الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظَلَمُوا مِنكم خَاصّة} [الأنفال: 25] ، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله» (1) .
فهؤلاء المعترضون على ما ذكرناه وقررناه، بثورات السابقين، غافلون عن توجيهات العلماء وتقريراتهم، وعن المعرفة الشرعية الحقيقية للفتن، وسنن الله -عزوجل- في الأمم، وقوانينه في التغيير، وجعلوا من جهلهم مجرد وقوع ما لم يحمد عُقباه، ولم يمدحه الشرع وما ارتضاه، دعوى عظيمة موجبة للولوغ (2) فيما هو سبب للتضييق على الصادقين من الدعاة، السالكين منهج العلماء، ولا يعلمون أنّ غاية ما استدلوا به إنما هو من الخطإ المغفور، لا من السعي المشكور، وكل من لم يسلك سبيل العلم والعدل أصابه مثل هذا التناقض!
فصل
الفتنة وكلت بثلاث
وعلى هؤلاء أنْ يتأملوا طويلاً، ما أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/17-18) ، وأحمد في «الزهد» (2/136) ، ونعيم بن حماد في «الفتن» (352) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/274) ، والداني في «الفتن» (28) بسند جيد عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال:
«إن الفتنة وكِّلت بثلاث: بالْحادِّ النحرير الذي لا يرتفع له شيء إلا قمعه
(1)«منهاج السنة النبوية» (4/343) .
(2)
بسبب استحلالهم الخروج والسفك والقتل، والتخريب والدمار، وهذا من الفساد المشاهد الظاهر لكل أحد، ما أدري ما هي آراء هؤلاء، ولا سيما القادة والكبراء، بعد الفراغ من الفتن الدهماء، أيبقون على مواقفهم، أو يخفى عليهم سوء ما جنته أيديهم، أم أعمى الله أبصارهم لفرط أهوائهم، حتى خفي عليهم؟!!
بالسيف، وبالخطيب الذي يدعو إليها، وبالسيد، فأما هذان فتبطحهما لوجوههما، وأما السيد فتبحثه، حتى تبلو ما عنده» .
وفي رواية: «بالشريف» ، بدل:«وبالسيد» ، وفيها:«فأما الحاد النحرير فتصرعه، وأما هذان فتبحثهما حتى تبلو ما عندهما» .
و (النحرير) : هو الفطن البصير بكل شيء (1) ، وتوكل الفتنة به إنْ كان حادّاً غير حليم، ولا أناة عنده، يريد الخير بمجرد وقوفه ومعرفته له، من غير اتباع منهج السلف وسنة الله عز وجل في التغيير، ودون النظر إلى مآلات الأفعال، وعواقب الأمور، التي لا يجوز لأحد أن يستشرف الفتنة، ولا يخوض فيها دون ذلك.
وتشمل كذلك المعجبين به، وبتقريراته، وأطروحاته، فيشاركون فيها، بشرفهم وسيادتهم، وبألسنتهم وخطبهم، ومقالاتهم ومؤلفاتهم ونشراتهم وصحفهم وهيآتهم، فتختبرهم الفتنة، وتبلو ما عندهم، فالخطيب والداعي لها أقرب منها من الشريف المعجب الذي بهرته الزخارف، وغرته الشعارات، ولعله إنْ تأمَّل وتحلّم، ونظر، وفكر، ودبّر، وقدّر، يخلص منها، إنْ تداركته رحمة مولاه، وخرج عن داعي هواه.
والمثل الذي لا يزال شاخصاً أمامنا، وما زلنا نسمع دويّ صوته، ونكتوي بناره ولظاه: فتنة عظيمة عظيمة، ما انعقد نوّارها، وثارت على المسلمين -كل المسلمين- من أقصى (الغرب)(2) بسبب شباب متحمِّس، لا يحسن تقدير المصالح والمفاسد، ولا يزنها بميزان العلماء، ولا يقيم وزناً للضوابط المعتبرة عندهم، فثار ثورة هوجاء، ترتبت عليها نتائج خطيرة، وارتفعت أصوات تتهم (الدعوة السلفية)(3) بما هي منها براء، إذ هؤلاء الشباب
(1) كذا في «النهاية» (5/28) .
(2)
سيأتيك وصف لفتن الغرب في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: (ص 345 وما بعد) .
(3)
كان سبب ذلك: أنّ كثيراً من هذا الشباب -ولاسيما المتهمين بغزوتي نيويورك وواشنطن!! - من بلاد التوحيد، فصارت التهمة متوجهة للسلفيين ولأهل السنة والجماعة!!
لم يتَّبعوا منهج السلف في التغيير، ولا اتّكأوا على تقريرات الأعلام من علماء هذه الدعوة المباركة، وإنما غرّهم حماسُهم، ولم يعرفوا تقدير مكنتهم، ولا استدراج عدوّهم، ولا ما يكاد لهم، ولا واجب وقتهم، فشاركوا فيها بتمرّد، وعلى منهج أهل الحماسات والخروج (1) ، ودعت الحاجة إلى كشف حقيقة المشارب والمناهج والمدارس الفكرية العقدية التي تربى عليها هؤلاء المتمردون (2) .
ومن الجدير بالذكر: إنّ هذه الحوادث جعلت بعض (الأسياد) و (الشرفاء)(3) ، وبعض (الخطباء) ونحوهم ممن لهم قبول عند (النحارير الحادين)(4) يعيدون النظر في مواقفهم؛ لأنها بحثتهم وبلوتهم، وبطحت آخرين على وجوههم، وعمد بعضُ (5) من انكشفت له العواقب الوخيمة لأعمال هؤلاء إلى استنكار ما يجري، فنشر في مواقع كثيرة على شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) بياناً، أفصح عن رأيه وموقفه من صنيع هؤلاء، وكان صريحاً جريئاً -بحق- في توجيهه النَّقد، تكشف عن إدراك تام عن خطورة الموقف، وابتدأ الحديث عن المجاهدين بأفغانستان، ثم توجّه إلى بقاياهم -بعد سقوط حركة (طالبان)(6)
وظهور (دولة بني علمان) -والله
(1) لا يبعد عندي أنها من (المهيجات) العراقية! الواردة في الأحاديث النبوية المتقدّمة، وعلى أية حال؛ فقد انكشفت، وكان على إثرها غزو العراق واحتلاله في أبشع وأشنع ما طرق السمع، ورأى النظر من (فتن) وسفك دماء، ودمار بلدان.
(2)
وقامت جهود في توضيح ذلك، من خلال البحوث والندوات، وجرى الحديث في وسائل الإعلام، وظهرت الحقيقة جلية في بيان حقيقة هؤلاء، وأنّ أعمالهم لا صلة لها بمنهج السلف في التغيير، وما زال الأمر بحاجة إلى المزيد والمزيد من البيان والتأكيد.
(3)
المذكورون في أثر حذيفة السابق.
(4)
المذكورون في أثر حذيفة السابق.
(5)
هو الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي -سدده الله، ووفَّقه لمرضاته، وحفظه-.
(6)
ظهرت عنهم دراسة بعنوان: «حركة الطالبان وحصان طروادة» لعدنان محمد عبد الرزاق، قبل الأحداث الجسام، وذلك سنة 1417هـ -1996م، توقع فيها ما حصل بعد، =
المستعان- ممن انتشروا في سائر (البلدان) ، وجرت على أيديهم قلاقل وتفجيرات وتثويرات (1) ،
تجسَّدت -على رأي (الإعلام) بـ (غَزْوَتي نيويورك
= وانظر عنهم مقالاً بعنوان: (شهادة على تجربة طالبان في حوار مع فضيلة الشيخ رحمتي -نائب الشيخ جميل الرحمن-رحمه الله) ، المنشور في مجلة «البيان» (العدد 170، ص 86-95) . علماً بأن أخانا الشيخ شمس الدين السلفي الأفغاني رحمه الله كان يطعن في عقيدتهم ومنهجهم! وهو أعلم بهم من غيره..
(1)
كانت هذه التفجيرات في كثير من بلاد المسلمين، حتى وصلت بلاد الحرمين الشريفين، بل كادت أنْ تصل مكة نفسها! وظهرت في أوقات مختلفة قبل أحداث أمريكا وبعدها، وابتدأت من انفجارات مدينة (الخبر) ، التي استنكرتها هيئة كبار العلماء برئاسة العلامة الشيخ ابن باز رحمه الله في 2/4/1419هـ، وتلتها انفجارات مدينة الرياض -حرسها الله-، واستنكرتها الهيئة نفسها برئاسة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ -حفظه الله- في 13/3/1424هـ، ومما جاء في آخر هذا البيان:
وصدر -أيضاً- في 15/3/1424هـ بيان عن أكثر من أربعين عالماً وداعياً، أدانوا فيه هذا الفعل الشنيع، وعزوا أصحابه إلى «الأفكار المنحرفة التي تمهّد للعدوان على الدماء، والأموال، والأعراض، بالشُّبه، والتأويلات الباطلة» .
وصدرت في الصحف آنذاك مقالات وبيانات تستنكر هذه الأعمال، وتعزوها إلى الغلو والانحراف العقدي والمنهجي. انظر -على سبيل المثال-: جريدة «المدينة» : الثلاثاء، العدد (12087) ، السنة الواحدة والستون، 27/ذو الحجة/سنة 1416هـ، وصحيفة «الوطن» السعودية بتاريخ 16/ربيع الأول/سنة1424هـ، و «فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة» (ص 11-41، 133-142) ، و «كيف نعالج واقعنا الأليم» (ص 135-143) .
وكل ذلك يتفق مع ما قررناه من صلة هذه الأحداث بهذا الفكر الخارجي، وصرح بذلك خطباء الحرمين الشريفين آنذاك، -زادهم الله توفيقاً وحفظاً-. وانظر:(فاتحة القول) من مجلتنا «الأصالة» العدد (43)، بعنوان:(ماذا ينقمون من بلاد الحرمين) .
ومما ينبغي أن يشار إليه: أنّ هذه التفجيرات ليست خاصة ببلاد المملكة العربية السعودية، =
وواشنطن) -، والله أعلم بحقيقة الأحوال.
قال الدكتور سفر مبيّناً (افتخارهم على سائر أبناء الأمة) :
«فلو أنّ المجاهدين التزموا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على التمام
…
-ومن ذلك: التشاور مع من يهمه الأمر، وترك الافتئات على سائر الأمة- لتحقق لهم من النكاية في العدو، وقوة الشوكة، ما ينفع ولا يضر، ولما كان
= وإنما ظهرت -أيضاً- في كثير من البلدان؛ مثل: المغرب، والأردن، واليمن، ومصر، وأندونيسيا!
وأخيراً
…
لا بد في هذ المقام من همسة في آذان القائمين بهذه التفجيرات، بل همسات، تنفذ من الأذن فتصل إلى القلب، فتخالطه وتلامس شغافه، وتبلِّل جفافه:
يا هؤلاء!
أتعرفون أسلافكم في أعمالكم، أتعرفون من ذهب ضحيتها، أتعرفون الهيئة التي تقومون فيها؟
ألم يذهب الضحية في غالب هذه التفجيرات إخواننا، وهم ينطقون بالشهادتين، ويصلُّون صلاتنا، ويأكلون ذبيحتنا، ولهم ما لنا، وعليهم ما علينا؟
ألم يكن بعضكم -من قريب- مثل هؤلاء؟
وأسألكم -بالله عليكم-: ما الفارق بينكم وبينهم؟! لم لا تعودون إلى الوراء قليلاً، وتذكرون أنّ الذي فتح عيونكم على حقيقة الإسلام أخذ بأيديكم برفق ولين؟!
والله! لقد احترتُ فيما أكتب إليكم، ولكن بعد تفكر وتروٍّ سأذكر لكم أسطورة، فتأمّلوها لعلها تنفعكم، فأقول لكم:
لعلكم سمعتم أو قرأتم القصة الرمزية (الأسطورة) ، التي تتحدث عن المنافسة بين الشمس والريح، في مقدرة كل منهما على إجبار بدوي في الصحراء على خلع ردائه، فقالت الريح: أنا أقدر منك، وقالت الشمس: بل أنا أقدر منك، فدخلتا في تنافس، فأعطت الشمس الفرصة للريح، فغابت عن الكون، واختفت خلف السحب، وبدأت الريح تهب، وتزداد شدة وعنفاً، والبدوي متمسك بردائه، وكلما اشتدت؛ زاد تمسكه بردائه، وتلفلفه به، حتى عجزت الريح رغم عنفها وقوتها وأعاصيرها، فلما بان عجزها واستسلمت؛ سكنت وأعطت المجال للشمس، فأخذتْ تطلُّ بوجهها برفق من بين الغيوم، فدفىء الكون، ودخل الدفء (برفق) إلى جسد البدوي، وبدأت الشمس تزيد من حرارتها رويداً رويداً بتدرج (رفيق) ، لم يعد البدوي يطيق رداءه، فخلعه وألقاه جانباً
…
لأحد أن يعترض عليهم إلا منافق معلوم النفاق» .
وقال -أيضاً- منبّهاً على (الجانب النفسي في أفكارهم وتصرفاتهم) :
وقال -أيضاً-: «والشباب المتديِّن الذي وجدها فرصة للهروب من وطأة السجن، والملاحقة، والعذاب النفسي من المجتمع والأهل، وإحياء فريضة الجهاد» .
وقال -أيضاً-: «إن الانفتاح على هؤلاء، وإتاحة الحرية لهم في عرض ما لديهم، ومحاورتهم على ضوء قاعدة المصالح والمفاسد الشرعية؛ هو الحل الصحيح والوحيد، وإلا فسندخل في متاهة لا قرار لها، ولا أدل على ضرورة هذا من معرفة أسباب تسرب الغلوّ في الفكر والعمل إلى بعضهم
…
» .
وقال الشيخ سفر في (كشف حقيقة حالهم) :
وقال في (عظم جنايتهم على الأمة) :
وقال في (بيان جهلهم واغترارهم) :
وقال متمماً هذا الكلام، كاشفاً عن حقيقة خطيرة؛ وهي: أنهم (ضحايا تغرير) :
«ومن هنا؛ فإنّ الخطب الرنانة، والمقالات والتحقيقات الواسعة في بلادنا عن الحادث التي توحي بأن التهم حقيقية وأن التبعات مقصودة، وتصور هؤلاء الفتية وكأنهم شياطين مردوا على الشر، لا غاية لهم إلا تدمير السلام
(1) وكان كما توقع الشيخ -حفظه الله-: وراح الشبان والنساء والشيوخ والأطفال في حرب سعرها عليهم (الأمريكان) بسبب مَنْ تحدث عنهم.
العالمي، والبطش بالأبرياء؛ هي مجافاة لمنطق العدل، ومنطق الدفاع عن البلد وأبنائه، وإساءة بالغة لمشاعر أهلهم وقبائلهم، وهي منافية بوضوح لتصريحات المسؤولين التي لم تزد على وصف هؤلاء بأنهم: ضحايا تغرير، فهكذا كان تصريح وزير الداخلية، وهو أكثر الناس متابعة لهؤلاء، وأعرفهم بدوافعهم» .
ثم تكلم عن (انحرافات هؤلاء الشباب العقدية) بما يؤكد صلة ما يقومون به بمبدأ (الخوارج) الذي ظهر من العراق، وهاج من هناك، وبقي يتعاقب في أحداث ونفسيات إلى وصوله إليهم، قال:
«وذهب بهم الغلو إلى تكفير غيرهم، ومن ذلك تكفير الجماعات الإسلامية نفسها» .
وتساءل بقوله: «كيف تسلل الغلو، وانتهاج العنف إلى بعضهم، وحوله إلى بلده ومجتمعه أحيانا؟» وأجاب بما أداه إليه رأيه واجتهاده، وهو لا يخرج عن التفسير التاريخي، الذي أخشى أنْ يكون من جنس الاحتجاج بالقدر الكوني، فأقول مستدركاً عليه -وفّقه الله-:
إنّ الجواب سهل ويسير، فيكفي أنْ يمد الدكتور يده إلى مكتبته، ليخرج كتاباً من كتب سيد قطب، ويقف بين صفحاته على النصوص الكثيرة التي (تسلل) من خلالها:(الغلو، وانتهاج العنف) إلى عقول وسلوك شباب الأمة الذين رُبُّوا على تلك الكتب.
يكفي أن يجدد الدكتور قراءاته في تلك النصوص بعين العدل والإنصاف، والتجرد للحق؛ ليكتشف أنّ الذي جرأهم على (الافتئات
على الأمة) ، والإعراض عن علمائها، بل الطعن فيهم، وإساءة الظن فيهم، وربما تكفيرهم؛ إنما هو تلك النصوص القطبية التي زرعت فيهم روح الثورة على الأمة، واحتقار أولي الأمر فيها؛ أعني: العلماء.
ويكفي أنْ أذكر هنا نماذج من تلك النصوص:
أولاً: في بث روح الثورة والتمرّد على الأمة الإسلامية -بالمفهوم الجمعي للأمة-:
قال سيد قطب في كتابه «معالم في الطريق» ، مصرحاً بأنّ المجتمعات الإسلامية اليوم كلها مجتمعات جاهلية بلا استثناء:
«وأخيراً؛ يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة! وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار؛ لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا أنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله -أيضاً-، ولكنها تدخل في هذا الإطار؛ لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها
…
إنّ موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية -كلها- يتحدد في عبارة واحدة: إنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها» .
وأكد ذلك بنفي وجود (الإسلام) علىوجه الأرض، فقال:
«وحين نستعرض وجه الأرض كله اليوم، على ضوء هذا التقرير الإلهي لمفهوم الدين والإسلام، لا نرى لهذا الدين وجوداً.. إنّ هذا الوجود قد توقف منذ أن تخلت آخر مجموعة من المسلمين عن إفراد الله بالحاكمية في حياة البشر، وذلك يوم أن تخلت عن الحكم بشريعته وحدها في كل شؤون الحياة، ويجب أن نقرر هذه الحقيقة الأليمة، وأن نجهر بها، وأن لا نخشى خيبة الأمل التي تحدثها في قلوب الكثيرين الذين يحبون أنْ يكونوا مسلمين؛ فهؤلاء من حقهم أنْ يستيقنوا؛ كيف يكونون مسلمين؟! إنّ أعداء هذا الدين بذلوا طوال قرون كثيرة -وما يزالون يبذلون- جهوداً ضخمة، ماكرة، خبيثة؛ ليستغلوا
إشفاق الكثيرين الذين يحبون أنْ يكونوا مسلمين؛ من وقع هذه الحقيقة المريرة، ومن مواجهتها في النور، وتحرجهم كذلك من إعلان: أنّ وجود هذا الدين قد توقف منذ أن تخلت آخر مجموعة مسلمة في الأرض عن تحكيم شريعة الله في أمرها كله
…
» (1) .
ويؤكد سيد قطب على تكفير المسلمين، بمن فيهم أولئك الذين يرفعون أصواتهم بالأذان خمس مرات في اليوم، فيقول:
«لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية، وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه يوم تنزل هذا القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوم جاءها الإسلام مبنيّاً على قاعدته الكبرى: شهادة أن لا إله إلا الله.
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بـ (لا إله إلا الله) ؛ فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان، ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن: لا إله إلا الله؛ دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعنيَ هذا المدلولَ وهو يرددها، ودون أن يرفض شرعية الحاكمية التي يدعيها العباد لأنفسهم، وهي مرادف الألوهية، سواء ادعوها كأفراد، أو كتشكيلات تشريعية، أو كشعوب، فالأفراد كالتشكيلات كالشعوب ليست آلهة، فليس لها إذَنْ حقُّ الحاكمية
…
إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا الله، فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية، ولم تعد توحد الله، وتخلص له الولاء.
البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: لا إله إلا الله؛ بلا مدلول ولا واقع
…
وهؤلاء أثقل إثماً وأشد عذاباً يوم القيامة؛ لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد -من بعد ما تبين لهم الهدى- ومن بعد أن كانوا في دين الله! فما أحوج العصبة المسلمة اليوم
(1)«العدالة الاجتماعية» (183-184) .
أن تقف طويلاً أمام هذه الآيات البينات» (1) .
ويدعو سيد قطب إلى مفاصلة المجتمع الإسلامي؛ لأنه -في اعتقاده- مجتمع جاهلي لا يمت للإسلام بصلة، فيقول:«إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها هذا العذاب: {أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض} [الأنعام: 65] ، إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيديّاً وشعوريّاً ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها، حتى يأذن الله لها بقيام (دار إسلام) تعتصم بها، وإلا تشعر شعوراً كاملاً بأنها هي الأمة المسلمة، وأن ما حولها ومن حولها ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه: جاهلية وأهل جاهلية، وأن تفاصل قومها على العقيدة والمنهج، وأن تطلب بعد ذلك من الله أن يفتح بينها وبين قومها بالحق وهو خير الفاتحين» (2) .
ويقول -أيضاً-: «إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم؛ قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله، والفقه الإسلامي» (3) .
ويقول -أيضاً-: «فأما اليوم؛ فماذا؟! أين هو المجتمع المسلم الذي قرر أن تكون دينونته لله وحده، والذي رفض بالفعل الدينونة لأحد من العبيد، والذي قرر أن تكون شريعة الله شريعته، والذي رفض بالفعل شريعة أي
(1)«في ظلال القرآن» (2/1057) . وفي هذا الكلام تكفير واضح للأمة الإسلامية كلها، وحكم عليها بالردة، وأنهم أشد الكفار عذاباً؛ لأنهم ارتدوا بعد ما تبيّن لهم الهدى.
(2)
«في ظلال القرآن» (2/1125) .
(3)
«في ظلال القرآن» (4/2122) . وقد كتب هذا الكلام وهو يعلم جيداً بأن الدولة أسسها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله قد قامت على عقيدة التوحيد، وتطبيق الشريعة، لكن لا عجب أن يذهب سيد قطب إلى تكفيرها -أيضاً-؛ لأنها رفضت المنهج الاشتراكي الذي اعتنقه سيد قطب، وذهب بسببه إلى الطعن في أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين، ذي النُّورين: عثمان بن عفان رضي الله عنه، واعتبر خلافته باطلة وفجوة في تاريخ الإسلام؛ كما في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» !
تشريع لا يجيء من هذا المصدر الشرعي الوحيد؟ لا أحد يملك أن يزعم أن هذا المجتمع المسلم قائم موجود!» (1) .
ويقول سيد قطب مؤكداً ما سبق، ومنتقداً من يفكرون في النظام الإسلامي: «إن الذين يفكرون في النظام الإسلامي اليوم وتشكيلاته، أو يكتبون، يدخلون في متاهة! ذلك أنهم يحاولون تطبيق قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية المدونة في فراغ، يحاولون تطبيقها في هذا المجتمع الجاهلي القائم، بتركيبه العضوي الحاضر، وهذا المجتمع الجاهلي الحاضر يعتبر -بالقياس إلى طبيعة النظام الإسلامي، وأحكامه الفقهية- فراغاً، لا يمكن أن يقوم فيه هذا النظام، ولا أن تطبق فيه هذه الأحكام،
…
إن تركيبه العضوي مناقض تماماً للتركيب العضوي للمجتمع المسلم، فالمجتمع المسلم -كما قلنا- يقوم تركيبه العضوي على أساس ترتيب الشخصيات والفئات كما ترتبها الحركة لإقرار هذا النظام في عالم الواقع، ولمجاهدة الجاهلية لإخراج الناس منها إلى الإسلام، مع تحمل ضغوط الجاهلية، وما توجهه من فتنة، وإيذاء، وحرب على هذه الحركة، والصبر على الابتلاء، وحسن البلاء، من نقطة البدء إلى نقطة الفصل في نهاية المطاف، أما المجتمع الجاهلي الحاضر؛ فهو مجتمع راكد، قائم على قيم لا علاقة لها بالإسلام، ولا بالقيم الإيمانية
…
وهو -من ثم- يُعَدُّ بالقياس إلى النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية فراغاً لا يعيش فيه هذا النظام، ولا تقوم فيه هذه الأحكام» (2) .
ثانياً: في احتقار العلماء (3)، وتجاوز المرجعيات الدينية للأمة:
(1)«في ظلال القرآن» (3/1735) ، وراجع الهامش السابق.
(2)
«في ظلال القرآن» (4/2009) .
(3)
الذين يسمِّيهم سيِّد: (رجال الدِّين)، ويريد بهم -كما يدلُّ عليه سياق كلامه-: الجنس، وليس النوع؛ فتنبه.
ويقول سيد -أيضاً-: «وبعد؛ فليطمئن المخلصون من المفكرين، ورجال الفنون، ومن إليهم؛ أن حكم الإسلام لن يسلمهم إلى المشانق والسجون، ولن يكبت أفكارهم، ويحطم أقلامهم، وينبذهم من حمايته ورعايته، ولا يأخذوا الصيحات التافهة التي يصيحها اليوم: رجال الدين المحترفون في وجه بعض الكتب، وبعض الأفكار حجة!! فإنما هذه الصيحات تجارة رابحة اليوم، وحرفة كاسبة؛ لأنهم يعيشون في عهد الإقطاع الذي يقيمهم حراساً لمظالمه وجرائمه، ولكي يبرروا وجودهم في أعين الجماهير؛ يطلقون هذه الصيحات الفارغة بين الحين والحين، فأمّا حين يكون الحكم للإسلام؛ فلن يبقى لهؤلاء عمل، فسيكونون مجندين لعمل منتج نافع، هم وبقية المتعطلين المتمسكعين من كبار الملاك، ورجال الأموال، ومن الموظفين، والمستخدمين في الدواوين، ومن أحلاس المقاهي والمواخير والحانات، ومن المشردين في الشوارع والطرقات، أو المصطلين للشمس حول الأجران
…
وكلهم في التبطل والتسكع سواء، بعضهم: كاره مضطر،
(1)«معركة الإسلام والرأسمالية» (63) .
وبعضهم: كسول خامل، وبعضهم: مستغل مستهتر» (1) .
ويتعجب سيد من المفتين والمستفتين في المجتمعات الإسلامية عن مشكلات تواجههم، فيقول: «والإسلام نظام اجتماعي متكامل، تترابط جوانبه وتتساند، وهو نظام يختلف في طبيعته وفكرته عن الحياة ووسائله في تصريفها، يختلف في هذا كله عن النظم الغربية، وعن النظم المُطَبَّقة اليوم عندنا، يختلف اختلافاً كليّاً أصلاً عن هذه النظم، ومن المؤكد أنه لم يشترك في خلق المشكلات القائمة في المجتمع اليوم، إنما نشأت هذه المشكلات عن طبيعة النظم المطَبَّقة في المجتمع، ومن إبعاد الإسلام عن مجال الحياة.
ولكن العجيب بعد هذا، أنْ يكثر استفتاء الإسلام في تلك المشكلات، وأن يُطلَب لها عنده حلول، وأن يُطلَب رأيه في قضايا لم ينشئها هو، ولم يشترك في إنشائها.
العجب أن يستفتى الإسلام في بلاد لا تطبق نظام الإسلام، في قضايا من نوع:(المرأة والبرلمان) ، و (المرأة والعمل) ، و (المرأة والاختلاط) ، و (مشكلات الشباب الجنسية) وما إليها، وأن يستفتيه في هذا وأمثاله ناس لا يرضون للإسلام أن يحكم، بل إنه ليزعجهم أن يتصوروا يوم يجيء حكم الإسلام.
(1)«معركة الإسلام والرأسمالية» (84) . وهكذا يغازل سيد قطب (رجال الفكر والفن) من كل كاتب أو أديب متحرر، أو فيلسوف مارق، أو رسام تلاحقه اللعنة، أو ممثل وممثلة، أو مطرب ومطربة، وغيرهم من المفسدين في الأرض، ويعدهم إن قامت دولته أن تكون لهم الصولة والجولة، ويكون مصير علماء الإسلام الذين ينبزهم برجال الدين؛ أن يجنَّدوا في عمل منتج، هم ومن ذكرهم من أحلاس المقاهي، والمواخير، والحانات، فـ:(رجال الدين) في نظره لا يقلون سوءاً وضرراً على المجتمع من أولئك السفهاء الساقطين، فكلُّهم سواء!!
وقد فطن العلامة محمود شاكر رحمه الله إلى أخطاء (سيد) ، فرد عليه في مجموعة مقالات في عدة مجلات مصرية قديمة، وجمعتُ مقالاته في هذا الصدد بكتاب مفرد، يسر الله ظهوره ونشره بخير وعافية.
والأعجب من أسئلة هؤلاء أجوبة رجال الدين، ودخولهم مع هؤلاء السائلين في جدل حول رأي الإسلام، وحكم الإسلام في مثل هذه الجزئيات، وفي مثل هذه القضايا، في دولة لا تحكم بالإسلام.
ما للإسلام اليوم؛ وأن تدخل المرأة البرلمان، أو لا تدخل؟! ما له وأن يختلط الجنسان أو لا يختلطان؟ (1) ما له وأن تعمل المرأة أو لا تعمل؟ ما له وما لأي مشكلة من مشكلات النظم المطبقة في هذا المجتمع الذي لا يدين للإسلام، ولا يرضى حكم الإسلام؟
إنّ الفقه الإسلامي لا ينشأ في فراغ، ولا يعيش في فراغ كذلك، لا ينشأ في الأدمغة والأوراق، وإنما ينشأ في الحياة، وليس أية حياة، إنما هي حياة المجتمع المسلم على وجه التحديد، ومن ثم لا بد أن يوجد المجتمع أولاً بتركيبه العضوي الطبيعي، فيكون هو الوسط الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي ويطبق، وعندئذٍ تختلف الأمور جدّاً، وساعتها قد يحتاج ذلك المجتمع الخاص -بعد نشأته في مواجهة الجاهلية، وتحركه في مواجهة الحياة- إلى البنوك، وشركات التأمين، وتحديد النسل،
…
إلخ، وقد لا يحتاج! ذلك أننا لا نملك سلفاً أن نقدر أصل حاجته، ولا حجمها ولا شكلها، حتى نُشرِّع لها سلفاً! كما أن ما لدينا من أحكام هذا الدين لا يطابق حاجات المجتمعات الجاهلية ولا يلبيها
…
ذلك أن هذا الدين لا يعترف ابتداء بشرعية وجود هذه المجتمعات الجاهلية، ولا يرضى ببقائها، ومن ثم فهو لا يعني نفسه بالاعتراف بحاجاتها الناشئة من جاهليتها، ولا بتلبيتها كذلك» (2) .
(1) وكأنّ الالتزام بالإسلام متوقف على وجود الحكومة الإسلامية؛ وليس واجباً فرديّاً، ومسؤولية شخصية، يحاسب عليها الإنسان بين يدي الله -تعالى- وحده، إنّ مثل هذا النص قد يعيننا على فهم ما صدر من بعض أتباع هذا المنهج في بعض البلاد الإسلامية وغير الإسلامية؛ من استباحة الدماء، والأعراض، والأموال.
(2)
«في ظلال القرآن» (4/2010) .
أقول: لا تحتاج هذه النصوص -وهي غيض من فيض- إلى شرح أو تعليق، فهي واضحة صريحة، تكشف حقيقة الأسس التي بنى عليها سيد قطب فكره، ثم جاء من بعده أتباعه فزادوا فيها من الغلو والتطرف ألواناً، فلا عجب أن يُلغُوا:(وجود الأمة الإسلامية) ، ويتجاوزا (أولي الأمر فيها) ؛ فينظروا إلى ورثة الأنبياء، الذين وقَّفوا حياتهم على خدمة كتاب الله -تعالى-، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، علماً وعملاً، وتفقهاً وتفقيهاً، وتعليماً ودعوة، وبذلوا -ومازالوا يبذلون- كل ما في استطاعتهم من أجل نشر دعوة التوحيد والسنة، ومحاربة مظاهر الشرك والبدع التي ابتليت بها معظم طوائف الأمة، لا عجب أن يعتبروا ذلك عملاً سفيهاً، وجهداً ضائعاً، ودعوة تنبئ عن جبن أولئك العلماء، وعجزهم، وإشغالهم أنفسهم بما لا يغضب الحكام خوفاً منهم، وخضوعاً لهم!!
نعم؛ لهذا وجدت في العالم الإسلامي أجيال من المسلمين ثائرة على الأمة، متمردة على العلماء، ساخرة من جهودهم في العلم والدعوة، لا ترى الدين إلا في (الحاكمية)(1) -فبها فسر سيد قطب كلمة التوحيد! - فلا يقيسون الأمور إلا من خلالها، ولا يُقيِّمون الأشخاص إلا في ضوئها، ولا يحملون هدفاً في الحياة سوى الوصول إليها!
وهكذا انحسر الخطاب الديني في الأمة، وتاه كثير من الناس في المسالك المهلكة، وكان ذلك من أعظم المصائب التي نزلت بالمسلمين.
ورغم ذلك كله؛ فإنّ ما حققه علماء الأمة في العصر الحديث -بدءاً بدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وحتى يوم الناس هذا- في إحياء منهج الأنبياء، وإصلاح عقائد المسلمين وأعمالهم، والخروج بهم من ظلمات الممارسات الشركية، والعبادات البدعية، والضلالات
(1) انظر -لزاماً- (فتاوى العلماء) حول هذا المصطلح وجعله من (أنواع التوحيد) ! في جريدة «المسلمون» ، العدد (639) ، الجمعة 25/ذو الحجة/1417هـ.