الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ورافقها "أكفرت دومست" الشاعر، ولكنهما افترقا في البندقية فرجع إلى فرنسا وبقيت هي وكتبت هناك عدة كتابات، وعند رجوعها إلى فرنسا في أوائل سنة 1835م التقت بالمتشرع الفصيح "ميشال دوبرج" فساقها إلى الأمور السياسية ومع "لامني" الذي وقع جدال بينه وبينها في أمور دينية ومع "بيرلورو" الذي علمها المبادئ الاشتراكية، وظهر تأثرهم فيها في كثير من مؤلفاتها وكان حينئذ قد ازداد النفور بينها وبين زوجها فحصلت على أمر يؤذن لها بتركه ويولجها إدارة أمورها بنفسها وتربية أولادها وبعد ذلك جعلت "توهان" مكانا لاجتماع أصدقائها، واعتنت بتربية أولادها.
وسنة 1838م صرفت الشتاء في جزيرة "ميورقة" حيث رافقها "شوبن" معلم البيانو فبقيت فيها إلى سنة 1847م حين اضطرتها ثورة سنة 1848م أن تعود ثانيا إلى ميدان السياسة ويقال: إنها عضدت بكاتاباتها كثيرا من الأعمال التي اتخذها "لدورولن" وكان حينئذ عضوا للحكومة المؤقتة ثم رجعت على "توهان".
وسنة 1854م نشرت في جريدة "جرس" ترجمة حياتها محتوية على بعض الحوادث التي تخللتها وهي تاريخ لأفكارها وحاسياتها ونشرت نحو 60 رواية منها كتب ومنها نبذ في الجرائد ولها تآليف أخرى كثيرة مطبوعة باللغات الإفرنجية.
جوزفين ابنة الكونت تشاوي لاباجرى الفرنسوي
من مقاطعة بالقرب من "بلو"، وأمها فرنسوية الأصل أيضا من مستعمرات جزيرة لاقديس "رومينيكو" التابعد لفرنسا عرفها الكونت "تشاوي" لما هاجر إلى تلك الجزيرة سنة 1760م ليكون مأمورا بحرا تحت قيادة المركيز "بواهرني"، وإلى الجزيرة وقتئذ، فتزوج بها ورزق منها "جوزفين" المذكورة آنفا. وتوفي والدها بعيد ولادتها ثم ماتت زوجته وتركا "جوزفين" طفلة يتيمة الوالدين فاعتنت بها عمتها القاطنة في تلك الجزيرة وكانت هي وزوجها من أصحاب الأملاك الكثيرة والثروة الطائلة وعلى جانب عظيم من اللطف والدعة حتى أكرمهما أهالي الجزيرة واشتهرا بكل منقبة ومحمدة حتى كان خدمهما ينظرون إليهما نظر الآلهة وأحبهما جميع معارفهما حبا عظيما.
فهذان اعتنيا ب "جوزفين" وربياها على المبادئ الأدبية منذ الصغر وغرسا في قلبها الحنو واللطف فكانت تعامل بمثل ذلك العبيد القاطنين في ذاك المكان فأحبوها كثيرا وكانوا يعدونها كملكة عليهم ولم يكن لها في تلك الجزيرة من تلعب معه من الأولاد سوى أولاد العبيد فهؤلاء كانوا أصدقاءها في الصغر أما أصحاب عمتها وزوجها فكانوا من خاصة الفرنسويين القاطنين في تلك الجزيرة وهم جماعة من المهذبين العرافين بالآداب والفنون المتمسكين بعوائد بلادهم واصطلاحاتها الحسنة، ومن السياح الأوربيين الذين يأتون الجزيرة ويجولون في أقطار العالم وكانت "جوزفين" تسمع أحاديثهم وتستوعبها في عقلها النير وتحفظ منها أمورا كثيرة لمستقبل الأيام، ولذلك ظن الناس بعد اقترانها ب "نابليون" ومطالعة رسائلها الأنيقة أنها تعلمت في أحسن المدارس ودرست كل الفنون على أنها لم تدرس شيئا منها درسا قانونيا ما عدا الموسيقى والتصوير والرقص، وأما ما بقي فاكتسبته اكتسابا بجدها واجتهادها وتوقد ذهنها وشدة ميلها إلى الدراسة.
وكانت تضرب الغيثار بحذاقة غريبة وتغني بصوت رخيم يأخذ بمجامع القلوب، وإذا قرأت أثرت في عقول السامعين وسحرتهم بحسن بيانها ورقة كلامها.
وقد اشتهرت بمحبة الأزهار ودرس علم النبات والرقص وبرعت في الخياطة وسائر فنون النساء غير أنها لم تكن تهتم بأمر الملبس اهتماما خاصا، ولا كانت تباهي
بحسن قوامها وجمال محياها شأن كثيرات من النساء وكانت صديقتها الحميمة في الصغر إحدى النبات الحبشيات اللون. ويقال: إنها ابنة الكونت "تشاوي" والد "جوزفين" قبل اقترانه الشرعي وهي أكبر منها بسنتين ولم تفارقها لفرط محبتها لها وتعلقها بها.
وبينما هما ذاهبتان للنزهة ذات يوم وجدتا عددا من العبيد حول امرأة سوداء طاعنة في لاسن تزعم أنها من أهل الكرامات الذين ينبئون بالغيب فوقفت "جوزفين" مع البنات، ودنت إلى المرأة وسألتها أن تنبئها بمستقبل أمرها، فقبضت المرأة على يدها وهزتها فقالت "جوزفين": أظنك اطلعت على شيء من مستقبلي. فقالت المرأة لها: نعم، قالت "جوزفين" مبتسمة: هل تصيبني السعادة أم التعاسة؟ فأجابتها المرأة: التعاسة، ثم سكتت وقالت: ثم تتلوها السعادة. فقالت "جوزفين": أظنك غلطت فانظري ثانية فرفعت المرأة نظرها إلى السماء وعلامات الكدر تلوح علة وجهها وقالت: لا يسوغ لي أن أقول أكثر من ذلك، فسألتها "جوزفين" بإلحاح أن تنبئها بمستقبلها فأجابتها المرأة: أخاف أن لا تصدقيني فألحت عليها، فقالت: إنك تتزوجين عن قريب ثم لا يمضي إلا القليل حتى يموت زوجك ولكنك ستصيرين ملكة فرنسا عدة سنين، ثم تموتين في مستشفى وسط اضطرابات أهلية.
وفي تلك الأثناء هاجر إلى تلك الجزيرة عائلة إنكليزية وسكنت بالقرب من بيت عمة "جوزفين". وبين أفراد هذه العائلة شاب اسمه "وليم" يقارب عمره عمر "جوزفين" فأحب كل منهما الآخر حتى صار أهلهما يلمحون إلى ذلك وطنوا أنهما سيتزوجان عند بلوغهما سن الرشد إلا أن الفتى عاد إلى بلاده مع عائلته لأسباب قضت بذلك فشق لعيه فراق "جوزفين" وشعر أن حياته منغصة فتعاهد معها على المحبة والثبات على المودة إلى حين اللقاء.
وكان عمر "جوزفين" وقتئذ أربع شعرة سنة وهي في معظم البهاء والجمال أسيلة الخد معتدلة القد واتفق في ذلك الحين أن رجلا فرنسويا يلقب ب "الكونت فيس إسكندربواهرني" زار عم "جوزفين" لأشغال له وهذا الرجل مولود في جزيرة "دومينيكو" وقد نال الوسامات وألقاب الشرف على شجاعته في الحرب التي نشبت بني المستعمرات والممالك الأصلية، وهو من المشهورين بالبسالة والنخوة ومساعدة المستعمرات فصيح اللسان ثابت الجنان، أنيس المعشر، لطيف المحضر وقد حضر وقتئذ إلى الجزيرة لإثبات حق له على أملاك من جملتها قسم في حوزة عم "جوزفين" واضطر على البقاء عدة أيام في بيت عم "جوزفين" لإنجاز أشغاله، وهناك علق قلبه ب "جوزفين" وسحرت عقله بلطفها وكمالها حتى لم يعد يستطيع فراقها، ولما رأت عمتها وزوجها ميل هذا الشاب إليها ورغبته فيها وهما يعلمان عظم منزلته وغناه سرا من ذلك وصارا يمسكان عنها كل الرسائل الواردة عليها من خطيبها الأول والمرسلة منها إليه مدة سنة من الزمان.
أما "جوزفين" فحارت في عدم وصول رسائل خطيبها، ولم تنثن عن محبته وولائه مع ما أظهره لها الكونت "بواهرني" من شديد المحبة، وكانت تنظر إليه كضيف كريم في بيت عمتها.
وفي بعض الأيام كلمها عمها في أمر زواجها ب "بواهرني"، ولما كانت تعلم أنه لا قبل لها برفض ذلك وليس لها إلا إبداء رأيها في الأمر حسب عادة تلك الأيام قالت: وكيف ذلك وقد وعدت "وليم" بأن تزوجه بي؟ فأجابها بأن "وليم" نسيك و"بواهرني" أفضل منه، ثم ذكر لها بعض مناقبه، فاضطرت إلى الصمت والتسليم.
وبعد أيام رجع "بواهرني" إلى "رايس" ثم بعد أشهر قليلة عزمت "جوزفين" أيضا على الذهاب إلى فرنسا، وكانت
في تلك المدة تفتكر ب "وليم" وتؤمل أن تسمع عنه شيئا، ولكنها قطعت آمالها منه قبل وصولها إلى باريس ولما وصلت إلى باريس وجدت "بواهرني" في انتظارها مع بعض رفقائه ومعارفها فذهبت برفقتهم وعلمت وقتئذ أن "وليم" وأباه في ذلك المكان ثم أتيا بعد وصولها بقليل لزيارتها. وفي اليوم التالي أتى "وليم" وحده لزيارتها فرفضت مقابلته فأرسل إليها رسالة يلومها على عدم محافظتها على العهد ويذكر لها الرسائل العديدة التي أرسلها إلهيا وعدم إجابتها عن شيء منها ويطلب الإفادة عن كل ذلك، فلما قرأت الرسالة ساءها ذلك كثيرا وتأكدت أنه لا يزال يحبها كما كان، وأن عمتها وزوجها خدعاها ليزوجاها ب "بواهرني"، وقد أخذ منها الغيظ كل مأخذ فطلبت إلى أصحابها أن يسمحوا لها بالذهاب إلى دير تقضي فيه مدة من الزمن فأجابوا طلبها، وتوجهت إلى دير قضت فيه بضعة أشهر بالحزن والقلق.
وكان "وليم" في تلك المدة يترقب الفرص ليراها ولو مرة فلم ينل مرامه فيئس منها وقطع الرجاء من الاقتران بها، فتزوج بفتاة غنية قضى وإياها حياة تعيسة.
أما "بواهراني" فقصدها إلى الدير وسمح له أن يكلمها من نوافذ غرفتها، ولما رأت انه لا سبيل لها إلا الاقتران به حسب رغبة عمتها وزوجها وأن "وليم" تزوج بغيرها طلبت الرجوع من الدير، واقترنت بالقسيس كونت "إسكندر بواهرني" المذكور ولها من العمر ست عشرة سنة، وكانت الهيئة التي تجتمع بها عبد زواجها مؤلفة من أعلى طبقة من الأمراء والأشراف وكانت ترضي جميع الناظرين إليها برقة حديثها وجودة أخلاقها.
أما زوجها فكان معجبا بجحمالها وقد عرفها بالبلاط الملكي وبالملكة "ماري أنتوانت" هناك في قصر "فرسالية". وقضت "ماري أنتوانت" و"جوزفين الأولى" ابنة "ماريا تريزا" إمبراطورة النمسا من سلالة قياصرة "أستوريا" وقد أتت من وسط البلاط النمسوي لتكون ملكة فرنسا وزينة البلاط الفرنسوي، والثانية "جوزفين" ابنة رجل مزارع مولودة في جزيرة بعيدة عن العالم وقد ربيت بين الزنوج ومن كان يظن أو يخظر له ببال أن "ماري انتونت" تنحط على أسفل دركات الذل وتقتل بالسيف و"جوزفين" تستوي على عرش لم يجلس عليه القياصرة في أيامهم.
وفي تلك الأيام بدأت الثورة وعم الكفر والإلحاد بلاد فرنسا، واستخفوا بالديانة المسيحية، فكثر الفساد وزاد البلاء، ولم يعد للزواج الشرعي أقل احترام بل شاع الطلاق إلى درجة مستهجنة، ولما رأت "جوزفين" أن زوجها "بواهرني" لا يعتقد بالدين ولا يراعي حرمة الآداب، وقد تلطخ بالمفاسد على أنواعها بخلاف ما كانت تعتقده فيه، كبر علهيا الأمر وأظهرت له مكدرها بلطيف العبارة خوفا من غيظه منها.
وفي سنة 1780م ولدت ابنة وسمتها "هورتنس" فحببت ولادتها "جوزفين" إلى زوجها، ولما كان "بواهرني" على ما تدم نمن الأوصاف لا يعرف من الإنصاف والطهارة إلا اسمهما كان يلوم "جوزفين" لإنكارها عليه سوء تصرفه حاسبا إنه ليس لها حق في الكلام معه في هذا الشأن ما دام يعاملها باللطف والمعروف، ومن ثم لم تعد "جوزفين" ترى يوما سعيدا وزادت تعاستها يوما بعد يوم ولم تجد لها سلوا سوى ابنتها الصغيرة.
وفي سنة 1783م ولدت ابنا وسمته "أيوجين" فصار لها ولدان تعزت بهما عن جفاء والدهما الذي لم يزل عاكفا على المنكرات، ومما زاد "جوزفين" غيظا فساد المرأة التي يميل إلهيا "بواهرني" فإنها جاءت مرة إلى "جوزفين" وهي غير عالمة أنها عشيقته وأرتها أنه لا يستحق محبتها، ثم ذكرتها بمحبة "وليم" لها، وما زالت تكلمها بمثل ذلك حتى
اضطرتها لكتابة رسالة إلى عمها وعمتها ذكرت فيها أنها لولا الأولاد لتركت فرنسا إلى الأبد، وأن واجباتها تقضي عليها بأن تسلو "وليم"، ولكنهما لما زوجاها به لم تكن تعيسة كما هي الآن إلى عير ذلك من مثل هذا الكلام، فاختلست تلك المحتالة الكتاب وارتدت ل "بواهرني" مبرهنة له أن بين "وليم" و"جوزفين" مثل ما بينه وبينها فكره "جوزفين" من أجل ذلك كرها عظيما، وحاولت أن تبرئ نفسها مما اتهمها به ظلما وعدوانا فلم يصغ إليها بل طرها وأخذ ابنها منها، وطلب من المجلس طلاقها فأخذت ابنتها وذهبت إلى دير هناك لتقضي مدة من الزمان ريثما تنتهي محاكمتها ويا لها من مدة قضتها بالعزلة، ومرارة العيش والقلق الذي ما عليه من مزيد على أن المجلس برأها من كل ما اتهمت به بعد محاكمة طالت سنة من الزمان وحكم عليه "بواهرني" أن يقوم بنفقتها ونفقة ابنتها وأن تنفصل عنه انفصالا.
وحدث في ذلك الوقت أنها تلقت رسالة من عمها وعمتها من "مرتينيكو" يسألانها فيها الذهاب إليهما فأخذت ابنتها معها وتوجهت إلى هناك فقابلاها بالمحبة والإعزاز، وقضت ثلاث سنين في "مرتينيكو" مغمومة حزينة لا سلوى لها سوى المطالعة وتعليم ابنتها، والتصديق على من حولها، وكان يغلب عليها الافتكار بولدها وما جرى لها مع زوجها فتذهب إلى الأماكن المنفردة وتبكي بكاء مرا نادبة حظها سوء حالها.
أما "بواهرني" فانغمس في السرور، وانهمك في الشهوات محاولا نسيان امرأته وابنته فجلب ذلك له عارا وكثر تحدث الناس بأمره حتى صار مضغة في الأفواه، ولم ير من يمدحه على أعماله فتذكر زوجته الأمينة وحنوها وكمالها وجمالها فندم على قسوته وسوء معاملته لها، وأحب أن ترجع إليه ثانيا، فكتب لها مظهرا أسفه على ما فرط منه في الماضي واعدا أن يسلك معها بالمحبة والأمانة، ولا يعود في المستقبل إلى ما كان عليه مؤكدا لها احترامه لصفاتها الشريفة راجيا أن ترجع إلهي مع ابنتها لتجمع شمل تلك العائلة المشتتة.
فلما اطلعت "جوزفين" على رسالة زوجها جذبها الوجد والشوق إلى ابنها البعيد عنها وتصورت أنها ستضمه إليها فابتهجت بمجرد التصور والفكر ولكنها لم تكن قد نسيت الأتعاب والأحزان التي قاستها فذكرت أمرها لأصدقائها وأظهرت لهم أنه لولا شوقها إلى ولدها ما كانت تترك الجزيرة طول عمرها فألح عليها أصدقاؤها بالبقاء فلم ترض، بل ودعتهم ورجعت إلى فرنسا، ولما وصلت إليها قابلها زوجها بالترحاب وكان قد اختبر قيمة العيشة الأهلية، والمحبة الطاهرة النقية، وفرحت "جوزفين" بزوجها وابنها وسر زوجها من اجتماع الشمل بعد التفرق وتناسيا الأيام التعيسة الماضية وصمما على المعيشة بالصفاء والسعادة، ولكن الدهر في الناس قلب فإن صفاءهما لم يطل لما حدث من الاضطرابات عند شبوب نار الثورة الفرنساوية فإن البلاد كانت وقتئذ قائمة قاعدة، والملك والملكة كانا في السجن، وكان "بواهرني" في ابتداء الثورة من أشد أنصار حزب الحرية وانتخب معتمدا للجمعية التي أقامها ذلك الحزب فكان له إلمام بكل متعلقاتها، ثم انحل عقد الجميع فرجع إلى الجيش، ولما انتظمت جمعية اتفاق الأمة انضم إلى عضوية هذه الجمعية وانتخب رئيسا لها مرتين.
وانقسمت فرنسا في ذلك الوقت إلى حزبينن حزب مؤلف من العوام وآخر من الأشراف، وقوي حزب العوام على حزب الأشراف وكان قائده رجلا قاسيا يدعى "دوبس بير" فقبضوا على جمهور غفير من حزب الأشراف وأودعوهم السجن ليقتلوهم بعد المحاكمة، وكان في الجملة "جوزفين" وزوجها فإنهم قبضوا عليهما بعنف وساقوهما إلى السجن ووضعوا كلا منهما في مكان مظلم بعيدا عن الآخر، ولم يرثوا لحالة ولديهما الصغيرين
وكانا في صباح اليوم الذي سجنت "جوزفين" فيه أتتها رسالة من بضع الأصدقاء يخبرونها بما سيجري عليها ويحضونها على الهرب وطلب النجاة، فلما اطلعت "جوزفين" على الرسالة جعلت تتأمل في أمر نجاتها ونجاة أولادها ولكنها لم تر بابا للهرب حتى سمعت قرع الباب الخارجي والضوضاء أمامه ففهمت سبب ذلك وأسرعت إلى الغرفة التي كان الولدان نائمين فيها ودنت منهما وهما نائمان والدموع تتساقط على وجنتيها، ثم أكبت عليهما وقبلتهما قبلة الوداع وخرجت من الغرفة وأغلقت الباب لئلا يستيقظا ودخلت غرفة الاستقبال، فرأت فيها عصبة من العساكر المسلحة، فأغلظوا لها الكلام، ثم سلبوا ما في بيتها وساقوها إلى السجن الذي قتل فيه ثمانية آلاف شخص منذ اشهر قليلة.
أما الولدان، فلما استيقظا ووجدا انفسهما منفردين في البيت مع الخدم سألا عن أمهما فأجابهما واحد أنه قد قبض عليها وأخذت إلى السجن فبكيا وانتحبا، وطلبا أن يهذبا إلى السجن ويقيما مع أبيهما وأمهما وكان لهما عمة فلما علمت بسجن "جوزفين" أخذتهما إليهما.
أما "بواهرني" و"جوزفين" فكان كل منهما في سجن مظلم من سجون القتلى وقد تلطخ كل منهما بآثار الذين قتلوا في تلك السجون وكانا لا ينفكان عن الافتكار والبكاء بسبب ما جرى لهما وما سيؤل إلهي أمرهما وما آل إليه بيتهما من الخراب ويتشوقان إلى استماع شيء عن ولديهما وأحوالهما وبينما هما في السجن إذ وصلت الأخبار إلى "جوزفين" عن أمر سلامتهما ففرح قلبها بتلك الأخبار السارة.
وأما "بواهرني" فلم يمكنه أن يسمع شيئا وكان هذا الحادث الهائل هو العاصف الثاني الذي لاقته "جوزفين" في بحر هذه الحياة العجاج. أما السجن الذي كانت الذي كانت "جوزفين" مسجونة فه فكان دير "الكرملين" وقد اشتهر في تلك الأيام بكونه مصرح الظلم والعدوان وكان متسعا وفيه عدة غرف وله أسراب مظلمة حتى لقد وجد داخل جدرانه عشرة آلاف مسجون في وقت واحد وكان كل قسم من هذا البناء العظيم ملطخا بدماء القتلى الذين قتلوا في تلك الأثناء وكانت الرجال والنساء الهائجون يجرون الناس إلى السجون بالمئات والألوف، وكان كثير منهم من الكهنة الذين ساقوهم أمام مذبح الكنيسة للاستهزاء برسوم الدين وهناك قتلوهم.
وكان في سجون فرنسا حيئذ نحو ثلثمائة ألف مسجون وكلهم من الأبرياء ينتظرون ساعة قتلهم، ولم يكن فيهم أحد من سوقة الناس وجهالهم بل كانوا جميعا من أشراف فرنسا ومهذبيها، أما سجن "جوزفين" فكان في كنيسة هذا الدير مع مائة وستين نفسا من الرجال والنساء وكانت تظهر البشاشة بقدر الإمكان بين هؤلاء الرفاق وهي موقنة أنه لا ينال زوجها سوء، وراجية أنهما سيخرجان قريبا ويرجعان على بيتهما وكانت تكتب إلى زوجها وأولادها تشجعهم وتشدد عزائمهم وتجذب جميع من في السجن إليها بحسن أخلاقها، ورقة شمائها حتى امتلكت قلوب المسجونين في زمن قصير فاختاروها لتقرأ لهم الجريدة اليومية لمهارتها في القراءة وكونها ذات صوت رخيم يأخذ بمجامع القلوب، وكانوا يرون العجلات من نوافذ السجن مشحونة بالمسجونين المسوقين إلى الذبح كل يوم فالبعض يرين رجالهن والبعض أولادهن وغيرهم من الأعزاء فيقعون على الأرض فاقدي الشعور.
وف صباح يوم الأيام حلمت "جوزفين" أنها خرجت من السجن وجلست مع زوجها وأولادها، فسمعت مناديا يناديها للحضور أمام الحكام فتأكدت من ثم قرب أجلها لأنها علمت أن لا راد للعدو في تلك الشدة العديمة الشفقة والرحمة، وأن خداع هذه المحكمة ليس إلا الخطوة الأولى لإعدام حياتها وليس بعدها إلا المذبحة فسقطت أمالها في الخلاص من قمة الرجاء إلى
الحضيض واليأس وجذبها الوجد إلى ووجها وأولادها وغلب إلى هنيهة حنو المرأة على شجاعتها، ولكنها رجعت إلى نفسها واستعدت على المحاكمة بقدر ما يمكن من الهدو والسكينة، ثم سيقت من سجنها إلى دار المحكمة الملطخة بدماء القتلى وأدخلت إحدى غرفها هي وآخرون أيضا لكي ينتظرون نوبتهم للمحاكمة التي نتيجتها إما الحياة، إما الموت العاجل.
وبينما كانت "جوزفين" جالسة في هذه الغرفة تنتظر نوبتها إذ فتح باب من الجهة المقابلة ودخل منه فرقة من العساكر المتسلحة ومعهم عدد من الأسرى، وكانوا قد أتوا بهم من سجن آخر، وكانت عيون الجميع محدقة بهم وهم داخلون واحدا بعد آخر ونظرت "جوزفين" فرأت رجلا مهزولا ذكرها بزوجها فأعادت النظر إليه والتقت العين بالعين فعرف كل منهما الآخر فركض وركضت مسرعين وتذكر "بواهرني" عند ذلك عدم أهليته لكرم أخلاق "جوزفين" ومحبتها له فحنى رأسه المنصدع على كتفها وبكى بكاء الندامة والتوبة فبعد أن قضيا بعض دقائق على تلك الحالة أتى الجنود وجروا "بواهرني" إلى المحكمة، وكانت هذه المرة الأخيرة التي رأى فيها "جوزفين" ورأته ثم أرجعوه إلى السجن ولم يثبت عليه شيء إلا أنه كان من الأشراف والأكابر وعلى ذلك استحق الموت.
ثم أدخلت "جوزفين" في نوبتها ولم يثبت عليها شيء أيضا سوى أنها مكانت امرأة رجل من الأشراف وصاحبة "ماري انتوانت"، وكانت ذات امتيازات خاصة بها في القصر الملكي وعلى ذلك استحقت الذبح هي أيضا فردت إلى السجن، ولكنها لم تعلم بشيء من الحكم الذي صدر عليها ولا على زوجها، وكانت واثقة أنهما سيخرجان قريبا إذ لم يدر في خلدهما أنه يحكم عليهما بالموت من غير أن يثبت عليهما ارتكاب جريمة، وكانوا يأتون إلى السجن في كل مساء بجريدة أسماء الذين نصيبهم الذبح في الصباح التالي وحدث بعد محاكمة "جوزفين" وزوجها بأيام قليلة في مساء أربعة وعشرين يوليو سنة 1794م أن "بواهرني" رأى اسمه بين أسماء الذين سيساقون إلى الذبح عند الصباح.
فلما علم ذلك وتذكر "جوزفين" وأولاده حزن وعزت عليه الحياة، ولكنه تجلد واستعد للذبح، ثم أخذ وكتب رسالة طويلة إلى "جوزفين" مفعمة بعواطف المحبة، وأكد لها اعتقاده القلبي بطهارتها وسمو صفاتها وشكرها مرارا لأجل مسامحتها إياه القلبية عن كل ما صدر منه عندما كان مذنبا حيث رجع وطلب محبتها، وطلب منها أيضا أن تربي ولديها وتعلمهما محبة أبيهما حتى يبقى ذكره بينهما ومحبته في قلوبهما بعد الممات، وبينما مكان يكتب الرسالة أتى الجلادون وقصوا شعره لكيلا يبقى شيء معارض للسيف عن قطع رأسه فالتقط خصلة ضفيرة منه لكي يرسلها على "جوزفين" تذكارا أخيرا فمنعه الجلادون القساة، ولم يسمحوا له بذلك ولكنه اشترى منهم بضع شعرات وأرسلها ضمن الرسالة. وفي الغداة كانت عجلات المذنبين واقفة على باب السجن وكان قد حكم في ذلك لايوم بإعدام عدد كثير من المسجونين، ولما كانت العجلات مارة في أسواق باريس مشحونة بالأبرياء المحكوم عليهم كانت عيون الشعب شاخصة إليهم وقد اشمأزت من هذه المظالم، ولما وصلوا إلى المكان المعين لقتلهم قتلوهم جميعا بلا شفقة حتى إذا أفضت النوبة إلى "بواهرني" صعد إلى المذبحة وهو رابط الجاش ثابت الجنان، فضربوه بالسيف ضربة كانت القاضية.
جوزفين فلم تكن موقنة بما سيقع على بعلها ولا عارفة بشيء من ذلك، ولما أتت جريدة الأخبار اليومية إلى السجن اجتهد بعض السيدات العالمات بذلك أن يخفينها عنها، أما هي فلم تنفك عن طلب الجريدة حتى استلمتها وأول شيء حول نظرها إليه أسماء الذين قتلوا فلما وجدت اسم زوجها بينهم سقطت إلى الأرض كميتة وبقيت مدة فاقدة الحواس، ولما استفاقت صرخت في وسط حزنها: آه. يا إلهي، أمتني أمتني لأنه لا سلام إلا في القبر، فاجتمع أصدقاؤها حولها وجعلوا
يعزونها ويسألونها الحرص على حياتها إكراما لولديها، ولكنها لم تجد للسلوى سبيلا، ولا غمض لها جفن في تلك الليلة، ولما بزغ الفجر أتى عصبة من الثائرين القساة العديمي الشفقة إلى السجن بالأخبار التي كانت تفرح "جوزفين" لولا محبتها لولديها وتعلقها بهما وكان مآل تلك الأخبار أنهم استاقوها هي أيضا إلى القتل فجاء الجلادون وقصوا شعرها استعدادا للقضاء المبرم كما كانوا يفعلونه بالمحكوم عليهم وقالوا لها: إنك لا تحتاجين إلى هذا الشعر فيما بعد فاجتمع أصدقاؤها حولها وطفقوا يبكون وينوحون.
أما هي فكانت رابطة الجأش ليس عليها شيء من ملامح الحزن والخوف والرعب، ولما رأت أصدقاؤها وما هم عليه من الحزن والغم التفتت إليهم وقالت لهم: ما بالكم تنوحون وتبكون فأنا لم أقتل كما تظنون بل إنني سأصير ملكة فرنسا لأن ذلك مكتوب لي في صحف الحوادث، فلما سمع أصحابها ذلك ازدادوا بكاء وعويلا ظانين أنها أصيبت بالجنون ونظرت إليها إحدى السيدات. وقالت: إذا لماذا لا تهيئين الحواشي والحشم لقصرك؟ فقالت لها "جوزفين": صدقت فإنك أنت تكونين وصيفتي في القصر، وكان كذلك بعد إذ، ولما أرخى الليل سدوله على ذلك السجن شمل الهدو والسكون داخله، ثم بزغت شمس الظهيرة في وسط قتام الليل وعلا هتاف الفرح والسرور بين المسجونين من كل جانب، ووقع كثيرون على الأرض فاقدي الشعور غير مصدقين بما سمعوه من البشرى وذلك أن "دوبسير" القاسي القلب كان قد أمسك وقتل وقام حكام آخرون وفتحوا أبواب السجون التي كانت مفعمة بالأسرى وأطلقوا سبيل الجميع.
أما سبب إمساك "دوبسير" وقتله، فهو أن رجلا يقال له "تاليان" من المقتدرين مع ذوي الجاه والسطوة كان يحب مدام "فانشاي" وهي سيدة بارعة الجمال وكانت مسجونة مع "جوزفين" وكان يذهب كل يوم إلى السجن ليراها فحدث ذات يوم أنه اتصل بها سرا وأنه قد قربت محاكمتها، فلما علمت ذلك انتظرت وقت حضور "تاليان" إلى دار السجن ولما حضر اقتربت هي و"جوزفين" من نافذة السجن المشبكة بالحديد ورمت ورقة ملفوفة (كرمب) كتبت عليها قد دنت محاكمتي والموت مؤكد فإذا كنت تحبني كما تقول فابذل كل ما تستطيعه لإنقاذي وإنقاذ فرنسا، ثم جعلتا تشيران إليه حتى فهم قصدهما والتقط الورقة الملفوفة من الأرض ولما قرأها ثار ثائره ونبض نابضه وذهب حالا إلى أصدقائه وجعل يهيجهم ضد "دوبسير" وأتباعه، وكان الشعب قد مل من مظالم "دوبسير" فوافقه على ذلك حزب كبير منهم وأثاروا ثورة عظيمة في باريس على "دوبسير" فدارت الدائرة عليه وعلى أتباعه فقبضوا عليهم وقتلوهم وخلصوا البلاد من ظلمهم وعدوانهم ثم فتحوا أبواب السجون، وأخرجوا جميع الذين كانوا فيها وعددهم نحو خمسمائة ألف مسجون فأي قلم أو أي لسان يستطيع أن يعبر عما شمل الفرنساويين من الفرح والابتهاج لما انتشرت الأخبار في البلاد بإعدام ذلك الظالم الغشوم وإنقاذ أحبائهم من يده، وتخلصت "جوزفين" بهذه الواسطة من سجنها مثل كثيرين، ولكنها لم تخرج من ظلام السجن إلا إلى عالم أشد ظلاما وأكثف غماما فإن زوجها كان قد قتل، وبيتها قد نهب، وأملاكها اغتالها الناس، وكثيرون من أصدقائها قد هلكوا، فأمست وهي أرملة فقيرة ليس عندها شيء ولا لها من تذهب إليه وتطلب معونته، ولم تستطع أن تتعاطى عملا من الأعمال يمكنها به القيام بمعاشها ومعاش ولديها السبب توقف الحال بالاضطرابات الكثيرة فلم تر بدا هي وولداها من بسط كف السؤال وكان ما تجشمته في هذه المدة من أمر ما ذاقت وأصعب ما لاقت في كل أيام حياتها فمن هذه الدرجة ترقت "جوزفين" إلى أسمى درجة لا يمكن أحدا من الناس أن يتصورها ولا في منامه.
قلنا: إن "دوبسير" قتل وقام مكانه حكام آخرون وفتحوا أبواب السجون للأسرى إلا أن دم القتلى لم يزل جاريا كما كان لأن هؤلاء الحكام قصدوا قطع شأفة الأشراف من البلاد، فكانوا يجرون الناس للقتل ذكورا وإناثا، كبارا وصغارا حتى إنهم كانوا يذهبون إلى المدارس ويجرون تلامذتها صبيانا وبنات ويقتلونهم. فلما رأت "جوزفين" ذلك ارتعدت فرائصها جزعا على ابنها وحاولت إخفاءه فأرسلته إلى أحد النجارين وظل يعمل عنده بمهنة عدة أشهر، وهو فرح بذلك.
أما "جوزفين" فلم تبق على هذه الحالة وحشا لسيدة كبيرة النفس، كريمة الأخلاق، حميدة السجايا مثل "جوزفين" أن تترك بين جماعات البشر ولا يلتفت إليها، بل تفتح صدور المنازل وتعطى كل ما تحتاج إليه فإن كل أحد كان يشعر أن ينال شرفا عظيما بمصاحبتها، وكانت امرأة تدعى "دوميلين" وهي سيدة عظيمة ذات ميراث عظيم وقد اتفق خلاصها وخلاص أموالها من جور فرنسا فهذه دعت "جوزفين" إلى بيتها وبذلت لها كل ما تحتاج إليه، وكذلك مدام "فانشاي" وهي السيدة التي خلصت نفسها وعددا كبيرا معها بكتابتها إلى "تاليان" على ورقة الملفوف، وكان بعد خلاصها من السجن أنها اقترنت ب "تاليان" وهي أيضا كانت من أعز صديقات "جوزفين"، وكانت تبذل لها ما تحتاج إليه مع كثيرين من غيرها.
ثم إن جوزفين قامت تطالب بحقوقها مع جمعية اتفاق الأمة وهي استرجاع أملاكها المحجوزة وذلك على يد "تاليان" فنجح مسعاها بعد مدة طويلة وأتعاب جسيمة واسترجعت جانبا من أملاكها التي استولوا عليها، فرجعت بذلك ثانية على بيتها الخاص وجمعت إليها ولديها "هورتنس" و"أيوجين" وكانت محاطة بأصدقائها المخلصين، وصفت لها الأيام وسالمتها الليالي رويدا، وحدث ذات يوم أنها دعت ابنها على غرفتها وأعطته صورة أبيه المقتول وقالت له: خذ هذه يا ولدي إلى غرفتك واجعلها غاية تأملك، ونموذج حياتك الدائم فإن صاحبها كان أول محبوب بين الناس، ولو بقي حيا لكان أحسن والد، فأخذ "أيوجين" الصورة من أمه وخرج وهو يقبلها والدموع تتساقط من عينيه، ثم عاد في المساء على والدته وبصحبته ستة من أصدقائه وقد وضعوا على أعناقهم شرائط بيضا وسودا على مثال صورة "بواهرني" فنظر "أيوجين" إلى أمه وقال: انظري يا أماه، إلى مؤسسي نظام جديد في الفراسة وهذا قديسنا الحافظ لنا وأشار على صورة والده وهؤلاء هم أعضاؤها الأولون.
ثم عرفها بكل منهم وقال: إن اسم هذا النظام نظام المحبة البنوية فإذا كنت تحبين أن تكوني شاهدة على افتتاحها فادخلي المجلس الصغير مع هؤلاء الشبان، فدخلت "جوزفين" معهم وإذا جدران الغرفة مزينة تزيينا جميلا بأكاليل الورد والغار وكانوا قد أخذوا نسق ذلك من مقالات ل "بواهرني" كانت قد طبعت قبلا، وكانت الغرفة مستنيرة أيضا بالشموع المضيئة. وفي أحد حيطانها مذبح كبير وعليه صورة "بواهرني" التي كانت بقدر جسمه تماما، وقد زين بالأزهار الجميلة، وعلق بإطار الصورة أكاليل معقودة من الورد الأبيض والأحمر وأمامها حنجوران من الطيوب.
ثم رتبوا أنفسهم حول المذبح بكل هدو واستلوا سيوفهم من أغمادها عند إبداء شارة معينة ثم تعاهدوا على محبة والديهم ومساعدة بعضهم بعضا، والمحاماة عن بلادهم. ولما فرغوا من معاهدة بعضهم بعضا تقدمت "جوزفين" غليهم ودموع الفرح من صنيعهم ممزوجة بالتبسمات الوالدية. ثم أخذت يد كل منهم وأظهرت فرحها بتأسيس هذه الجمعية.
وكانت "جوزفين" مع كل ما أصابها لا تزال على ما كانت عليه من اللطف والبشاشة، والنزاهة والفكاهة وذلك ما جذب كثيرين من الأصدقاء إليها، وكانت هيئات باريس الاجتماعية قد انقلبت من التقلبات السياسية
وقد ابتدأ ذاك في إقالتها من عثرتها، ولكنها انقسمت إلى دائرتين عظيمتين: الواحدة: مؤلفة من بقايا الأشراف الذين رجعوا إلى باريس وجمعوا بقايا عيالهم وأموالهم وعاشوا بالاقتصاد. والثانية: من التجار والصيارفة الذين حصلوا ثروة عظيمة في وسط زوابع الثورة.
وكانت نيران الحرب قد استعرت وقتئذ بين فرنسا وبقية دول أوربا إذا تحالفت جميع دول أوروبا على محاربة فرنسا واقتسامها فيما بينهم وذلك على تلك الحرب الأهلية التي أثارها الأهالي بسبب سوء سياسة جمعية اتفاق الأمة فحار رئيس الجمعية في أمره، ولكنه قال: أنا أعرف من القادر على المحاماة فهو ذلك الشاب الكورسيكي "نابوليون بونابرت" الذي طرد جيوش الإنكليز من "طولون" واسترجع المدينة.
فدعوا "نابوليون" على مواجهة الجمعية وكان بمدينة "فالنس" في بداية الثورة في رتبة قائم مقام. وكان حاد الطبع، قليل الكلام والحركة، كثير التفكير، شديد الميل على المطالعة. فلما دعته جمعية اتفاق الأمة أجاب الدعوة ومثل لديها. فسأله الرئيس إذا كان يقبل أن يأخذ على نفسه المحاماة عن البلاد فقال نعم. ثم سأله أنه كان يعلم عظم هذه الشيعة. فأجاب: إنه يعلم ذلك حق العلم فذاعت أخبار ذلك على البلاد على داخل باريس، وشهر الحرب على العصاة وأرجعهم على الطاعة، فذاع اسم "نابوليون بونابرت" في أطراف باريس وتحدثوا به وبأعماله في كل قصر، وبيت، وحانوت، وفي الأزقة، وعلى الطرقات. ولقبه البعض بمخلص "الكونفانيسيون" أي اتفاق الأمة، والبعض بعفريت الحرب.
وفي مساء يوم من الأيام كانت "جوزفين" في بيت أحد أصدقائها وبينما هي تنظر من نافذة إلى بعض أزهار البنفسج إذ دخل "نابوليون" ولم تكن تعرفه ولكن قد سمعت عنه إذ كانت شهرته قد ملأت الحاضرة، ولما دخل سر الجميع به وأحدقت العيون إليه فسلم على الجميع، ثم تقدم وأخذ مكانا بالقرب من "جوزفين" وجعلا يتحدثان في أمر المعركة الجندية التي جرت في أسواق باريس، وهذه كانت أول مواجهة بينهما ولم يمض على ذلك مدة قصيرة حتى أمر "نابوليون" بجمع كل الأسلحة من الأهالي وأخذ بالجملة سيف "بواهرني" فلما علم "أيوجين" بذلك ذهب من الغد إلى "نابوليون" وكان من العمر حينئذ اثنتا عشرة سنة وطلب منه استرجاع سيف والده فسر" نابليون" من جراءة الولد وحماسته وسمح له به في الحال، وأرادت "جوزفين" إظهار شكرها "لنابوليون" فذهبت إليه بنفسها وشكرته على ذلك فسر منها أضعاف سروره من الولد. ومن ثم صارا يلتقيان كثيرا ولم يخف عن "جوزفين" ميله إليها وحدثته نفسه من ذلك الوقت بالاقتران بها وأحبها حبا عظيما، وكانت هي المرأة الوحيدة التي أحبها في حياته، ولم يحل عن حبها مع كثرة ما طرأ عليه من الحوادث والغير.
أما "جوزفين" فكانت في ريب من أمر اقترانها به وقد قالت ذات مرة لبعض أصدقائها: إنها لم تر في زمانها إنسانا محبوبا مثله، وإنها شغفة بشجاعته وسعة اختياره، ولكنها لم تكن تحبه مقدار ما كان يحبها، بل كانت ترهبه وترتعد من ننظره إليها، وقد قالت مرة لإحدى صديقاتها: ألا تخاف امرأة جعلها "نابوليون" السرية الخفية التي لا يفهمها حتى مديرونا وكتبت مرة إلى أخرى تقول: قد تقضى شرخ شبابي وهل يوجد رجاء بعد في المطل لكثرة رغبة "نابوليون" في على غير استحقاق مني لها أولا يعيرني بما يكون قد احتمله من أجلي إذا كان يترك محبتي بعد اقتراننا، ماذا أصنع؟ وبماذا أجيب؟ اكتبي إلي حالا ولا تخافي أن توبخيني إذا وجدت أنني مخطئة وأنت تعرفين أن كل ما يخطه يراعك مقبول إن "باراس" أكد أني إذا اقترنت ب "نابوليون" يوليه
على إيطاليا فماذا تقولين عن هذا النجاح؟ انتهى.
وكانت عواصف الثورة قد خمدت وقتئذ ولكن أوروبا كلها كانت لم تزل شاهرة السلاح علة فرنسا، وكان الحكم غير ثابت والشرائع غير محترمة فوقف هذا القائد الحديث السن كل أيامه لمصلحة الجمهور، ولكنه كان يخصص كل مساء ل "جوزفين"، ولم يذق في أيامه شيئا من أفراح الشبان ومسراتها، لأن رغبته في حب الارتقاء غلبت على كل شيء ولكن لم يكن عنده مع كل ذلك شيء أسعد وأبهج من الساعات التي كان يقضيها وحده مع "جوزفين" إما بالأحاديث المفيدة، وإما بالمطالعة النافعة وكانت محبته لها ورغبته فيها تزداد يوما فيوما، ولم تكن صفات النساء في فرنسا وقتئذ تعد في منزلة عالية، وكان "نابوليون" قلما يحترم هذا الجنس ويقول:" إن كل النساء لا يقسن بجوزفين". وقد كان معتادا أن يرى في بيت "جوزفين" بعضا من الأصدقاء المخلصين الذين كانوا يحبونها محبة خالصة، ويرغبون في ترقية "نابوليون" إكراما لها.
أما "نابوليون" فكان ذا عواطف قوية ولكن حبه للارتقاء والارتفاع كان أقوى. وأما "جوزفين" فكانت قانعة بخلوص محبته لها وشدة غرامه بها وما زالا يظهران الحب والتودد لبعضهما حتى كان التاسع من آذار (مارس) سنة 1796 للميلاد فاقترن "نابوليون" ب "جوزفين".
وفي تلك الأثناء تولى "نابوليون" قيادة العساكر الفرنساوية في إيطاليا فترك عروسه بعد زفافه باثني عشر يوما، وأسرع إلى الجيش وكان كأنه لم يشعر بتعب ولا بجوع ولا نعاس وهو على ظهر جواده نهارا وليلا ولم يمض على توليته قيادة الجيش خمسة عشر يوما حتى أحرز الغلبة في ست وقائع وغنم إحدى وعشرين راية وخمسة وخمسين مدفعا، وعدة أماكن حصينة، وأغنى جهات أرض "بيارمونت"، وأسر خمسة عشر ألف أسير وقتل وجرح عشرة آلاف جندي، وطرد النمساويين من إيطاليا وأرجعهم إلى بلادهم فإن إيطاليا كانت في تلك الأيام مقسومة على عدة ممالك وولايات صغيرة مستقلة، أكثرها خاضع للنمسا ولما علمت "جوزفين" بانتصار زوجها أتت إليه لكي تشاركه في أفراحه فأخذ قصر "منتبلو" في "ميلان" مسكنا لهما فقضت "جوزفين" هناك عدة من الشهور في سعادة ورخاء، فكان لها كل معدات الثروة والغنى بعدما كانت أرملة فقيرة أصبحت زوجة قائد ظافر قد طبقت شهرته آفاق أوروبا وبعدما كانت أسيرة محكوما عليها بالموت وجدت نفسها محاطة بالأشراف والأمراء، وكان لها منزلة عالية في قلب كل ميلاني وقد قال "نابوليون" ذات مرة مشيرا إلى ذلك:"إنني تسلطت على الممالك وأما جوزفين فقد تسلطت على القلوب".
ولما أخضع "نابوليون" كل إيطاليا ضرب عليها الضرائب، ووضع لها النظامات الجمهورية وعقد العهود مع دولها وتقدم على محاربة النمسا في أراضيها فانتصر هناك أيضا انتصارا عظيما، وفتح أكثر مدنها، ثم طلبت دولة النمسا الصلح فعقد "نابوليون" معها صلحا عاد على فرنسا بالفوائد العميمة ثم قفل راجعا على باريس تاركا "جوزفين" وأولادها في "ميلان" لكي تحفظ له انقيادهم إليه بأنسها وبشاشتها، وحسن معاملتها. فكانت تدعوهم غالبا إلى بيتها وتفتح أنديتها لهم فعدها أهل "ميلان" ملكة بينهم وكثيرا ما كانت تتعب من أجلهم، ولكنها لم تكن تعبأ بالتعب إكراما لزوجها وحبا له، وكان "نابوليون" يكتب غليها يوميا وهي كذلك وقد قال في نهاية حياته:"إنه مديون لها في كل دقيقة سعيدة حصل عليها على وجه هذه البسيطة".
وكانت "جوزفين" في أثناء إقامة "نابوليون" بباريس تسهر على مصالح الجمهور وتجهد أيضا في المحافظة على مصلحة "نابوليون" وتؤيد سطوته، وكانت معجبة بتقدمه راغبة في ازدياد شوكته ومع أن حاشيتها كانت من الأمراء والأشراف، فإن العامي لم يشعر أنها بعيدة عنه ولا الفقير أنها لا تلتفت غليه، بل شعروا جميعا بقربها
منهم والتفاتها غليهم الفقير كالغني والصعلوك كالأمير، وكانت إذا صادفت صديقا أقام على صداقتها مدى العمر، والذي مكنها من ذلك قواها العقلية وخلوص محبتها وسهولة الاقتراب منها، ولولا مساعدتها ل "نابوليون" ما أوصلته بسالته إلى الدرجة التي وصل إليها فإنه لما كانت "جوزفين" رفيقته ومعينته كان ظافرا منصورا، ولما تركها كسر وخذل.
وأقامت "جوزفين" سنة ونصفا في ميلان"، ثم رجعت إلى فرنسا حيث " نابوليون" كانت حكومة "الديكرنوا" خائفة منه فأرادت أن تبعده عنها، فعرضت عليه أن يتقلد قيادة الأسطول المعين بغزو الأساكل الإنكليزية، فذهب "نابوليون" يتعهد أحوال تلك الأساكل، وقضى عشرة أيام ثم رجع على باريس وقال: "إن النجاح غير مؤكد".
ولكنه أبدى رأيا بفتح الديار المصرية والسورية لتكون بابا للهند ثم يتقدم إلى فتح الهند وطرد الإنكليز منها وتجنيد عساكر من الأهالي وجعل ضباطا من الأوروبيين عليهم، ففرحت الحكومة بهذا الرأي وأجابت طلبه حالا لا رغبة في فتح البلدان، بل في إبعاد "نابوليون" عن فرنسا متوقعين أن يهلك ويتخلصوا منه لأنهم أمسوا جميعا خائفين سطوته، فجهزت الحكومة له ثمانية وعشرين بارجة وأربعمائة سفينة لنقل مهمات الحرب وأربعين ألف جندي.
وفي صباح التاسع عشر من أيار (ماي) سنة 1798 م كان في ميناء "طولون" طالبا الديار الشرقية، وطانت "جوزفين" قد رافقته إلى "طولون" وقد رغبت كل الرغبة في الذهاب معه إلى مصر، ولكنه لم يسمح لها ووعدها إنه إذا نجح يبعث ليأخذها، ولما اقلعوا كانت "جوزفين" واقفة في شرفة البيت وعيناها مغرورقتان بالدموع محدقتان بذلك المنظر البهيج المحزن، ثم حولت عينها وتفرست في المركب الكبير الذي كان ينقل زوجها وابنها سائرا بهما وسط المخاطر، وصار المركب يبعد عنها ويصغر أكثر فأكثر حتى اختفى أخيرا بين مياه البحر المتوسط فدخلت غرفتها وشعرت بانفرادها ووحدتها وكان "نابوليون" قبل ذهابه على مصر قد عين "بلومبيا" مسكنا ل "جوزفين" ريثما يرسل في طلبها.
ولما رأت "جوزفين" أنها منفردة أرسلت فطلبت ابنتها من المدرسة لتقيم معها مدة بعدها عن زوجها وابنها، وكانت تأمل أنه حالما يفتح بلاد مصر ينجز وعده لها وينقلها على وادي النيل ولم يمض زمان طويل حتى كتب إليها بأن تتأهب للسفر فعما قريب تصل غليها البارجة المسماة "بومونا" لتعبر بها البحر المتوسط إلى مصر ولكن اتفق في صباح يوم من الأيام أنها كانت جالسة وإبرتها في يدها، وحولها عدد من السيدات صديقاتها وابنتها "هورتنس" فخرجت إحدى السيدات إلى الشرفة خارجا فأبصرت كلبا قريبا مارا في الزقاق ودعتهن ليرينه فتراكضن على الشرفة، ولما وصلن إليها هبطت بهن على الأرض وألقتهن جميعا، فاضطر كثير منهن إلى ملازمة الفراش مدة طويلة وفي جملتين "جوزفين" فإنه مضى عليها مدة أشهر ما أمكنها الخروج من البيت ولكن هذه الحادثة من عظمها كانت قد نجتها من أخرى أعظم منها فإن البارجة التي كان قد أرسلها "نابوليون" لتأخذها إلى مصر كانت قد أخذت في البحر وأرسلت إلى لندن.
فلما علم: نابوليون" بما وقع ل "جوزفين" وإنه لا يمكنها الحضور بعد إلى مصر كتب إليها بأن تشتري مسكنا خارجا عن باريس وتنتقل إليه وإنه إذا لم يعقه عائق يصل إليها قريبا، فاشترت "جوزفين" قصرا جميلا يبعد عشرة أميال عن باريس وخمسة أميال عن "فارساليا" اسمه "ملمازون" بمائة ألف ريال وأضافت إليه أراضي واسعة من كل الجهات وكانت مولعة به لكثرة ما يشرف عليه من المناظر الطبيعية ولما حضر "نابوليون" سر به هو أيضا وكان من أحب المساكن إليهما.
وفي أول فصل الخريف أخذت "جوزفين" تتعافى
مما أصاب فتركت "بلوم بيار" وأتت على "ملمازون" مع ابنتها وعدد من السيدات، وكان بيتها غاصا بالأشراف والأدباء، وكانت تكتب على "نابوليون" بكل ما يجري في القصر حتى الأحاديث التي تدور بينها وبين زوارها فيسر بأخبارها ويطلب منها أن تجتهد في توثيق رباطات المحبة والمودة بينه وبين أصدقائه القدماء، وأن تبذل جهدها في مصادقة آخرين غيرهم، وكان ل "جوزفين" تأثير عظيم في أعضاء "الديركتوار" وقد خلصت كثيرين من الضيق وردت إلى كثيرين آخرين الأملاك التي أخذت منهم، ولما رأى البعض تأثير "جوزفين" في "نابوليون" أرادوا أن يحولوا بينهما لغايات سياسية فاستعملوا لذلك نفس الأسباب التي كانت هي تستعملها لكي تكتسب له أصدقاء ونسبوا إليها الخفة والطيش، وكان لهؤلاء الأعداء تأثير عظيم في "نابوليون" فجعلوا يوسوسون في صدره ويهيجونه عليها فأثر كلامهم فيه لحدة مزاجه وقام من فوره فكتب إليها رسالة ضمنها قوارص الكلم فلما اطلعت "جوزفين" عليها تأثرت تأثرا عظيما، وقامت فكتبت إليه كتابا لطيفا رقيقا لم يسبق له نظير في الخلوص والرقة، وكانت محبتها وصفاء قلبها يظهران في خلال كل سطر من سطوره، ولكن حجزت هذه الرسالة بمساعي المحتالين فلم تصل على "نابوليون" وكانت المراكب الإنكليزية وقتئذ مراقبة لفرنسا وقد منعت كل مراسلة بينها وبين الجيوش في مصر.
وكانت كل يوم تصل إلى "جوزفين" أخبار سيئة عن أحوال الجيوش في مصر، ومرة وصل إليها خبر أن زوجها مات فاشتغل بالها وأمست في قلق وبلبال، وقد كانت تخاف دائما أن زوجها ربما يترك محبتها بعد رجوعه محمولا على ذلك بسعي المفسدين والوشاة، ولكنها لم تزل تبذل غاية جهدها في كل ما يؤل إلى خيره ونجاحه ومع أن قلبها كان تعبا وخاطرها مكسورا.
كانت تفعل كل ما تقدر عليه لكي تظهر البشاشة للجميع حسب عاداتها، وكانت تسلي نفسها بالأزهار والرياحين فتقضي جانبا من وقتها مع ابنتها "هورتنس" في الحديقة ومعولها ومرشتها في يدها، ثم كانت تقضي جانبا كبيرا من وقتها في زيارة بيوت الفلاحين حواليها، وكان كفها دائما مفتوحا لسد عوز المحتاجين، فتتصدق عليهم وتفرح لأفراحهم، وتحزن لأحزانهم.
ولما توجت إمبرطورة على فرنسا ابتهج هؤلاء الفلاحون ابتهاجا عظيما ودعوا لها بطول البقاء، وحسبوها من أجدر النساء بهذا المقام وهكذا قضت "جوزفين" عدة أشهر بعضها في الجولان بين هؤلاء الفلاحين وبعضها في القصر بين الأشراف والأمراء في انتظار استماع الأخبار من " نابوليون".
وفي ذلك الوقت ابتدأت سنة 1799 ميلادية فلاح أنها من بدأتها سنة شؤم على فرنسا فإن الفرنساويين كانوا قد تعبوا من مظالم الثورة وكانت حركة الأشغال واقفة، والجوع عاما في البلاد، وكان النمساويون قد دخلوا إيطاليا ثانية، وأوقعوا بالفرنساويين من كل جانب، وكانت الصلات بين الجيوش في مصر وبين فرنسا مقطوعة وأخبار موت "نابوليون" ذائعة في كل البلاد، وأما حكومة "الديركتوار" فكانت مؤلفة وقتئذ من خمسة قد نشأوا في غصون الثورة من بين عامة الناس واستلموا زمام الحكم وكانوا قساة ظالمين لا يعرفون شيئا من العدل والإنصاف، وكان الشعب قد سئم منهم وكره الاستمرار على هذه الحالة وتمنى مد يد قوية لإصلاح الأحوال السياسية وإرجاع الحكم والنظام إلى البلاد.
وفي المساء التاسع من تشرين الثاني (أكتوبر) من تلك السنة دعا رئيس "الديركتوار" إلى بيته أكابر باريس ووجهاءها، وكانت "جوزفين" في جملة المدعوين وبينما هم جالسون على المائدة عند نصف الليل إذ وصلت رسالة برقية إلى الرئيس حاوية أخبار وصول "نابوليون" إلى "فريجي"(وهي مدينة صغيرة على شاطئ البحر المتوسط) فلما سمعت "جوزفين" ذلك
أسرعت إلى بيتها وركبت مركبها وسارت مسرعة لملاقاة زوجها، وكانت راغبة في الوصول إليه قبل أن يصل إليه الأعداء ويسمعوه التهم والوشايات الباطلة، فسارت نهارا وليلا بلا أكل ولا نوم حتى إذا وصلت إلى "ليون" أخبرت أن "نابوليون" ترك المدينة إلى باريس منذ يومين فساءها ذلك كثيرا، وجعلت تضرب أخماسا لأسداس وتقول:"ما عسى أن يقول الأعداء عني إذا وصل "نابوليون" إلى باريس ولم يجدني في البيت".
وكان من أخص هؤلاء الأعداء إخوة "نابوليون" ونساؤهم وذلك لما رأوا النجاح الذي وصل إليه "نابوليون" بتأثير "جوزفين" فيه زمام الأمور سيصبح في قبضة يده عما قريب ويكون هو الحاكم المطلق حسدوه وحاولوا أن يقفوا في سبيله فلم يجدوا سوى إلقاء البغض والفساد بينه وبين "جوزفين"، ولما وصل إلى باريس في العاشر من تشرين الثاني (أكتوبر) اجتمعوا حواليه وصاروا يشكون إليه أعمال "جوزفين" وينسبون غليها الخفة والطيش والإسراف وعدم الافتكار به وغير ذلك.
فلما سمع "نابوليون" ذلك هاج غضبه وقال بصوت عال" "إنني لأطلقنها". فالتفت غليه أحد الحضور وقال له: الآن تأتيك معتذرة بلسانها الفصيح وكلامها العذب فتصفح عنها وتعودان على ما كنتما عليه. فأجاب: نابوليون" وهو يتمشى في الغرفة ذهابا وإيابا: "لن أصفح عنها وأنت تعرفني ولولا خوف العاقبة لنزعت هذا القلب وألقيته في النار". وبمثل ذلك عزم "نابوليون" أن يلاقي "جوزفين" بعد غيابه عنها زهاء سنة ونصف من الزمان.
ولما كان اليوم الثالث من وصوله عند منتصف الليل وصلت "جوزفين" وكان "أيوجين" ينتظر وصولها بإفراغ صبر، ولما علم بذلك لاقاها إلى الدار السفلى، ثم صعد بها إلى القسم العلوي حيث كان مجتمع أهل البيت وكان "نابوليون" جالسا هناك مع أخيه يوسف فأخذت "جوزفين" ترتجف وهي صاعدة على السلم خوفا من "نابوليون"، ولما وصلت على الباب رآها "نابوليون" قبل أن تدخل الغرفة فالتفت إليها مغضبا وقال لها:"ارجعي حالا على ملمازون".
فلما سمعت "جوزفين" ذلك غابت عن الرشد وأوشكت أن تسقط إلى الأرض فأمسكها ابنها وذهب بها على غرفتها وهو في حال الكدر الشديد، ولم يمض ربع ساعة حتى سمع صوت "أيوجين" وأمه وأخته نازلين على السلم قاصدين الذهاب جميعا إلى "ملمازون" فلما شعر "نابوليون" بنزولهم أسرع من غرفته وصار يكلم "أيوجين" ويلح عليه بالرجوع وهو لم يكن متوقعا هذه الطاعة الغريبة في "جوزفين" وكان قلبه لم يزل يحبها وطلب رجوعها، ولما وجدها تاركة البيت وذاهبة أراد إرجاعها، ولكن أنفته منعته من أن يدعوها صريحا ويرجعها، فصار يكلم "أيوجين" ويلح عليه بالرجوع حتى اضطر ان يرجع بأمه وأخته، ولما رجعوا لم يكلم أحد منهم الآخر بل دخلت "جوزفين" غرفتها وطرحت نفسها علة مقعد كان فيها ودخل "نابوليون" غرفته أيضا وبقيا يومين لم ير أحدهما الآخر وأخذت محبة "نابوليون" ل "جوزفين" ترجع تدريجا في هذه المدة، من مائدة ورسائل "نابوليون" المرسلة إليها مفتوحة أمامها على المائدة، فلما دخل "نابوليون" وقف هنيهة ثم نادى بصوت خفيف:"يا جوزفين". فرفعت "جوزفين" رأسها وقد غسل الدمع وجهها وأجابت بصوت كئب، ونغمة حنونة جرحت قلبه ولم ينسها كل أيام حياته فمد يده إليها ومدت يدها إليه ثم حنت رأسها عليه وبكت بكاء شديدا وقضيا بضعة ساعات في إيضاح الأمور وإزالة الشكوك، ومن ثم عادت ثقة "نابوليون" الأولي ب "جوزفين ولم يعد شيء يغيره عنها.
وكان "نابوليون" و"جوزفين" مقيمين وقتئذ في "دي شنتراين"، وكانت أنديتهما دائما غاصة بالقواد والأدباء والأشراف -شأن أندية الملوك والعظماء- وهم يتباحثون في أحوال البلاد وكيفية إصلاحها ويقولون: إنه
لا رجاء لفرنسا غلا إذا مد "نابوليون" يده.
ولم يمض شهر على رجوعه إلى باريس حتى انقلبت سياسة فرنسا وأبدلت الحكومة المديرية بالقنصلية وكانت الحكومة القنصلية مؤلفة من ثلاثة قناصل وخمس وعشرين عضوا و"نابوليون" أحد هؤلاء الثلاثة قناصل ورئيسهم أيضا، ولما أخذ "نابوليون" على نفسه عهد هذه الخدمة التي دعي إليها لم يفه لأحد ألبتة بذلك حتى ذهب أولا إلى "جوزفين" القوي في أهالي باريس مدة غياب "نابوليون" في مصر، وقد شعر نابوليون" نفسه بعظم مساعدة "جوزفين" له في هذا فشكرها على ذلك.
وفي غد ذلك نقل "نابوليون" و"جوزفين" من "دي شنتراين" إلى "لوكزمبرج" وكان هذا القصر عتبة "التوبلمري". وفي صباح التاسع عشر من شباط (فبراير) سنة 1800 م انتقل "نابوليون" إلى التوبلري" بموكب عظيم كان انتقاله إليه تبوأه تخت ملك فرنسا. وفي مساء ذلك اليوم نفسه انتقلت "جوزفين" أيضا في مركب خاص بها، ولما وصلت إلى "التوبلري" وجدت زوجها بين سفراء الدول وعظماء المملكة وأشرافها فدخلت عليهم، وعرفها بهم فتلقاها الجميع بإجلال واحترام يلقيان بملكة وأشرافها عظيمة الشأن، وكان ل "جوزفين" في ذلك الوقت نحو ثلاث وثلاثين سنة من العمر وقد زادتها هذه السنون حسنا وجمالا عوضا عن أن تذهب بنضارة صباها فإنها كانت معتدلة القوام، وضاحة الحسن، ذات عينين زرقاوين، ومحيا تقرأ عليه آيات اللطف والكمال وكأن ما جرى لها في حياتها من الأتعاب والأحزان قد زاد اختبارها لهذه الدنيا ووسع نطاق معارفها وثقف عقلها، وكانت قد بلغت أوج عزها وإيناع مجدها، وطارت شهرتها في أنحاء البلاد كما طارت شهرة "نابوليون" في ذلك الحين.
وكان رجال الثورة وقتئذ قد غيروا تقسيم الوقت إلى أسابيع، وأبطلوا حفظ الآحاد إلا أنهم جعلوا يوما واحدا من كل عشرة أيام للراحة من عناء الأعمال وكان "نابوليون" يقضي هذا اليوم هو و"جوزفين" في "ملمازون"، وقد كان من أسعد أيامهما لأنهما سئما من عيشة البلاط وازدحامه وكثرة تكلفاته ورسمياته، فإذا أتت ساعة رجوعهما إلى "التوبلمري" ذكر "نابوليون" ذلك ل "جوزفين" فتنهدا وكان النمساويون مدة غياب "نابوليون" في مصر قد رجعوا إلى إيطاليا وطردوا الفرنساويين من كل الأملاك التي كان "نابوليون" قد رفع فيها راية الجمهورية.
فلما حسن "نابوليون" أحوال البلاد الداخلية وجه أفكاره إلى الجيوش المهزومة التي كان قد أوصلها النمساويون إلى الألب فأخبر "جوزفين" بأفكاره وقال لها: إن ذهابه ضروري ولكنه لا يغيب طويلا فودعها في السابع من أيار (ماي) سنة 1800م في "التوبلمري" وفي الثاني من تموز (يوليو) عاد إليها ظافرا منصورا، فإنه كان في هذه المدة الوجيزة التي لم تزد على الشهرين قد طرد النمساويين وزينوا المدينة ليلة بعد أخرى وإظهارا لفرحهم وحبهم له كانوا حيثما يجدونه يتجمهرون ويدعون له بالنصر.
وكانت "جوزفين" قد قضت هذه المدة من غياب "نابوليون" في "ملمازون"، وكانت تكاتبه يوميا، وهو كذلك وكان كثيرا ما يكتب إليها وهو على ظهر جواده، وأحيانا وهو في ساحة القتال، وأحيانا كان يملي على كاتبه من وسط المعركة وطبول الحرب تقرع وجثث القتلى تتساقط فكان يكتب الكاتب الجمل الوجيزة التي يلقنه إياها، ويرسلها إلى "جوزفين".
فهذه الالتفاتات من "نابوليون" إلى "جوزفين" في مثل هذه
الأوقات الحرجة تمثل أبهج صورة من حسن معاملته إياها تؤكد سمو أخلاق "جوزفين" وآدابها وإلا لم يكن رجل نظير "نابوليون" يحسب الكتابة إليها يوميا فرضا واجبا عليه، وخصوصا في أحرج أوقاته، وقضيت "جوزفين" أكثر مدة غياب "نابوليون" في إصلاح الأشياء التي كانت تظن أن "نابوليون" يسر بإصلاحها، ولما رجع من الحرب صارا يقضيان جانبا من الوقت في "ملمازون" أكثر مما كانا يقضيان فيه قبلا وفتحا الأندية للزوار كما في "التوبلمري"، وكان لهذه الأوقات التي تقضي فيه شهرة عظيمة، وكانت من أبهج أوقاتهما وقد كانا يقضيان جانبا منها في بعض الملاهي والألعاب اللطيفة ويشاركهما في ذلك ولدا "جوزفين" وبعض الأصدقاء الخصوصيين من ملوك وملكات وأمراء وأشراف وغيرهم من القواد المشهورين والضباط المميزين. ولكن "جوزفين" لم تغفل في وسط هذه الأفراح واللذات عن مساعدة الذين كانوا يحتاجون على مساعدتها بل كانت تساعد كل من كان في طاقتها مساعدته، وخصصت جانبا معينا من دخلها لمساعدة المهاجرين وكانت أحيانا تتهم بالإسراف، وبعد تبؤ "نابوليون" القنصلية بقليل أمر برجوع المهاجرين إلى أوطانهم وبذل غاية جهده في إرجاع أملاكهم المحجوزة ولا شك أنه وجد صعوبات كثيرة من جهات بعض الأرامل والأيتام الذين كان لهم ما يكفيهم من المال وأصبحوا فقراء مساكين ليس لهم شيء فكانوا يأتون إلى "جوزفين" ويقصون عليها قصصهم المحزنة فتسعى إليهم وترثي لأحوالهم، وتمدهم بالمساعدة التي تمكنها، وكانت دائما تفي بوعدها معهم شأن الكريم.
وكان عمر "هورتنس" وقتئذ نحو ثمان عشرة سنة وعمر "لويس" أحد إخوة "نابوليون" أربعا وعشرين سنة فاتفق "نابوليون" و"جوزفين" على أن يزوجا "هورتنس" ب"لويس". وكان "لويس" شابا عالما كثير التأمل، قليل الكلام مثل أخيه "نابوليون"، وكان في كل شيء أشبه سائر إخوته به، ولما كان "نابوليون" في إيطاليا يحارب النمساويين تعرف "لويس" بقتاة من سلالة أحد الملوك القدماء فأحبها وتعلق قلبه بها، ولكن لما رجع "نابوليون" وعلم بذلك لم يسر به لأنه خاف أن اقترانهما ربما يضر به فأبعد "لويس" مع العساكر عن باريس ولم يسمح برجوعه حتى تزوجت الفتاة.
فلما رجع "لويس" وعلم أنها تزوجت تكدر كدرا عظيما ومن ثم تكدر صفو أوقاته ولم تعد الحياة تطيب له. أما "نابوليون" فشعر بهذا الجرح البالغ في قلب أخيه وكان دائما يجتهد في مرضاته، وأراد أن ينسيه تلك الفتاة، فعزم أن يزوجه ب "هورتنس" ولكن "لويس" لم يقبل ذلك -أولا- غير أنه قبل أخيرا، وكذا "هورتنس" لم ترغب من أول الأمر لأنها كانت تحب أحد القواد وكان من (أصدقائها) المقربين، وكان يتكل عليه أكثر من سائر القواد، ولكنها اغترت أخيرا بمواعيد رابها وقبلت أن يكون "لويس" بعلا لها، ولكنهما قضيا بعد اقترانهما حياة تعيسة إذ لم يكن أحدهما يحب الآخر وفي ساعة زفافهما لاحظ كل من الحاضرين أثر الغم على وجه من العروسين ولم تخف (بعدئذ) تعاستهما التي أدت إلى انفصال أحمدهما عن الآخر.
أما "جوزفين" فرافقت "نابوليون" في سنة 1802 م عند طوافه ببعض جهات المملكة ورافقته أيضا في ذهابه إلى "ليون" لأجل ملاقاة نواب إيطاليا، وكانت حيثما ذهبت تدهش الجميع أيضا في ذهابه إلى "ليون" لأجل ملاقاة نواب إيطاليا، وكانت حيثما ذهبت تدهش الجميع بمزاياها الطبيعية وتأثيرها في زوجها وفي كل من عرفها، ومن ثم رجعت هي و"نابوليون" على قصرهما المحبوب في "ملمازون" وقضيا هناك عدة أسابيع في أفراح وسور لا يوصف، ثم عاد إلى الجولان في أطراف المملكة الشمالية لاستطلاع أحوال تلك القطائع، وكان الشعب يستقبلهما بالفرح والترحاب في كل مكان، ويثنون على "نابوليون" مزيد الثناء لإخماد نيران الثورة، وإرجاع النظام إلى المملكة، وتوطيد السلام فيها. وكان حيثما توجه يشعر باستعداد
الشعب لتسليمه صولجان فرنسا في أقرب وقت، ولما رجع من سفره استلم قصر القديس "كلود" وكانت هذه خطوة أخرى إلى عرش "البوربون" فإن الشعب كان قد مل من سكينة الجمهورية، وأحب العودة إلى البهجة والأبهة الملكية فجدد هذا القصر وجعل "جوزفين" وأربع سيدات معها للقيام بواجباته، وحينئذ سمي "نابوليون" قنصل كل حياته.
وكانت "جوزفين" في ذلك الوقت باذلة غاية جهدها لتقنع "نابوليون" بوجود الله وبإرجاع الديانة المسيحية إلى البلاد لأن الكفر كان قد مد أعراقه في فرنسا و"جوزفين" نفسها لم تكن تعرف كثيرا من التعاليم الدينية، ولا كانت من ذوات التقى إلا أنها كانت قد رأت الكفر وتعاسة البلاد الناشئة عن رفض الديانة المسيحية والأتعاب الأهلية المسببة عن عدم اعتبار الزواج اعتبارا دينيا، وكانت تميز فضائل الدين المسيحي واقتداره على ردع الشعب عن عمل الشر وحملهم على عمل الخير، فاقتنع "نابوليون" بكلامها وأعلن إرجاع الديانة المسيحية على البلاد، وفي غد صدور الإعلانات أقيمت الاحتفالات الدينية المرة الأولى في كنيسة "نوتردام" وأرجعت الديانة المسيحية على المملكة، ولم يمض بعد ذلك مدة طويلة حتى كثرت الإشاعات في شأن تتويج "نابوليون" ملكا على فرنسا، وكان كثيرون راغبين في ذلك.
أما "جوزفين" فكانت ترتعد كلما سمعت ذلك، لأنها رأت احتياج "نابوليون" إلى ولد يخلفه إذا توج ملكا وكانت تسمع البعض يلحون عليه بأن يطلقها ويتزوج بغيرها من الأسرة الملكية قائلين: إن مصالح فرنسا تستلزم أن يكون له ابن يخلفه في الملك، وقد كانت متأكدة شدة محبة "نابوليون" لها إلا أنها كانت خائفة من إنفاذ هذا الأمر لأنها كانت قد عرفت أنه ليس لدى "نابوليون" تقدمة لا يمكنه تضحيتها لأجل مجده وتقدمه في هذه الدنيا.
وفي يوم من الأيام دخلت "جوزفين" غرفة زوجها فوجدته جالسا مع رجل آخر من أصحاب السياسة يتحدث معه في الأمور السياسية، فلما دخلت جلست قليلا، ثم قالت: إنها لا ترغب ألبتة في تتويج "نابوليون" ملكا بل تفضل بقاءه قنصلا كما هو. فضحك "نابوليون" وقال" "لماذا هذا الجنون يا جوزفين إلى متى تصدقين كلام هؤلاء العجائز".
وكان كلما قال أحد أمام "جوزفين" إنها ستكون إمبراطورة فرنسا عما قريب تجيب أنها مكتفية أن تكون امرأة القنصل "نابوليون" فقط.
وفي الثاني من (ماي) سنة 1804 م قرر المجلس القضائي أن "نابوليون" سيكون إمبراطور فرنسا وأرسل التقرير إلى كل جهات فرنسا، فوافق عليه أكثر من ثلاثة ملايين ونصف من الشعب ولم يزد عدد المضادين على ألفين وخمسمائة.
وفي غد تبوء "نابوليون" تخت إمبراطورية فرنسا صنع احتفالا عظيما في "التوبلمري" لكل العظماء والأشراف، وبرزت بينهم طجوزفين" في ذلك الاحتفال إمبراكورة لفرنسا، ولكن مخاوف بعض المتوحيات نزعت كل أفراح تلك الساعة منها، ولم تكد تتمالك إظهار غمها وحزنها، وذلك لأن المجلس قرر أيضا أن الإمبراطورية ستدوم في أسرة "نابوليون"، وقد حضر ذلك الاحتفال عدد عظيم من أكابر أوروبا وعظمائها فوجدت "جوزفين" نفسها حينئذ في درجة لم يصل إليها أعظم ملكات أوروبا، وكانت شهرة زوجها قد عمت كل أوروبا، وقوته قد فاقت أعظم ممالكها.
وفي الثاني من تشرين الثاني (أكتوبر) من السنة المذكورة حضر البابا من رومية لكي يتوجهما إمبراطورا وإمبراطورة على فرنسا في كنيسة "نوتردام" ولم يحصل على هذا الشرف أحد من ملوك أوروبا قبل "نابوليون" منذ عشرة قرون وكان الهواء في ذلك اليوم رائقا، والكنيسة
مزينة بأفخر الزين والعجلات أمامها تلمع بعدد خيولها الذهبية والأرجوانية، والقواد والأبطال في ثيابهم الرسمية الموشاة بالذهب.
ولما كان وقت التتويج دخلت "جوزفين" في حلة من الأطلس الأبيض موشاة بالذهب، وموشحة بالخرز الذهبي، ومزينة بالحجارة الكريمة، ومشمل من المخمل القرمزي مبطن بالأطلس الأبيض، وفرو القاقم على أكتافها حلي التتويج، تاجين، الواحد لأجل التتويج ولتضعه على رأسها في احتفالات المملكة الخصوصية فقط والآخر لأجل باقي الأوقات الرسمية، ومنطقة أيضا.
أما التاج الأول فكان له ثمانية فروع ذهبية، أربعة منها على شكل النحل، والأربعة الأخرى على شكل روق الريحان وكانت حجارة الألماس البرلنتية منثورة عليها كنقط الندى وقد أحاطت بها حلق ذهبية مرصعة بحجارة من الزمرد والجمشت والتاج الثاني كان مصنوعا من أربعة صفوف من اللؤلؤ ومفصلا لحجارة ألماس ومن الأمام عدة حجارة من ألماس بلغ وزن واحدة منها مائة وتسعة وأربعين قمحة، وكانت المنطقة من الذهب الأبريز وقد رصعت بتسعة وثلاثين حجرا من ألماس الفلمنكي الملون.
أما "نابوليون" فدخل في حلة من المخمل الأبيض موشاة بالذهب ومزرورة بحجارة ألماس وجبة ومشمل من المخمل القرمزي موشيين بالذهب ومرصعين بحجارة ألماس أيضا، وكانت المركبة المكلية على غاية ما يكون من الإتقان والجمال فإن ألواحها كانت من الزجاج النقي ويجرها ثمانية رؤوس خيل حمر الألوان. وكانت المسافة بين "التوبلمري" و"نوتردام" نحو ميل ونصف، وكان عشرة آلاف خيال في ثيابهم الرسمية ملازمين العجلات، وبلغ عدد الناظرين نصف مليون، إذ كانت النوافذ والسطوح وشرف البيوت المطلة على الطريق التي مر عليها الموكب غاصة بالوقوف، وكانت الموسيقى تصدح بألحانها المطربة، والمدافع تضرب في الهواء وعشرات الألوف من العساكر تهتف معاً. وكانت تلك الساعة مما لم يسبق لها مثيل في تاريخ العالم، وكان العرش في كنيسة "نوتردام" مغطى بأغطية من المخمل القرمزي وعليه مقعد من المخمل أيضاً يرقى إليه باثنين وعشرين درجة مستديرة، وكانت مغطاة بالجوخ الازرق ومحلاة بالخرز الذهبي، فجلس "نابوليون" بجانب "جوزفين" على العرش ووقف كبار القواد على الدرج ثم ابتدأ التتويج وطالت مدته أربع ساعات وكانت تتخلله الموسيقى العسكرية ولما أزف الوقت لأن يضع البابا التاج على رأس "نابوليون" أخذه بيده واقترب إلى "نابوليون"، وقبل أن يضعه على رأسه أخذه "نابوليون" من يده ووضعه هو نفسه على رأسه ثم نزعه عن رأسه ووضعه على رأس "جوزفين"، ثم نزعه عن رأسها حالاً لثقله ووضعه على مسند بجانبه وتوجها بآخر أصغر منه ثم جثت "جوزفين" والتاج على رأسها ويداها مكتوفان وصلت لله والتفتت إلى زوجها التفاتة عبرت عن شكرها ومحبتها له، وبقي "نابوليون" يتذكر هذه الالتفاتة كل أيامه.
ولما تم التتويج وأزف وقت الانصراف ارتجل "نابوليون" خطبة تناسب المقام ذكر فيها أن نسله سيجلس على هذا العرش من بعده فأثر هذا الكلام تأثيرا عظيما في "جوزفين" ونشب كحربة في قلبها خصوصا لما تعهده في "نابوليون" والشعب الفرنساوي أيضا من الرغبة في أن يكون له ولد ولما عادت إلى "التوبلمري" كان الليل قد أرخى سدوله وأسواق المدينة مزينة بالأنوار و"التوبلمري" يتلألأ بها أيضا، ودخلت "جوزفين" مخدعها وجثت على ركبتيها وطلبت الإرشاد من ملك الملوك والدموع منسجمة على خديها.
أما أهالي باريس فخصصوا الشهر الأول من تتويج "نابوليون" و"جوزفين" بكل أنواع الأفراح والملاهي
العمومية وكانت المدينة تزين كل ليلة بالأنوار. وفي صباح أحد الأيام دخلت "جوزفين" إحدى غرفها فوجدت ناصلة ذهبية مع كل أدواتها وكانت من الذهب أيضا وقد أهداها إليها مجلس بلدية باريس.
وفي مساء تتويجها أطلق الشعب منطادا كبيرا في الجو مصنوعا على هيئة التاج الملكي، فبقي مدة ظاهرا فوق باريس ثم سار نحوالجنوب.
وفي مساء اليوم التالي وقع في مدينة رومية -وهي تبعد مسافة تسعمائة ميل عن باريس- ثم حدث على أثر تتويج "نابوليون" أن مديري جمهورية إيطاليا كتبوا إلى "نابوليون" -وكان وقتئذ رئيسهم- يطلبون إليه أن يرافقهم على "ميلانو" ويتوج ملكا عليهم إذ كان هو المنقذ لهم من أيدي أعدائهم النمسويين، وكان من عوائد "نابوليون" السفر بغير أن يعلم أحدا من قبل، ففي مساء يوم من الأيام بعد عماد الابن الثاني لأخيه "لويس" أمر بإعداد الخيل للسفر إلى إيطاليا الساعة السادسة من الصباح فرافقته "جوزفين" في هذا السفر، وكانا حيثما يصلان يستقبلهما الشعب بالترحاب ويزين لهما المدن ويدعو لهما بالنصر، وكانت "جوزفين" حاصلة حينئذ على كل ما من شأنه أن يجعلهما أسعد البشر لولا أمر واد وهو عدم وجود ولد ل "نابوليون"، ولكنها لما وصلت إلى إيطاليا نسيت غمها وقضت هنالك عدة أيام بغبطة وهناء، وكان بينهما وبين البابا "بيوس السابع" صداقة قوية وقد رافقهما بنفسه إلى "تورين"، ولما افترق عنها أهدت إليه كاسا من فخار (سافراس) ومن "تورين" أخذها "نابوليون" إلى ساحة "مارنفو" حيث نشبت أعظم وقائعه وهناك لبس ثيابه الحربية ووقف في وسط ثلاثين ألف جندي ومثل لها واقعة القتال.
وفي الثامن من (ماي) سنة 1805م دخلا ميلانو، وكانت المدينة مزينة والفرح والطرب قائمين فيها. وفي السادس والعشرين من الشهر نفسه توج "نابوليون" ملكا على إيطاليا في كنيسة "ميلان" ولم يكن هذا الاحتفال أقل من الاحتفال في كنيسة "نوتردام" والذي زاد هذه الحفلة عظمة وأبهة أنه أخضر ل "نابوليون" -سوى التاج المعد لتتويجه- تاج "شارلمان" الحديدي ولم يكن هذا التاج قد علا رأس الملوك منذ أيام "شارلمان" من ألف سنة، وهنا أيضا كما في "نوتردام" لم يدع أحدا يضعه على رأسه بل وضعه هو بنفسه ثم توج "جوزفين" هو أيضا وأقاما مدة شهر في "ميلانو" وذهبا منها إلى "جنوى" ثم رجعا على باريس، وكان "نابوليون" قد أعطى "جوزفين" لائحة عن سفرهما وعن جميع الأماكن التي سيقفان فيها والخطب والأجوبة التي سيخطبها ويجيب بها، والهدايا التي كان يجب عليها تقديمها، والمبالغ التي يمكنها أن تنفقها، فكانت "جوزفين" تقضي قسما من كل صباح في درس هذه المثالات وقد أظهر "نابوليون" ل "جوزفين" في هذا السفر ما لا مزيد عليه من البشاشة والأنس، وكانا دائما مسرورين.
وذكرت "جوزفين" فيما بعد أن هذا السفر من أسر أسفارها مع "نابوليون"، وكانا حيثما يصلان يتلاقهما الشعب بالترحاب، ويقيم لهما الأفراح، ويولم الولائم. وبعد وصولهما إلى باريس بمدة وجيزة سمعا أن قصد "أيوجين" ابن "جوزفين" الاقتران بابنة ملك "بافاريا" فذهبا على "ميونخ" ليحضرا الزفاف فاجتمعت "جوزفين" بابنها وفرحت له بعروسه خصوصا لأنها كانت في كل شيء كما تشتهي، ثم رجعا من هناك إلى باريس مشيعين بجمهور كبير من أمراء "جرمانيا" وأميراتها، وكانت "جوزفين" وقتئذ في ذروة من المجد التي لا يمكن هذا العالم أن يمنحها لأحد من البشر فإن كل أوروبا كانت عند قدمي زوجها، وابنتها "هورنتس" كانت ملكة "هولاندا" وابنها "أيوجين" كان نائب ملك إيطاليا، وصهر ملك "بافاريا". وكان "نابوليون" قد نزع من فكره طلاقها وقرر أن ابن أخيه "لويس نابوليون الأكبر" سيكون وارث ملكه فزالت كل الارتباكات في ذلك الوقت من هذا القبيل، وكان "نابوليون" دائما معجبا ب "جوزفين" حتى كان يقول في غالب الأوقات "إنه لا نظير لها