الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالمدينة، وأخيه إبراهيم بالبصرة، إلى فتن يطول وصفها» (1) .
ثم قرر قاعدة مهمة، من خلالها يظهر لكل ذي بصيرة، عدم جواز احتجاج المتأخرين بما حصل للمتقدمين مع ملوكهم، وهذه القاعدة هي:
فصل
الفتن في كل زمان حسب رجاله
قال -رحمه الله تعالى-: «والفتن في كل زمان بحسب رجاله؛ فالفتنة الأولى فتنة قتل عثمان رضي الله عنه هي أول الفتن وأعظمها.
ولهذا جاء في الحديث المرفوع الذي رواه الإمام أحمد في «المسند» وغيره: «ثلاث من نجا منهن فقد نجا: موتي، وقتل خليفة مضطهد بغير حق، والدجّال» (2) .
ولهذا جاء في حديث عمر لما سأل عن الفتنة التي تموج موج البحر، وقال له حذيفة: إنّ بينك وبينها باباً مغلقاً. فقال: أيكسر الباب أم يفتح؟ فقال: بل يكسر. فقال: لو كان يفتح لكاد يُعاد (3) . وكان عمر هو الباب، فقتل عمر،
(1)«منهاج السنة النبوية» (4/545) .
(2)
أخرجه أحمد (4/105-106، 109 و 5/33، 288) -ومن طريقه ابن الأثير في «أسد الغابة» (3/220) -، وابن قانع في «معجم الصحابة» (2/89 - ط. الغرباء) من حديث عبد الله بن حوالة، وإسناده حسن.
وفي الباب عن عقبة بن عامر، أخرجه الطبراني في «الكبير» (17/رقم 794) ، وفيه إبراهيم ابن يزيد المصري، قال الهيثمي في «المجمع» (7/334-335) :«لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات» .
وانظر عن فتنة مقتل عثمان: (ص 142، 166) ، وكتاب «استشهاد عثمان ووقعة الجمل» للدكتور خالد الغيث، و «فتنة مقتل عثمان» للدكتور محمد الغبَّان.
(3)
جزء من حديث سبق تخريجه.
وتولى عثمان، فحدثت أسباب الفتنة في آخر خلافته، حتى قتل وانفتح باب الفتنة إلى يوم القيامة، وحدث بسبب ذلك فتنة الجمل وصفين، ولا يقاس رجالهما بأحد؛ فإنهم أفضل مِن كلِّ مَنْ بَعدَهم.
وكذلك فتنة الحرة وفتنة ابن الأشعث، كان فيها من خيار التابعين من لا يقاس بهم من بعدهم، وليس في وقوع هذه الفتن في تلك الأعصار ما يوجب أنّ أهل ذلك العصر كانوا شرّاً من غيرهم، بل فتنة كل زمان بحسب رجاله.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (1) .
وفتن ما بعد ذلك الزمان بحسب أهله. وقد رُوي أنه قال: «كما تكونوا يُولّى عليكم» (2) . وفي أثر آخر يقول الله -تعالى-: «أنا الله عز وجل ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، من أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسب الملوك، وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم» (3) .
(1) أخرجه البخاري (2651، 3650، 6428، 6695) ، ومسلم (2535) من حديث عمران بن حصين.
(2)
الحديث لم يثبت، انظر «السلسلة الضعيفة» (رقم 320) .
(3)
أخرجه تمام في «فوائده» (3/109-110 رقم 912 - ترتيبه «الروض البسام» ) ، والطبراني في «الأوسط» (9/9 رقم 8962 - الحرمين) -وعنه أبو نعيم في «الحلية» (2/389) ، وابن حبان في «المجروحين» (3/76) ، وابن طولون في «الأربعين في فضل الرحمة والراحمين» (55-56 رقم 21) من طريق وهب بن راشد، عن مالك بن دينار، عن خلاس بن عمرو، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله -تعالى- به.
وإسناده ضعيف جدّاً، فيه وهب بن راشد.
قال الطبراني: «لم يروه عن مالك بن دينار إلا وهب» .
وقال أبو نعيم: «غريب من حديث مالك مرفوعاً، تفرد به علي بن معبد عن وهب بن راشد» . =
ولما انهزم المسلمون يوم أحد هزمهم الكفار، قال الله -تعالى-:{أَوَلَمّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَدْ أَصْبتُم مِثلَيها قُلتُم أَنّى هَذا قُلْ هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكم} [آل عمران: 165] .
والذنوب ترفع عقوبتها بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة، والقتل الذي وقع في الأمة مما يكفر الله به ذنوبها، كما جاء في الحديث، والفتنة هي من جنس الجاهلية، كما قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أنّ كل دم أو مال أو فرج
= وقال السخاوي في «تخريج أحاديث العادلين» (ص 158 - ط. الثانية - بتحقيقي) : «ووهب ضعيف جدّاً، ولا يصح هذا الحديث مرفوعاً» .
قلت: وهب غمز فيه غير واحد، قال ابن عدي:«ليس حديثه بالمستقيم، أحاديثه كلها فيها نظر» ، وقال الدارقطني:«متروك» ، وقال ابن حبان:«لا يحل الاحتجاج به بحال» . انظر: «ميزان الاعتدال» (4/351-352) ، و «المجروحين» (3/75) ، و «الكامل في الضعفاء» (7/2529) ، و «الضعفاء الكبير» (4/322)، وبه أعله الهيثمي في «المجمع» (5/249) وقال عنه:«متروك» ، وتحرف فيه (وهب) إلى (إبراهيم) ؛ فليصحح.
قلت: والراوي له عنه هو المقدام بن داود، وهو مثل وهب في الضعف، وخلاس لم يسمع من أبي الدرداء.
ونقل ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/768) عن الدارقطني قوله: «وهب بن راشد ضعيف جدّاً، متروك الحديث، ولا يصح هذا الحديث مرفوعاً» ، قال:«فرواه جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار، أنه قرأ في الكتب هذا الكلام، وهو أشبه بالصواب» ، ونقله السخاوي في «تخريج أحاديث العادلين» (ص 158 - بتحقيقي) .
قلت: أخرجه ابن أبي الدنيا في «العقوبات» (رقم 30) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/172) عن صالح المرّي، وأبو نعيم (2/378) عن موسى بن خلف؛ كلاهما عن مالك بن دينار، قال: «قرأتُ في بعض الحكمة: إني أنا الله
…
» (وساقه) .
وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (13/187، 203) بسند صحيح إلى مالك بن مغول، قال: «كان في زبور داود: إني أنا الله لا إله إلا أنا
…
» (وساق نحوه) ، فهذا هو الصحيح في هذا الباب، والله أعلم.
أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر: أنزلوهم منزلة الجاهلية.
وذلك أنّ الله -تعالى- بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ فبالهدى يُعرَف الحق، وبدين الحق يُقصَد الخير ويعمل به، فلا بد من علم بالحق، وقصد له وقدرة عليه، والفتنة تضاد ذلك؛ فإنها تمنع معرفة الحق أو قصده أو القدرة عليه، فيكون فيها من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل، حتى لا يتميز لكثير من الناس أو أكثرهم، ويكون فيها من الأهواء والشهوات ما يمنع قصد الحق وإرادته، ويكون فيها من ظهور قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير.
ولهذا ينكر الإنسان قلبه عند الفتنة، فيرد على القلوب ما يمنعها من معرفة الحق وقصده، ولهذا يقال: فتنة عمياء صمّاء. ويقال: فتن كقطع الليل المظلم، ونحو ذلك من الألفاظ التي يتبين ظهور الجهل فيها، وخفاء العلم.
فلهذا كان أهلها بمنزلة أهل الجاهلية، ولهذا لا تضمن فيها النفوس والأموال؛ لأنّ الضمان يكون لمن يعرف أنه أتلف نفس غيره أو ماله بغير حق، فأمّا من لم يعرف ذلك، كأهل الجاهلية من الكفار والمرتدين والبغاة المتأولين، فلا يعرفون ذلك، فلا ضمان عليهم، كما لا يضمن من علم أنه أتلفه بحق، وإن كان هذا مثاباً مصيباً.
وذلك أنّ أهل الجاهلية إمّا أنْ يتوبوا من تلك الجهالة، فيغفر لهم بالتوبة جاهليتهم وما كان فيها، وإمّا أنْ يكونوا ممن يستحق العذاب على الجهالة كالكفّار، فهؤلاء حسبهم عذاب الله في الآخرة، وإمّا أنْ يكون أحدهم متأولاً مجتهداً مخطئاً؛ فهولاء إذا غفر لهم خطؤهم غفر لهم موجبات الخطأ
…
-أيضاً-» (1) .
قال أبو عبيدة: هذه قاعدة ذهبيّة مهمة غاية: (الفتن في كل زمان حسب رجاله) .
(1)«منهاج السنة النبوية» (4/545-547) .