات قائلة:
أواه إن زوجي يحبني فلا يمكن أن يتزوج.
فأجابت الثانية: فليتزوج ليرى أنني لست ممن يرضين في البقاء عنده.
وقالت الثالثة: إذا كان لا يحبني فبعد أن يتزوج لا أخشى من وقوع القحط في الرجال للحصول على زوج لي.
وأجابت سيدة أخرى: إن لزوجي حقا في أن يتزوج لأنني أنا أكبر منه بثمان سنوات أو تسع سنوات فهو الآن كهل في الخامسة والأربعين من العمر أما انا ففي الرابعة والخمسين، وإنني متى كنت معه في محل واحد لأخجل من أن نمر معا بإزاء المرآة.
وبعد أن ترجمت لها هذه الفقرة التزمت المدام الصمت وبعد تفكر قليل التفتت إلي قائلة: يقال: أن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يحب النساء كثيرا أليس كذلك؟ قلت: أجل إن نبينا تفضل بقوله: (حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب - أي الرائحة العطرية - والنساء وقرة عيني في الصلاة) .
قالت: الظاهر أنه لذلك أخذ كثيرا من النساء حتى أن أحد عبيده بعد أن طلق زوجته تزوجها وقيل: إن ذلك سبب اعتراض بعض المعترضين.
قالت: إن جواب كلماتك يحتاج إلى التفصيل فإذا لم يكن مما يوجب تصديع الخاطر أقدم إلى بيانه.
قالت: إنني أشكر لك شكرا جزيلا لأنني أرغب كثيراً الوقوف على حقائق هذه الأشياء.
قلت: إن نبينا صلى الله عليه وسلم تزوج في بادئ الأمر بخديجة الكبرى، وفي مدة حياتها لم يتزوج بامرأة غيرها فالذرية النبوية إنما هي باقية عنها وبعد وفاتها زوجه حضرة أبو بكر صديقه الحميم بابنته عائشة، فلما ترملت حفصة ابنة حضرة عمر رغب بها كل من أبي بكر وعثمان، فلم يتم شيء من ذلك على أن نبينا رغبة منه في تلطيف عمر تزوج بها وانتم تعلمون ما كان عليه حضرة عمر من رفعة والشأن والقدر وجميع نسائه إنا اقترن بهن لسر وحكمة - مما تقدم بيانه - وهناك سبب مستقل يتعلق بمسألة التحري والبحث عن الكف، في أمر الزواج فهذا من أن تصل بناتهن ونساءهن إلى رجال غير أكفاء لهن، ومن حيث أن المشركين في أوائل الإسلام كانوا يسومون المسلمين جوراً وعسفاً وجفاء هاجر عدد من سراتهم بأهاليهم إلى بلاد الحبشة، ثم بعد ذلك كانت الهجرة إلى المدينة بوجه عام وهذه المهاجرة أفقرت المسلمين وفي أثناء هذه الجلية أصبح عدد كبير من الرجال عزبانا وكثيرات من النساء أرامل.
ولما كان الزنا من المحرمات العظيمة في دين الإسلام لم تراع مسألة الكفاءة تماما ومع ذلك فإن هذه المسألة أي أمل وجود الأكفاء لم تبرح من أذهان المهاجرين ولم تكن تطمئن قلوب المسلمين على النساء اللاتي لم يحصلن على الأكفاء فهذا هو السبب الرئيس في تكثير الزوجات المطهرات بعد الهجرة النبوية، وها أنا أورد لك بعض أمثلة في هذا الشأن إن أم حبيبة ابنة أبي سفيان من رؤساء قريش كانت أول من آمن فهاجرت مع زوجها إلى البلاد الحبشية فتوفاه الله هناك ولبثت هي ثابتة في دين الإسلام، وحيث إن أكثر رؤساء قريش قتلوا في غزوة بدر صار أبو سفيان رئيسا لقريش في مكة وبلغ مكانة قصوى من النفوذ حتى إنه ليقال: إنه بعد عبد المطلب لم يأت رئيس صاحب نفوذ كأبي سفيان فإنه كان يسوق
قريشا بجملتها في السبيل الذي يريده ولو كانت أم حبيبة راغبة فيا لدنيا لذهبت توا إلى مكة على أمل أن تستفيد من نفوذ والدها وإقباله ومكانته.
غير أنها مل تكن من أولئك الذين يبيعون دينهم بدنياهم فحالة هاته المرأة المتدنية الصابرة التي انقطعت في ديار الغربة قد استجلبت شفقة أهل الإسلام، فكان من الأمور الطبيعية الافتكار بمعاملتها باللطف لتحصل على السلوى، وحيث لم يكن من أهل الإسلام أكفاء لها إلا بنو عبد المطلب ولذلك أرسل الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم سفيرا إلى النجاشي مظهرا رغبته في الاقتران بأم حبيبة، والنجاشي أيضا عقد نكاحها فيا لحبش على الرسول الأكرم وأرسلها بكمال الاحترام إلى المدينة المنورة، فالنساء بالطبع لا يردن أن يكون لهن ضرائر إلا أن الزوجات المطهرات - وعلى الخصوص حضرة عائشة زوجة النبي المحبوبة لديه والمزينة بالعلم والفضل - لم يكن يقلن شيئا عن تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لأنهن كن يقدرن هذه المسائل المهمة حق قدرها. كذلك أبو سلمة بن برة بنت عبد المطلب كان أول الذين آمنوا ومن أصحاب رسولا لله صلى الله عليه وسلم مع زوجته أم سلمة إلى الحبشة، ثم إلى المدينة. وتوفي من جرح أصابه في حرب أحد فظلت أم سلمة أرملة ولما كانت من أشراف قريش ومن ربات الحسن والجمال طلبها كل من أبي بكر وعمر فلم تقبل ثم طلبها حضرة النبي صلى الله عليه وسلم فرضيت فتزوجها، وبعد ذلك تزوج الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة معتوقة فهذا ما بعث المعترضين على الاعتراض كما قلت. أما نحن فنعتبر أمر هذا الزواج مسألة مهمة والراغب في الوقوف على الحقيقة يلزم أن يكون على معرفة من ترجمة حال زيد وزينب إجمالا.
أما زيد بن حارثة فهو من قبيلة قضاعة أخذ أسيرا بينما كان صغيرا وبيع في مكة فاشترته حضرة خديجة ووهبته إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه وكان الناس يسمونه بزيد بن محمد. وهو أحد الأربعة الذين آمنوا ابتداء - وهم خديجة، وأبو بكر، وزيد، وعلي - وكان الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم يستخدم زيدا في أهم الأشغال ويوليه قيادة الجيش إلى أية جهة كان يرسل إليها الجند.
وجملة القول: إن زيد بن حارثة كان مظهر الحسن توجه الرسول الكرم صلى الله عليه وسلم، وكان من أعاظم الملة الإسلامية فزوجه الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بابنة خالته أي بزينب بنت أميمية بنت عبد المطلب، غير أن زيد بن حارثة مع أنه كان عربي الأصل لم يكن قرشيا.
أما بنات قريش فلم يكن يعرفن أكفاء لهن في سائر القبائل خصوصا أولا عبد المطلب فإنه يبحث لهن عن الأكفاء في أشراف قريش على أن حضرة زينب لو كانت مسرورة من زيد لوجب أن تكون متكدرة من حيث إنه لم يكن كفأ لها كما أن زيدا أيضا أخذ يفتكر في تلك المسألة الدقيقة فحمل أطوار زينب العادية على الكبر والعظمة، وهو أمر طبيعي - كما لا يخفى - فذهب ذات يوم إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وشكا إليه ما يراه من عظمة زينب بالنظر إلى قرابته منها وأنبأه إنه سيطلقها إذ بذلك يكون قد أنقذها من زوج غير كفء لها، وخلص نفسه من عظمتها على أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم قال له: ما معناه دع عنك هذا الفكر وخف الله إن المرأة لا تطلق لمثل هذه الأشياء.
ومع هذا فإن زيدا لو طلقها لما أمكن أن يكون كفأ لمثل هذه السيدة الشريفة إلا صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم فكان يمر بخاطره الرفيع وجوب الاقتران بها
تطييبا لخاطرها وإحقاقا على انه لم يكن يظهر ذلك لأن الشخص الذي كان يتخذ ولدا في ذلك الزمان كان عند الناس بمثابة الوالد الحقيقي تماما فكانوا يزعمون بل يعتقدون أن من كان في مقام الأب لا يجوز له أن يتزوج بمطلقة من تبناه على أن الحكام الشرعية لمثل هذه المسائل لم يكن حاصل التفصيل بوضعها إذ ذاك.
أما زيد فإنه بعد إذ أظهر أنه لم يعد يتحمل عظمة زينب ذهب إليه فطلقها وبعد أن انقضت عدتها نزلت الآيات الكريمة بالوحي الإلهي في بيان الحكام الشرعية وبموجب هذا الوحي الرباني تزوج النبي الأكرم صلى الله عليه ولسلم وصدر الأمر بالتفريق بين الأولاد بالتبني وبين الأولاد الحقيقيين وأن ينتسب أولئك إلى آبائهم، وبعد أن كان يدعى زيد بن محمد صار يدعى يزيد بن حارثة.
قالت يفهم من ذلك أن هذه الكيفية متبعة أيضا عن مسألة الأكفاء. قلت: نعم، إن الأصل فيها عبارة عن ذلك وفروع حكمتها أيضا إنما هي توثيق الأحكام الشرعية التي ستكون قانونا للأمة في المستقبل.
ثم إن المدام أخذت بأطراف الحديث مع السيدات وكانت تسأل عن أسماء بعض مسميات في اللغة التركية وتقيدها في محفظتها وبعد انقضاء برهة على مثل هذه الحالة التفتت إلي وقالت: ألا تشتكين من إجباركن على التستر والحجاب ومن حرمانكن من مصاحبة الرجال.
قلت: أيتها المدام، إن الجواب الذي سأجيب به عن سؤالك ينقسم إلى قسمين: الأول يتعلق بالأمر الشرعي. والثاني بالعرف والعادة بمقتضى إيجاب الحال والزمان وإليك البيان: إن شعور النساء زينة لهن وداعية لاستجلاب الأنظار كثيرا بناء على ذلك كما أن الملة الموسوية قد منعت من إراءة هذه الزينة المبهجة للرجل هكذا الشريعة الإسلامية نهت عنها أيضاً.
قالت: إذن كان يجب عليكن أن تسترن شعوركن فقط حالة كوني رأيت النساء المسلمات في الأزقة يحتجبن تمام الاحتجاب عير مكتفيات ستر الشعور.
قلت أجل إن ستر الشعر كاف أيتها المدام على أن المرأة يجب أن تحافظ على كل طرف من ألبستها المكتسية بها وأن تكون في حالة لا تجعل بها سبيلا لإظهار قوامها وكسمها فالنساء التركيات اللاتي ترينهن الآن يكتسين بمثل ما تكتسي النساء الأوروبيات، والسيدات اللاتي تشاهدينهن في هاته الجمعية هن الآن بألبسة الزيارات فإذا كان هناك عرس أو وليمة اكتسين بمثل ما تكتسين أنتن به في الليالي الراقصة وفي الولائم، فإذا ليس شيء عارض الزينة فوق هذه البهرجان وستر الرأس بستار فوق الشعر عد ذلك تسترا موافقا للشريعة أما النقاب (يا شمق) والغطاء المسمى (رجة وجارشاف) فهي من عادات البلاد التي اتخذت مؤخرا.
ومازال القرويات ونساء العشائر يكتفين بستر الرأس فقط لأن ملابسهن خالية من ضروب الزينة فهن والحالة هذه يجالسن الرجال ويجلن معهم ويشاركنهم في الأشغال وأذكر لك قبيلة الملثمين الضاربة في صحاري أفريقيا وهي القبيلة التي تشكل منها دولة في بلاد المغرب ونساء هذه القبيلة إلى الآن يجلن سافرات الوجوه.
أما الرجال فإنهم يسترون وجوههم وهذه عادة مألوفة عندهم فإذا كانت شعور النساء المسلمين مستورة فالوجه شرعا غير محرم، وعليه فإن النساء لا يمتنعن شرعا من محادثة الرجال والاجتماع بهم إذا كانت أجسامهن مستورة بالملابس ومضروب على شعورهن الخمار.
قالت: فإذن لماذا لا تجتمعن بالرجال ولا تجالسنهم.
قلت:
إن في كل ملة عادات كثيرة واصطلاحات شتى حادثة وهذا أصبح عندنا عادة مألوفة والحالة هذه لم يكن ذلك من الضروريات الدينية.
إن النساء في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم كن يسترن رؤوسهن وكن يجتمعن بالرجال حالة كون شعورهن مغطاة وكل يعلم أن كثيرا من السراة كانوا يذهبون إلى حضرة فاطمة الزهراء رضي الله عنها كريمة حضرة الرسول الكرم صلى الله عليه وسلم ويتذاكرون معها. وفي التواريخ أن أهالي مكة بينما كانوا من ذوي العصيان على النبي صلى الله عليه وسلم وفد أبو سفيان رئيس رؤساء مكة على المدينة يعقد الصلح، ولما لم يفز بوعد من حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه ذهب إلى حضرة فاطمة الزهراء - رضي الله علنها - يرجوها التوسط في الصلح وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان أعظم العلماء وأفاضل الأصحاب الكرام يتواردون على مجلس زوجته المطهرة عائشة رضي الله عنها ويطرحون عليها المسائل وينالون الأجوبة عنها، وكان النساء المباركات في ذلك العصر فاضلات عالمات كالرجال، أما حضرة فاطمة وحضرة عائشة رضي الله عنهما فقد اشتهرتا أيما اشتهار بالعلم والفضل، وقرض الشعر، وفصاحة الإنشاء.
وكان الرجال فضلا عن النساء يستفيدون من علمهما وفضلهما وبعد زمن السعادة كان كثيرون يتعلمون السنة من حضرة عائشة رضي الله عنها وكانوا يذهبون إلى مجلسها العالي فيلتقون ذلك عنها فكما أن تبليغ الشريعة كانت على مثل ما وصفت في زمن حضرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم هكذا كان أزواجه وبناته المطهرات يسترن رؤوسهن أيضا.
وكانت أمهات المؤمنين بجملتهن جائزات على شرف لا يضاهي ومنزلة لا تبارى لدى جميع الناس، وكانت الناس تتبرك بزيارتهن غير أأن حضرة عائشة رضي الله عنها كانت ممتازة عنهن بالعلم والفضل فكان الأصحاب الكرام يرجعون إليها زيادة عن غيرها ويتعلمون منها الحكام الدينية، ولذلك كان كلامها مسموعا ومعتبرا أكثر من سائرهن، وكانت هي محترمة كل الاحترام.
قالت: أهي عائشة التي افتري عليها؟ قلت: هي عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها التي كان افترى عليها بعض المنافقين أليس أن اليهود قد افتروا هذا الافتراء على حضرة مريم سيدة النساء؟ قالت: أسألك عفوا على قطع حديثك فداومي ما بدأت به.
قلت: إن قاعدة التستر ظلت وقتا طويلا على مثل هاته الحال إلا أن فساد الزمان قد أفرغها في صور أخرى فالعادة منعت النساء من الاجتماع بالرجال ومجالستهم.
قالت: إذا كانت أحكام الحجاب في دين الإسلام كما وصفت فلماذا لا تسمحون للرجال برؤية البنات اللاتي سيكن لهم زوجات؟ قلت: إن هناك أماكن تجيز ذلك وخصوصا في بوسنة فإن الرجال لا يقترنون بالبنات إلا بعد أن تتمكن من الفريقين روابط المحبة وهذه أصبحت عادة عندهم وفي كل محل يجوز شرعا أن يرى الرجل وجه الفتاة التي سيقترن بها حتى إن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (انظروا وخذوا خيرهن) . لكن لكل بلدة عادة مخصومة بها فأهل تلك البلدة لن يتمكنوا من نبذ هذه العادة والخروج عن دائرة الحد المرسوم، وجميع ذلك من العادات لا من المسائل الدينية.
قالت:
لا جرم أنها عادة غير ملائمة فالواجب تركها ألي أن اقتران الرجل ببنت لا يعرفها وانتقال البنت إلى رجل تعرفه من أعظم المشاكل؟ قلت: إن هذا لم يكن من المشاكل العظيمة عندنا فلو كان في شيء من ذلك لنبذ ظهريا غير أنه بمقتضى المساغ في ديننا يمكن إذا حصل اتفاق بين عائلتي الفتاة والشاب أن يرى كل منهما الآخر قبل الزواج.
قالت: أتكفي نظرة واحدة؟ لا جرم أنه يجب عليهما أن يجتمعا مليا ببعضهما بعضا وأن يتسامرا وقتا طويلا وأن يدرس كل منهما طبيعة الآخر وأخلاقه، وأحسن من ذلك أن يتحابا وتتمكن بينهما عقود الحب ليعيشا في الزواج عيشة راضية.
قلت: في اعتقادنا أن الوسيلة المفيدة في الألفة وحسن الامتزاج ليست في شيء مما ذهبت إليه أن ثمانين بل تسعين في المائة من الزواج عندنا على مثل هاته الأصول تأتي بأفضل نتيجة من حسن الامتزاج مع أن المناكحات التي تحصل في أوروبا جميعها بوجه الحب والعشق لا يترتب عليها امتزاج بين الزوجين، فإن كثيرا ممن تزوجوا عشقا وهياما قد انطفأت جذوة حبهم بعد ستة أشهر أو سنة من زواجهم، وأصبح عشقهم هباء منثورا، كأن لم يكن بالأمس شيئا مذكورا، ثم كثيرا ما أدى بهم ذلك إلى الانفصال عن بعضهما بعضا واضطر كل منهما أن يعيش منفردا.
ولعمري إن العشق الحقيقي إنما هوي أندر من النادر لكن كثيرون الذين يسعون إليه أليس أنه يوجد عدد لا يحصى من الفتيان يتوهمون الوساوس عشقا ويظنونه حباً فيسقطون في أوحال الخيال أليس أن هذا الظن الخيالي يصل بهم إلى حد أنهم ينفصلون عن آبائهم وأمهاتهم فيفرون من منازلهم وينعزلون عن أقاربهم غير أنهم يشعرون بعد ذلك بفساد هذا الوهم والظن فيندمون ولات ساعة مندم ويكرهون ظنونهم وينقلب عشقهم حقدا وبغضا؟.
فيصيرون إلى أسوأ الأحوال، ومعلوم أنه لا يجب الحكم على الظنون في انتخاب الزوجة والزوج بل يجب أن تهتم العيال في الوقوف على الحقائق وعندي أن الشاب والفتاة متى كانا متعاشقين متحابين فلا يتأنى لهما أن يدرسا أخلاق بعضهما بعضا ولا آدابهما وطبيعتهما وصفاتهما ومزاياهما ولا أن يقدراها حق قدرها وإنما تقدير ذلك منوط بأكابر العائلتين فينبغي للوالدين أن يعقدا العقد بعد استشارة أولادهما وبناتهما واستحصال رضاها وبخلاف ذلك إذا تركت لمثل هؤلاء الفتيان أنتجت أكدارا كثيرة للوالدين والأقرباء والمحبين، وربما أبلتهم بلاء مرا، وأظن إن في أوروبا أيضا لا يطلقون العنان للبنات والشبان ولا يمنحونهن الحرية التامة في مثل هذا الزواج أليس كذلك أيتها المدام؟ قالت: هكذا لا يطلق للفتيان عنان الحرية للتفكر في نهاية عواقب الأمور.
قلت: وجملة القول: إنه من الخطأ أيتها المدام حسبان هذه الأمور من مقتضى الدين فليست سوى عادات وان لكل بلاد عادات مخصوصة بها والإنسان أسير العادة أما تعديل العادة فإنه يتم تدريجا والطفرة محال والمسلمون قد ازدادوا تمسكا بعادة ستر الوجه بالنظر إلى الفائدة التي رأوها منها والعادات الحسنة والقبيحة ليست مخصوصة بقوم بدون آخرين وإنما ذلك متساو في جميع الملل.
ثم إذا أمررت النظر على الشرائع السالفة رأيت أن الدين الذي يصدق على دين جاء قبله قد بدل وعدل بعضا من أحكامه أيضا ولحكم الزمان تأثير كلي في هذا الباب إن حضرة حواء عليها السلام كانت تضع توأمين ذكر وأنثى ولم يكن من الجائز في
ذلك الزمان أن يقترن الفتى بالفتاة في حين إنهما نزلا من بطن واحد بل كان من المقتضى شريعة آدم أن يكون الزواج بمن وضع في بطن آخر، وعليه فإن حضرة آدم عليه السلام عندما أمر أن يتأهل قابيل الذي ولد ابتداء بتوأم وهابيل وهذا بتوأم قابيل لم يرض بذلك قابيل فقتل أخاه هابيل، فما تقدم يعلم أن اقتران التوأمين كان ممنوعا.
ثم بعد ذلك حرم نكاح الأخت تحريما مطلقا، وكان من لجائز أن يقترن الرجل بأخته ويجمع بينهما إلى أن جاء حضرة موسى عليه السلام فأصبح هذا الحكم أيضا منسوخا وإنني أضرب لك مثالا آخر من إنجيل متى فقد ورد في الفصل التاسع عشر منه: أن حضرة عيسى عليه السلام حالة كونه صدق على التوراة فقد منع الطلاق وقت ذلك سئل بما معناه: (إذا لماذا أذن موسى بالطلاق)، فأجاب حضرة عيسى:(إن موسى إنما كان أذن بالطلاق بالنظر إلى قسوة قلوبكم) . وبناء عليه فإن حضرة عيسى منع الطلاق لغير على الزنا.
قالت: أجل.
وفي أثناء ذلك أطلقت مدافع الإفطار فذهبنا إلى المائدة أما المدام فكانت تتناول من كافة ألوان الطعام بقابلية ولم تره غريبا عن ذوقها وكانت تسألنا عن أسمائها، فلما صار الطعام على وشك الختام أقبل الأرز فقالت: سائلة: إن الأرز عند الأتراك فغنما يقدم في آخر الطعام وهو دليل على نفاد الألوان؟ قلت: نعم، إنه لكما أشرت.
قالت: إن إستانبول هي بمثابة فهرست للإنسان كما إن مائدة الأتراك بمنزلة فهرست للطعام فقد أكلت على هذه المائدة من طعام جميع الأمم.
وفي الواقع إن ما قالته المدام كان صحيحا وقد كنا ذكرنا لها أسماء الطعام إجابة لسؤالها فكان مؤلفا في ذلك المساء من اللحم والسمك وكانا مطبوخين على النسق الإفرنجي وكان ثم دجاج جركسي وكشك الفقراء المعروف في البلاد العربية وشيخ المحشي والباذنحان بالزيت، وكنت أترجم للسيدات اللاتي على المائدة كلام المدام وكانت الغرفة التي تناولنا فيها لطعام قائمة في الطابق العلوي من المنزل وعلى طرف الجنينة وكان لها باب كبير بمصراعين يفتحان على جنينتها فبعد إذ نهضنا عن المائدة لم نعد إلى القاعة وإنما أرسلنا كرسيين إلى الجنينة من الباب المطل عليها قصد أن نروح أنفاسنا بعبير الزهر التي كانت تتضوع كأريج المسك وتناولنا القهوة هناك وكان القمر بدرا، (أي في اليوم الرابع عشر يرسل أشعته فينير ظلمات الأرض) والهواء كان عليلا لطيفا جدا.
وبعد إذ انتهينا من شرب القهوة تبادلنا مناولة الأذرع وتفرقت جمعيتنا التي كانت مؤلفة من طبقات متفاوتة في السن في أطراف الجنينة العريضة الواسعة وكانت تجتمع أحيانا لمبادلة بعض الكلمات، ثم تفترق ذهابا وإيابا أما جمعيتنا فكانت مؤلفة من خمس وهن المدام، وهذه العاجزة وثلاثة أفراد العائلة، وكان أكثر جمعيتنا يتعاطين التدخين بالسيكارات يدخن بعد الإفطار بمزيد اللذة وكانت شرارات السيكارات تضيء وتلمع من خلال الأزهار والأشجار وكانت تلك الليلة من أحسن الصدف التي تتمناها المدام لأنها كانت جامعة عددا كبيرا من الأقارب، وهو ما كانت تلك المدام تود مشاهدته.
ولما أعيانا السير على القدمين دخلنا إلى كشك حجم القاعة محاط من أطرافه بالنوافذ والشبابيك، وألقينا فيه عصا التسيار، ثم أقبل سائر الخواتين ودخلنا إلى هذا الكشك وأخذنا معا بأطراف الحديث وقد جلست المدام وهذه العاجزة تجاه النافذة القائمة في الوسط وكانت المياه تتدفق من شلالات الحوض الكبير
القائم بإزاء الكشك تطرب الآذان بأصوات خريرها وتكسرها وحبوبها المنتشرة في الحوض كقطع الماس تمثل منظرا لطيفا جدا، وكان محل جلوسنا وموقعه جميلا للغاية.
فإننا فضلا عن مشاهدة الجنينة والحوض كنا نشاهد البحر من وراء الجنينة، ولكن ما أدراك ما هو ذاك البحر إنما هو البحر الذي كان يتراءى للعين كأنه من صفائح الفضة واللجين بما انتشر فوقه من أضواء النور المنبعثة من القمر الليل بل البحر الذي تغزلت به الشعراء فوصفوه بأشعارهم وصفا لا يتحمله المقام، وكان في تلك الليلة ساكنا كل السكون والهواء كان يهب صحيحا فيعود عليلا بأرجاء الأزهار، وكانت السماء صافية والأفق خال من الكدورة فكنا لا نعرف أين نوجه الأنظار في تلك الليلة البديعة. أنوجهها إلى البحر الذي كان صفيحة من لجين؟ أم نوجهها إلى الأجرام السماوية التي كانت تلمع وتضيء في ذاك الفضاء عيانا كغادة حسناء ألقت عنها حجابها؟ أو نوجهها إلى البدر المنير الذي كان يفوق عليها ضياء ونورا ولألأة؟ أم نوجهها إلى الحصى الصغيرة التي كانت تلمع وتبرق في الجنينة من انعكاس نور البدر فتمثل دمالج من ألماس تلمع في زنود الحسان لا جرم أن تلك المناظر كانت تحير المرء فلا يهتدي إلى أحسنها سبيلا على أن المدام قد وجهت أنظارها إلى العلاء فأرسلت عينيها في فضاء السماء وكانت هذه الخاتون العالمة بفن الهيئة والهندسة قد طبقت دروسها على خريطة العالم بما استفادته تلك الليلة من لمعان السماء فبعد سكوت مستطيل صرفته في النظر إلى هاته المناظر التفتت إلى قائلة: هل لك إلمام بفن الهيئة؟ قلت: قليل جدا.
قالت: أيمكن لك أن تري كوكب القطب الشمالي؟ قلت: نعم إن رأس الدب الأصغر يرى من ورائنا.
قالت: أيمكن لنا تفريج الأبراج؟ قلت: إن القمر بدر وكثير اللمعان وفي ظني أن ذلك متعذر علينا وعلمي في هذا الفن ناقص جدا فهل لك أن تلذي سمعي ببعض التفصيلات؟ قالت: أجل مع المنة.
ثم أخذت المدام تنقل لي أسماء السيارات ووضعيتها ودوراتها وأبعادها وتبدلات أشكالها بصورة بالغة حد الإتقان والكمال في بسط النقل وحسن البيان حتى دهشت لتلك قوة الحافظة التي وهبتها لأنه مهما حصل المرء من العلم والمعرفة فليس من السهل أن يحفظ في ذهنه أبعاد النجوم عن بعضها ويذكره بتدقيق تام.
وكانت تروي لي بإيضاح وتفصيل أقوال الفلاسفة والحكماء المتعلقة بفن الهيئة ومقدار ما تغلب عليهم من تغير الأفكار والآراء وكيف أن المتأخرين قد جرحوا أقوال من تقدمهم وكيف أن الذين جاءوا على إثر هؤلاء المتأخرين قد عادوا إلى تصويب واستحسان كلام الأولين والتصديق عليه وتشرح شرحا مستوفيا عن أوضاع النجوم السيارات ومع أن المدام كانت في المحاورات الأولى تلقى علي كثيرا من الأسئلة فصرت الآن أسألها عن عدة أشياء، أما هي فإنها بعد إذ لم يبق في كنانة علمها منزع ولم تضن علي بإيضاح وبيان ما حولت نظرها إلى جهة البحر وأخذت تشرح لي بتفصيل عن عكس القمر في البحر وعن كيفية ضيائه وأسباب لمعانه، ثم وجهت نظرها إلى الجنينة وصارت تبحث في المعادن والنباتات وتأتي عليها
بما يحتاج إليه المقام من الإيضاحات، وكانت تتكلم عن هذه الفنون بلذة تفوق لذة العاشق الذي يتحدث بذكر عشيقته وتظهر على سيماها آثار الرقة واللطف بادية فيها دلائل الكياسة والظرف، ولا غرابة في ذلك لأنها إنما كانت تتحدث بذكر العلوم الحكيمة التي كانت تعشقها وبعد هنيهة ألقت نظرها على الشجار الكبيرة وكانت تخمن مقادير أعماره.
فقلت لها: إنني سأريك شجرة معمرة أكثر من أشجار الفستق، ثم أخذتها بيدها حتى وصلت بها إلى شجرة ضخمة وأريتها إياها فتقربت إليها، وبعد أن دققت فيها تدقيقا تاما قالت: أيتها السيدة، إن هاته الشجرة هي أقدم من العثمانيين في الأستانة وهي باقية من زمن الإمبراطورية لأن وصولها إلى هذا الطول يحتاج إلى عدة أعصر، ثم عدنا بعدئذ إلى الكشك فاستأنفت المدام حديثها العلمي وأخذت تلقي علي ضروبا من الحكمة، ثم قالت: أخشى أن أكون أورثت لك مللا بكلامي في هذا الموضوع، ولكن ما حيلتي وأنا أرى في مثل هذه المحاورات لذة مزيدة.
قلت: ماذا تقولين أيتها المدام إنني كثيرا ما كنت أود أن أبين شكري لما استفدته في هذه الليلة من ألفاظك البليغة وعلومك العالية إلا أنني خشية من قطع الحديث عليك توقفت عن تأدية الشكر، بل لم أتجرأ أن أبديه فانا أهنئك بهذه المنزلة العلية، وأشكر لك عنايتك فقد استفدت بآدابك كثيرا.
قالت: أنا أطوف الجهات وأذهب إلى المراقص وليالي الفرح والمسرات، ولا أحب الخروج عن دائرة العادات لكن لا بنية لإظهار زينتي وعرض نفسي على الأنظار كما تفعل أكثر النساء، ولا أكتسي بالألبسة الحريرية الرفيعة الأثمان بقصد العظمة والافتخار.
وإنما ألبسها لأجل أن يلتذ سمعي بصدى اهتزاز أمواجها وخشيشها في الهواء متخذة ذلك بمثابة اختبار لدروس الحكمة التي تلقيتها.
ماذا أقول عن أولئك الناس الذين يدخلون إلى قاعات المراقص فتأخذهم نشأة الحظ والسرور من ضياء القناديل والشموع المتلألئة فيها ومن لمعان الثريات وأنوارها المنعكسة ولكنهم لا يعلمون شيئا من أسباب هذا الحظ ولا يفقهون ماهية تلك الأشياء التي تبعهم على هاتيك المسرات.
لعمري إنهم لو أحاطوا علما بها لتمثلت لهم فيها حكمة الله بأجلى بيان ولازدادوا اندهاشا بقدرته وقوته التي حيرت بني الإنسان، ولانشغلوا بذكره وتسبيحه أكثر من اشتغالهم بالملاهي نعم، إنني أرى فرقا بين الحجارة الماسية التي أصفها وبين حجارة الثريات العلوية وعندي أن هذا الفرق إنما هو ناشئ عن الحجارة الماسية بواسطة انعكاس ضياء القناديل والشموع عليها تمثل للعيان الألوان السبع الأصلية بمنتهى الرقة واللطف والظرف ما لا يوجد في الحجارة البلورية.
ويشهد الله أنني لا أنظر إلى النساء في تلك الليالي نظرة الحاسدة لجمالهن الباحثة عن قصورهن الراغبة في كشف عيوبهن بل ربما كنت أدقق في أكثرهن جمالا وفي أخلاق أوار الفتيات المعصومات لأنقش هذا الجمال وهاته الأطوار في مخيلتي واتخذ الخيال الذي أرسمه قاعدة أتصورها في كل وقت، وإنني أدخل إلى قاعات [الميس] في المراقص واتفرج على الألعاب، ولكن لا لأحد الذين يربحون ولا لتأخذني الشفقة على من يخسرون لأنهم إنما يخسرون أموالهم بطيبة خاطر منهم بل أدخلها لأنظر مع التعجب تلاعب هذا المعدن الأصفر بالألباب، واستهزاءه بأولئك الذين ينفقونه جزافا على مذابح شهواتهم كأن لا قيمة له مع أنهم لم يجمعوه إلا بش الأنفس لم يجمعونه إلا بعرق الجبين لم يجمعونه إلا بالمتاعب والمشقات التي تقرض العظم قبل اللحم لم يجمعونه إلا بإهراق الدماء
فهم يلعبون به، لكن بعد أن يلعب بألبابهم وأرواحهم وشرفهم، ألي من موجبات الدهشة والاستغراب أن أولئك الذين يتلفون أنفسهم في سبيل الحصول على واحد من هذا المعدن يستبدلون تعبهم ويعتاضون عن مشقاتهم بساعة من الحظ ما من شيء حري بالفرجة أكثر من مناظر الجمعية في المراقص وليالي الأفراح والتدقيق بنظر الأفراد المجتمعين الذي يتبادله كل منهم بل ما من لذة تضاهي لذة مشاهدة الأنظار التي يتسارقها الفتيان العشاق الذين يرهبون من آبائهم، ويتحببون أمهاتهم، ويتضايقون في الازدحام فإن العيون وهي منافذ القلوب تغني عن لسان المقال.
إما إذا اجتمع الجمال في العيون فإن الكلمات التي ترسلها إلى الأفهام لتسمو وتعلو فبولا على الألفاظ التي تخرج من بين الأسنان الدرية والشفاه المرجانية، إذ أن الكلمات التي تصدر من الفم لا تكون بجملتها صحيحة وجوابا وغنما تصدر موزونة مموهة بالكذب ولكن العيون البعيدة عن التمويه منزهة عن التصنع والتقليد فبينا يتكلم الفم بالمحال إذ تظهر الحقيقة من مجرد النظر على العينين. نعم، إنه لا حاجة للسؤال في مثل هذه الجمعية عن أربا الدسائس والكذبة والمنافقين فإن العيون تكشف الخفايا وتشير إلى كلام المحبين والأعداء والوالدين والوالدات والأولاد، إن حماية الآباء وشفقة الأمهات وهيام العشاق ومحبة الأصدقاء وغرض الأعداء كل ذلك يعلم من العينين والعيون تطلع تمام الاطلاع على جملة أشياء لا يستطيع الإنسان أن يسأل عنها بلسانه فالعيون ترجمان القلب.
فلما وصلت المدام إلى هذا الحد من البيان التزمت جانب الصمت، ثم وضعت مرفقها على النافذة وأسندت رأسها بيدها كأنما كانت تتناجي الأرواح، ومع أنها قطعت حديثها كنت أصغي إليها كأنها لا تزال تتكلم وبعبارة أقرب للحقيقة إن أذني كانتا راغبتين في الاشتغال بعكس خيال هاتيك الألفاظ الدرية وكأنهما لا تريدان أن تبعدا عن عين تصورهما ذاك الخيال الفتان، وأن تغلقا دون استماع خطبتها المملوءة حكمة وأدابا. ليس أن ما تجملت به هاته العالمة العالية الأخلاق من الحسن والظرف إنما هو صحيفة جميلة لكتاب الحكمة الدال على حكمة وقدرة الخالق القادر الحكيم، أما أنا فقد توغلت في مطالعة تلك الصحيفة التي فتحت أمامي أن البعض إذا فهموا أن في أرباب الجمال قصورا لم ينظر بالكلية فبعد، أن يتفكروا مليا بهذا القصور الذي لم تعرف ماهيته يتمكنون من الوصول إلى إدراكه بما آتاهم الله من المعرفة التي هي سر من أسرار حكمته المستورة عنا، وهكذا المدام فإن الخالق قد حباها بنعمته ولطفه ولم يحرمها من هاته الجاذبة التي تسترق الألباب.
أليست تلك الجاذبة هي التي تجعل القبيح محبوبا كالجميل، ولكن ما هو تعريف هذه الجاذبة؟ لعمري إنها لا تظهر للعيان ولا تمثل إلا بالأذهان ليس لها شكل معروف ولا جسم موصوف، فالبصيرة تدركها ولا تنظرها الأبصار وتعشقها القلوب قبل الأفكار، وكما أنها بادية في الوجه والهيئات، فهي أبدا ممثلة في الكلمات ظاهرة في الأصوات، أما لطافة كلمات هذه المدام وحلاوة صوتها فإنها متناسبة مع ملاحة وجهها، ولأجل ذلك كانت تلفظ كلماتها اللطيفة بصوت رقيق ولجهة مؤثرة تفوق رقة ولطافة الأصوات الجميلة عند نشيد الأشعار، وكانت الجهة المعراة من عنقها ويديها مغطاة بنسيج أسود يسترسل فوق فرعها فكانت تمثل الضياء المنعكس من سماء ذلك الليل أعني أنها تمثل الألوان الصافية الزرقاء التي تبدو من السماء في خلال احتجابها بالغيوم، وكان جسمها الأبيض الشفاف يظهر من تحت النسيج الأسود كأنه صفائح
من الثلج الأبيض الناصع والصدف المضيء اللماع، وبينما كنت سائحة في قضاء التصور بهذا الهيكل العجيب التفتت إلي المومى إليها وقالت: بأي شيء تفتكرين؟ ولماذا أراك ملتزمة جانب الصمت؟ فقلت: إنني أفتكر بك كما تنظرين لا جرم أنك قد وقفت على جميع الأشياء وأمعنت فيها نظر التدقيق فعرفت حكمتها ففي حين أنك أحطت بها علما يقتضي حتما أن تكوني صرفت وقتا طويلا في النظر إلى المرآة لأجل التدقيق بجمالك ومحاسنك لأنك لست بمحتاجة إلى مثال آخر في مشاهدة الجمال.
قالت: أجل إني غير ناكرة وأعلم قدر إحسان حضرة الخالق سبحانه بالحسن والملاحة التي خصني بها وشاكةة هذا الإحسان، ولست كبعض النساء اللاتي يتظاهرن بأنهن لا يعرفن أنفسهن أهن جميلات أم لا وهن يقصدن أن يكن معروفات بأنهن أكثر النساء جمالا، ولا أحسد اللاتي هن جميلات أكثر مني كما أنني أعرف قصوري أيضا فانظري أيتها السيدة هل ترين تناسبا بين ما أوتيته من الجمال وبين هاته الأيدي والأقدام إن كبرهما إنما هو نقص محض ولكني لست بآسفة على ذلك بل أنا ممتنة إذ لو لم يكن بي هذا القصور لربما كان استولى علي الغرور، ولكنت لا أدرك أن الغرور غير لائق بالعبيد على أن قصوري قد عرفني أن العبد لا يمكن أن يكون بلا قصور، وأنه لا يليق بنا الغرور مع هذا النقص ولأجل ذلك لا أشكو مما أراه من النقص في يدي ورجلي وذلك لأكون على الدوام مسرورة.
لا جرم أن المدام كانت تتكلم بالصواب لأن يديها ورجليها لم تكن متناسبة مع مجموع حسنها ولكنني لا أعلم إذا كان يتيسر لكل عبد أن ينظر قصوره ويكسر عظمته وكبرياءه أما إذا اجتمع العلم مع علو الأخلاق فيتولد من ذلك إنسان كامل المدام المومى إليها.
ثم قالت المادام: وفي حين إن الناس تبدو مظاهر عجزهم وضعفهم لأعينهم بكثير من الدلائل تراهم ينسون أنفسهم ويجترؤن على الغرور كأن لم تكن تلك الأدلة شيئا مذكورا مع أننا إذا خفضنا رؤوسنا إلى الأسفل ورفعناها إلى الأعلى نشاهد عظمة الله جل جلاله وضعف ذواتنا، نحن لا يلزمنا أن نتوغل في أغوار نفوسنا ولا أن نصعد في درجات الأوج الأعلى، وإنما علينا أن ننظر إلى البحر والسماء فما هي المناظر والمظاهر التي تجلوها لنا السماء؟ أليست تقول لنا بلسان حالها: أنكم عاجزون عن مشاهدة أقماري والوصول إلى معرفة أسراري لماذا لا نتسوح في الأجرام السماوية التي فهمنا أن كلا منها إنما هو عالم مستقل ألم نهتم بذلك كثيرا بلى لقد اختراعنا المنظار زعما منا أننا سنوفق إلى الوصول إلى تلك الأجرام، فخاب الظن وكنا إذ ذاك في حالة الغرور، ولكن كان كل اقتدارنا أن بلغنا بعد الجهد الجهيد والسعي المتواصل للصعود إلى عدد معلوم من الكيلومترات هذا ما فهمناه وقد هبطنا من ذاك العلو بصورة هائلة أرتنا الموت عيانا، وسمعنا كلمات التهديد تخاطبنا قائلة بلسان الجلل إنكم غير مأذونين أن تصعدوا إلى أعلى من هذا الحد وأنتم لم تخلقوا لتعيشوا في هذا الفضاء فإما أن تعودوا من حيث أتيتم وإما أن ترضوا بالموت صاغرين حتى إذا أخذ الدم يتدفق من مسامنا ورأينا هاته الحال المدهشة أجبرنا على الرجوع أفلم يكن ذلك من الغرور المحض.
قلت: لقد نطقت بالصواب على أن صاحب هذه الأفكار يجب أن يكون نظيرك من ذوي الأخلاق الحسنة والعلم الواسع إذ لا يختلف اثنان أن الإنسان أينما وجه التفاته وفي أي شيء حصر فكره وتأمله تتجلى له عظمة الله ووحدانيته عيانا، ولكن هل تحسبين أن أي الناس ينظر إلى ذلك بهذا النظر المجرد أو أنه يسر
فقط من لون السماء الصافي، ولمعان الكواكب وسكون البحر ونور القمر وضياء الشمس فيكتفي بهذا السرور ليس إلا.
لا جرم أن الإنسان كيفما التفت وأينما وجه نظره يتمثل لدى عينيه عظمة الله ووحدانيته.
ولكن أنت تعلمين أن أكثر مذاهب النصارى يعتقدون بالتثليث فلا أدري كيف يمكن توفيق ذلك مع الوحدانية.
قالت: من المعلوم أن المسائل الدينية مستندة إلى الرواية لا إلى أدلة عقلية أما أنا فقد افتكرت كثيرا في مسألة التثليث، فلم أتمكن من توفيقها على العقل والحكمة ولأجل ذلك أعتقد بوحدانية الله.
قلت: إذن يقتضي أن تكوني على مذهب الأربانيين.
قالت: كلا، إن هذا المذهب قد انقرض فإن مجمع أزنيق قد محاه محوا فالتثليث عند النصارى إنما هو بمثابة سر لا يدركه العقل فليس لهم إلا التسليم والاعتقاد.
قلت: إن الإنجيل الشريف خال من النص والتصريح المتعلق بمسألة التثليث فليس ثمة إكراه في الاعتقاد بشيء لا ينطبق على المعقول.
أما مسألة التثليث فقد ظهرت بعد حضرة سيدنا عيسى وبعده بأعصر ولا يوجد في الأناجيل قول يثبت ذلك، وما هناك من بعض التعبيرات لا تتخذ سندا وحجة لأن التوراة الشريف والإنجيل الشريف لو ظلا كما نزلا دون أن يطرأ عليهما تغيير أو تحريف لكانا حجة على إثبات هاته الأمور: ومعلوم أن الإنجيل الشريف لا يعرف في أية لغة كتب بادي بدء إذ لا يزال ذاك مختلفا فيه فمن المحتمل أن الوقت لم يمكن من كتابته فيبقى محفوظا في الأذهان حتى إذا عرج حضرة سيدنا عيسى عليه السلام إلى الملأ الأعلى درج ما بقي مستظهرا في أذهان الحواريين من الآيات الإنجيلية في الأناجيل على طرز الحكاية.
وعلى ذلك فإن الأناجيل التي كتبت وهي تزيد عن الخمسين عدا إنما جرى التدقيق بها بعد ثلثمائة سنة من ميلاد سيدنا عيسى عليه السلام فأبقى منها أربعة وترك الباقي وفي جهات كثيرة من هاته الأناجيل الأربع مباينات كلية يناقض بعضها البعض الآخر وهذا من الأمور الطبيعية لأن النصرانية ظلت ثلثمائة سنة تحت طي الخفاء وفي الوقوف على الحقيقة في إخلال هذا المقدار من السنين إشكال لا يحتاج إلى إيضاح.
قالت: ما قولك في التوراة؟ قلت: لا يخفى أن التوراة قد أحرقت وفقدت حينا من الزمن، ثم كتبت عن الحفظ مجددا فمن هذه الجهة لا تفيد علم اليقين بخبر واحد وبين أيدينا الآن ثلاث نسخ منها يناقض بعضها بعضا وفي ذلك دليل كاف على أنها محرفة لأن كلام الله لا يمكن وجود التناقض فيه.
قالت: ما هي المناقضات التي رأيتها في التوراة.
قلت: مهلا فأنني سأجد لك فيها تناقضا مهما. قلت ذلك والتفت إلى جارية كانت على مقربة مني وأشرت إليها أن تأتيني بالمحفظة الحمراء الموضوعة على الطاولة فأسرعت الجارية وجاءت بالمحفظة المطلوبة ودفعتها إليها فاستأنفت الحديث مع المادام. قلت: إليك بيان التناقض إن المدة التي مرت من خلقه آدم عليه السلام إلى طوفان نوح عليه السلام إنما هي بمقتضى النسخة العبرانية (1656) سنة وبموجب النسخة اليونانية (2262) سنة، وبموجب النسخة السامرية (1307) سنوات.
ولما كان هذا التناقض والاختلاف فاحشا جدا كان يتعذر التوفيق بين هاته النسخ وبموجب النسخ الثلاث أيضا يظهر أن نوحا عليه السلام كان حين الطوفان بالغا ستمائة
من العمر وبحسب النسخة السامرية يلزم أن يكون نوح عليه السلام حين وفاة آدم عليه السلام بالغا 223 سنة من العمر وهذا مردود باطل باتفاق المؤرخين والنسخة العبرانية مع النسخة اليونانية أيضا تكذب ذلك، لأن ولادة حضرة نوح بموجب النسخة اليونانية إنما كانت بعد سبعمائة واثنتين وثلاثين سنة.
ثم إن المدة من الطوفان إلى ولادة إبراهيم عليه السلام هي 292 سنة بمقتضى النسخة العبرانية و 1072 بموجب النسخة اليونانية و 942 بحسب النسخة السامرية، وهذا اختلاف فاحش أيضا ومما تقدم أعلاه يظهر أنه بحسب النسخة العبرانية كانت ولادة إبراهيم عليه السلام بعد طوفان بمائتين واثنتين وتسعين سنة حالة كونه قد جاء مصرحا في الآية الثامنة من الباب التاسع من سفر التكوين إن نوحا عليه السلام قد عاش ثلثمائة وخمسين سنة بعد الطوفان فمن ذلك يلزم أن يكون إبراهيم حين وفاة حضرة نوح في الثامنة والخمسين من عمره هذا باطل باتفاق المؤرخين، والنسخة اليونانية والسامرية أيضا تكذبانه لأن ولادة حضرة إبراهيم بحسب النسخة الأولى كانت بعد وفاة نوح بتسعمائة واثنتين وعشرين سنة، وبموجب الثانية بخمسمائة واثنتين وتسعين سنة، ولما كان من المستحيل العقلي وجود التناقض في كلام الله كانت آيات التوراة الشريفة المتعلقة بهذا البحث محرفة لا محالة.
قالت المادام: أجل إنني أعلم أن القرآن قد وصل إليكم كما سمع من نبيكم دون أن تطرأ عليه العوارض.
قلت: هو كذلك وعلاوة على هذا فإن المجتهدين عندنا لم يزيدوا شيئا على عقائدنا الدينية مخالفا للعقل والحكم، ونحن يمكننا أن نزن عقائدنا في ميزان الحكمة أما النصرانية فإن أبواب الحكمة مقفلة عندها.
قالت: في الحقيقة إن دينكم موافق للعقل والحكمة وهو من الأديان التي يمكن لكثير من العلماء الذين جردتهم مسألة التثليث من الدين قبوله والتدين به، ولقد توصلت بواسطة هذه الإيضاحات التي وقفت عليها إلى حل إشكال كنت مترددة في حله وذلك أن المرسلين عندنا في حين إنهم أنفقوا كثيرا من ألموال وألقوا بأنفسهم في التهالك والأخطار رغبة في دعوة الخلق إلى النصرانية فلم ينجحوا تمام النجاح، وأما حجاجكم وتجاركم فقد تمكنوا من دعوة ألوف من الناس إلى الإسلامية بمزيد السهولة في كثير من الأماكن التي مروا فيها ولقد طالما افتكرت في سر هذا الأمر وحكمته فلم أهتد إليه سبيلا أما الآن فقد فهمت أن لطافة دينكم وسهولته وانطباقه على الحكمة قد حمل الخلق على قبوله بهذه السهولة. وفي الحقيقة إن دينكم لا مرية في حقيته ولا مطعن عليه ولكن هناك مسألة واحدة تجعل الناس نفورا منه وتقوم سدا في وجه حسنه ألا وهي مسألة الحجاب عند النساء فإنه من الصعب جدا على الرجال والنساء من المسيحيين الذين ألفوا الحرية وعدم التستر أن يرضوا به ولو لم تكن فيه هاته المسألة لأصبح عدد كثير من الخلق الذين يبحثون عن دين لهم مسلمين.
قلت: لقد بينت لك أن قاعدة الحجاب في الشريعة إنما هي ستر الشعور.
قالت: وهذا لا يرضونه لأنهم متى صاروا مسلمين أجبروا على اتباعه.
قلت: إن المرأة التي لا تستر شعورها لا تخرج من الدين، وإنما ترتكب إثما وأساس الدين الإسلامي الاعتقاد بوحدانية الله تعالى ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام فالشخص الذي يعتقد ويسلم بهاتين القضيتين على أي دين ومذهب كان فهو مسلم ولا شرط في ذلك كليا نعم إن على المسلم بعض تكاليف إلهية كالصلاة والصيام وهي الفروض التي أمر بها الحق سبحانه وتعالى وقتل النفس وارتكاب المعاصي وهي الأمور التي نهى عنها
لأن الذين لا يمتثلون أمر الله ولا يجتنبون نهيه يكونون من الفاسقين ويستحقون في الآخرة العذاب ولكن مع ذلك فهم مسلمون إذ ينالون في نهاية الأمر جنة النعيم والله إن شاء عفا عنهم وإن شاء عذبهم بقدر إثمهم، ثم يدخلهم جنته ولا يدخل بين الله والعبد والمسلمون لا يحتاجون في استحصال العفو عن آثامهم كالنصارى إلى القسس وليسوا بمجبرين على الذهاب حالا إلى الجامع لأداء العبادة نظير المسيحيين الذين يكونون مجبرين في عبادتهم للذهاب إلى الكنيسة فإذا رغبوا في التوبة والاستغفار انسحبوا إلى زواية ما فناجوا الحق سبحانه وتعالى وليسوا بمجبرين أن يكشفوا ضمائرهم وخفاياهم لغير الله.
أما المادام فإنها بعد صمت قليل عادت إلى التفكر والتأمل بمقتضى لطافتها الطبيعية وصرت وإياها على اتفاق في الرأي وأما اللاتي كن في الرواق فكان بعض منهن يتحادثن مع البعض الآخر وبعض يجلسن في الرواق مسرورات بضوء القمر حتى إنهن طلبن القهوة مرة ثانية وأحببن أن يكرمننا بفنجان آخر على أننا اعتذرنا عن قبوله وكانت إحدى الزائرات في تلك الأثناء تنشد نشيدا تركيا بصوت خافت، وقد لاحظت على المادام أنها سرت من صوتها ونشيدها فإنها كانت ترعاها السمع، ثم ما عتمت أن باحت بسرورها وانشراحها من صوت المنشدة في مثل هذا الوقت الذي كان الهواء ساكنا به أما أنا فالتفت إلى المنشدة. وقلت: إنه حسن فأنشدي شيئا محزنا مؤثرا يناسب هذا الصوت المهموس.
قالت: ما الذي يجب أن أنشده.
قلت: شيئا من الحجاز.
فأخذت السيدة تنشد نشيدا لطيفا من الحجاز بصوت رخيم مؤثر للغاية وكانت المادام تصغي إليها تمام الإصغاء.
فقلت: أيتها المادام، أليست الأمواج التي تحصل من ارتجاج الهواء على ثوبك الحريري في المراقص تشابه هذا الصوت.
قالت: أجل إنني أفتكر بهذا الأمر ويلذني سماع الأنغام على اختلاف خروجها وفي الحقيقة إن المادام كانت تستمع الغناء بلذة لا مزيد عليها وبعد انتهاء الإنشاد حولت المادام ذهنها إلى التفكير في الصدى والموسيقى من حيث العلوم الحكمية كما أن هاته العاجزة على كوني لست بواقفة تماما على ما يمر في ذهن هاته المرأة العالمة من ضروب الحكمة العالية إلا أنني قد أخذت افتكر ببعض أشياء تواردت على ذهني القاصر، فسبحت في فضاء التصور مدة لا أعرف مقدارها ولكنني أعلم أن يدا مستني وصوتا دخل في أذني فالتفت، وإذا بجارية خدمتي الخاصة تنبهني قائلة: يا سيدتي، لقد مسك البرد.
قلت: إن يدك حارة فمن أين أتاك إنني بردت حتى أيقظتني.
قالت: إنني منذ هنيهة قد شعرت بالبرد فارتديت بالكساء، ولما رأيتك جالسة هنا ملتزمة جانب الصمت ظننتك راقدة فخفت أن تصابي بالبرد ولذلك نبهتك لأنني ما تمكنت من مشاهدة وجهك، فلما لمست يدك شعرت أنك باردة حقيقة.
قلت: فالحق معك فاذهبي وأتينا بغطاءين لأن ضيفتنا المادام تكون قد بردت أكثر مني من حيث إن يديها وعنقها لا يسترهما إلا ستار شفاف.
أما المادام فقد استيقظت على صوت محاورتنا فهبت من بحراتها وأخذت تلتفت ذات اليمين وذات الشمال فلم تر غير الجارية إذ إن رفيقاتنا كن خرجن وأبقيننا وحدنا. فقالت: لقد ضاقت صدورهن من سكرتنا فتفرقن وتركننا منفردتين، فما هاته الحال الغريبة؟ لا جرم أنه ليس من أحد يرضى عمن يكونون في حالة الصمت والراقدون لا يرون أحدا عندهم، وقد تذكرنا حال الرقاد بحالتنا أوان الموت. وفي الحقيقة إن حالتنا الحاضرة تمثل حالة الموت.
قلت: هيهات أيتها المادام أن يكون في النوم وفي الموت راحة مثل التي رأيناها في هاته الليلة حينما كانت أفكارنا سائحة في بحور التصورات اللذيذة.
أما هذه الكلمات فقد ذهبت بصفاء وانشراح كل منا فإن ذكر الموت الذي سيكون خاتمة عمرنا قد جعلناه ختاما لفرحنا وسرورنا في تلك الليلة على أن الموت الذي مع كوننا نرغب أبدا في أن نهرب منه نرى أنفسنا متقربين إليه فقد تمثل لنا كثيرا في تلك الليلة فتجلى لنا كأنه يقول بلسان الحال: إياكما أن تنسياني وفي هذا الوقت أيضا قد بدت لنا عظمة الخالق الباقي، وظهر لدينا عجزنا فرأينا بعين الحقيقة أن كل شيء فان ولا دائم إلا الله سبحانه، فهذا الفكر الرهيب لم يمكنا من البقاء حيث كنا فخرجنا نفتش على رفيقاتنا لنجتمع بهن ثم دخلنا جملة إلى القاعة في ضمن المنزل، وقد أثرت فينا تلك الأفكار تأثيرا شديدا، فصرنا نرجف من هولها وتنتفض من دهشتها، وفي تلك الأثناء أتي بالمبردات فطافت بها الجواري على الزائرات غير أن المادام ترددت في قبولها ومذ لحظت منها قلت: إنني راغبة في كأس من الشاي فهل ترغبين أيتها المادام أن يأتوك بكأس منه؟ قالت: لله أيتها السيدة، إنني اشكر لك وأرغب بالشاي وأرجو أن يؤتى إلي بكأس منه.
وما مر على ذلك بضع دقائق حتى أتي بالشاي المطلوب فشربناه فعاودتنا الحرارة، وبعد جلوس هنيهة من الوقت اتصل بالآذان صدى ترتيب مائدة السحور، فهبت المسافرات لاستدعاء القوارب.
أما المادام فأوصت أن يأتوها بعجلتها، ولما كانت القوارب رابطة على الرصيف وكانت تهيئتها أسهل من تهيئة العجلة تمكن الزائرات من ركوبها قبل مجيء العجلة فذهبت كل واحدة منهن في وجهتها المقصودة، ثم جاء النبأ إلى المادام بتهيئة العجلة فنهضت على أقدامها وارتدت بثوبها وأخذت مروحتها بيدها، ثم قالت وهي على قدم الذهاب: إنني أشكر لك شكرا جزيلا لما أوليتيني من المعروف في هاته الليلة ولا يخفى أن المقصد من السياحة إنما هو مشاهدة ما لم تشاهده العين ومعرفة الأشياء غير المعروفة وكما أنني ميالة إلى الوقوف على أحوال كل مكان هكذا كان من أخص آمالي أن أطلع على تركيا وعاداتها وأفكارها وعقائدها ولأجل ذلك صرفت في هذا السبيل وقتا طويلا ولم أقصر في النفقات ولكنني أقول الحق: إن المعلومات التي حصلت عليها إلى الآن لا توازي شيئا من العلم الصحيح الذي وقفت عليه هذه الليلة فأنا ممتنة جدا.
فقلت لها: إن إكرام الضيف ملتزم عندنا فمهما حصل في سبيل ذلك من المشقة فما نحسبه إلا محض راحة، لا جرم أن رغائبك لا تتعدى حد الكلام وهذا الكلام وهذا سهل للغاية فيا حبذا لو تكرر هذا الاجتماع ويا حبذا لو أمكن مصادفة كثيرات من أمثالك لأن محادثة عالمة وفاضلة نظيرك إنما هو من حسن الطالع، ولذلك أقدم لك تشكراتي القلبية على ما أنلتينيه من الحظ في هاته الليلة، وهاته العاجزة قد تحصلت بهذه المدة الوجيزة