الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضريح مجد، وأحيت هذه المرأة بكلامها وشجاعتها شجاعة زوجها فرفض الفرار وعاد إلى التفكير والتدبير، فتيسرت له وسائل إقناع الأقوام بخطئهم فأذعنوا إليه خاضعين وبخضوعهم ذل الآخرون فتمكنت الحكومة من قهرهم وراق الوقت للملك بوستينان بسبب مشورة هذه الفاضلة وحسن آرائها.
حرف الجيم
جان دارك
وتسمى "لابوسل" وتعرف بالسيدة "أوريان" هي فتاة فرنساوية كانت نقية البشرة، مهفهفة القوام، دعجاء العينين، ذات شعر فاحم مسترسل على كتفيها، يلوح على محياها الصبيح سيما الحياء واللطف والدعة، وتبدو من مخايلها أمارات مضاء العزيمة، وبعد الهمة، وثبات الجأش، ولطالما امتطت الفرس فسابقت عليه وهو غير مسرج ولا مشكوم جراءة وفروسية، وكانت ذات كلام بالغ بين الرشد وأفعال دائرة على محور الاستقامة والصلاح.
ولدت في "دومرمي" من مقاطعة "لورس" سنة 1411 للميلاد من راع يدعى "جان" وكان قد رباه الفقر وهذبه الدين، فنشأت كثيرة الهواجس الدينية، ولما بلغت الخمس سنوات أخذت ترى في هجعتها رؤيا علوية زاعمة أن الملائكة والأولياء تتجلى عليها بمظهر نوراني، فلما أنس أبوها منها ذلك أراها من القسوة والعنف ما حداها إلى الفرار والانطواء إلى أرملة من ربات الفنادق، فأقامت في خدمتها زمناً تبذل عندها من الإخلاص في السعي والإقدام في العمل والعفاف في المسلك ما تذكر به فتشكر، ثم عادت إلى أبيها زمان إذ كان فرنسا على شفا حفرة من النار والإنكليز يذيقونها من حروبهم ضريع الويل الممزوج بالشنار.
وكان قد مر بقريتها فريق من الأعداء فاكتسحوها واستافوا أموالها فاقتسموها وتركوها خاوية على عروشها يندبها لسان الخراب، ويأوي إلى أطلالها البوم والغراب، فصدع فؤادها الشفاف ذل قومها وبوارهم وانكسارهم للعدو المفضي إلى دمارهم، فعاودتها الأحلام والرؤيا وزعمت أنها مأمورة بالإلهام بإنقاذهم وبلادهم من الهلكة والمعرة، وانتشال قومها من هوة الحيف والمضرة.
وبعد تردد وإعمال روية سارت إلى "شارل" ملك فرنسا، وذلك في شهر شباط سنة 1429 ميلادية وكان عليها أن تقطع مسافة 150 فرسخاً في أقطار مشحونة بدبابة الإنكليز ومحفوفة بالمكاره والأهوال حتى تبلغ مدينة "لوزين" حيث يقيم الملك فتزيت بزي فارس وعلت جوادها بعد أن تقلدت حساماً بتاراً، واخترقت تلك المهامة حتى إذا أشرفت على مقر الملك بعثت تنبئه بقدومها وتخبره بأنها ستكون منقذة العرش ورافعة الحصار عن "أوليان" وأنها ستمهد سبيل تتويجه في "رام"، فلما قدم عليه البشير بذلك النبأ ابتسم ذرياً عن قلب مشحون بالغيظ، ثم استمر مع وزرائه في شأنها ثلاثة أيام، فكان فريق يسخر منها ويضحك عليها، وفريق يذود عنها ويرى إلقاء المقاليد إليها والملك بين ذلك من حزب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء حتى أسفر الرأي عن لقائها فلبس الملك ثياب أحد أتباعه وألبسه ثوبه الملكي اختباراً لأمرها، ثم أذن لها فجاءت تخترق صفوف الحشم والحاشية حتى وقفت بإزائه فانحنت جاثية لديه قائلة له: بلسان ذرب حييت وحبيت أيها الملك الحليم؟ فقال لها: أخطأت فإن الملك هو ذاك مشيراً إلى من ألبسه ثوبه فقالت: ما الملك إلا أنت وما أنت إلا الملك وإني لمأمورة أنا العذراء المسكينة من الروح الأمين بشد أزرك والدأب لأسباب نصرك وما على الرسول إلا البلاغ، فخلا بها الملك حيناً من الدهر ثم ناجى وزراءه فقال لهم: لقد أحاطت لعمر الله بما في سرائري وأدركت مما لا يدركه بعد الله إلا ضمائري وإني
لا أشك أن أكون من أمرها على ثقة ولكن لا بأس من التأني ريثما تمتحن.
ثم أتاها برهط من مهرة الأطباء وأساطنة العلماء وحاولوا أن يفقروها بمسائل مشكلات وغوامض حتى إذا أعيتهم الحيل وعادوا بالخيبة والفشل عززها الملك بكتيبة من خواص فرسانه فبرزت أمام الجيش شاكة السلاح، معتقلة بيدها رمحاً وبالأخرى راية وأخذت تعدو على جوادها متفننة في أنواعالفروسية حتى سحرت الناظرين فهتفوا ترحيباً بها واستحساناً لها وتعجباً منها.
ثم صارت بجيشها تنهب الأرض هملجة وخبباً حتى بلغت العسكر في "أورليان" وإذا بأرواح القوم تكاد تبلغ التراقي والعدو محيط بالمدينة إحاطة الهالة بالبدر وأهلها في شدة من ضيق الخناق، فأمرت بادئ بدأة بتطهير العسكر من عواهر النساء، وحضت الرجال على الاستمساك بالتقوى والاعتصام بالرجاء، ثم زحفت على البلد، فاستول ىالرعب على قلوب الإنكليز وقالوا: ما هذه بشر إن هي إلا ملك كريم، أو ساحر أثيم، وكانت ترتدي بحلة بيضاء وتركب جواداً أشهب وتنشر فوقها راية بيضاء فإذا بصر بها الإنكليز وهي في هذا الهندام فروا من أمامها كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة.
وما برحت تصدق الحملة وتتابعها وتبلي بالعدو البلاء الحسن وهي تتجرع من انحراف جيشها عنها وعدم انقياده لها أنواع الغصص واضروب الإحن حتى استتب لها الفوز فضعف الإنكليز واستكانوا وضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا فألجأوا إلى الجلاء على "أورليان" فكفوا عن حصارها في 18 أيار سنة 1429م، وانهزموا لا يلوون على شيء فسارت "جان دارك" إلى "بلوا" لتهنئ الملك بما أوتيه على يدها من النصر، وكان القرويون في تلك الأصقاع يتسابقون لمرآها، ويتزاحمون على لثم أقدامها وملس ثراها، فأكرم رجال البلاد وفادتها، ودعاها الملك إلى وليمة فأبت قائلة: إن الوقت وقت جهد وثبات لا وقت قصف ولذات، وإن الروح أنبأني بأن الموت قد دنا فتدلى حتى صار على قاب قوسين، وإنه لم يبق بيني وبينه أكثر من عامين فاذهب بحقك إلى "رام" حيثما أتوجك بيدي وبعد ذلك يفعل الله ما يشاء، وصارت أمامه بفصيلة من الجيش حتى إذا بلغت "جارجوا" اعترضها العدو فهاجمته، ورقت سلماً نصب لها على السور فرميت من أعلاه بما جند لها من الخندق، فصرعت، ولكنها أفاقت بعد قليل، وجعلت قائد الجيش يستثير حمية العساكر بكلام أرق من السحر وأفعل في الرؤوس من نشوة الخمر، وهي تعاني آلاماً مبرحة فدبت النخوة في صدور الرجال وحملوا حملة صادقة أذاقت العدو الأزرق بلاء أسود، وأرته من بريق النصل الأبيض موتاً أحمر، فاستولت على البلد عنوة بعد أن أسرت، ولما طار الخبر إلى الأمير "تلبوت" قائد الإنكليز العام أخلى سائر المدن وكر قافلاً إلى باريس وما برحت "جان دارك" آخذة في سيرها، وكلما عثرت بشرذمة فتكت بها حتى بلغت مدينة "رام"، وهناك تم تتويج "شارل" في 17 تموز سنة 1429م، وكانت "جان دارك" ممسكة بسيفه وعليها أثواب الكماة.
وبعد انقضاء الحفلة جثت عند قدميه وعانقتهما باكية ثم قالت: اليوم أكملت لكم نصركم وأنجزت كل ما وعدتكم فأطلقوا سراحي فأعود إلى أبي قريرة العين حيثما أرعى الماشية وأغزل الصوف جرياً على سنة بيت ربيت فيه، ونشأت عليه فامتنع الملك قائلاً: كيف أغادر من بها نجاة الزة وإليها يرجع أمر استتبات راحتها، وعليها يتوقف استكمال سعادتها، ذلك لأن الناس كانوا قد ازدادوا بها اعتقاداً وعلقوا على بسالتها وإقدامها آمالاً طوالاً حتى كانوا يرون حول رايتها أرواحاً من الفراش البراق، فساءها امتناع الملك وعرتها من تلك الساعة الكآبة والحزن وفارقها ذلك الرشد والنشاط، وذهبت عنها تلك الحمية والبسالة، وانقطعت عنها أحلامها الروحانية حتى أصبحت أعمالها رهينة الحيرة والفشل وأقوالها قرينة الوهم والركاك، وكانت تُرى أبداً حائرة النفس
دائمة البكاء.
ولما لم يُجدها الإلحاح نفعاً استعادت من معبد "رام" سلاحها وبرزت ثانية في زي الأبطال غير أن كبراء القادة وأمراء الجيش كانوا قد أشربوا بغضها وأضمروا لها الحسد والضغينة فصاروا يشنعون عليها ويسيئون معاملتها، ويغرون العساكر على نبذ طاعتها، ويلقبونها بالألقاب المستهجنة، ويتهمونها بهتك حجابها، ويفضحونها أمام العموم، فكانت تردهم أقبح الرد ولا تجالس إلا حرائر النساء ومصونات الأبكار، ولا تنام إلا مع امرأة تخفرها، فلم يجد أحد فيها محلاً للوم والقذف، ومع أنها جرحت جراحات لم يثبت كونها سفكت بيدها دم أحد، ثم أشارت على الملك بالشخوص إلى باريس ليستخلصها من يد الإنكليز فساروا و"جان دارك" سائرة في ركابه حتى إذا بلغها بعد شق الأنفس أمرها بالهجوم على "قويورسنت" أو ترى حيث يقيم الأعداء فأثخنت في تلك الواقعة جرحاً، وصرعت صرعات، ولما استعادت رشدها قامت فعلقت درعها وسألت الملك الانصراف فأبى ووعدها بإعفاء قريتها من الضرائب ومنحها رتبة جليلة، فعاودت الخدمة مرغمة.
وفي سنة 1430م انتدبها الملك إلى إجلاء الإنكليز عن "كوبيين" فسارت متدرعة بالإقدام بيد أنها لما أرادت الإيقاع بالحاضرين خذلها أتباعها فرميت بسهم، فصرعت واستسلمت إلى الأمير "فندوم". وذلك في 24 أيار سنة 1430م، فذاع خبر أسرها في تلك الأصقاع، وأقبل الناس لرؤيتها ثم بويعت للإنكليز وخذلها الملك "شارل" جاحداً جميلها، كافراً نعمتها، لؤماً منه وخسة أصل، وخاض الناس في حديثها، وكان أهل باريس يشدون عليها النكير، ويغرون الإنكليز على إتلافها، فلبثت مسجونة في قعلة "جان دولكسنبرغ" حتى أقيمت عليها الدعوى في 13 شباط سنة 1431م تحت رياسة "كوشون مترنه بوفه"من صنائع "هنري السادس" عامل الإنكليز فسيقت إلى المحكمة ست عشرة مرة أبدت في خلالها ثباتاً عجيباً، ودفاعاً مفحماً على أنهم حكموا أخيراً بأنها مبتدعة ساحرة وبأن تجازى بالحبس الأبدي مقصوراً قوتها على الخبز والماء، ثم أرغموها على الحلف بأن لا ترتدي بعد ذلك بلباس الرجال، ثم نصبوا لها شركاً بأن بدلوا ثيابها ليلاً بثياب رجل.
فلما أرادت ترك فراشها لم تجد سوى تلك الثياب، فلبستها مضطرة، فهوجمت وسيقت إلى الحاكم بهذا الزي فحكم بأنها حانثة تستحق الإحراق فقالت بثبات وجلال: إنني أستأنف حكمك إلى عرش الحكيم العظيم، ولكنها لما أخرجت إلى حيث استوقدت النار خارت قواها فأتت متأوهة، ولما حمي الوطيس ولعلع اللهيب فيه جعلت تدعو وتبتهل بلسان أبكى أعداءها، وحير الكردينال "بوفور" فحول وجهه عنها تألماً والدموع تنهدر من مآقيه كالسواقي وقد تم هذا المشهد الأثيم في 21 أيار 1430م في ساحة تسمى "موضع البكر"، وذرى رمادها بالهواء فوق نهر السين، ثم بعد عشرين عاماً نقض مطران باريس ومطران "رام" هذا الحكم وأثبتا براءتها.
وفي سنة 1820م أقيم لها تمثال في موطنها "دومرمي" وآخر في محل إحراقها "دون" ثم آخر في باريس وهو أجمل تماثيلها.
وفي سنة 1851م نصب لها أهل "أورليان" تمثالاً في مدينتهم وهم يعيدون تذكارها في 8 أيار في كل عام وقد عاب الرأي العام "فوليت" بقصيدته التي أودعها ذم "جان دارك" وتسويد صحيفتها بأنواع السب الظالم والقذف الغادر، ولكنه لا يستغرب ذلك ممن أوقف حياته على تقويض عمد الديانات، وتزييف أوليائها، وقد ألف كتبة الإفرنج بموضوع قصتها عدة روايات محزنة من النوع المعروف "بالتراجيدي" أي الفاجعة وهي مما يذيب تمثيلها القلوب ويشق المرائر فيا قاتل الله الإنسان إنه لكافر.
ليت السباع لنا كانت مجاورة
…
وليتنا لا نرى ممن نرى أحدا
إن السباع لتهدا عن فرائسها
…
والناس ليس بهاد شرهم أبدا