الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم يتمالك عن البكاء، وكذا لما اختطفت أيدي المنون ابنته الصغرى وحمل إكليل الفرهر ليكلل به جبينه غلبت عليه الشفقة واقترن بها (بركليس) بعد أن هجر زوجته الأولى، وانقاد إليها الانقياد حتى قال (أرستوفاينس) : إنها هي التي حملته على إثارة حرب (ساموس) و (بلويومتبسوس) ولكن (فلوطرخس) المؤرخ الثقة نفى عنها هذه التهمة وتوفي (بركليس) بالطاعون فتزوجت (أسباسيا) بعده رجلا من التجار فصار بسببها من مشاهير أثينا وخطبائها.
إستير ستنهوب ابنة كارلوس الثالث في عائلة ستنهوب
امرأة إنكليزية شريفة ذات أطوار غريبة ولدت في لندن في 12 آذار (مارس) سنة 1776 م، وتوفيت في جون التابعة إقليم الخروب من جبل لبنان في 23 حزيران (جونيو) سنة 1839 م، وكانت أكبر أولاد (كارلوس الثالث أرلات ستنهوب) من زوجته (إستير) ابنة (إرل تشتام) دخلت في السنة العشرين من عمرها بيت عمها (وليم بت) فكان يعتمد عليها ويكاشفها أسراره، واستمرت عنده إلى أن مات سنة 1806 م، وقبل وفاته أوصى بها الأمة الإنكليزية فيعن لها مرتب سنوي قدره 200 ليرة إنكليزية غير أن المبلغ لم يكف لسد المصاريف التي كان يقتضيها مركزها وبذخها فانفردت في (والسن) ثم تركتها وطافت أوروبا وكانت حينئذ فتية نضرة جميلة غنية، فقوبلت في البلدان التي زارتها بالتكريم والتعظيم اللذين تقتضيهما صفاتها إلا أنها أبت الزواج مع أن خاطبيها كانوا من أهالي الرفعة والشأن وبعد أن زارت أكبر عواصم أوروبا لاح لها أنها تحصل في الشرق على مركز عظيم فسارت إلى القسطنطينية، وأقامت فيها بضع سنين واختلف الناس ي سبب خروجها من بلادها فذهب بعضهم إلى أنه حملها على ذلك حزنها على جنرال إنكليزي شاب قتل في إسبانيا وكانت تحبه فأثر فيها موته تأثيرا شديدا حتى لم تطب لها الإقامة بعده في إنكلترا، وذهب آخرون إلى أن الذي حملها على ذلك إنما هو ميلها إلى القيام بعظائم الأمور وحب الشهرة.
ثم خرجت من القسطنطينية قاصدة سورية سنة 1810 م في سفينة إنكليزية كان فيها قسم كبير من ثروتها وأنواع كثيرة مختلفة من الحي والتحف، فلما وصلت السفينة إلى الجون (مكري) تجاه جزيرة (رودس) صدمت صخرا فتحطمت على مسافة بعض أميال من الساحل، وغرت أمتعة (إستير ستنهوب) وأموالها ولم تنج هي من الموت إلا بعد عناء شديد فحملت على لوح السفينة إلى جزيرة صغيرة قفرة فقامت فيها 24 ساعة لم تذق طعاما ولم يكن لها منقذ ولا مجير إلا أن جماعة من صيادي (مرموريزا) وجدوها في تلك الجزيرة في أثناء تفتيشهم على بقايا السفينة، فساروا بها إلى (رودس) وهناك أخبرت قنصل إنكلترا فجمعت ما بقي لها من المتاع وباعت قسما من أملاكها، بأبخس الأثمان وركبت سفينة ملأتها تحفا نفيسة وهدايا ثمينة للبلدان التي عزمت على السياحة فيها لم يصادفها في مسيرها نوء. وأتت اللاذقية فأقامت هناك، وتعلمت اللغة العربية وعرفت عادات الأهالي وطباعهم، وجهزت قافلة كبيرة، وحملت إلى البدو هدايا نفيسة على ظهور الجمال، وطافت أنحاء سورية كلها، فزارت القدس، ودمشق، وحمص، وبعلبك، وتدمر. ولما وصلت إلى تدمر اجتمع إليها كثيرون من قبائل البدو ومكنوها من الوصول إلى تلك المدينة، وكان عددهم حينئذ من 40 إلى 50 ألفا وكانوا كلهم يتعجبون من جمالها ولطفها، وأبهتها فجعلوها ملكة لتدمر وعاهدوها على أن جميع الإفرنج الذين يحصلون على حمايتها يمكنهم أن يزوروا (بعلبك) وتدمر آمنين على أرواحهم، ولكن بشرط أن يدفع كل منهم ضريبة قدرها ألف قرش، واستمرت تلك المعاهدة مدة طويلة يعمل بها وعند رجوعها من تدمر عزمت قبيلة قوية من البدو عدوة لتدمر التعدي عليها، غير أن أحد حشمها أنبأها في الحال بوقوعها في ذلك الخطر الجسيم فأخذت في السير ليلا، وكان خيلها من أجود الخيل فاجتازت في مدة 24 ساعة
مسافة طويلة وبذلك تمكنت هي ومن معها من النجاة وأتت دمشق وأقامت فيها أشهرا عند الوالي العثماني الذي كان الباب العالي قد وصاه بإكرامها وإعزازها وصرفت زمانا طويلا فيا لطواف والجولان في البلاد الشرقية وأذهل الأهالي ما شاهدوه ومن أعمالها وغناها فكانوا يعاملونها كملكة، وكانت هي تحاول بحذاقتها أن تضاهي (زينوبيا) ملكة الشرق في أعمالها وسنة 1813 م.
استوطنت دير القديس إلياس المهجور الواقع في جوار قرينه على مسافة ساعة من صيدا، فبنت هناك عدة بيوت محاطة بسور أشبه بالأسوار التي كانت تبنى في القرون المتوسطة، وأنشأت هناك بستانا على نسق البساتين التركية فغرست فيه الأزهار والأشجار والفاكهة وكروما، وأقامت كشوكا مزينة بالنقوش والصور العربية، وجعلت للماء قنوات من الرخام وكانت تنبعث من نافورات وسط بلاط من الرخام مزين بأنواع النقوش أيضا، وكانت أشجار البرتقال والين والأترج الملتفة تزيد ذلك البستان جمالا ونزهة ولم يمكث ذلك الدير حتى صار حصنا وملجأ يلتجئ إليه المظلومون فتجيرهم، فبقيت هناك عدة سنين في أبهة شرقية محاطة بتراجمة سوريين وأوربيين وحاشية كبيرة من النساء، وجماعة من العبيد السود وكانت تلبس لبس أمير وتتقلد السلاح وتدخن وكان لها علائق حبية وسياسية مع الباب العالي، وعبد الله باش، والأمير بشير الشهابي حاكم لبنان، والشيخ بشير جان بلاد ومشايخ البدو في براري سورية وبغداد.
ثم اتخذت لها مسكنا في بيت أخذته من رجل دمشقي مسيحي غني واقع على مرتفع يعرف بظرف جون نسبة إلى قرية (جون) التابعة لمديرية إقليم الخروب من جبل لبنان على مسافة 8 أميال من صيدا، ووسعت دائرة ذلك البيت، وأقامت حوله جنينة وسورا وبقيت فيه إلى أن توفيت، ثم أخذت ثروتها العظيمة تتناقص لعدم انتظام مصالحها التي لم يكن من يحسن القيام عليها في غيابها فبلغ دخلها السنوي 130 و40 ألف فرنك وكان مع ذلك غير كاف لسد المصاريف التي تقتضيها حالتها، غير أنه مات بعض الذين صحبوها من الإفرنج وتركها البعض الآخر وخمدت محبة الأهالي لها لأن توافدها كان موقوفا على مواساتهم بالهدايا والعطايا فأمست منفردة وقلت علائقها مع الناس، ولكن ظهر منها في هذه الأحوال ما يدهش الخواطر ويحيرا لعقول لأنها صبرت وتجلدت ولم يخطر لها البتة أن ترجع عن الأعمال التي أقبلت عليها، ولم تتأسف على ما فات ولا على العالم أجمع ولم يحزنها ترك خلانها وثروتها وميليها إلى الشيخوخة فأقامت وحدها من غير كتب ولا جرائد ولا رسائل من أوروبا ولم يكن عندها صديق يؤانسها ولا سمير يجالسها، بل بقي لها فقط جماعة من الجواري السود وعبيد سود صغار السن، وبضعة فلاحين سوريين يعتنون بشأنها وخيلها، ويسهرون عليها من الطوارق.
وقد تحققت أن ما امتازت به من الصبر والعزم والحزم لم يكن ناشئا عن طباعها فقط، بل عن مبادئها الدينية المؤذنة بالشطط وكان في تلك المبادئ ما يدل على أنها جمعت بين الحقائق وعوائد شرقية خرافية ولاسيما غرائب فن التنجيم وعجائبه وقصارى الكلام أنها حصلت بأعمالها على شهرة عظيمة في الشرق وزهدت أوروبا كلها وكان الأهالي عموما يسمونها بالست الإنكليزية. وأما الإفرنج فتعرف عندهم ب (لاري ستنهوب) .
ولما عزم إبراهيم باشا على فتح سورية سنة 1833 م اضطره الأمر إلى أن طلب إليها أن تكون على الحيادة، ويقال: إن بعد حصار عكا في السنة نفسها آوت مئين من الفارين وكانت تتعاطى فن التنجيم وغيره من الفنون السرية، واستمسكت ببعض عقائد دينية مستغربة فلم تعدل عنها حتى مماتها، ومما يدل على أن عقلها لم يخل من الاختلال في بعض الأمور أنها ربت حجرتين في إسطبل لتركب المسيح واحدة منها عند مجيئه إلى الأرض وتركب هي الأخرى مرافقة له إلى القدس، وفي السنين الأخيرة من حياتها كان قد بلغ أهلها في إنكلترا ما كان من أمرها، وإسرافها فقطعوا عنها الإمدادات المالية فتراكمت عليها الديون التي كانت تقترضها من الأهالي بسعي رجل يعرف باللقمجي فتوفيت ولم تقدر على وفائها، وهكذا الذين كانوا يحسبون أن في القرب منها
ربحا لهم آل الأمر إلى خسارتهم.
ويقال: إن مضايقاتها المالية مما كان بينها وبين الأمير بشير الشهابي من الاختلاف والضغينة، وقد سبب ذلك فيها من الخوف الذي أوقعها في مرض عضال قضت به نحبها ولم يكن عندها حال وفاتها أحد من الإفرنج، بل أحاط بها جماعة من خدامها من أهل البلاد فنهبوا بيتها حالما أدركتها المنية وعند وفاتها حضر قنصل الإنكليز من بيروت لأجل دفنها، ودفنت بالبستان المجاور لدارها، وقد روى الأهالي عنها قصصا كثيرة غريبة تكاد أن تكون من الخرافات لا يوثق بها وكتب الدكتور (مريون) الذين بقي عندها بضع سنين طبيبا لها سيرة حياتها بالإنكليزية في ثلاثة مجلدات رواية عنها وقصة أسفارها في ثلاثة مجلدات طبعت بالإنكليزية بعد وفاتها بمدة قصيرة.
وقد زارها كثير من السياح الأوروبيين ومن جملتهم (دو لامرتين) الشاعر الفرنساوي المشهور فإنه لما كان في سورية سنة 1832 م يطوف في نواحيها ويتفرج على بلدانها ومناظرها رغب في زيارة تلك الخاتون إلا أنه كان في ذلك الوقت من أصعب الأمور على الإفرنج أن يقابلوها ولاسيما الإنكليز ومن كانوا من ذوي قرابتها فبعث إليها مع رسول بالرسالة الآتية ترجمتها:
سيدتي، من سائح مثلك في الشرق وغريب في هذه الديار جاءها ليتأمل في مناظر الطبيعة وآثارها وأعمال الله فيها، وقد وصل إلى سورية منذ مدة مع عائلته وهو يحسب يوما يتمكن فيه من مقابلة امرأة هي نفسها من عجائب الشرق الذي جاءه زائرا من أجمل سياحته وألذها، فإذا شئت أن تقابليني فاذكري لي اليوم الملائم لذلك وقولي لي أينبغي أن أتوجه وحدي أو يمكنني أن أسير إليك بجماعة من خلاني يرغبون مثلي كل الرغبة في التشرف بمقابلتك، وأرجو يا سيدتي أن لا يكون هذا الطلب سببا لتكلفك ما يزعجك في عزلتك فإنني أعرف من نفسي قيمة الحرية ومحاسن الانفراد ولذلك لا يسوءني البتة رفضك مقابلتي، بل أتلقى ذلك بالتوقير والاحترام إلى آخره.
وفي 30 أيلول (سبتمبر) من السنة نفسها سار إليه طبيبها ودعاه إلى جون فذهب مع الدكتور (ليوزدي) والموسيو (يرسيقال) ولما وصلوا نزل كل منهم في غرفة ضيقة لا نوافذ لها ولا أثاث فيها ولم يتمكنوا من مقابلتها حال وصولهم لأنها لم تكن تقابل الناس قبل ساعة الثالثة بعد الظهر، فلما حان الوقت أتاه غلام أسود وأدخله غرفتها قال: وكان الظلام قد أسبل عليها ذيله فلم أتمكن بسهولة من أن أتبين هيئتها اللطيفة المؤذنة بالهيبة والجلال وذلك الوجه الأبيض الصبيح، فنهضت وهي في زي الشرقيين، ودنت مني، ومدت إلى يدها مسلمة علي فأمعنت بها بالنظر، وإذا فيها من لطف المعاني ما لا تستطيع السنون محوه.
نعم، إن نضارة الوجه واللون والرونق تمضي مع الفتوة إلا أنه متى كان الجمال في القد وهيئة الوجه مع العظمة والجلال، وطرأ عليه تقلبات باختلاف أزمان الحياة لا يزول تماما، وهذا كله على (لاري ستنهوب) وكان على رأسها عمامة بيضاء وعلى جبهتها عصابة من الكتان أرجوانية اللون طرفاها مرسلان على كتفيها وعلى بدنها شال من الكشمير الأصفر وفستان تركي كبير من الحرير الأبيض، كماه متدليان وهو مشقوق عند الصدر يظهر من تحته فستان آخر من نسج الفرس تتصاعد منه أزهار تكاد أن تصل إلى عنقها وهي مرتبطة بعضها ببعض بخرز من اللؤلؤ، وكان في رجليها خفان تركيان أصفران وهي تحسن لبس ذلك جميعه كأنها تعودته من صغرها.
وبعد السلام قالت لي: قد أتيت من مكان بعيد وكلفت مشاق السفر لترى ناسكة فأهلا بك وإنني قلما يزورني الأجانب فيراني منهم في السنة واحد أو اثنان في الأكثر غير أن مكتوبك أعجبني وودت أن اعرف إنسانا يحبا لله والطبيعة والانفراد، وذلك نفس ما أحبه ولاح أيضا أن يجمعنا متحابين وإننا نتوافق في المشرب ويسرني الآن أني لم أخطئ في ظني وقد توسمت فيك عندما رأيتك أمورا تجعلني أن لا أندم على رغبتي في مشاهدتك، وناهيك أنني لما سمعت وقع قدميك وأنت داخل خالجني نفس تلك الخواطر فاجلس ودعنا
نتحدث لأنك قد صرت لي صديقا فقلت لها: يا سيدتي، وكيف تشرفين بهذا اللقب رجلا لا تعرفين اسمه ولا سيرته قالت: نعم إنني لا أعرف حالك قدام الله ولا تحسبني مجنونة كما يسميني العالم في الغالب لأن صدري قد انشرح لك فلا أستطيع أن أخفي عليك شيئا وقد نشأ في الشرق علم ضاع الآن في بلادكم غير أنه لم يزل باقيا إلى الآن في البلاد الشرقية، وقد تعلمته وأتقنته فإنني أرصد الكواكب وأدرك أسرارها فكل منا ولد لنار من تلك النيران المساوية التي تولت أمر ولادتنا وتأثيرها، إما حسن وإما رديء وهو يظهر في عيوننا وجباهنا وهيئتنا وأسارير أيدينا وشكل أرجلنا وحركاتنا ومشيتنا، وبذلك عرفتك حق المعرفة كأننا معا منذ قرن كامل مع أنني لم أرك إلا منذ بضع دقائق.
فقلت باسما: مهلا يا سيدتي إنني لا أنكر ما أجهل ولا أثبت ما لا يوجد في الطبيعة المنظورة وغير المنظورة التي تتجاذب فيها الأشياء أو يرتبط بعضها ببعض كائنات كالإنسان دونه الكائنات تحت سلطة كائنات أعظم منها كالكواكب والملائكة إلا أنني أحتاج إلى وحيهم لأعرف نفسي التي هي عبارة عن فساد وسقم وشقاوة.
وأما أسار مستقبلي فأحب أن لا أعرفها وعندي أنني أجازف على الله الذي أخفاها عني إذا طلبت إلى مخلوق أن يوضحها لي، فأمر المستقبل بيد الله وإني لا أعتقد إلا فيه، وفي الحرية والفضيلة. قالت: ما لي ولهذا فاعتقد فيما يحلو لك، أما أنا فأرى أنك خلقت تحت سلطة ثلاثة أنجم سعيدة، قادرة، صالحة فاعتقد مثل تلك الصفات وهي تشوقك إلى غاية يمكنني أن أكاشفك بها الآن إذا شئت ذلك وقد أرسلك الله إلي لأنير عقلك وأنت من الرجال الذين حسنت نواياهم وطابت سريرتهم ويستنفذ منك الله بإنقاذ الأعمال العجيبة التي يريد أن يجريها بين الناس وهذا جواب كاف وبعد أن أطالا الجدال في هذا الباب.
قالت له: وهل ترى في سياسته ودينه ومعشره كامل الانتظام ولا تشعر بما يشعر به العالم أجمع من أنه لابد من موح وفاة وهو المسيح الذي تنتظره وتطير شوقا إليه فلا ترى أحد موافقا لك في ذلك، وأن العالم أجمع محتاج إلى الإصلاح، وأني أتوقع أكثر من الناس كلهم قدوم مصلح يقوم المسالك ويرشد الناس إلى سواء السبيل فإن كان ذلك المصلح هو ما تسميه مسيحا فهذا أنتظره مثلك، وأرجو أن يظهر بعد أمد وجيز وأطالت الكلام في هذا الباب وقالت لي: اعتقد كما تشاء، أما أنا فعندي أنك رجل من الذين كنت أنتظرهم وقد أرسلتك العناية إلي وسيكون لك دخل كبير في العمل المزمع حدوثه، وسترجع أوروبا إلا أن أوروبا قد مضى زمانها وبقي لفرنسا وحدها أن تقوم بعمل عظيم، ستشترك فيه، ولم أعلم بعد كيف يكون ذلك، ولكنني إن شئت أذكر لك في هذا المساء عندما أستشير أنجمك ولم أعرف إلى الآن أسماءها كلها فقد رأيت منها أكثر من ثلاثة فهي أربعة أو خمسة وربما كانت أكثر ولا شك أن عطارد من جملتها فهو يهب العقل نورا، واللسان طلاقة وطلاوة، وأنت شاعر لا محالة لن في عينيك، والقسم الأعلى من وجهك ما يدل على ذلك إلى أن قالت: فاشكر الله على هذه النعمة لأنه قلما ولد تحت سلطة أكثر من نجم وندر من كان نجمه سعيدا وإذا كان سعيدا فلما يخلو من مفاعيل نجم آخر خبيث يقارنه أما أنت فقد كثرت نجومك وأجمعت كلها على أن تخدمك وهي تتعاون على ذلك فما اسمك؟ فذكرت لها اسمي قالت: هذه أول مرة سمعت به، ثم ذكرت لها ما نظمته من الشعر وأن اسمي مشهور عند أهل العلم في أوروبا إلا أنه لم يتمكن من اجتياز البحور والجبال حتى يصل إلى الشرق قالت: سيان عندي كونك شاكرا أو غير شاعر فإنني أحبك ولي فيك أمل أتحقق أننا سوف نلتقي ثانية فإنك سترجع إلى الغرب، ولكن لا تلبث حتى تعود إلى الشرق فإنه وطنك، قلت: إن لم يكن وطني فهو ميدان أفكاري. قالت: دع عنك المزح فإن وطنك الحقيقي ووطن آبائك وقد تحققت ذلك الآن فانظر إلى رجلك فإنها أشبه برجل رجل عربي، وما زلنا نتحادث حتى دخل عبد أسود فخر على وجهه ساجدا أمامها ويداه على رأسه؟، وخاطبها بكلمات عربية لم أفهمها، فالتفتت إلي وقالت: قد هيئ لك الطعام فاذهب فكل، أما أنا فلا أواكل أحدا لأن عيشتي عيشة نسكية فاغتذي بالخبز والثمار عندما أحس بالجوع
ولذلك لا ينبغي لي أن أكره ضيفي على مجاراتي.
وبعد أن فرغت من مناولة الطعام استدعتني إليها، فلما حضرت وجدتها تدخن بقضيب طويل، واستحضرت لي قضيبا لأدخن أيضا قال: وكنت قد رأيت أجمل نساء الشرق وأظرفهن يدخن مثلها فلم أستغرب ذلك، وكان الدخان ينبعث من شفتيها اللطيفتين على شكل أعمدة فتعطرت به الغرفة، وأقمنا نتحدث في أمورها وأطلت فيها التفكر فتبين لي أنها أشبه بالساحرات القديمات المشهورات وهي أشبه ب (سيرسه) معبودة الأقدمين، وأن عقائدها الدينية وإن كانت غامضة فهي مقتطفة بحذق من أديان مختلفة فقد جمعت بين أسرار (الدروز وتسليم المسلمين واعتقادهم القدر، وانتظار اليهود مجيء المسيح، وعبادة النصارى للمسيح، وممارسة تعاليمه وآدابه، وزد على ذلك التصورات البعيدة الغريبة الناشئة عن فكر مشغوف بالشرق، ومتوقد بطول العزلة والانفراد وبعض إيضاحات أوضحها لها المنجمون العربيون فإذا تصورت ذلك كله انجلى لك شيء من هذا السر العظيم المستغرب الذي يؤثر في الإنسان ما يسميه جنونا ليتخلص من مشقة البحث وإمعان النظر فيه.
والحق أولى أن يقال: إن هذه المرأة غير مجنونة فإن للجنون أمارات واضحة تظهر في العنيني وليس له أثر البتة في تلك الألحاظ اللطيفة ويظهر الجنون أيضا في الكلام فإن صاحبه كثيرا ما ينقطع عن الحديث فترى فيه اختلالا وشططا أما حديثها فسامي المعاني رمزي متسلسل مرتبط منتسق قوي وفي مذهبي أن جنونها اختياري وأنها تعرف نفسها حق المعرفة ولها أسباب تحملها على التظاهر بما قد تظاهرت به وما أخذ القبائل العربية المجاورة للجبال من العجب من حذقها وبراعتها يدل دلالة واضحة على أن ما ترجم به من الجنون إنما هو وسيلة لبلوغ بعض مآرب ولا يخفى أن سكان أرض أجريت فيها العجائب وكثرت فيها الصخور والبراري وتلونت تصوراتهم بألوان جوهم لا يصيخون سمعا إلا إلى كلام نبي أو إلى كلام من كان ك (لاري ستنهوب) فإنهم يميلون إلى فن التنجيم والنبوات والوحي وما أشبه وقد عرفت ال (لاري) المذكورة ذلك واتضحت لها الحقيقة لما هي عليه من قوة الحذق، ولكن ربما ساقتها القوة المذكورة كما هو الغالب في أمثالها إلى الاهتداء إلى مذهب وضعته لغيرها.
وبعد أن جالت هذه التصورات في فكري قلت لها: لا ألومك إلا على أمر واحد، وهو أنك حسبت للحوادث حسابا فعاقك ذلك عن الوصول إلى مركز كان في طاقتك أن تصلي إليه. فأجابته: إنك تتكلم كمن يعتقد اعتقادا صحيحا في الإرادة البشرية، ويشك في فعل القدر، فقوتي على حالها لم تتغير غير أنني انتظر سنوح الفرصة ولا أجد في طلبها وقد أمسيت وحدي مهجورة بين هذه الصخور القفرة عرضة لمفاجئ جسور يطرق منزلي فينهب أمتعتي وحولي جماعة من الخدم الخائنين والعبيد الكنودين وهم ينهبونها في كل يوم ويتهددون حياتي أحيانا وفي المدة الأخيرة لم ينجني من الموت الأحمر إلا هذا الخنجر (وأرته إياه) الذي اضطرني الأمر إلى استخدامه لأدفع عني عبدا أسودا لئيما ربي في بيتي، ومع ذلك تراني سعيدة بقولي: الله كريم وأتوقع المستقبل الذي أخبرك به ويا حبذا لو كنت تحققه مثلي.
وبعد أن تباحثنا كثيرا وشربنا القهوة التي كان يأتي بها العبيد كل ربع ساعة مرة قالت لي: هلم، فإني سأسير بك إلى مكان مقدس لا يدخله أحد من البشر وهو بستاني فدخلناه وجلسنا فيه مسروري الفؤاد لأنه من أجمل البساتين الشرقية التي رأيتها وكنا من وقت إلى آخر نجلس في الكشوك براحة ونتحدث على النسق الأول فلبثنا مدة على هذه الحالة ثم التفتت إلي وقالت: إذا كان القدر قد ساقك إلى هذا المكان وما بين نجمينا من الاتفاق يمكنني من مكاشفتك بأمور أخفيها عن كثيرين من بني البشر سأريك بعينك عجيبة من عجائب الطبيعة لا يعرف مستقبلها إلا أنا وأتباعي وهي التي ذكرها الأنبياء الشرقيون منذ قرون عديدة في نبواتهم، ثم فتحت بابا من أبواب البستان يشرف على حوش صغير فوقع نظري على حجرتين عربيتين جميلتين من أطيب أصل وأكمل شكل فقالت لي: هيا بنا فأريك هذه المهرة الكميت، ألم تتحفها الطبيعة بكل ما هو مكتوب عن المهرة التي ينبغي أن يركبها المسيح (وستوله مسرجة)