الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَنِ الجواب وهو مأسُورٌ لم يُقَلْ: حَلُمَ، إذا ترَكَ أنْ يقولَ الشيءَ لِصاحِبه مُنتصراً ولا يَخافُ عاقِبَةً يَكْرَهُها. فهذا الحِلْم المحضُ، فإذا لم يَفْعَلْ ذلك ورأى أنَّ تَرْكَه الحِلْمَ ذلٌ فَهْوَ خَطأٌ وسَفَهٌ؛ وقوله: ولم ترَ التواهُبَ بينها ضَعَةً، نحوٌ مِن هذا، وهو: أنْ يَهَبَ الرَّجل من حقِّه مالا يُسْتَكْرَه عليهِ. . . وكان يقال: أحْيوا المعروفَ بإِماتَتِه، ومعنى ذلك: أنّ الرجلَ إذا امْتَنَّ
بِمعْروفِه كَدَّره، وقيل: المِنَّةُ تَهْدِم الصنيعة، وقد قال قيسُ بنُ عاصِمٍ المِنْقَري: يا بَني تميم، اصْحَبوا مَنْ يذكُرُ إحْسانَكم إليه ويَنْسى أياديَه إليكم. . .
توقير العالم والشريف والكبير والترفع عن الوضيع
كان زياد بن أبيه يقول: أُوصيكم بثلاثة: بالعالِم، والشريف - يعني العظيم القدر - والشيخ - يريد: الذي تقدمت به السن - فو الله لا أُوتى بوضيع سَبَّ شريفاً، أو شابٍّ وَثَبَ بشيخ، أو جاهلٍ امتَهَنَ عالماً، إلا عاقبتُ وبالغْتُ. . . وقال عُمارَة بن عقيل بن بلال بن جرير لبني أسد بن خزيمة:
يا أيّها السائلي عمداً لأُخْبِرَه
…
بذاتِ نَفْسي وأيدي اللهِ فوقَ يدي
إنْ تَسْتَقِمْ أسدٌ ترشَدْ وإنْ شَغَبَتْ
…
فلا يَلُمْ لائِمٌ إلا بَني أسدِ
إني رأيتكُمُ يُعْصَى كبيرُكم
…
وتَكْنَعونَ إلى ذي الفَجْرَةِ النَّكِدِ
فباعَدَ اللهُ كلَّ البُعْدِ دارَكُمُ
…
ولا شَفاكُمْ مِنَ الأضْغانِ والحَسَدِ
فرأى عِصْيانَهمْ الكبيرَ مِنْ أقْبحِ العيب وأدلِّه على ضِغْنِ بعضهم لبعض وحَسَدِ بعضهم بعضا، والوضيع ينقلب إلى الشريف لأنه يرى مُقاولته فخرا، والاجْتراء عليه ربحا، كما أن مُقاولة الشريف للئيم ذلُّ وضَعةٌ قال الشاعر:
إذا أنْتَ قاوَلْتَ اللئيمَ فإنّما
…
يكونُ عليك العَتْبُ حينَ تُقاوِلُهْ
ولستَ كَمَنْ يَرضى بما غيرُهُ الرِّضا
…
ويَمْسحُ رأسَ الذِّئْبِ والذِّئْبُ آكِلُهْ
قال المبرد: وفي هذا الشعرِ بيتان يقدّمان في باب الفَتك - وفي باب العَزْم والشجاعة والإقدام - وهما:
فلا تَقْرِنَنْ أمْرَ الصَّريمةِ بامْرئٍ
…
إذا رامَ أمْراً عَوَّقَتْهُ عَواذِلُهْ
وقلْ للفُؤادِ إنْ نزا بكَ نزوةٌ
…
من الرَّوعِ: أفْرِخْ أكْثرُ الرَّوعِ باطِلُهْ
قال المبرد: وقد امتنع قوم من الجواب - أي من مُقاولةِ اللئيم - تنبلاً - يريد ترفعاً - ومواضِعهم تُنْبئُ عن ذلك - أي أن مراكِزَهم تدلُّ على أن امْتِناعهم ترفّعٌ - وامتنع قوم عِيّاً بلا اعتلال - يريد دون أن يُبدوا عِلَّةً لِهذا الإعْراضِ عن اللئام - وامتنع قوم عَجزاً واعتلُّوا بكراهة السَّفه، وبعضهم معتلٌّ برفعة نفسه عن خصمه، وبعضهم كان يسُبُّه الرجل الرّكيكُ من العشيرة، فُيعرضُ ويسبُّ سيِّدَ قَوْمه، وكانت الجاهلية ربَّما فعلته في الذُّحول
-
جمع ذُحْل وهو الثأر - قال الراجز:
إنّ بَجيلاً كلّما هجاني
…
مِلْتُ على الأغْطَشِِ أو أبانِ
أو طلْحةِ الخيرِ فتى الفتيانِ
…
أولاكَ قومٌ شأنُهمْ كَشاني
ما نِلْتُ مِنْ أعْراضِهمْ كَفاني
…
وإنْ سَكَتُّ عَرفوا إحْساني
وقال أحد المحدثين:
إنَي إذا هَرَّ كلْبُ الحيِّ قلتُ لهُ
…
إسْلَمْ وربُّكَ مخنوقٌ على الجِرَرِ
وفي مثلِ اخْتيارِ النّبيل لتتكافأَ الأعْراض قول الأخطل:
شَفى النفسَ قَتْلَى من سُليمٍ وعامرٍ
…
ولم يَشْفِها قَتلَى غَنيّ ولا جَسْرِ
ولا جُشَمٍ شَرِّ القبائلِ إنّها
…
كبيضِ القَطا ليسوا بِسودٍ ولا حُمْرِ
ولَوْ بِبَني ذُبيانَ بُلَّتْ رِماحُنا
…
لقَرَّتْ بِهمْ عَيْني وباَء بِهمْ وِتْري
وقال رجلٌ من المحدثين وهو حمدانُ بنُ أبان اللاّحِقي:
ألَيْسَ مِنَ الكَبائرِ أنّ وَغْداً
…
لآلِ مُعَذَّلٍ يَهْجو سَدوسا
هَجا عِرْضاً لَهمْ غَضًّا جَديداً
…
وأهْدفَ عِرْضَ والِدِه اللَّبيسا
وقال آخر:
اللّؤْمُ أكْرمُ مِنْ وَبْرٍ ووالدِه
…
واللّؤْمُ أكْرمُ مِنْ وَبْرٍ وما وَلَدا
قومٌ إذا جَرَّ جاني قومِهم أَمِنوا
…
مِنْ لُؤْمِ أحْسابِهمْ أنْ يُقتلوا قَوَدا
اللّؤْمُ داءٌ لِوَبْرٍ يُقْتَلونَ بهِ
…
لا يُقْتَلونَ بِداءٍ غَيْرِه أبَدا
وقال أحد المحدثين هو - دِعْبِل بن علي الخزاعي -:
أمّا الهجاء فَدَقَّ عِرْضُك دونَه
…
والمَدْحُ عَنْك كَما عَلِمْتَ جليلُ
فاذْهَبْ فأنْتَ عَتيقُ عِرْضِك إنّه
…
عِرْضٌ عَزَزْتَ بهِ وأنْتَ ذَليلُ
وقال آخر:
نُبِّئْتُ كلْباً هابَ رمْيي لَه
…
يَنْبَحُني مِنْ مَوْضعٍ نائي
لَوْ كنتَ مِنْ شيءٍ هَجَوْناك أوْ
…
لوْ بِنْتَ للسَّامعِ والرائي
فعَدِّ عَنْ شَتْمي فإنّي امْرؤٌ
…
حَلَّمَني قِلَّةُ أكْفاني
وقال دعبل أيضاً:
فلَوْ أنّي بُليتُ بِهاشِمِيٍّ
…
خُؤولتُه بَنو عَبْدِ المدانِ
صَبَرْتُ على عَداوَتِه ولكِنْ
…
تَعالَيْ فانْظُري بِمَنِ ابْتلاني
ووقف رجلٌ عليه مقطَّعاتٌ على الأحنف بن قيس يسبُّه، وكان عمرو بن الأهْتم جعلَ له ألفَ دِرهمٍ على أن يُسفِّه الأحنف، فجعل لا يَأْلو أنْ يَسبَّه سبًّا يُغضِب، والأحْنَفُ مُطْرقٌ صامتٌ، فلما رآه لا يُكلمه أقبل الرجلُ يَعَضُّ إبْهامَيْه ويقول: يا سَوْأتاه، والله ما يمنعُه من جوابي إلا هَواني عليه. . . وفعلَ ذلك آخرُ فأمسكَ عنه الأحنف، فأكثرَ الرجلُ، إلى أن أراد الأحنفُ القيامَ للغَداء فأقبَل على الرَّجل فقال: يا هذا، إنَّ غَداءَنا قدْ حَضَرَ فانْهَضْ بنا إليه إن شئتَ فإنك مُذ اليوم تحْدو بِجَملٍ ثَفال.