المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي فتنة التتر والمغول - العراق في أحاديث وآثار الفتن - جـ ١

[مشهور آل سلمان]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌فصلفي بيان أنّ العراق تهيّج منها الفتن،وصلتها بأهمّ فتن هذا العصر

- ‌ طرق في ألفاظها نُكْرة

- ‌ أحاديث أخرى وقع التصريح فيها بذكر العراق، وأن الفتن تهيج منها، أو تكون فيها، وفي أسانيدها ضعف:

- ‌فصلفرية وردّها

- ‌فصلالفتن تموج موج البحر

- ‌فصلضروب الفتنة

- ‌الضرب الأول: لا ينفك عن الإنسان في أي مكان أو زمان كان

- ‌الضرب الثاني: الفتن التي تموج موج البحر

- ‌فصلزمن الفتنة (نشأتها، اشتدادها، آخرها)

- ‌فصلالخوارج والعراق

- ‌فصلاستمرار خروج الخوارج ووصول فتنتهم إلى كل مكان

- ‌فصلالخروج في عصرنا

- ‌فصلمظاهر الخروج الجديد ونواره الذي لم ولن يعقد

- ‌فتنة جهيمان والحرم المكي

- ‌فصلفتنة حماة

- ‌فصلفتنة الجزائر المتولّدة عن الخروج الأول في العراق

- ‌ فتنة الجزائر وجبهة الإنقاذ الإسلامية

- ‌مما زاد وَحَل هذه (الفتنة) :

- ‌فصلالتباس (الثورة) بمفهوم الجهاد

- ‌فصلالفرق بين المطلوب الشرعي وواجب الوقتوما عليه أصحاب الثورات والانقلابات ودعاة الخروج

- ‌فصلالفتن في كل زمان حسب رجاله

- ‌فصلاشتداد الفتن مع مضي الزّمن

- ‌فصلحرمة التشبه بأهل العراق في خروجهم الأول

- ‌فصلالفتنة وكلت بثلاث

- ‌فصلكلام جملي عن محور الفتنة وثمرتها ووقتهاومادتها ووسيلتها ووقت اشتدادها

- ‌فصلمكان الفتنة

- ‌فصلرد شيخنا الألباني لفرية (نجد) التي يطلع منها قرن الشيطانهي دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى

- ‌فصلالعراق والفتنة وإبليس

- ‌فصلفي تخريج حديث: «منعت العراق

- ‌فصلفي ألفاظ الحديث

- ‌فصلفي غريبه

- ‌فصلتنبيهات مهمات

- ‌فصلتبويبات العلماء على الحديث

- ‌ تبويبات المخرجين له:

- ‌ معرض الاستشهاد

- ‌فصلتعليقات وإيضاحات على حديث: «منعت العراق

- ‌فصلفي بيان معنى (المنع) الوارد في الحديث

- ‌فصلفي بيان الراجح في معنى (المنع) الوارد في الحديث عند الشراح

- ‌فصلفي سياق قول جابر وتخريجه

- ‌فصلفي سياق كلام العلماء في تحديد من هم المانعون

- ‌فصلفي سياق كلام أبي هريرة رضي الله عنه

- ‌الإشكال الأول: كيف يقال عن حديث مسلم الذي فيه «منعت العراق…» متفق عليه

- ‌الإشكال الثاني: كيف يقال عن لفظ مسلم: متفق عليه

- ‌فصلفي سياق الألفاظ وما يشهد لها من الآثار

- ‌فصلفي بيان أن المراد بالأخبار السابقة أكثر من حادثة

- ‌فصلفي أحاديث الترك وإخراج أهل العراق

- ‌الحديث الأول: حديث بريدة بن الحصيب

- ‌ الكلام على إسناد حديث بريدة

- ‌الحديث الثاني: حديث معاوية بن أبي سفيان

- ‌الحديث الثالث: حديث أبي بكرة نُفَيع بن الحارث بن كَلَدة

- ‌ الكلام على إسناد حديث أبي بكرة

- ‌ هل الحديث منكر

- ‌ ثلاث ملاحظات مهمات، وكليّات معتبرات، وإفاضات وإضافات:

- ‌ شواهد بمعانٍ مقاربة من المرفوع والموقوف

- ‌فصلفي وصول الشر والفتن آخر الزمان كل مكان

- ‌الأول: كثرة الخير الذي ظهر من الشام في زمن عمر للمسلمين

- ‌الثالث: الفتن ظهرت في زمن الصحابة

- ‌الرابع -وبيت القصيد-: إن الفتن آخر الزمان ستشتد

- ‌فصلفي الأخبار السابقة، هل مضت وانتهت

- ‌فصلفي فتنة التتر والمغول

- ‌من الجدير بالذكر هنا أمور:

- ‌أولاً: وردت في بعض الحوادث صفاتٌ تأذن بأن بعض الآثار المتقدم ذكرُها إنما هي في هذه الفتنة

- ‌ثانياً: وقعت حوادث كثيرة قبل الاجتياح المذكور لبغداد

- ‌ثالثاً: تتابعت غزوات التتار

- ‌خامساً: حمل بعض شراح الحديث ما حصل من التتار على أنهم هم يأجوج ومأجوج

- ‌فصلحصار العراق الاقتصادي

- ‌أولاً: تبويبات بعض العلماء

- ‌ثالثاً: المتمعن في الكلام السابق يجد أن القائلين بأن الأمر قد ظهر تتفاوت أزمانهم

- ‌رابعاً: في الحديث ما يشير إلى هذا التكرار

- ‌فصلالمدينة النبوية ونصيبها من الفتن

- ‌فصلفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم «وعدتم من حيث بدأتم»

- ‌فصلفي خروج خيار أهل العراق منها

الفصل: ‌فصلفي فتنة التتر والمغول

غسيل من الجنابة، وأن الخمر حلال، وأن الصوم في السنة يومان، ويزيدون في أذانهم محمد ابن الحنفية رسول الله، وأن الحج والقبلة إلى بيت المقدس، وأشياء أُخر» .

وأسند ابن المقرئ في «معجمه» (ص 353/رقم 1172) إلى ذي النون المصري الزاهد، قال -وأومأ إلى موضع بمصر-:«كأنك عن قليل ترى هذه المدينة عامرة، ويخرج منها الخيل المحذفة وقوم من عجم، وعن قليل تراها خراباً» ، وعقبه:«قال أبو الحسن: ورأيناها عامرة، ورأيناه خراباً» .

‌فصل

في فتنة التتر والمغول

فتنة المغول والتتر من أعظم الفتن التي اجتاحت المسلمين، فقد قُوِّضَتْ بسببها الخلافةُ العباسية سنة 656هـ، واستحلوا بغداد، وأبادوا خضراءها، واستحلوا بيضتها، وفعلوا فيها ما لا يمكن وصفه، ثم فعلوا نحواً من ذلك في حلب، وأخذوا دمشق سهلة سائغة، ثم فعلوا مثل ذلك في مصر -أيضاً-، حتى أمكن الله منهم في عام (658هـ) في موقعة (عين جالوت) على يد المظفر قطز بن عبد الله المعزي، وقائد جيشه الظاهر بيبرس، فلم ينج منهم إلا من وَلّى الأدبار، واختفى عن الأنظار.

قال ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» (1) في حوادث سنة (ست وخمسين وست مئة) ما نصُّه:

(1)(17/356-364 - ط. هجر)، وانظر -أيضاً-إن أردتَ الاستزادة-:«الروضتين في أخبار الدولتين» (2/477 و4/411) ، «الذيل على الروضتين» (ص 198-199) لأبي شامة، «ذيل مرآة الزمان» (1/85-92) ، «نهاية الأرب» (27/380-383) ، «العبر» (5/225-226) ، «عقد الجمان» (1/167-183) ، «شفاء القلوب» (268-296) .

ص: 369

«فيها أخذت التتار بغداد، وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها.

استهلّت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صُحبةَ الأميرين اللذَيْن على مقدمة عساكر سلطان التتار هولاكوقان (1) ، وجاءت إليهم أمدادُ صاحبِ الموصل يساعدونَهم على البغاددة ومِيرَتُه وهداياه وتحفُه، وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار، ومصانعةً لهم -قبحم الله تعالى-، وقد سُتِرَت بغداد، ونُصبت فيها المجانيقُ والعَرَّادَاتُ وغيرُها من آلات الممانعة التي لا تَرُدُّ من قدر الله سبحانه وتعالى شيئاً، كما ورد في الأثر:«لن يُغنِيَ حَذَرٌ من قَدَر» (2) ،

وكما قال -تعالى-: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّر} [نوح: 4] ،

(1) هولاكو؛ هو: ابن طلو. وفي «طبقات الشافعية» (8/268) : «ابن تولى» ، وفي «شذرات الذهب» (5/316) :«ابن قولى» بن جنكيز خان، كانت وفاته سنة 664هـ، كما في «الشذرات» -أيضاً-.

(2)

أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/492) ، والطبراني في «الأوسط» (3/242 رقم 2519) وفي «الدعاء» (2/80 رقم 33) ، والبزار في «المسند» (3/29-30 رقم 2165 - «زوائده» ) ، وابن عدي في «الكامل» (3/1068) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (8/453) ، وابن الجوزي في «الواهيات» (2/359 رقم 1411) عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بأطول من هذا، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وفي إسناده زكريا بن منظور، قال الحافظ الذهبي معقباً على الحاكم:«زكريا مُجمَعٌ على ضعفه» . وانظر: «مجمع الزوائد» (10/146) .

وله شاهد من حديث معاذ رفعه، أخرجه أحمد في «المسند» (5/234) ، والطبراني في «الكبير» (20/103-104 رقم 201) و «الدعاء» (32)، ولفظه: «لن ينفع حذر من قدر،

» . وفيه شهر بن حوشب، فيه كلام، ولم يسمع من معاذ، وفيه إسماعيل بن عياش، وروايته هنا عن أهل الحجاز، وهي ضعيفة. انظر:«مجمع الزوائد» (10/146) .

وشاهد آخر من حديث أبي هريرة، عند البزار (2164 «زوائده» ) ، وفيه إبراهيم بن خثيم، متروك.

وانظر: «العلل» (1/220) لابن أبي حاتم، «شأن الدعاء» (6-13) للخطابي، «الداء والدواء» (18-22) لابن القيم.

ص: 370

وقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوم حَتى يُغَيِّرُوا ما بِأَنفُسِهم وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بقوم سُوءاً فلا مَرَدَّ له وما لَهُم مِن دُونه مِن وَال} [الرعد: 11] .

وأحاطت التتارُ بدار الخلافة يرشقونها بالنُّشَّاب من كل جانب، حتى أصيبت جاريةٌ كانت تلعب بين يدي الخليفة وتُضحكه، وكانت من جملة الحظايا، وكانت مُوَلَّدةً تُسمى عرفةَ، جاءها سهمٌ من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفةُ من ذلك، وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهمَ الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدرِه سلبَ ذوي العقول عقولَهم.

فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرةِ الستائر على دار الخلافة، وكان قدوم هولاكوقان بجنوده كلِّها -وكانوا نحواً من مئتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عَشَرَ المُحَرَّمِ من هذه السنة، وهو شديدُ الحَنَق على الخليفة بسبب ما كان تقدم من الأمر الذي قدّره الله وقضاه وأنفذه وأمضاه، وهو أن هولاكوقان لما كانَ أولُ بروزِه من هَمَذان متوجهاً إلى العراق أشار الوزير مُؤَيِّدُ الدِّين محمد بنُ العَلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سَنِية؛ ليكون ذلك مداراةً عما يريده من قصد بلادهم، فخذَّل الخليفة عن ذلك دُوَيْدارُه (1)

الصغيرُ أَيْبَك وغيرُه، وقالوا: إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال، وأشاروا بأن يبعث إليه بشيء يسير، فأرسل شيئاً من الهدايا، فاحتقرها هولاكوقان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دُوَيْدارَه المذكورَ، وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه، ولا بالى به حتى أزِف قدومُه،

(1) في «ذيل مرآة الزمان» ، و «نهاية الأرب» ، و «عقد الجمان» جاءت صفته، أنه الدوادار. ولم يُذكر في «الذيل على الروضتين» ، والمثبت موافق لما في «العبر» . والدوادرية: تبليغ الرسائل عن السلطان وإبلاغ عامة الأمور، وتقديم القصص إليه، والمشاورة على من يحضر إلى الباب الشريف، وتقديم البريد، هو وأمير جاندار وكاتب السر، ويأخذ الخط على عامة المناشير والتواقيع والكتب، وإذا خرج عن السلطان بكتابة شيء بمرسوم؛ حمل رسالته وعينت فيما يكتب. انظر:«صبح الأعشى» (4/19) ..

ص: 371

ووصل إلى بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يُؤمِن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجنودُ بغداد في غاية القلة ونهاية الذِّلَّة، لا يبلغون عشرةَ آلاف فارس، وهم في غاية الضعف، وبقيةُ الجيش كلُّهم قد صُرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثيرٌ منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء القصائد يرثون لهم، ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كلُّه عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب شديدة، نُهبت فيها الكَرْخُ مَحَلَّةُ الرافضة، حتى نُهبت دورُ قَرابات الوزير، فاشتد حنقُه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبَّر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يُؤَرَّخْ أشنعُ منه منذ بُنيت بغداد، وإلى هذه الأوقات (1) ،

ولهذا كان أولَ من برز إلى التتار هو، فخرج في أهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هولاكوقان -لعنه الله تعالى-، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفةُ إلى أن خرج في سبع مئة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورءوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكوقان حُجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفساً، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأُنزل الباقون عن مراكبهم ونُهبت، وقُتلوا عن آخرهم، وأُحضر الخليفة بين يدي

(1) اللهم لطفك وحنانيك! اللهم احفظ أهل السنة بعامة، وطلبة العلم بخاصة مما يجري، ومما ينتظر وقوعه.

وقد اطلعت على جريدة «البصائر» العراقية، التي تصدر عن (هيئة علماء المسلمين في العراق) !

-كما هو مثبت عليها- في العدد (10) ، الثلاثاء/11شعبان/سنة 1424هـ، الصفحة الأخيرة منها، ففيها بيان لجريمة نكراء، حصدت أرواح أبرياء، بأيدي مجرمين من هؤلاء، في البصرة قبل التاريخ المذكور بأيام، وحدثني بعض الثقات، وأراني صوراً تقشعر لها الأبدان، من المثلة في الجثث وتقطيع الأطراف، غيظاً على أهل السنة، ولا قوة إلا بالله!

ص: 372

هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال: إنه اضطرب كلامُ الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خواجا نصيرٌ الطوسي -لعنة الله عليه-، والوزير ابن العلقمي وغيرُهما، والخليفةُ تحت الحَوْطة والمصادرة، فأحضَر من دار الخلافة شيئاً كثيراً من الذهب والحُلِي والمَصاغ والجواهر والأشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملأُ من الرافضة

-لعنة الله عليهم- وغيرُهم من المنافقين على هولاكوقان أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلحُ على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاماً أو عامين، ثم يعود الأمرُ إلى ما كان عليه قبل ذلك.

وحسّنوا له قتلَ الخليفة، فلما عاد الخليفةُ إلى السلطان هولاكوقان أمر بقتله، ويقال: إن الذي أشار بقتله الوزيرُ ابن العلقمي والنصيرُ الطوسيُّ، وكان النصير عند هولاكوقان قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الأَلْموت وانتزعها من أيدي الإسماعيلية، وكان النصير وزيراً لشمس الشموس ولأبيه من قبله علاء الدين بن جلال الدين، وكانوا ينتسبون إلى نزار بن المستنصر العُبَيدي، وانتخب هولاكوقان النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكوقان وتهيَّب من قتل الخليفة هوّن عليه الوزيران ذلك، فقتلوه رَفْساً وهو في جُوالق؛ لئلا يقع إلى الأرض شيءٌ من دمه، خافوا أن يُؤخذ بثأره فيما قيل لهم، وقيل: بل خنقٌ. ويقال: غُرِّق. فالله أعلم. فباءوا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد ببلاد بغداد، ومالوا على البلد، فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشُّبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقُنِيّ (1) الوسخ، وكمَنوا كذلك أياماً لا يظهرون، وكان الفئام من الناس يجتمعون في الخانات، ويُغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتارُ إمّا بالكسر أو بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي

(1) قني: جمع قناة. انظر: «الوسيط» (ق ن و) .

ص: 373

المكان، فيقتلونهم في الأسطحة، حتى تجريَ الميازيبُ من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وكذلك في المساجد والجوامع والرُّبُط، ولم ينجُ منهم أحدٌ سوى أهلِ الذمة من اليهود والنصارى، ومَنِ التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفةٍ من التجار أخذوا لهم أماناً بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلِموا وسلِمت أموالهم، وعادت بغداد بعدما كانت آنَسَ المدنِ كلِّها كأنها خرابٌ ليسَ فيها أحدٌ إلا القليلُ من الناس، وهم في خوف وجوع وذِلّة وقِلة.

وكان الوزير ابنُ العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط أسهمهم من الدِّيوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريباً من مئة ألف مقاتل، فيهم من الأمراء مَن هو كالملوك الأكابر، فلم يَزَل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق إلا عشرة آلاف، ثم كاتب التتار، وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهَّل عليهم ذلك، وجلَّى لهم حقيقةَ الحال، وكشف لهم ضعفَ الرجال، وذلك كلُّه طمعاً منه أن يُزيل السُّنَّةَ بالكلية، وأن يُظهِرَ البدعةَ الرافضية، وأن يقيم خليفةً من الفاطميّين، وأن يُبيد العلماءَ والمُفتِين، واللهُ غالبٌ على أمره، وقد ردَّ كيدَه في نحره، وأذلَّه بعد العزة القَعساء (1) ، وجعله حوشكاشاً للتتار بعد ما كان وزيراً للخلفاء، واكتسب إثمَ من قُتل بمدينة بغداد من الرجال والنساء والأطفال، فالحكمُ لله العليِّ الكبير ربِّ الأرض والسماء.

وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريبٌ مما جرى على أهل بغداد، كما قصَّ اللهُ -تعالى- علينا ذلك في كتابه العزيز، حيث يقول:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً. فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} [الإسراء: 4-5] الآيات.

(1) القعساء: الممتنعة الثابتة. انظر: «الوسيط» (ق ع س) .

ص: 374

وقد قتل من بني إسرائيل خلقٌ من الصُّلحاء، وأُسِر جماعةٌ من أولاد الأنبياء، وخُرِّب بيتُ المقدس بعد ما كان معموراً بالعباد والزُّهَّاد والأحبار والأنبياء، فصار خاوياً على عروشه، واهيَ البناء.

وقد اختلف الناسُ في كمية من قُتل ببغداد من المسلمين؛ فقيل: ثمان مئة ألف. وقيل: ألفُ ألف وثمانُ مئة ألف. وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس. فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم العلي العظيم.

وكان دخولُهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلَها أربعين صباحاً، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر، وعفَى قبرُه، وكان عمره يومئذ ستّاً وأربعين سنةً وأربعةَ أشهرٍ، ومدة خلافته خمسَ عشْرةَ سنة وثمانيةُ أشهرٍ وأيامٌ، وقُتل معه ولدُه الأكبر أبو العباس أحمد، وله خمس وعشرون سنة، ثم قُتل ولدُه الأوسط أبو الفضل عبدُالرحمن، وله ثلاثٌ وعشرون سنة، وأُسر ولدُه الأصغر مبارك، وأُسرت أخواته الثلاث؛ فاطمة وخديجة ومريم، وأُسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألفَ بكر فيما قيل، والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقُتل أُستاذُدار (1) الخلافة الشيخُ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وكان عدوَّ الوزير، وقُتل أولاده الثلاثة؛ عبدُالرحمن، وعبدُالله، وعبدُالكريم، وأكابرُ الدولة واحداً بعد واحد، منهم الدُّوَيْدارُ الصغير مجاهد الدين أيْبَك، وشهابُ الدين سليمان شاه، وجماعةٌ من أمراء السُّنَّةِ وأكابرِ البلد.

وكان الرجلُ يُستدعى به من دار الخلافة من بني العباس، فيخرجُ

(1) أُستاذدار من الاستداريَّة؛ وهي: وظيفة موضوعها التحدث في أمر بيوت السلطان كلها من المطابخ والشراب خاناه والحاشية والغلمان. انظر: «صبح الأعشى» (4/20) .

ص: 375

بأولاده ونسائِه وجواريه، فيُذهَبُ به إلى مقبرة الخلاّل، تُجاهَ المَنْظَرَة، فيُذبح كما تُذبح الشاةُ، ويُؤسَرُ من يختارون من بناته وجواريه.

وقُتل شيخُ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النَّيَّار، وقُتل الخطباء والأئمة، وحملة القرآن، وتعطّلت المساجدُ والجماعات والجُمُعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزيرُ ابن العلقمي -قبحه الله ولعنه- أن يُعطل المساجد والجوامع والمدارس والرُّبُطَ ببغداد، ويستمرَّ بالمشاهدِ ومحالِّ الرفض، وأن يبنيَ للرافضة مدرسةً هائلة ينشرون علمهم وعَلَمَهم بها وعليها، فلم يُقْدِرْه الله -تعالى- على ذلك، بل أزال نعمته عنه، وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده فاجتمعا -والله أعلم- في الدرك الأسفل من النار.

ولما انقضى أمدُ الأمر المقدور، وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنتِ البلدُ من جيفهم، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد، حتى تعدّى وسرَى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلقٌ كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاءُ والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولما نُودي ببغداد بالأمان خرج من كان تحت الأرض بالمطامير والقُنِيِّ والمغاير كأنهم الموتى إذا نبشوا من القبور، وقد أنكر بعضُهم بعضاً، فلا يعرف الوالدُ ولدَه ولا الأخُ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد، فتفانوا ولحقوا بمن سلف من القتلى، واجتمعوا في البِلَى تحت الثرى، بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.

وكان رحيل السلطان المُسَلَّطِ هولاكوقان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر ملكه، وفوَّض أمر بغداد إلى الأمير علي بَهادُر، فوّض

ص: 376

إليه الشِّحْنَكِيَّةَ (1) بها وإلى الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي، فلم يُمهله الله ولا أهمله بعد، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، في مستهل جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة، وكان عنده فضيلةٌ في الإنشاء، ولديه فضيلة في الأدب، ولكنه كان شيعيّاً جلداً خبيثاً رافضيّاً، فمات كمداً وغمّاً وحزناً وندماً، إلى حيث ألقت رحلها أمُّ قَشْعَم (2) ، فَوَلِيَ بعده الوزارةَ ولدُه عزُّ الدين أبو الفضل محمد، فألحقه الله بأبيه في بقية هذا العام، ولله الحمد والمنة.

وذكر أبو شامة وشيخُنا أبو عبد الله الذهبيُّ وقُطب الدين اليونينيُّ (3) ، أنه أصاب الناسَ في هذه السنة بالشام وباءٌ شديد، وذكروا أن سببَ ذلك من فساد الهواء والجو، فسد من كثرة القتلى ببلاد العراق، وانتشر حتى تعدَّى إلى بلاد الشام. فالله أعلم» .

وهذا البيان فيه الهلاك العام، والمصيبة العظمى التي حلّت بالمسلمين، ونحوه كثير في كتب التاريخ، ولا سيما تلك التي أُفردت بخصوصِ هذه الواقعة (4) ،......................................................................

(1) الشحنكية: وظيفة يتولاها الشحنة وهو صاحب الشرطة أو متولي رئاسة الشرطة. دوزي. كذا ذكر معناه في حاشية «عقد الجمان» (1/176) .

(2)

عبارة المصنف هذه مأخوذة من قول زهير:

فشدَّ ولم يُفزِع بيوتاً كثيرةً

لدى حيث ألقتْ رحلَها أمُّ قَشعَمِ

وأم قشعم: الحرب. وقيل: المَنِيَّة. وقيل: الضَّبُع. وقيل: العنكبوت. وقيل: الذِّلَّة. وبكلٍّ فُسِّر قولُ زهير المذكور. انظر: «اللسان» (قشعم) .

(3)

انظر: «الذيل على الروضتين» (ص 200) ، و «ذيل مرآة الزمان» (1/91) ، و «العبر» (5/226) .

(4)

لابن عربشاه «عمدة السير في دولة الترك والتتر» كذا في «هدية العارفين» (1/13) ، ولأسعد أفندي «السبع السيار في أحوال التتار» ، ومن الكتب المطبوعة:«الإعلام والتبيين في خروج الفرنج الملاعين على ديار المسلمين» لأحمد بن علي الحريري، و «تلفيق الأخبار وتلقيح الآثار في وقائع قازان وبلغار وملوك التتار» ، و «العالم الإسلامي في العصر المغولي» لبرتولد =

ص: 377