الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين نساء العالم".
أما هي فلم تكن تنسى المحتاجين والحزانى مع ما وصلت إليه من السلطنة والسؤدد، بل كانت دائما مستعدة لمساعدة كل من طلب مساعدتها سواء كان بمالها أو بكلامها حتى كانت تتهم أحيانا بالتبذير والإسراف، وكانت تحب مرافقة "نابوليون" في أسفاره، وهو أيضا كان يرغب مرافقتها لا، ها كانت الشخص الوحيد الذي يوثق به، ومرة وعدها بمرافقته في إحدى سفراته ولكن الأحوال أحوجته إلى الذهاب سرا فأمر بإعداد لوازم السفر.
وفي الساعة الأولى بعد نصف الليل وهو الوقت الذي ظن أن "جوزفين" تكون فيه مستغرقة في النوم قصد الذهاب، ولكنه لم يصل إلى العجلة حتى كانت "جوزفين" بين يديه، فأمر بإعداد لوازمها في الحال وذهبا معا إلى إسبانيا، فأخضع "نابوليون" إسبانيا تحت طاعته وملأها من العساكر الفرنسوية وولى أخاه "لويس" عليها، ثم قفل راجعا على فرنسا، ولكن لم يلبث طويلا حتى أتته الاخبار أن الإسبانيين طردوا أخاه من العاصمة بمساعي الإنكليز وقتلوا كثيرين من الفرنسويين القاطنين هناك. فرجع مسرعا إلى إسبانيا وفي هذا الوقت أيضا طلبت "جوزفين" الإتيان معه، ولكنه لم يسمح لها ذلك بل دخل مدريد عاصمة البلاد وأرجع أخاه إلى مقامه وثبت حكمه فيها ورجع ثانيا إلى فرنسا.
وكانت آمال "نابوليون" و"جوزفين" في ذلك الوقت معلقة بالاير الصغير ابن "لويس" و"هورتنس"، وشاع في كل فرنسا وهولندا أنه سيكون صاحب الملك من بعد عمه
.
ولكن في ربيع سنة 1807م بينما كان "نابوليون" يحارب "بروسيا" وهو منتصر عليها انتصارا عظيما أصاب الولد داء الخناق ومات في ساعات قليلة وكان له من العمر خمس سنوات فحزنت "جوزفين" لفقده حزنا عظيما ورجعت إلى مخاوفها القديمة لأنها كانت تعرف "نابوليون" وتعرف رغبته في أن يكون له وارث يترك الملك له وكانت فرائصها ترتعد كلما افتكرت مرارة تلك الكأس التي كان لا بد لها من تجرعها، وقد بقيت مدة ثلاثة أيام منفردة في غرفتها بلا أكل ولا نوم، تسكب الدموع على عظم مصيبتها.
أما "نابوليون" فلما وصلت إليه هذه الأخبار المحزنة كان في أوج انتصاره إذ كان قد قهر جميع أعدائه وأخضع "بروسيا" تحت طاعته وكان جميع ملوك أوروبا مستعدين لإتمام أوامره، فلما سمع هذه الأخبار جلس ساكتا وارتفق بيده على وجهه، وسمع وهو في حزنه الشديد يقول لنفسه المرة بعد الأخرى:"لمن أترك كل هذا؟ " وكان يتنازع أفكاره عاملان قويان محبة "جوزفين" من جانب ومحبة المجد واشتهاء أن يكون له ولد يرث اسمه وشهرته من جانب آخر. وبقي مدة على هذه الحال ولا يذوق طعاما ولا يغمض له جفن، ولكن رغبته في كسب المجد واعتقاده أنه أوصل فرنسا إلى درجة لم تصل إليها مملكة على وجه الأرض فينبغي أن يخلف من يرثها من نسله جعلاه يضحي بكل سعادته وراحته ويفقد سلامة الذوق، ويحل قوى ربط المحبة وكانت "جوزفين" تعرف زوجها جيداً، فكانت بالخوف والرعب تنتظر قدومه وكانت تقضي أكثر أوقاتها بالنوح والبكاء، وكان أحيانا كثيرة يصدر في الجرائد كلاما في شأن طلاقها واقتران "نابوليون" بإحدى بنات الأسرة الملكية.
وفي تشرين الأول "أكتوبر" سنة 1807م رجع "نابوليون" من (فيينا) فسلم على "جوزفين" بمزيد اللطافة.
أما هي فلاحظت في الحال أنه كان قلقا في فكره، وأنه كان حينئذ يشتغل بهذه المسألة وكثيرا كان يجتمع بوزرائه سرا، فلاحظ رجال البلاط ذلك وكانوا قليلي الكلام، وكان "نابوليون" لا يكثر أن يلتفت إلى امرأته لأنه خاف أنه إذا التفت إلى التي أحبها هذا الحب العظيم يتغير فكره، وكانت "جوزفين" قلقة جدا من هذا القبيل ولكنها اجتهدت في اخفاء عواطفها، وكانت تلاحظ حركات "نابوليون" وسكناته، فترى في كل يوم أمرا جديدا يؤكد لها
ما كانت تخافه.
أما هو فكان يتجبنها ويبتعد عنها وقد قفل الباب الذي بين غرفته وغرفتها، وكانت قليلا ما يدخل مخدعها وإذا أراد ذلك قرع الباب كل ذلك ولم تكن جرت كلمة واحدة بينهما في هذا الشأن، وكانت "جوزفين" عندما تسمع وقع أقدام "نابوليون" ترتجف وتظن أنه آت إليها بالاخبار المخيفة. ولم تعد تقدر أن تصل من مكانها إلى الباب من غير أن تتمسك بالحائط أو بشيء آخر، ولكنه مضى كلا شهري تشرين الأول والثاني (أكتوبر ونوفمبر) ولم يكلم "نابوليون""جوزفين" بشيء من هذا القبيل مع أنه كان في المذاكرة مع وزرائه في أمر الزواج الجديد والأسرة التي يصاهرها فإنه يستصعب مفاتحتها بهذا الشأن، غير أن هذه الصعوبة لم تغير مقاصده الثانية البتة، وكانت شهرته وسلطته عظيمتين إلى حد أنه لم يوجد أسرة في أوربا لم تكن تحسب شرفا لها أن تعطي بناتها زوجة ل "نابوليون"، فأشار عليه وزرائه أولا أن يأخذ زوجة من أسرة "البربون" لأنهم افتكروا أنه إذا فعل ذلك يرضي حزب الملكية في فرنسا ويكون ملكه أثبت بهذه الواسطة.
ثم أشاروا عليه أن يأخذ سيدة سكسونية، ولكنهم ظنوا بعد طول التأمل أن يكون الأنسب أن يصاهر جلالة ملك "روسيا" ولكن بعد أن جرى كلام بين البلاطين في ذلك قر الرأي أن يأخذ "ماريا لويزا" ابنة إمبراطورة النمسا وكان في ذلك الوقت قد آن ل "نابوليون" أن يخبر "جوزفين" بما كان قاصدا أن يفعله، وكان في اليوم الأخير من تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1809 م دخل الإمبراطور والإمبراطورة لكي يتعشيا ولم يدخل معهما أحد، وكانت "جوزفين" كل النهار في غرفتها تسكب الدموع بغزارة كأنها عرفت أن ذلك اليوم كان يومها المحزن، ولكنها لما أتت ساعة العشاء غسلت عينيها ودخلت غرفة المائدة وبذلت غاية جهدها لكي تضبط نفسها عن البكاء، ولذلك لم تتجاسر أن تفتح فمها بكلمة واحدة.
أما "نابوليون" فكان تائها في بحر الأفكار ولم يكلمها بكلمة واحدة فكان حول تلك المائدة حينئذ سكوت تام ولم يذق أحدهما شيئا بل كانت أنواع الطعام تتبدل بغير أن تمس، وكان اصفرار الموت على وجه كل منهما، ولما انتهى تقديم العشاء صرف "نابوليون" الخدم، ثم نهض وأغلق الباب بيده على نفسه و"جوزفين" وحينئذ أتت تلك الدقيقة التي كان كل منهما هالعا منها، فاقترب "نابوليون" إلى "جوزفين" وأخذ يدها وقال لها بصوت منقطع:"يا جوزفين، يا عزيزتي جوزفين أنت تعلمين كيف أحببتك وإني لك وحدك شاكر على الدقائق القليلة التي بك عرفت فيها السعادة على الأرض، والآن أخبرك أن واجباتي أقوى من إرادتي، وأن عواطفي القوية نحوك يجب أن تخضع لمصلحة فرنسا".
فلما سمعت "جوزفين" ذلك خفق قلبها ونضب الدم في عروقها ووقعت على الأرض مغشيا عليها، فلما رأى "نابوليون" ذلك فتح حالا الباب ونادى من يساعده، فأتى إليه حالا عدد من الخدم من الغرفة المجاورة وكان هناك أيضا الكونت "بومون" فأومأ إليه "نابوليون" وهو مرتجف، ووجهه ممتقع بأن يأخذها على يده إلى غرفتها وأخذ هو مصباحا بيده وذهب أمامه، ولكن لما وصل إلى السلم سلم المصباح إلى أحد الخدم وساعد الكونت في حملها وكانت تقول في غشيتها:"آه لا يمكنك أن تفعل ذلك لأنك لا تحب قتلي".
ولما وصلا بها وضعاها على فراشها صرف "نابوليون" الكونت وقرع الجرس في طلب خادمتها الخصوصية وقضى الوقت بجانبها حتى أخذت تستفيق، ولما ظهر له أنها ابتدأت ترجع إلى نفسها تركها ومضى إلا أنه لم ينم طول ذلك الليل، بل كان يتمشى في غرفته ويأتي على باب غرفة "جوزفين" ويسأل الطبيب عن أحوالها، أما الطبيب فلم يفارقها كل ذلك الليل.
وفي مدة الأسبوعين الأولين بعد ذلك لم ير الواحد منهما إلا قليلا مما يتعلق بالآخر، واتفق أنه في تلك المدة كان
عيد التتويج ونصرة "أوسترليتز" الشهيرة فكانت المدينة في ذلك الوقت مشتعلة بالأنوار وصوت قرع الأجراس ملأ الفضاء وفي هذين الاحتفالين كانت "جوزفين" مضطرة أن تحضر أمام الشعب وكانت مؤكدة أن كل الملوك والأمراء الذين كانوا حينئذ في باريس عالمون بالإهانة المقبلة عليها، وكانت كل أصوات الطرب والابتهاج في مسامعها قرع أجراس حزن مؤذنة بمصيبتها، ومع ذلك فإنها بذلت جهدها في تسليتها لكي تظهر أمام الناس كعادتها غير أن اصفرار وجهها واغريراق عينيها بالدموع كانا ينبئان عما تحاول إخفاءه، وكانت ابنتها "هورتنس" دائما معها باذلة غاية جهدها في تسليتها وابنها "أيوجين" ترك إيطاليا وأتى باريس إليها، وبعد مواجهتها ذهب إلى "نابوليون" وطلب الاستعفاء من خدمته قائلا له: إن ابن التي ليست إمبراطورة لا يقدر أن يكون نائب الملك وأنا قصدي أن أتبع أمي في انحطاطها لأنه يجب الآن تعزية في أولادها.
أما "نابوليون" فلم يكن خلوا من العواطف بل تساقطت العبرات من عينيه وصار يكلم "أيوجين" بصوت مرتعش ويبين لزوم ذلك ويوضح له الأمور فتأثر "أيوجين" من كلامه، وأما أمه فطلبت منه أ، يبقى في خدمة "نابوليون" ويبقى من أصدقائه المخلصين كما كان أولا.
وفي الخامس عشر من كانون الأول سنة 1809 م جمع "نابوليون" جميع الملوك والأمراء من أسرة الإمبراطورة وأكثر القواد المشهورين في منتدى "التوبلمري" العظيم حتى يقص عليهم خبر انفصاله من "جوزفين" وكان كل واحد من الحاضرين منذهلا من غرابة هذا الاجتماع فنهض "نابوليون" في أثناء ذلك وخاطبهم قائلا:
"أن مصالحي السياسية ورغبة شعبي الذي كان دائما يدرب أعمالي تستدعي أن يكون لي وارث يرث محبتي للشعب الذي وضعتني العناية عليه. وقد مضى علي عدة سنوات مع الإمبراطورة "جوزفين" حتى قطعت الأمل من أن يكون لي أولا منها، وهذا هو الداعي الذي حملني على التضحية بأشد عواطف قلبي ومراعاة مصالح رعيتي وطلب انفصالنا. وقد بلغت الآن الأربعين من العمر وآمل أ، أعيش طويلا بعد وأن أحتضن في أفكاري الأولاد الذين تسر العناية بأن تباركني بهم، والله وحده يعلم كم كلفت قلبي هذا المقصد ولكن ليس من أمر مهما كان عزيزا علي إلا وأنا أضحيه طائعا مختارا لمصلحة فرنسا، وليس لي سبب أشكو منه ولا شيء أقوله سوى مدح محبة امرأتي المحبوبة وحنوها، فإنها زينت خمس عشرة سنة من حياتي فيبقى ذكرها منقوشا على صفحات قلبي إلى الأبد وأنا بيدي توجتها إمبراطورة ستبقى إمبراطورة في القلب والرتبة وأحب فوق كل ذلك أن لا تشك مطلقا بعواطفي من نحوها ولا تعتبرني إلا أعز صديق لها".
فأجابت "جوزفين" بصوت منقطع وعينين مغرورقتين بالدموع: "إني أجيب على آمال كلام الإمبراطور من جهة انفصالنا بالقبول لأن اجتماعنا كان حائلا دون مسيرة فرنسا بسبب عدم وجود من يسوس يوما ما هذا الشعب من نسل هذا الإنسان العظيم الذي أقامته العناية لكي يطفئ شرر الثورة المخيفة، ويرجع المذبح والعرش والهيئة الاجتماعية، ولكن هذا الانفصال لا يغير عواطف قلبي بل سيجد الإمبراطور في أحسن صديقة له، وأنا أعلم ماذا كلف هذا العمل السياسي قلب الإمبراطور، ولكن نحن الاثنان نفتخر بهذه التضحية التي ضحيناها لأجل خير المملكة، وأشعر أنين التعظيم والمجد بإيرادي بإعطائي أعظم برهان على محبتي".
هذا ما أظهرته "جوزفين" جهارا، وأما في الخفاء فإنها استسلمت للحزن والكآبة وقضت ستة أشهر بالبكاء والنحيب حتى قاربت العمى من شدة الحزن.
وفي اليوم المعين لإنهاء نظام الانفصال اجتمع المحفل ثانية في نادي الإمبراطور العظيم ليشهدوا تمام نظام الانفصال، فدخل الإمبراطور بحلته الرسمية واصفرار الموت على وجهه، وعلامات اليأس والقنوط تلوح عليه واستند إلى أحد الأعمدة مكتوف اليدين لا يفوه بكلمة وبقي برهة غائصا في بحور الافتكار كالصنم لا يبدي حراكا، وكان في وسط النادي مائدة جميلة وعليها كل أدوات الكتابة من الذهب الإبريز، أمامها كرسي أعد ل "جوزفين" وكان جميع الحاضرين صامتين لا يفوهون بكلمة وكلهم شاخص إلى المائدة وما عليها كأنهم ينظرون إلى مذبحة أو مشنقة معلقة، ففي وسط هذا فتح باب من جانب المنتدى، ودخلت منه "جوزفين" مستندة إلى يد ابنتها "هورتنس" واصفرار الموت يلوح على وجه كل منهما ولما دخلا غلب البكاء على "هورتنس" ولم تنفك عن ذلك كل مدة الاجتماع.
ولما دخلت "جوزفين" نهض الجميع إجلالا لها وتساقطت العبرات من عيونهم لشدة تأثرهم من منظرها. أما هي فتقدمت بحركاتها اللطيفة إلى المكان المعد لها، وارتفقت بيدها على وجهها وأصغت إلى قراءة نظام الانفصال والدموع تسكب من عينيها، وكان ابنها "أيوجين" جالسا على مقربة منها وبعد نهاية قراءة النظام حسمت "جوزفين" دموعها وانتصبت واقفة وأخذت على نفسها عهد الانفصال بصوتها الرائق العذب الاعتيادي، ثم جلست وأخذت قلما ووقعت اسمها بفك أمتن ربط المحبة والوداد التي لا يمكن للعقل البشري أن يتصورها، أو للقلب الإنساني أن يشعر بها، ثم استندت ثانية إلى يد ابنتها وخرجت من المكان أما "أيوجين" فوقع على الأرض مغمى عليه.
أما شدة ذلك اليوم وآلامه فلم تكن قد انتهت، بل كان على "جوزفين" وهي في وسط توهانها في بحور الأحزان ما كان آلم وأشد عذابا من الأول وهو وداع من كان زوجها الوداع الأخير، فانتظرت في غرفتها وهي حزينة القلب مكسورة الخاطر لا تفوه بكلمة، فلما حان الوقت أتى "نابوليون" إلى غرفته قلقا كئيبا بسبب ما جرى ورمى بنفسه على فراشه.
وفي الساعة نفسها فتح الباب الذي بين غرفته وغرفة "جوزفين" ودخلت هي منه وهي ترتجف وعيناها وارمتان من البكاء وشعرها مسدول على أكتافها وعلامات الحزن والغم الشديدين تلوح على وجهها فتقدمت إلى وسط الغرفة ودنت من سرير "نابوليون"، ثم وقفت بغتة وغطت وجهها بيديها وصارت تبكي بكاء شديدا، وكان ذلك لأنها افتكرت حينئذ أنه لا حق لها بعد في الدخول إلى غرفة "نابوليون" ولكن محبتها الشديدة له حالا تهيجت وأنستها كل ذلك، فتقدمت إليه وطرحت نفسها بجانبه وغمرته بيدها وصارت تدعوه باكية منتحبة، فتهيجت عواطف "نابوليون" وجعل يؤكد لها محبته الصحيحة الصادقة وهو يبكي وينتحب ويثبت لها أنه سيبقى كذلك إلى يوم موته واجتهد لكي يسليها ويعزي قلبها وبقيا على ذلك برهة من الوقت، ثم قامت "جوزفين" وودعت زوجها الذي أحبته كل هذه السنين الوداع الأخير وافترقت عنه إلى الأبد.
وفي اليوم الثاني ودعت "جوزفين" البلاط وأهله وفي الساعة الحادية عشرة اجتمع كل حاشية "التوبلمري" على أعلى السلالم وفي الشبابيك والمماشي ليروا افتراق سيدتهم المحبوبة التي كانت زينة ذلك القصر وبهجته، فنزلت على السلالم مغطاة بمنديل من قمة رأسها على قدمها والدموع ملء عينيها فصارت تلوح بمنديلها علامة الوداع للأصدقاء الباكين حولها إلى أن وصلت على الباب، وهناك وجدت عجلة مطبقة باستنظارها يجرها ستة من الخيول الجياد فدخلتها وسارت بها وتركت وراءها "التوبلمري" إلى الأبد.
أما محل إقامتها الجديد فكان قصر "ملمازون" الذي كانت تفضله على سائر قصور الإمبراطور، وكانت قد قضت فيه هي و"نابوليون" أسعد أوقاتها فإن "نابوليون" كان يعرف محبتها لهذا القصر وقد أعطاها إياه لكي تقضي فيه باقي حياتها، وكان قد أجرى عليها راتبا سنويا قدره ستة آلاف ريال وأبقى لها اسمها ومقامها هناك، ومكثت "جوزفين" عائشة كما يعيش الملوك وكانت محبوبة عند كل شعب فرنسا ومعتبرة ومكرمة عند كل أهالي أوروبا وكان "نابوليون" يزورها غالبا ويستشيرها في أعماله، وقد أدرك الناس أن الذي يريد أن يرضي الإمبراطور ويكون من المقربين إليه هو الذي يلتفت إلى "جوزفين" ويحسن معاملتها وإكرامها ومن ثم أصبح قصر "ملمازون" محل اجتماع كل أعضاء بلاط "نابوليون" يأتون إليه دائما بحللهم الرسمية الملوكية، وكانت تدعو منهم كل يوم عشرة أو اثني عشر نفسا ليفطروا معها صباحا.
وفي الساعة الحادية عشرة قبل الظهر كانت تمر أمام الجميع إلى غرفة المائدة يتبعها المدعون حسب رتبهم ومقامهم، وكانت تفرز اثنين منهم للجلوس عن يمينها وعن يسارها، ويقف وقت الطعام خمسة من الخدم وراءها وخادم واحد وراء كل من المدعوين، وسبعة أفواج من رتب مختلفة كانوا يخدمون على المائدة. أما مدة الفطور فلم تكن تزيد عن ثلاثة أرباع الساعة إلا فيما ندر وكانت تذهب بعد الفطور مع سيداتها وضيوفها إلى قاعة التحف.
أما أوقات "جوزفين" فكانت تقضي في أعمال الرحمة مع المساكين حواليها والمطالعة واستقبال أعضاء بلاط "نابوليون" فإن منتداها كان دائما غاصا بهم، وكان "نابوليون" دائما يزورها ويقضي عندها ساعات كثيرة يتمشى بها معها في الجنينة أو في محل آخر أخذا بيدها، وكان يفعل كل ما في وسعه كي يعوض لها عن معاملته السالفة، وعن الحزن والغم اللذين سببهما لها، وكان قلبه باقيا متعلقا بها ويحبها محبة شديدة، ومحبته واعتباره لها يزدادان يوما فيوما، وكانت "جوزفين" تقضي أوقاتها يوميا على وتيرة واحدة فتنزل في كل يوم الساعة العاشرة صباحا إلى قاعة الاستقبال وتستقبل زوارها الذين كانوا من أعيان باريس، وكانوا يشتغلون ببعض الأمور المسلية مثل الصور الجميلة والنقوش البديعة والتحف الغربية والذي كان لا يرغب في ذلك، يذهب مع "جوزفين" لاستماع تلاوة بعض الكتب المفيدة من الموكل على بيتها وكانوا يقضون الوقت في ذلك إلى الساعة الثانية بعد الظهر فتأتي إذ ذاك ثلاث عجلات يجر كلا منها أربعة من جياد الخيل فتركب "جوزفين واحدة منها وتذهب مع اثنتين من خادماتها الخصوصيات وبعض الأصدقاء وتقضي مقدار ساعتين من الزمان: أحيانا في التنزه، وأحيانا في الجولان بين سكان القرية والتحدث معهم، ثم ترجع في الساعة الرابعة إلى القصر ويذهب كل في طريقه ويفعل ما يشاء إلى الساعة السادسة بعد الظهر ساعة العشاء بالمؤانسة والألعاب المختلفة إلى الساعة الحادية عشرة وحينئذ كانت تقدم الحلواء والشاي، وبعد ذلك الانصراف.
وفي شهر آذار (مارس) سنة 1810 م وصلت "ماريا لويزا" إلى باريس وجرى احتفال إكليلها على "نابوليون" في "سنت كلود"، وكان حافلا جدا، وبعد الإكليل دوت باريس بأصوات الطرب فأخذ "نابوليون" عروسه إلى "التوبلمري" من حيث خرجت "جوزفين" منذ ثلاثة أشهر وكانت أصوات المدافع وقرع الأجراس وابتهالات الشعب ثقيلة جدا على قلب "جوزفين" واجتهدت في إخفاء حزنها وغمها، ولكن عبثا تفعل ذلك فإن اصفرار وجهها واغريراق عينيها لم يخفيا أمرها.
أما "نابوليون" فبقي يكاتبها ولم تمنع غيرة "ماريا لويزا" زيارته لها وبعد اقترانهما بأكثر من سنة ولد ملك لرومية. وفي نفس المساء الذي وصل هذا الخبر إلى "جوزفين" كتبت رسالة لطيفة إلى "نابوليون" تهنئه بالمولود وهذه خلاصتها: " سيدي، هل يمكن صوت امرأة ضعيفة أن يصل أذنيك في وسط التهاني الكثيرة الآتية إليك من كل جهات أوروبا ومدن فرنسا وأفراد جيشك، وهل تتنازل للإصغاء إلى التي طالما سلت أحزانك وخففت أوجاعك فتتكلم معك عن الفرح العظيم الذي به تحققت كل أمانيك أو تتجاسر التي ليست بعد امرأتك أن تهنئك بأنك صرت والدا. نعم سيدي، لا شك أن من القلب إلى القلب دليلا وأنا أعرف قلبك ولا أظلمك كما أنك أنت تعرف قلبي وأنني أقدر أن أحس معك كما أنك أنت الآن تحس معي ونحن الآن مشتركان بتلك المعاطفة التي تفوق كل شيء وإن كنا مفترقين.
كنت أشتهي أن أسمع منك أنت ميلاد ملك رومية، وليس من أصوات المدافع أو والي المقاطعة غير أني أعلم أن واجباتك الأولى هي للمملكة ولسفراء الدول الأجانب ولعائلتك، وعلى الخصوص للأميرة السعيدة التي بلغتك أمانيك. نعم، إنها لا تقدر أن تكون محبة لك أكثر مني ولكنها تمكنت من إتمام سعادتك أكثر مني إذ ولدت هذا الولد لفرنسا، ولذلك كان لها الحق الأول لعواطفك الأولى ولكل اعتنائك. وأما أنا فلم أكن إلا رفيقة لك في أيام الصعوبات، ولذلك فلا أطلب من فؤادك إلا مكانا بعيدا جدا عن المكان الذي تحله الإمبراطورة "لويزا" وغاية ما أؤمله الآن تأخذ قلمك وتتحادث قليلا مع أعز صديقة لك، ولكن ليس قبلما ينتهي سهرك بجانب سرير امرأتك، ولا قبلما تتعب من معانقة ولدك وها أنا ذا بالانتظار.
أما أنا فيعتذر علي الإبطاء في إخبارك بأني أفرح لفرحك أكثر من كل إنسان في العالم وأنت لا تشك في خلوص محبتي وصدق كلامي وأنا آسفة على شيء واحد وهو أني لم أفعل حتى الآن ما به الكفاية لأبين لك مقدار حبي لك، وأني لم أسمع شيئاً عن صحة الإمبراطورة سأتجاسر أن أتكل عليك يا سيدي بقدر أملي بك أن اسمع منك عن هذه الحادثة العظيمة التي حصلت دوام الاسم الشريف الذي أنت تمثله وأن "أيوجين" و"هورتنس" سيكتبان لي مفصلا عن ذلك، ولكني منك أشتهي أن أسمع إذا كان ابنك حسناً أو إذا كان يشبهك أو إذا كان يؤذن لي في رؤيته يوما ما، وبالاختصار إني انتظر منك ثقة غير محدودة وعلى ذلك سيدي لي حقوق بالنظر إلى محبتي غير المحدودة التي لا تتغير ما دمت حية".
فلما انتهت جوزفين من كتابة هذه الرسالة أرسلتها إلى "نابوليون" ولكنها لم تفتح الباب لترسل رسالتها حتى وقف أمامها رسول "نابوليون" وبيده رسالة منه يبشرها فيها بالمولود فأخذتها "جوزفين" منه وذهبت بها إلى غرفة منامها وبعد نصف ساعة رجعت إلى أصحابها وقد احمرت عيناها من البكاء ورسالة "نابوليون" في يدها ملطخة الدموع، فدفعت إلى رسول الإمبراطور رسالة أخرى كانت قد كتبتها جوابا للإمبراطور على رسالته وأعطته دبوسا من ألماس وألف ريال من الذهب علامة على اعتبارها قيمة البشرى التي حملها إليها، وبعد أن صرفت الرسول أخذت رسالة الإمبراطور وتلتها على أصحابها الحاضرين.
ولم ينقطع الإمبراطور بعد ذلك عن زيارة "جوزفين" بل كان يذهب إليها كالأول، ودبر طريقة تمكن بها من تقديم الولد على يديه لها حتى تراه، وكان ذلك في المضرب الملوكي قرب باريس وقد ذكرت "جوزفين" بعد ذلك في
إحدى رسائلها إلى "نابليون" أن تلك الدقيقة التي رأته فيها حاملا ولده على يديه كانت أسعد ما لاقته في حياتها لأنها كانت أوضح علامة أظهر فيها محبته الأكيدة لها.
أما الغرفة التي كانت منام "نابوليون" في "ملمازون" قبل انفصاله عن "جوزفين" فبقيت كما كانت، وكان مفتاحها مع "جوزفين" وكانت هي تذهب إليها يوميا وتنزع الغبار عن أداوتها وأثاثها ولم تسمح ألبته بتغيير شيء أو نقل شيء من مكانه، وكانت في ألو مدة إتيانها إلى "ملمازون" حزينة كئيبة، وعلامات الكدر والغم تلوح على وجهها على الدوام فأعطاها "نابوليون" قصر "نافار" كان حواليه منتزهات فسيحة تجري فيها الأنهار الصافية وتغرد في أشجارها الطيور الجميلة.
وكان هذا القصر أحد القصور الملكية وهو قائم في وسط غابة "إفري" الشهيرة وكان قد تعطل قليلاً في مدة الثورة فأعطى "نابوليون""جوزفين" 300 ألف ريال لترميمه وإصلاحه فرممته وأصلحته وحسنت فيه أشياء كثيرة حسب ذوقها حتى جعلته كجنة عدن، وصارت تفضله على "ملمازون" وبعد أن نقلت إليه بأيام قليلة كتبت إلى "نابوليون" الرسالة الآتية:"سيدي، تشرفت هذا الصباح برسالتك العزيزة التي كتبتها إلي مساء اليوم الذي تركت فيه "سنت كلود" وقد بادرت إلى إجابتك عما فيها من المواضيع اللطيفة الحبية. والحق أن هذه المواضيع تدهشني، ولكن ما أدهشني غير سرعتها، فإنه ليس لي هنا سوى خمسة عشر يوماً فتأكدت فيها أن محبتك لي تطلب تسليتي وتعزيتي حتى في الوقت الذي نحن فيه منفصلان الانفصال الذي كان لا بد منه لراحتنا كلينا ويقيني أن حسن اعتنائك بي والتفاتك إلي يتبعاني حيث كنت ويعزياني.
والآن لم يعد لي شيء أشتهيه بعد اختيار محبة كانت مشتركة وآلام محبة ليست بعد مشتركة، وبعد التمتع بكل السرور الممكن للقوة غير المتناهية أن تمنحه، وبعد أن نلت كل السعادة بنظري على الإنسان الذي أحبه فوق جميع الناس. نعم، إنني لا أشتهي شيئا سوى السكون والراحة وهكذا فإني الآن لا أرى أن لي شيئا من دواعي الحياة سوى عواطفي الحبية نحوك ومحبتك لأولادي والأمل أنه ربما يمكنني أن أفعل بعد شيئا من الخير يؤل على راحتك وسعادتك، لذلك لا تأسف معي لأني هنا بعيدة عن البلاط الذي يظهر أنك تظن أني أتحسر عليه فإني هنا في "نافار" محاطة بأحباء أعزاء وحرية لا تباع أميالي في الفنون وإني أجد نفسي أحسن مما لو كنت في أي مكان آخر.
وعندي هناك كثير للعمل لأني أرى حوالي علامات الخرائب التي أحدثتها الثورة الهائلة وسأبذل جهدي لأزيل آثارها من هذا البناء، كما أن سعادتك علمت الناس أن ينسوها، وإصلاح هذه الخرائب ومساعدة المساكين حولي يسراني أكثر من تملق سكان البلاط وما يظهرونه من التصنع والتكلف.
إني أخبرتك سابقا عن كل أعضاء هذا البيت ولكني لم أخبرك ما به الكفاية عن سيادة المطران "بورليايرفاني" كل يوم أتعلم منه أمورا جديدة تجعل اعتبار الإنسان الذي يقرن عمل الخير بالسيرة الممدوحة يعظم في عيني، وسأتكل عليه في توزيع صدقاتي في "إفري"، ولما كان هو سيوزعها على الفقراء كنت على ثقة أنها ستوزع على الجميع بالسواء.
سيدي، إني لا أقدر أن أقوم بالشكر الواجب لك لأجل الحرية التي متعتني بها في انتخاب أعضاء بيتي الذين يزيدون جميعا في بهجة عيشي البيتية، وليس ما يحسرني ألبتة سوى شيء واحد وهو رسمية اللباس هنا في
البرية إلى أن تقول، وإني الآن ألقب بشريفة ليس لأني توجت إمبراطورة لفرنسا بل لأني كنت مختارتك وليس لي قيمة من دون ذلك وحسبي هذا الفخر لتخليد اسمي أما زواري في هذه المدة المتأخرة فأكثر مما كانوا قبلا ويسرني منهم إعجاهم وافتخارهم ب "نابوليون" وبالجملة فإني أجد نفسي كأني في بيتي وأنا في وسط هذا الغاب، لا تنسى صاحبتك، واذكر لها أحيانا أنك حافظ لها جزءا من محبتك لتنتعش روحها به وكرر لها الكلام عن سعادتك، وتأكد أن مستقبلها سيكون مستقبل سلام كما أن الماضي كان مشؤوما بالأحزان والأكدار.
وقبل ذهاب "نابوليون" إلى ساحات "روسيا" المهلكة ذهب إلى "جوزفين" وقضى معها ساعتين من الزمان في الجنينة يحادثها بما كان أمامه، وكانت "جوزفين" تحذره من مباشرة هذا العمل الخطير، ولكن ثقته بالنجاح أقنعتها وجعلتها تسلم معه.
وفي الختام قبل يدها ونهض للذهاب فرافقته إلى العجلة ولكن لم يمض طويل من الزمن حتى رجع "نابوليون" من "موسكو" فوجد أن كل أوروبا متجندة عليه ومتقدمة نحو عاصمته فذهب في وسط هذه المخاطر إلى "جوزفين" وطلب مواجتها وكانت هذه المواجهة الأخيرة. وفي نهاية هذه الزيارة الأخيرة شخص إليها برهة ساكتا وعلامات الحزن على وجهه ثم قال: "يا جوزفين إني كنت سعيدا كأسعد الناس عاش على وجه الأرض، ولكني في هذه الساعة عندما أرى عواصف تتجمع فوق راسي ليس لي في كل هذا العالم الواسع أحد إلا أنت التي ألتفت إليها وأستريح".
وفي أعظم هذه الاضطرابات والانزعاجات الهائلة التي لم يسطر أعظم منها في تاريخ البشر كانت أفكار "نابوليون" دائما عند "جوزفين" رفيقة صباه، وكان يكتب إليها كل يوم تقريرا ويعلمها بالحوادث الجارية ويخبرها عن أحواله والرسائل التي كتبها إليها من مبادئ تلك الحروب، ومن ساحات القتال كانت ألطف وأرق ما كتب لها في حياته فإن المصائب والنكبات كانت قد دمثت أخلاقه حتى في تلك الأيام المضطربة عندما كان يحارب الجيوش الجرارة وكان عرشه آخذا في التقلقل تحت قدميه كانت رسالة من "جوزفين" تنعش روحه مهما كانت شواغله عظيمة.
أما الجيوش المتحالفة فكانت آخذة في الاقتراب من باريس وكانت "جوزفين" مهمومة مغمومة بسبب ما حل ب "نابوليون" وكانت هي وكل سيداتها في "ملمازون" يقضين أكثر أوقاتهم في إعداد خيوط الكتان للجرحى الذين ملأوا المستشفيات، وأخيرا لما اقتربت جيوش الدول المتحالفة من "ملمازون" وصار بقاء "جوزفين" هناك من الأمور الخطيرة ركبت عجلتها وسارت إلى "نافار" وذعرت من أصوات العساكر ثلاث مرات في طريقها إذ كانت على مسافة غير بعيدة منها، وبعد أن قطعت نحو ثلاثين ميلا من طريقها انكسرت عجلتها وفي نفس ذلك الوقت رأت أمامها عصبة من الخيالة أتت نحوها فظنتها من عساكر الأعداء، ومن شدة خوفها تركت عجلتها وصارت تركض مع سيداتها في الحقول وكان المطر يهطل حينئذ وعبد أن سرن مسافة أدركن غلطهن ووجدن أن هؤلاء الفرسان فرنسيون، وبعد أن أصلحت العجلة ركبت ثانية وهكذا حتى وصلت "جوزفين" بالسلامة إلى "نافار" وكانت ساكتة في معظم الطريق لا تفوه ببنت شفة.
وبعد أن أقامت عدة أيام في "نافار" قلقلة مضطربة البال تنتظر الأخبار عن "نابوليون" أرسل إليها الإمبراطور "إسكندر" إمبراطور الروس خفراء يحرسونها من الاعتداء عليها لأن مئات الألوف من العساكر كانت حينئذ منتشرة في كل تلك الجهات، وقد ألقت الرعب في قلوب سكان تلك النواحي.
وكانت جوزفين حينئذ مغمومة حزينة لما الم ب "نابوليون" كانت تقضي كل أوقاتها إما بالكلام عنه، وإما بتلاوة رسائله فإنه كان يكتب إليها بلا انقطاع ويخبرها بأحوال الحرب وبفراره من مكان إلى آخر، ولكن
كثيرا من هذه الرسائل لم يصل إليها لأن العساكر المحتلة التي كانت تمسكها عنها وآخر رسالة وصلت إليها قبل الأخيرة كانت من "بريان" يخبرها فيها بما جرى له وبالعصبة القليلة من العساكر الباقية له وأرسل في كتاب آخر يقول: "إني عندما أتذكر أيام شبابي وأقابل سلام تلك الأيام التي مرت علي بالأتعاب والمخاوف التي أتجرعها الآن أركه الحياة وقد سبق لي مرارا كثيرة أنني طلبت الموت بطرق مختلفة ولا يجب أن أخافه الآن وأنا أرى أن موتي الآن يكون بركة، ولكني أريد ثانية أن أرى جوزفين".
فلما وصلت هذه الرسالة إلى "جوزفين" لم تقطع الأمل من نجاح "نابوليون" بل أملت أن الإنسان الذي كان كيفما توجه يلاقي النصر والنجاح لا بد من أن يفوز أخيرا ولو كان حينئذ متقهقرا، وكان ذلك رجاءها إلى أن وصلت إليها الرسالة الآتية:"عزيزتي جوزفين -كتبت إليك في الثامن من هذا الشهر ولكن ربما لم يصل كتابي إليك. القتال قائم على ساق وقدم، وربما كان إبطاله ممكنا، وينبغي تجديد المفاوضات والمراسلات الآن، وقد دبرت كل أموري ولا شك أن هذه التذكرة تصل إليك ولا أحتاج أن أكرر ما ذكرت لك سابقا وقد رثيت وقتئذ لحالي، وأما الآن فإني أهنئ نفسي لأجلها. إن راسي وقلبي قد تخلصا من ثقل عظيم، سقطتي عظيمة، ولكن ربما تكون مفيدة - كما قال البعض- وسأبدل القلم بالسيف في تقهقري، وسيكون تاريخ ملكي غريبا. العلام إلى الآن لم يرني كما أنا ولكنني سأريهم نفسي تماما، ولكن ماذا فعل هؤلاء لي إنهم خانوني جميعا إلا "أيوجين" الذي يستحقك ويستحقني -والآن أستودعك الله يا عزيزتي جوزفين، سلمي كما أني أنا أيضا مسلم ولا تنسي الذي لا ينساك ولن ينساك مدى العمر أستودعك الله ثانية يا جوزفين".
فلما وصلت هذه الرسالة إلى "جوزفين" تكدرت كدرا عظيما وسكبت دموعا غزيرة حتى إذا سكن روعها قليلا قالت: "لا يجب أن أبقى هنا فإن حضوري لازم للإمبراطور. نعم، إن ذلك من واجبات "ماريا لويزا" أكثر مما هو من واجباتي ولكن الإمبراطور وحده ولا يجب أن أتخلى عنه. نعم، إنه كان في غنى في أوقات سعادته، وأما الآن فلا بد أن يكون في انتظاري".
ولما فرغت من هذا الكلام سكتت وتأملت قليلا، ثم التفتت إلى الموكل على بيتها وقالت له:"ربما أعوق الإمبراطور عن أعماله إذا ذهبت، وربما يضطر أن يغير مقاصده لأجلي، أنت ستقيم معي هنا حتى أستخبر من الملوك المتحالفين فإنهم سيحترمون المرا' التي كانت زوجة ل "نابوليون".
نعم، إن الملوك المتحالفين ذكروا "جوزفين" وعرفوها فإن سمو تصرفها عند طلاق "نابوليون" لها كان قد ملأ أوروبا حيرة واندهاشا، وقد كتب إليها الملوك المتحالفون يظهرون شعائر احترامهم وطلبوا منها أن ترجع إلى "ملمازون"، ووكلوا عددا وافرا من الحراس بوقايتها، ومن ذلك الوقت كان منتداها مزدحما بالملوك والأشراف الذين أتوا ليقدموا لها الاحترام على فضائلها الكثيرة، وأول من فعل ذلك كان الامبراطور "إسكندر" إمبراطور الروس، فإنه قال عند أول مواجهة لها:"يا سيدة إني كنت ملتهبا بنار الشوق لمعرفتك فإني من يوم دخلت فرنسا لم اسمع اسمك يذكر إلا بالبركة وقد سمعت خبر أعمالك الملائكية من أحقر البيوت إلى أعظم القصور ويسرني أن أقدم لجلالتك احترامات الجمهور التي أنا حاملها".
أما "ماريا لويزا" فلم تكن مفكرة إلا بنفسها وقد أبت أن تصحب "نابوليون" في انحطاطه، وأما "جوزفين" فكتبت إليه رسالة تقول فيها:
"إني أقدر أن أتصور الآن مقدار مصيبة انفكاك اتحادنا الذي فكته الشريعة وإني الآن أندب حظي ويشق علي أنني لست صديقة لك. ومن لا يحزن ويقطر قلبه دما عند حلول مصيبة هذا مقدارها. آه يا سيدي، حبذا لو كان بوسعي أن أطير غليك وأؤكد لك أن البعد لا يغير إلا ذوي العقول السخفية ولا يستطيع أن يلاشي محبة خالصة زادت المصائب قوتها. لقد أوشكت أن أترك فرنسا وأتبع خطواتك وأخصص لك بقايا حياة أنت زينتها لو كنت أعلم أني أنا الوحيدة التي ستتم واجباتها باتباعك لكنت أذهب على ذلك المكان الوحيد الذي فيه سعادتي وأسليك في وحدتك وتعاستك، قل كلمة واحدة وأنا أذهب حالا، وأما الآن فأستودعك الله يا سيدي لأني مهما زدت على ذلك قليلا جدا، وعواطفي بعد الآن لا تبرهن لك بالكلام بل بالعمل وأرجو أن تسلم بذلك لأنه ضروري".
وبعد كتابة هذه الرسالة بأيام قليلة تناول الإمبراطور "إسكندر" وبعض أصحاب الألقاب والرتب طعاماً مع "جوزفين" وفي أول المساء خرج الجميع بنور الشفق إلى خارج وخرجت "جوزفين" معهم، وكانت صحتها منحرفة بسبب الأحزان والأكدار فشعرت بزكام شديد وجعل يزداد يوما فيوما وتنحط معه صحتها وقوتها حتى حكم الطبيب بدنو أجلها، وكان ولداها "أيوجين" و"هورتنس" لا يفارقانها ليلا ولا نهارا، وأخبراها بكلام الطبيب فتلقت تلك البشرى بفرح وسرور وسألت حضور قسيس فحضر وأتم الفروض الدينية، ثم دخل عليها الإمبراطور "إسكندر" فرأى ولديها "أيوجين" و"هورتنس" جاثيين عند فراشها وقد غسلتهما الدموع فأومأت "جوزفين" إلى الإمبراطور أن يقرب منها، فلما اقترب قالت له ولأولادها:"كنت دائما أشتهي سعادة فرنسا وقد فلت كل ما في طاقتي لأجل ذلك وها أناذا أقول لكم في الدقيقة الأخيرة من حياتي أيها الحاضرون الآن إن امرأة "نابوليون الأول" لم تسبب مطلقا انسكاب دمعة واحدة من عين واحدة".
ثم طلبت صورة الإمبراطور، فلما أحضروها التفتت إليها وعلامات الرقة والمحبة تلوح على وجهها ثم أخذتها وقربتها إلى صدرها ووضعت يديها فوقها وصلت قائلة:"اللهم أحرس الإمبراطور مدة بقائه في صحراء هذه الدنيا واأسفاه إنه ارتكب غلطات فاحشة ولكنه لم يعوض عنها بآلام عظيمة، وأنت وحدك أيها الإله قد عرفت قلبه وعلمت أنه كان في نفسه أميال شديدة على صلاح أشياء كثيرة، فتنازل واصغ إلى تضرعي الأخير. واجعل هذه الصورة صورة زوجي تشهد أن رغبتي وصلاتي الأخيرة كانتا لأجله ولأجل أولادي".
وكان ضلك في التاسع والعشرين من شهر أيار (مايو) سنة 1814م، وكانت الشمس قد قاربت الغروب فألقت بعض أشعتها المذهبة من نوافذ غرفة "جوزفين" المفتوحة، وكان النسيم اللطيف يتلاعب بالأشجار والطيور تغرد فيها. وبين حفيف الأشجار وتغريد الأطيار القت "جوزفين عينيها على صورة "نابوليون" وأسلمت الروح، فلما رأى الإمبراطور "إسكندر" أنها قد فارقت الروح قال والدموع تتساقط من عينيه: "ليست بعد تلك المرأة التي سمتها فرنسا: "محبة الخير، وملاك الصلاح"، وكل هؤلاء الذين عرفوا "جوزفين" لا ينسونها فإنها ماتت وتركت الأسف الشديد لأولادها ولأصدقائها ومعارفها".
وبعد موتها بأربعة أيام احتفل بجنازتها، وكان ذلك في الثاني من حزيران (يونيو) عند الظهيرة فأخذوها