الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
إنّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله مِن شرور أنفسنا، ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادِيَ له.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له.
وأشهد أنّ محمداً عبدُه ورسولُه.
{يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلَاّ وَأنْتُم مُسلِمُونَ} [آل عمران: 102] .
أما بعد:
فإنّ أمواج (فتن العصر) الذي نعيش عالية ظاهرة، متوالية، ومركزها -فيما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم جهة المشرق بعامة، و (العراق) بخاصة، ومنها:«تهيج الفتن» (1) إلى سائر الجهات والبلدان، ولا يسلم منها إلا من عصمه الله -تعالى-.
(1) قطعة من حديث صحيح، يأتي تخريجه (ص 14) .
وأبواب (الفتن) و (الملاحم) التي أخبر عنها صلى الله عليه وسلم في أحاديث أشراط الساعة، وما كان وما يكون منها، لا تزال تنتظر باحثاً عالي الهمّة، دقيق النظر، ثاقب الفهم، راسخ القدم في العلوم الدينية بعامة، والحديثية: رواية ودراية بخاصة، عالي الكعب في التاريخ، واسع الاطلاع على أحداثه ومجرياته، صبوراً دؤوباً في البحث والتنقيب والتمحيص، سليم العقيدة، حسن القصد؛ فإنها من أدق العلوم، وأوسعها بحثاً، وأكثرها تداخلاً.
وقد قام مجموعة من علمائنا رحمهم الله بواجبهم تجاه هذا الموضوع فيما مضى، وأخذ المتأخرون شروحهم وكلامهم على الأحاديث، وكأن عجلة الزمن توقفت، وتعاملوا مع أحاديث الفتن بمعزل عما يعصف من (أمواج) بالأمة.
والملاحظ بقوّة ضعف الدراسات الحديثة الجادّة حول هذا الموضوع، ولعل هذا من مظاهر اشتداد الفتن، وزاد الطين بلّة خوض بعض الذين لا علم عندهم، ولا دين لهم (1) في هذا الموضوع، وظهر ذلك على شكل دراسات ذات عناوين برّاقة (2) ، ومظاهر خلاّبة! هاجت على الأمة حديثاً بسبب ما وقع أخيراً في (العراق) من اجتياحها الأول للكويت، وما تبعه من حصار، وحروب بعد ذلك في عصرنا الحالي.
وكثير من هذه الدراسات فيها (ركض) وراء الأحداث، وعجلة في إسقاط الأحاديث والآثار والنقول، وفوضى في الاستدلال، وخروج عن منهج العلماء في المعالجة، بل زج بعض أصحابها نفسه في مضايق، ظهر من
(1) نعم؛ بعضهم كذلك، وأحلف بالله عز وجل غير حانث أنَّ واحداً منهم -ممن له مؤلفات اشتهرت أخيراً بشّدة- يكذب ويخترع من رأسه أسماءً لعشرات المخطوطات، ينقل منها أكاذيبه وترهاته وبواطيله، ولا وجود لها ألبتة في (الخارج) ، ويعمّي ويلعب و (يدور) على السذج من المساكين من عباد الله لابتزاز أموالهم، وسيأتيك مزيد تفصيل لذلك، والله الموعد.
(2)
لي وقفة مع جملة منها في آخر كتابنا (ص 632 وما بعد) .
خلالها كذبه، إذ كان يقطع بوقوع كذا في وقت كذا (1) ،
دون أدنى دليل صريح، وإنما الاستنباط والترجيح، دون فهم رجيح، لوقوع ذلك من قبل بعض النكرات ممن ليس لهم مشاركات جادة في العلوم الشرعية على وجه مليح، يسرُّ أصحاب المنهج الصحيح.
وحاولتُ جاهداً في هذه الدراسة (2) : إبراز الأحاديث والآثار التي فيها ذكر الفتن التي وقعت وستقع في العراق وجهتها وما جاورها، وبيان الصحيح
(1) استدل بعض أهل البدع والهوى بأحاديث الفتن على إثبات الغيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا جهل من هؤلاء؛ لأنّ علم الغيب مختص بالله -تعالى-، وما وقع منه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن الله بوحي، والشاهد لهذا قوله -تعالى- {عَالم الغَيب فَلا يُظهِر على غَيبِهِ أحداً. إلا مَن ارتضى مِنْ رَسُول} [الجن: 26-27] ؛ أي: ليكون معجزة له. فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من الأنباء المنبئة عن الغيوب ليس هو إلا من إعلام الله له به إعلاماً على ثبوت نبوته، ودليلاً على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم.
قال علي القاري في «شرحه الفقه الأكبر» (ص 123) : «إن الأنبياء لم يعلموا المغيبات من الأشياء إلا ما أعلمهم الله أحيانا، وذكر الحنفية تصريحاً بالتكفير باعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب لمعارضته قوله -تعالى-: {قُل لَا يَعلَمُ مَن في السّماوات والأرض الغيبَ إلا الله} [النمل: 65] » .
وفي «عون المعبود» (11/306) : «وبالجملة لا يجوز أن يقال لأحد إنه يعلم الغيب. نعم الإخبار بالغيب بتعليم الله -تعالى- جائز، وطريق هذا التعليم إما الوحي أو الإلهام عند من يجعله طريقاً إلى علم الغيب» .
وفيه: «وفي «البحر الرائق» : لو تزوج بشهادة الله ورسوله لا ينعقد النكاح، ويكفر لاعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب» .
قلت: إذا كان هذا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بالك بالأوباش الذين تعدوا على علم الغيب، وخاضوا فيما لا يعلمون ولا يحسنون، وزعموا أن النصر على اليهود سيكون في وقت كذا، وخروج المهدي أو الدجال في وقت كذا، وهكذا! وانظر:«تفسير المنار» (9/391-392) .
(2)
كانت -بداية- خاصة بحديث: «منعت العراق
…
» ، ثم رأيت أن مقتضى الفهم الصحيح للحديث: جمع ما ورد عن العراق من أحاديث وآثار، فكانت بهذه الصورة التي بين يدي القراء الكرام، وللحديث المذكور نصيب كبير فيها: تخريجاً وشرحاً، مع ذكر تبويبات العلماء عليه، واستخراجهم فوائده الفقهية والعلمية، بل خصصت فوائده المستنبطة بفصل مفرد، والله الموفّق.
والسقيم منها، وذكر صلتها بأشراط الساعة، وربطها بما حصل وسيحصل من أحداث على أرضها، وتلمّس القواعد الكليَّة، والنظرة المنهجيّة العلمية للسلف، وكيفية فهمهم لأحاديث الفتن، وعالجت من خلال ذلك: عملية إسقاط الفتن على الواقع، وهل هذا مشروع أم ممنوع، وبيان المحاذير التي فيه، وذكرت نماذج مما يخص موضوع بحثنا (العراق) و (الفتنة) من كتب طارت أيّ مطار، في سائر البلاد والأمصار.
وتَوَّجْتُ ذلك بذكر الأسانيد من (دواوين السنّة) والكلام على رواتها (1) ، وفق قواعد أهل الصنعة الحديثية، وأطلتُ النَّفس في الاستقصاء والبحث، وذكر الطرق والشواهد، وكلام الأئمة والمحدثين عليها -قديماً وحديثاً-: صحةً وضعفاً، توجيهاً وشرحاً، وحاولت ربطها بسائر ما ورد في الباب؛ على منهج أهل الحق والصواب.
ولم أَنْسَ في دراستي هذه الآتي:
أولاً: تفنيد باطل من زعم أنّ (نجداً) الواردة في أحاديث (الفتن) ، هي دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، وأكّدتُ ذلك بما يظهر لكل ذي عينين أنّ هذه (دعوى) باطلة كاسدة، وأنّ (دعوة) الشيخ الإمام هي الإسلام الصحيح المصفّى، وهي باقية خالدة رائجة، على الرغم من أنوف الحاقدين المموهين.
ثانياً: التعرض لما استجدَّ من أحداث في العراق (2) .
ثالثاً: ذكر قواعد كلية منهجية مهمّة في علم الحديث، والتخريج، مما له
(1) لعل ذلك عقدة الكتاب عند بعض القراء، ولكن لا فائدة من الكتاب دون هذا العمل؛ إذ الآثار هي جل مادة الكتاب، وتخريجها وإثبات صحتها يحتاج إلى مثل هذا الجهد.
(2)
مما هو في دائرة (اليقين) ، دون الوقوع في دائرة (الظن والتخمين) ، والبعد عن العجلة في الإسقاط على وجه (مشين)، والله الهادي والواقي. وانظر: الآتي (رابعاً) .
صلة بالأحاديث المبحوثة.
رابعاً: ذكر ما جرى على أرض العراق من أحداث جسام (1) ؛ مثل: فتنة التتر والمغول، وكلام المؤرخين عليها، وتحقيق صلتها بالأحاديث التي قيل إنها واردة فيها؛ من خلال نقولات لعلماء محررين مدققين.
ومثل: إخراج الكفار لأهل العراق وحصارهم ومنعهم خيرات بلادهم، وغزوهم واحتلالهم، وبيان أنّ ذلك يتكرر، وأنّ بعضَه وقع قديماً، وبعضَه الآخر حديثاً، وسيقع -أيضاً- في آخر الزمان، ولا سيما عندما يحسر الفرات عن (جبل) ، أو (جزيرة) ، أو (تل) ، أو (كنز)(2) من ذهب، وأنّ الوقت كلما اقترب من قيام الساعة -والباقي منها أقل بكثير من الماضي- ظهر ذلك للعيان، وبيّنتُ خطأ من زعم أنّ المراد بهذا الكنز هو (البترول) ، وأطلت -ولله الحمد- في تفصيل ذلك.
خامساً: بيان حدود (العراق) ، وأنّ المراد بذكرها في الأحاديث والآثار أوسع من حدودها الجغرافية الآن (3) ، مع ذكر الدليل، والله الموفِّق والهادي إلى سواء السَّبيل.
سادساً: يوجد في الكتاب أحاديث ضعيفة -بله موضوعة- قليلة، ولكن:
(1) أومأتُ إلى ما وقع زمن الصحابة -رضوان الله عليهم- من فتن دون تفصيل.
(2)
جميع الألفاظ المذكورة واردة في أحاديث، وسيأتيك بيان ذلك في محله من هذه الدراسة -إن شاء الله تعالى-.
(3)
إسقاط المتعارف عليه عند المتأخرين على نصوص الوحي، أو الآثار، دون التنبه لهذا المدرك غفلة، تنتج عنه زلات خطيرة، كشف عن كثير منها في (باب التوحيد) ابن تيمية وغيره، وهذا الباب يحتاج إلى استقصاء وتتبع في جميع الأبواب، وهو مفيد، والعناية بـ (الاصطلاحات) : تأريخاً وحصراً للجهود التي بذلت فيها، مع بيان مناهج أصحابها، وتمييز الأصيل من الدخيل، والسابق من اللاحق؛ باب مهم، يحتاج إلى تفصيل في تصنيف مفرد، يسر الله له شاداً جادّاً من طلبة العلم الربانيين.
1-
مصرَّح بضعفها أو وضعها، بعبارات ظاهرة، وأحكام لائحة.
2-
ذُكِرت بعضها لشيوعها وذيوعها، وشهرتها على الألسنة، ولا سيما في وقت الفتن، فالتحذير من (الشر) باب من أبواب (الخير) .
3-
فيها مستندٌ لبعض الخائضين في أحاديث الفتن، فذكرتها من باب الرّد عليهم، أو قطعاً لاستنادهم، أو تزييفاً لدليلهم.
4-
همّي في الكتاب الجمع والتقميش أولاً، ثم البحث والتفتيش، ويذكر هذا النوع؛ من باب الإحاطة والاستئناس، ومن باب تكثير العساكر والجيوش، ولما لها أثر في النفوس، على منهج أهل العلم في التصنيف، ولا سيما في مثل هذا الباب.
هذه هي مادّة الكتاب بإجمال: فإنْ أحسنت في عرضها، وأفلحت في وضع الأدلة في نصابها، وأصبت في الكلام على ضعفها وصحتها؛ فمن فضل الله ذي الجلال، وإن كانت الأخرى؛ فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر اللهَ ذا الكمال، ودينُ الله بريء منه، وأنا تائب عنه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتب
أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان
عمان - الأردن