الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سفانة ابنة حاتم الطائي
كانت من أجود نساء العرب وأفصحهن مقالا وهي التي كانت سببا لنجاة قومها من الأسر من أيدي المسلمين أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن عدي بن حاتم كان يعادي النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث عليا إلى طيء فهرب عدي بأهله وولده ولحق بالشام وخلف أخته سفانة فأسرتها خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم قالت: هلك الوالد وغاب الوافد فإن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإن أبي كان سيد قومه يفك العاني ويقتل الجاني، ويحفظ، الجار، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر وما أتاه أحد في حاجة فرده خائبا أنا بنت حاتم الطائي فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(يا جارية، هذه صفات المؤمنين حقا لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق) . وقال فيها: (ارحموا عزيزا ذل وغنيا افتقر وعالما ضاع بين جهال) فأطلقها ومن عليها بقومها، فاستأذنته في الدعاء له فأذن لها، قال لأصحابه:(اسمعوا وعوا) فقالت: أصاب الله ببرك مواقعه ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا وجعلك سببا في ردها عليه، فلما أطلقها رجعت إلى قومها فأتت أخاها عديا وهو بدومة الجندل فقالت له: يا أخي ائت هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله فإني قد رأيت هديا ورأيا سيغلب أهل الغلبة، رأيت خصالا تعجبني، رأيته يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الصغير، ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه وإني أرى أن تلحق به فإنه بك نبيا فللسابق فضله وإن بك ملكا فلن تزل في عز اليمن.
فقد عدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وأسلمت أخته سفانة وكانت على جانب عظيم من الكرم وكان أبوها يعطيها الضريبة من إبله فتهبها وتعطيها الناس فقال لها أبوها: يا بنية، الكريمان إذا اجتمعا في المال أتلفاه فإما أن أعطي وتمسكي وإما أن أمسك وتعطي فإنه لا يبقى على هذا شيء. فقالت له: منك تعلمت مكارم الأخلاق.
سكينة ابنة الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
كانت سيدة نساء عصرها ومن أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن أخلاقا، تزوجها مصعب بن الزبير فهلك عنها، ثم تزوجها عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام فولدت له قريبا ومات عنها، ثم تزوجها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان وفارقها قبلا لدخول، ثم تزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان فأمره سليمان ابن عبد الملك بطلاقها ففعل. وقيل: في ترتيب أزواجها غير ذلك والطرة السكينية منسوبة إليها.
ولها نوادر وحكايات ظريفة مع الشعراء وغيرهم من ذلك أنها وقفت على عروة بن أذينة وكان من أعيان العلماء وكبار الصالحين وله أشعار رائقة فقالت له: أنت القائل:
قالت وأبثثتها سري وبحت به
…
قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلت لها
…
غطى هواك وما ألقي على بصري
قال: نعم، قالت: لم يخرج هذا من قلب سليم وفي كتاب (الأغاني) كان اسم سكينة أميمة. وقيل: أمينة، ولقبتها أمها الرباب بسكينة وفيها وفي أمها يقول الحسين بن علي:
لعمرك إنني لأحب دارا
…
تكون بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل جل مالي
…
وليس لعاتب عندي عتاب
وكانت سكينة تحب الهزل واللهو والطرب وهي من الحذق على جانب عظيم.
حكي أنها حضرت مأتما فيه بنت عثمان بن عفان فقالت بنت عثمان: أنا بنت الشهيد فسكتت سكينة حتى إذا أذن المؤذن وقال: أشهد أن محمدا رسولا لله، قالت لها سكينة: هذا أبي أم أبوك فقالت بنت عثمان: لا أفخر عليكم أبدا وكانت تجيء يوم الجمعة إلى المسجد فتقوم بإزاء ابن مطير فإذا شتم عليا شتمته هي وجواريها، فكان يأمر الحارث أن يضرب جواريها. وكانت سكينة عفيفة تجالس الأجلة من قريش وتجمع إليها الشعراء، وكانت ظريفة مزاحة، وكانت من أحسن الناس شعرا، وكانت تصفف جمتها تصفيها لم ير أحسن منه.
وحكي أنها أرسلت مرة إلى صاحب الشرط، إن دخل علينا شامي فابعث إلينا بالشرط، فركب وأتى، وأمرت بفتح الباب وخرجت جارية من جواريها وبيدها برغوث وقالت: هذا الشامي الذي شكوناه، فلما رأى الشرطي ذلك حصل هل الخجل وذهب هو ورجاله يخجله، وكانت قد اتخذت أشعب الطماع مسامرا لها ليمازحها وكانت تدر عليه العطايا وتنشرح لأخباره المضحكة. وقيل: إنها خرجت لها سعلة في أسفل عينها حتى كبرت ثم أخذت وجهها وعظم ما بها وكان دراقيس الطبيب منقطعا إليها وفي خدمتها فقالت له: إلا ترى ما وقعت فيه؟ فقال: أتصبرين على ما يمسك من اللم حتى أعالجك؟ قالت: نعم، فأضجعها وشق جلد وجهها وسلخ اللحم من تحته حتى ظهرت العروق وكان منها شيء تحت الحدقة فرفع الحدقة عنها حتى جعلها ناحية ثم سل عروق السلعة من تحتها وأخرجها ورد العين إلى موضعها وسكينة مضجعة لا تتحرك ولا تئن حتى فرغ وبرئت بعد ذلك وبقي أثر تلك الحزازة في مؤخر عينها.
وقيل: إنه اجتمع في ضيافة سكينة يوما جرير والفرزدق، وكثير عزة، وجميل صاحب بثينة، ونصيب فمكثوا أياما، ثم أذ1نت لهم فدخلوا فقعدت بحيث تراهم ولا يرونها وتسمع كلامهم، ثم خرجت جارية لها وضيئة قد روت الأشعار والأحاديث فقالت: أيكم الفرزدق؟ فقال لها: ها أنا ذا قالت: أنت القائل:
هما دلتاني من ثماني قامة
…
كما انحط باز أقتم الريش كاسرة
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا
…
أحي نرجي أم قتيل نحاذره
فقلت ارفعوا الأمراس لا يشعروا بنا
…
وأقبلت في أعجاز ليل أبادره
قال: نعم، قالت: فما دعاك إلى إفشاء السر؟ خذ هذه الألف دينار والحق بأهلك، ثم دخلت على مولاتها وخرجت فقالت: أيكم جرير؟ قال: ها أنا ذا، فقالت: أنت القائل:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
…
حين الزيارة فارجعي بسلام
تجري السواك على أغر كأنه
…
برد تحدر من متون غمام
لو كان عهدك كالذي حدثتنا
…
لوصلت ذاك وكان غير ذمام
إني أواصل من أردت وصاله
…
بحبال لا صلف ولا لوام
قال: نعم، قالت: أولا أخذت بيدها وقلت لها ما يقال لمثلها؟ أنت عفيف وفيك ضعف خذ هذه الألف والحق بأهلك. ثم دخلت على مولاتها وخرجت وقالت: أيكم كثير؟ قال: أنا: قالت: أنت القائل:
وأعجبني يا عز منك خلائق
…
كرام إذا عد الخلائق أربع
دنوك حتى يدفع الجاهل الصبا
…
ودفعك أسباب المنى حين يطمع
وإنك لا تدرين صبا مطلته
…
أيشتد إن لاقاك أو يتضرع
وإنك إن واصلت عملت بالذي
…
لديك فلم يوجد لك الدهر مطمع
قال: نعم، قالت: قد ملحت وشكلت خذ هذه الألف دينار واذهب لأهلك، ثم دخلت وخرجت وقالت: أيكم نصيب؟ قال: أنا، قالت: أنت القائل:
ولولا أن يقال صبا نصيب
…
لقلت بنفسي النشأ الصغار
بنفسي كل مهضوم حشاها
…
إذا ظلمت فليس لها انتصار
قال: نعم، قالت: ربيتنا صغارا ومدحتنا كبارا خذ هذه الألف دينا والحق بأهلك. ثم دخلت وخرجت فقالت لجميل: مولاتي تقرئك السلام وتقول لك: مازلت مشتاقة لرؤيتك منذ سمعت قولك:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
…
بوادي القرى إني إذا لسعيد
لكل حديث بينهن بشاشة
…
وكل قتيل عندهن شهيد
فجعلت حديثنا بشاشة وقتلانا شهداء خذ هذه الألف دينا والحق بأهلك.
ورويت، وكان عمرو بن عثمان لما تزوج نحو هذه ظهرت بها حذاقتها وانتقادها على أفحل الشعراء، وكان عمرو بن عثمان لما تزوج بها عتب عليها يوما وخرج إلى مال له فقالت لأشعب: إن ابن عثمان خرج عاتبا علي فاعلم لي حاله. فقال لها: لا أستطيع أن أذهب الساعة فقالت: أنا أعطيك ثلاثين دينارا قال أشعب: فأتيته ليلا فدخلت الدار، فقال: انظروا من في الدار، فأتوه فقالوا: أشعب، فنزل عن فرشه إلى الأرض. فقال: أشيعب؟ قلت: نعم، قال: ما جاء بك؟ قلت: أرسلتني سكينة لأعلم خبرك أتذكرت منها ما تذكرت منك، وأنا أعلم أنك قد فعلت حين نزلت عن فرشك إلى الأرض. قال دعني من هذا وغنني:
عوجا به فاستنطقاه فقد
…
ذكرني ما كنت لم أذكر
قال: فغنيته، فلم يطرب ثم قال: ويحك غير هذا فإن أصبت ما في نفسي فلك حلتي هذه وقد اشتريتها آنفا بثلثمائة دينار فغنيته:
علق القلب بعض ما قد شجاه
…
من حبيب أمسى هوانا هواه
ما ضراري نفسي بهجران من لي
…
س مسيئا ولا بعيدا نواه
واجتنابي بيت الحبيب وما الخل
…
د بأشهى إلي من أن أراه
قال: ما عدوت ما في نفسي، خذا الحلة، قال: فأخذتها ورجعت إلى سكينة فقصيت عليها القصة فقالت: وأين الحلة؟ قلت: معي. فقالت: وأنت الآن تريد أن تلبسها؟ لا والله ولا كرامة، فقلت: قد أعطانيها فأي شيء تريدين مني؟ فقالت: أن أشتريها منك فبعتها إياها بثلثمائة دينار.
وقال بعضهم: كان ابن سريج قد أصابته الريح الخبيثة وآلى يمينا أن لا يغني ونسك ولزم المسجد الحرام حتى عوفي، ثم خرج فأتى المدينة ونزل على بعض إخوانه من أهل النسك والقراءة فأقام في المدينة حولا ثم أراد الشخوص إلى مكة، وبلغ ذلك سكينة فاغتمت لذلك غما شديدا وضاق به ذرعها وكان أشعب يخدمها، وكانت تأنس بمضاحكته ونوادره. فقات لأشعب: ويلك إن ابن سريج شاخص وقد دخل المدينة منذ حول ولم أسمع من غنائه قليلا ولا كثيرا ويعز علي ذلك فكيف الحيلة في الاستماع منه ولو صوتا واحدا؟ فقال لها أشعب: جعلت فداك وأنى لك بذلك، والرجل اليوم زاهد ولا حيلة فيه فارفعي طمعك وامسحي بوزك تنفعك حلاوة فمك، فأمرت بعض جواريها فوطئن بطنه حتى كادت أن تخرج أمعاؤه وخنقته حتى كادت نفسه أن تتلف
ثم أمرت به فسحب على وجهه حتى أخرج من الدار إخراجا عنيفا، فخرج على أسوأ الحالات واغتم أشعب غما شديدا، وندم على ممازحتها في وقت لا ينبغي له ذلك، فأتى منزل ابن سريج ليلا فرقه. فقيل: من هذا؟ فقال: أشعب، ففتحوا له، فرأى على وجهه ولحيته التراب والدم سائلا من أنفه وجبهته على لحيته وثيابه ممزقة وبطنه وصدره وحلقه قد عصرها الدوس والخنق، ومات الدم فيها، فنظر ابن سريج إلى منظر فظيع هاله وراعه فقال له: ما هذا، ويحك؟ فقص القصة عليه. فقال ابن سريج: إنا لله وإنا إليه راجعون ماذا نزل بك والحمد لله الذي سلم نفسك لا تعودن إلى هذه أبدا.
قال أشعب: فديتك هي مولاتي ولابد لي منها، ولكن هل لك حيلة في أن تسير إليها وتغنيها فيكون ذلك سببا لرضاها عني؟ قال ابن سريج: كلا والله لا يكون ذلك أبدا بعد أن تركته. قال أشعب: قد قطعت أملي ورفعت رزقي وتركتني حيران بالمدينة لا يقبلني أحد، وهي ساخطة علي، فالله الله في وأنا أنشدك الله ألا تحملت هذا الإثم في. فأبى عليه. فلما رأى أشعب أن عزم ابن سريج قد تم على الامتناع قال في نفسه: لا حيلة لي وهذا خارج وإن خرج هلكت، فصرخ صرخة، فتحت آذان أهل المدينة لها ونبه الجيران من رقادهم وأقام النسا من فرشهم، ثم سكت فلم يدر الناس ما القصة عند خفوت الصوت بعد أن راعهم. فقال له ابن سريج: ويلط ما هذا؟ قال: لئن لم تسر معي إليه الأصرخن صرخة أخرى لا يبقى أحد بالمدينة إلا صار بالباب، ثم لأفتحنه ولرينهم ما بي ولأعلمنهم انك أردت أن تفعل كذا وكذا بفلان - يعني غلاما كان ابن سريج مشهورا به - فمنعتك وخلصت الغلام من يدك حتى فتح الباب ومضى ففعلت بي هذا غيظا وتأسفا وأنك إنما أظهرت النسك والقراءة لتظفر بحاجتك منه وكان أهل مكة والمدينة يعلمون حاله معه فقال ابن سريج: أعزب - أخزاك الله.
قال أشعب: والله الذي لا إله إلا هو وإلا فما أملك صدقة وامرأتي طالق ثلاثا، وهو يخير في مقام إبراهيم والكعبة وبيت النار والقبر قبر أبي رغال إن أنت لم تنهض معي في ليلتي هذه لأفعلن ما قلت لك. فما أرى ابن سريج الجد منه قال لصاحبه: ويحك، أما ترى ما وقعنا فيه! وكان صاحبه الذي نزل عنده ناسكا. فقال: لا أدري ما أقول فيما نزل بنا من هذا الخبيث؟ وتذمم ابن سريج من الرجل صاحب المنزل فقال لأشعب: اخرج من منزل الرجل. فقال: رجلي على رجلك فخرجا.
فلما صار في بعض الطريق قال ابن سريج لأشعب: امض عني. قال: والله لئن لم تفعل ما قلت لأصيحن الساعة حتى يجتمع الناس ولأقولن إنك أخذت مني سوارا من ذهب لسكينة على أن تجيئها لتغنيها سرا وإنك كابرتني عليه وجحدتني وفعلت بي هذا الفعل، فوقع ابن سريج فيما لا حيلة له فيه فقال: امض لا بارك الله فيك، فمضى معه، فلما صار إلى باب سكينة قرع الباب فقيل: من هذا؟ فقال: أشعب قد جاء بابن سريج ففتح الباب لهما ودخل إلى حجرة خارجة عن دار سكينة فجلسا ساعة، ثم أذن لهما فدخلا إلى سكينة فقالت: يا عبيد، ما هذا الجفاء، قال: قد علمت بأبي أنت ما كان مني قالت: أجل، فتحدثا ساعة وقص عليها ما صنع به أشعب فضحكت وقالت: لقد أذهب ما كان في قلبي عليه وأمرت لأشعب بعشرين دينارا وكسوة، ثم قال لها ابن سريج: أتأذنين بأبي أنت؟ قالت: وأين، قال: إلى المنزل. قالت: برئت من جدي إن برحت من داري ثلاثا، وبرئت من جدي إن أنت لم تغن إن خرجت من داري شهرا، وبرئت من جدي إن أقمت في داري شهرا إن لم أضربك لكل يوم تقيم فيه عشرا، وبرئت من جدي إن حنثت في يميني أو شفعت فيك أحدا. فقال عبيد: واسخنة عيناه، واذهاب ديناه وافضيحتاه، ثم اندفع يغني:
أسعتين الذي بكفيه نفعي
…
ورجائي على التي قتلتني
ولقد كنت قد عرفت وأبصر
…
ت أمورا لو أنها نفعتني
قلت إن أهوى شفا ما ألاقي
…
في خطوب تتابعت فدحتني
فقال سكينة: فهل عندك يا عبيد من صبر، ثم أخرجت دملجا من ذهب كان في عضدها وزنه أربعون مثقالا فرت به إليه ثم قالت: أقسمت عليك إلا ما أدخلته في يدك ففعل ذلك ثم قالت لأشعب: اذهب إلى عزة الميلاء فأقرئها مني السلام وأعلمها أن عبيدا عندنا فلتأتنا متفضلة بالزيارة، فأتاها أشعب فأعلمها فأسرعت المجيء فتحدثوا باقي ليلتهم، ثم أمرت عبيدا وأشعب فخرجا فناما في حجرة مواليها، فلما أصبحت هيئ لهم غداؤهم وأذنت لابن سريج فدخل فتغدى قريبا منها مع أشعب ومواليها وقعدت هي مع عزة وخاصة جواريها فلما فرغوا من الغداء قالت: يا عزان رأيت أن تغنينا فافعلي فقالت: أي وعيشك فتغنت لحنها في شعر عنترة العبسي:
حيي من طلل تقادم عهده
…
أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
إن كنت أزمعت الفراق فإنما
…
زمت ركابكم بليل مظلم
فقال ابن سريج: أحسنت والله يا عزة وأخرجت سكينة الدملج الآخر من يدها فرمته لها وقالت: صيري هذا في يدك ففعلت. ثم قالت لعبيد: هات غننا. فقال: حسبك ما سمعت البارجة. فقالت: لابد أن تغنينا في كل يوم لحنا، فلما رأى ابن سريج أنه لا يقدر على الامتناع مما تسأله غنى:
قالت من أنت ذكر فقلت لها
…
أنا الذي ساقه للحين مقدار
قدحان منك فلا تبعد بك الدار
…
بين وفي البين للمبتول إضرار
ثم قالت لعزة في اليوم الثاني غني فغنت لحنها في شعر الحارث بن خالد:
وقرت بها عيني وقد كنت قبلها
…
كثير البكاء مشفقا من صدودها
وبشرة خود مثل تمثال بيعة
…
تظل النصارى حوله يوم عيدها
قال ابن سريج: والله ما سمعت مثل هذا قط حسنا ولا طيبا ثم قالت لابن سريج: هات، فاندفع يغني:
أرقت فلم أنم طربا
…
وربت مسهدا نصبا
لطيف أحب خلق الله
…
إنسانا وإن غضبا
فلم أردد مقالتها
…
ولم أك عاتبا عتبا
ولكن صرمت حبلي
…
فأمسى الحبل منقضبا
فقالت سكينة: قد علمت ما أردت بهذا وقد شفعناك ولم نردك وإنما كانت يميني على ثلاثة أيام فاذهب في حفظ الله وكلاءته، ثم قالت لعزة: إن شئت أقمت أو انصرفت ودعت لها بحلة، ولابن سريج بمثلها، وانصرفت وأقام عبيد حتى انقضت ليلته وانصرف فمضى من وجهه إلى مكة راجعا.
واجتمع يوما نسوة عند سكينة بنت الحسين عليهما السلام وهن بالمدينة فذكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن مجلسه وحديثه وتشوقن إليه وتمنينه فقالت سكينة: أتا آتي لكن به فبعثت إليه رسولا وهو يومئذ بمكة ووعدته أن يأتيها في الصورين في ليلة سمتها له فوافاها على رواحله ومعه الغريض فحدثهن حتى وافى الفجر وحان انصرافهن فقال لهن: إني والله مشتاق إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة في مسجده ولكن لا أخلط بزيارتكن شيئا، ثم انصرف إلى مكة وقال: