المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: وردت في بعض الحوادث صفات تأذن بأن بعض الآثار المتقدم ذكرها إنما هي في هذه الفتنة - العراق في أحاديث وآثار الفتن - جـ ١

[مشهور آل سلمان]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌فصلفي بيان أنّ العراق تهيّج منها الفتن،وصلتها بأهمّ فتن هذا العصر

- ‌ طرق في ألفاظها نُكْرة

- ‌ أحاديث أخرى وقع التصريح فيها بذكر العراق، وأن الفتن تهيج منها، أو تكون فيها، وفي أسانيدها ضعف:

- ‌فصلفرية وردّها

- ‌فصلالفتن تموج موج البحر

- ‌فصلضروب الفتنة

- ‌الضرب الأول: لا ينفك عن الإنسان في أي مكان أو زمان كان

- ‌الضرب الثاني: الفتن التي تموج موج البحر

- ‌فصلزمن الفتنة (نشأتها، اشتدادها، آخرها)

- ‌فصلالخوارج والعراق

- ‌فصلاستمرار خروج الخوارج ووصول فتنتهم إلى كل مكان

- ‌فصلالخروج في عصرنا

- ‌فصلمظاهر الخروج الجديد ونواره الذي لم ولن يعقد

- ‌فتنة جهيمان والحرم المكي

- ‌فصلفتنة حماة

- ‌فصلفتنة الجزائر المتولّدة عن الخروج الأول في العراق

- ‌ فتنة الجزائر وجبهة الإنقاذ الإسلامية

- ‌مما زاد وَحَل هذه (الفتنة) :

- ‌فصلالتباس (الثورة) بمفهوم الجهاد

- ‌فصلالفرق بين المطلوب الشرعي وواجب الوقتوما عليه أصحاب الثورات والانقلابات ودعاة الخروج

- ‌فصلالفتن في كل زمان حسب رجاله

- ‌فصلاشتداد الفتن مع مضي الزّمن

- ‌فصلحرمة التشبه بأهل العراق في خروجهم الأول

- ‌فصلالفتنة وكلت بثلاث

- ‌فصلكلام جملي عن محور الفتنة وثمرتها ووقتهاومادتها ووسيلتها ووقت اشتدادها

- ‌فصلمكان الفتنة

- ‌فصلرد شيخنا الألباني لفرية (نجد) التي يطلع منها قرن الشيطانهي دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى

- ‌فصلالعراق والفتنة وإبليس

- ‌فصلفي تخريج حديث: «منعت العراق

- ‌فصلفي ألفاظ الحديث

- ‌فصلفي غريبه

- ‌فصلتنبيهات مهمات

- ‌فصلتبويبات العلماء على الحديث

- ‌ تبويبات المخرجين له:

- ‌ معرض الاستشهاد

- ‌فصلتعليقات وإيضاحات على حديث: «منعت العراق

- ‌فصلفي بيان معنى (المنع) الوارد في الحديث

- ‌فصلفي بيان الراجح في معنى (المنع) الوارد في الحديث عند الشراح

- ‌فصلفي سياق قول جابر وتخريجه

- ‌فصلفي سياق كلام العلماء في تحديد من هم المانعون

- ‌فصلفي سياق كلام أبي هريرة رضي الله عنه

- ‌الإشكال الأول: كيف يقال عن حديث مسلم الذي فيه «منعت العراق…» متفق عليه

- ‌الإشكال الثاني: كيف يقال عن لفظ مسلم: متفق عليه

- ‌فصلفي سياق الألفاظ وما يشهد لها من الآثار

- ‌فصلفي بيان أن المراد بالأخبار السابقة أكثر من حادثة

- ‌فصلفي أحاديث الترك وإخراج أهل العراق

- ‌الحديث الأول: حديث بريدة بن الحصيب

- ‌ الكلام على إسناد حديث بريدة

- ‌الحديث الثاني: حديث معاوية بن أبي سفيان

- ‌الحديث الثالث: حديث أبي بكرة نُفَيع بن الحارث بن كَلَدة

- ‌ الكلام على إسناد حديث أبي بكرة

- ‌ هل الحديث منكر

- ‌ ثلاث ملاحظات مهمات، وكليّات معتبرات، وإفاضات وإضافات:

- ‌ شواهد بمعانٍ مقاربة من المرفوع والموقوف

- ‌فصلفي وصول الشر والفتن آخر الزمان كل مكان

- ‌الأول: كثرة الخير الذي ظهر من الشام في زمن عمر للمسلمين

- ‌الثالث: الفتن ظهرت في زمن الصحابة

- ‌الرابع -وبيت القصيد-: إن الفتن آخر الزمان ستشتد

- ‌فصلفي الأخبار السابقة، هل مضت وانتهت

- ‌فصلفي فتنة التتر والمغول

- ‌من الجدير بالذكر هنا أمور:

- ‌أولاً: وردت في بعض الحوادث صفاتٌ تأذن بأن بعض الآثار المتقدم ذكرُها إنما هي في هذه الفتنة

- ‌ثانياً: وقعت حوادث كثيرة قبل الاجتياح المذكور لبغداد

- ‌ثالثاً: تتابعت غزوات التتار

- ‌خامساً: حمل بعض شراح الحديث ما حصل من التتار على أنهم هم يأجوج ومأجوج

- ‌فصلحصار العراق الاقتصادي

- ‌أولاً: تبويبات بعض العلماء

- ‌ثالثاً: المتمعن في الكلام السابق يجد أن القائلين بأن الأمر قد ظهر تتفاوت أزمانهم

- ‌رابعاً: في الحديث ما يشير إلى هذا التكرار

- ‌فصلالمدينة النبوية ونصيبها من الفتن

- ‌فصلفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم «وعدتم من حيث بدأتم»

- ‌فصلفي خروج خيار أهل العراق منها

الفصل: ‌أولا: وردت في بعض الحوادث صفات تأذن بأن بعض الآثار المتقدم ذكرها إنما هي في هذه الفتنة

وراقم هذه السطور يرغب في إجراء دراسة تحليلية (1)

لما جرى آنذاك، وعرضِها مع ما ورد من صفات (بني قنطوراء) في الآثار الصحيحة المتقدمة، لنرى دقّة التطابق بين ما يذكره شراح الحديث -وستأتي أقوالهم في الفصل الآتي- وبين ما هو واقع من التتر والمغول.

و‌

‌من الجدير بالذكر هنا أمور:

‌أولاً: وردت في بعض الحوادث صفاتٌ تأذن بأن بعض الآثار المتقدم ذكرُها إنما هي في هذه الفتنة

، منها ما ذكره صاحب كتاب «الحوادث» (2)

= شبولر، نقله إلى العربية خالد أسعد عيسى، نشر دار حسان، و «قاهر العالم (جنكيزخان) » لرينيه غروسيه، نقله إلى العربية خالد أسعد عيسى، نشر دار حسان، و «الغزو المغولي، أحداث وأشعار» لمأمون فريز جرار، وفي الخزانة العامة بالرباط:«نزهة المقلتين في أخبار الدولتين العلائية والجلالية وما كان فيهما من الوقائع التاتارية» ، وعنه مصورة على شريط (رقم 677) في (مركز الوثائق والمخطوطات) في الجامعة الأردنية.

(1)

المقام لا يتسع للكلام المبسوط على فتنة التتر والمغول، وعلى الرغم مما وقع، فإن الزمان يُنْسِي!! ووقع خلط وخبط في أذهان المسلمين عن ترسم سنن الله الكونية، وارتباطها بسننه الشرعية، والحسرة والأسى لا تنتهيان لما يجد المتأمل أن ذلك واقع عند المصلحين

-زعموا-، على وجه لا أظن أن له نظيراً في العلوم الأخرى، حتى وصل الأمر إلى أن (العقوبة) التي تشمل الأفراد أو الشعوب أو الدول، يحسبها بعض (المعتوهين) من (الخطباء المفوهين) نصراً وعزة وتمكناً، وقد أخطأوا -فيما مضى- في تقديراتهم (مرات) ..وستلحقها -فيما سيأتي- (كرات) ، وما هي إلا أمارة على (أفهام منكوسة) توصل إلى (حقائق معكوسة)، و (الضحية) : العامة الدهماء الذين لا يميزون بين (الأصيل) و (الدخيل) ، ولا بين (الصحيح) و (الضعيف) ، ويحسبون أن كل (مدَّور رغيف) ! ولا قوة إلا بالله.

دوّنتُ هذا على إثر ما أسمع من (المعدودين)(أطباء) و (دعاة) و (علماء) في (المجتمع) الذي أعيش فيه، في أوان ما جرى بالعراق، وسطرتُ هذين السطرين -فحسب- بعد انتهاء الأحداث باحتلال أمريكا وحلفائها لها؛ فهل من مدّكر؟!

(2)

مؤلفه مجهول من القرن الثامن الهجري، وهو الكتاب المسمى وهماً بـ «الحوادث الجامعة والتجارب النافعة» ، والمنسوب لابن الفوطي، وهو في (ص 354 وما بعد - ط. دار الغرب) .

ص: 378

(حوادث سنة ست وخمسين وست مئة)، قال ما نصه:

«ذكرنا في سنة خمس وخمسين مسير السلطان هولاكوقان من بلاده نحو بغداد، وأنه أمر الأمير بايجو بالمسير إلى إرْبل وأن يعبر دجلة ويسير إلى بغداد من الجانب الغربي، ففعل ذلك، فلما بلغ الخليفة وصوله تقدم إلى الدُّويدار الصغير مجاهد الدين أيْبَك وجماعة من الأمراء بالتوجه إلى لقائه، فعبروا دجلةَ، فلما تجاوزوا قنطرة باب البصرة (1) بفرسخ واحد رأوا عساكر المغول قد أقبلت كالجراد المنتشر، فالتقوا واقتتلوا يوم الأربعاء تاسع المحرم، فانكسرت عساكر المغول قصداً وخديعة، فتبعهم الدُّويدار وقتل منهم عدة كثيرة وحمل رؤوسهم إلى بغداد، وما زال يتبعهم بقية نهاره، فأشار عليه الأمير فتح الدين بن كُرّ (2) بأن يثبت مكانه ولا يتبعهم، فلم يصغ إليه، فأدركه الليل وقد تجاوز نهر بشير بين دُجَيْل، فباتوا هناك.

فلما أصبحوا حَمَلت عليهم عساكر المغول وقاتلوهم قتالاً شديداً، فلم يثبت عساكر الدويدار، فانكسروا وكَرُّوا راجعين إلى بغداد، فوجدوا نهر بَشِير قد فاض من الليل وملأ الصحراء، فعجزت الخيول عن سلوكه ووحلت فيه، فلم يخلص منه إلا من كانت فرسه شديدة، وألقى معظم العسكر نفسَه في دجلة فهلك منهم خلق كثير، ودخل من نجا منهم بغداد مع الدُّويدار على أقبح صورة، وتبعهم الأمير بايجو وعسكره يقتلون فيهم، وغنموا سوادهم وكل ما كان معهم، ونزلوا بالجانب الغربي، وقد خلا من أهله، فشرعوا بالرمي بالنشاب إلى الجانب الشرقي، فكانت السِّهام تصل إلى الآدُر الشَّطَّانية، وكان الخليفة جالساً في رواقه وبين يديه صغيرة من مولّدات العرب تسمى «عَرَفة» ،

(1) كانت هذه القنطرة تقع على نهر الصراة في الجنوب من المدينة المدورة.

(2)

هو فتح الدين أبو المظفر الحسن بن محمد بن كُر بن محمد بن موسك الشيباني الكردي، كان من الأمراء الأكابر، وقد قتل في هذه الوقعة حينما لم يسمع الدويدار نصيحته. وانظر:«تلخيص مجمع الآداب» (4/الترجمة 1869) ، و «جامع التواريخ» .

ص: 379

كانت مُدَلَّلة مطبوعة مضحكة، فأصابها سهم دخل من بعض الشبابيك فقتلها، فانزعج الخليفةُ لذلك، وأحضر السهمَ بين يديه، فإذا عليه مكتوب:«إذا أراد اللهُ أن يُنفِذَ قضاءَه سَلَبَ ذوي العقول عقولَهم» ، فأمر عند ذلك بعمل ما يحول بين شبابيك الدَّار وبين الرُّماة، فعملت ستائر من ألواح الخشب.

وأما السلطان هولاكوقان فإنه وصل إلى ظاهر بغداد في ثاني عشر المحرم في جيش لا يُحصى عدده ولا ينفذ مَدَده، وقد أُغلقت أبواب السُّور، فعرف بذلك ضعفهم عن لقائه، فأمر بحفر خندق، فحُفر وبُني بترابه سور محيط ببغداد وعُمل له أبواب ورُتّب عليها أمراء المغول، وشَرَعوا في عمل ستائر للمناجيق، ونصبوا مجانيق والعَرَّادات، واستظهروا غايةَ الاستظهار، والناسُ يُشاهدون ذلك من السور، وقد نصبوا -أيضاً- عليه المجانيق إلا أنها لم تصح ولا حصل بها انتفاع، ثم إن السلطان أمر بعقد جسر تحت بغداد ليمنع من ينحدر إلى واسط، فعُقِد تحت قرية العقاب (1) ، ولم يعلم أهل بغداد به، فكانت السُّفن تصل إليه فيُؤخذ مَن بها، ويقتل، فقتل عنده خلق كثير، فلما كان اليوم الرابع عشر من المحرم، خرج الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي إلى خدمة السلطان في جماعة من مماليكه وأتباعه، وكانوا ينهون الناس عن الرَّمي بالنشاب ويقولون: سوف يقع الصلح -إن شاء الله- فلا تحاربوا.

هذا وعساكر المغول يبالغون في الرمي، وقد اجتمع منهم خلق كثير على بُرج العَجَمي (2) ...........................................................

(1) العقاب: يفهم مما ذكره رشيد الدين الهمذاني في «جامع التواريخ» (المجلد 2 الجزء الأول ص 288) أن قرية العُقاب هذه كانت على طريق النازل «على طريق المدائن والبصرة» ، والعقاب إذن قرية على دجلة، قبل المدائن، وينطبق هذا الوصف على الجزيرة التي كانت معروفة -إلى أمد قريب- بالعكابية، وتقع في نواحي الدورة، بين بغداد والمدائن.

(2)

برج العَجَمي: هو برج كبير في سور بغداد، قريب من باب الحلبة في الزاوية الغربية الجنوبية منه. وقد اشتهر هذا البرج باتخاذ الشيخ عبد القادر الكيلاني إياه رباطاً له. انظر: «الذيل =

ص: 380

الذي عن يمين باب سور الحَلبة (1) ، ونصبوا عليه المجانيق، وواصلوا الرمي بالحجارة، فهدموا وصعدوا على السور في اليوم الحادي والعشرين من المحرم، وتمكنوا من البلد، وأمسكوا عن الرمي، وعاد الوزير إلى بغداد يوم الأحد سابع عشري (2) من المحرم.

وقال للخليفة: قد تقدَّم السلطان أن تخرجَ إليه.

فأخرجَ ولدَه الأوسط -وهو: أبو الفضل عبد الرحمن- في الحال، فلم يقع الاقتناع به، فخرج الخليفة والوزير في يوم الإثنين ثامن عِشْري المحرم ومعه جمع كثير، فلما صاروا ظاهر السور منعوا أصحابه من الوصول معه، وأفردوا له خيمة وأُسكن بها، وخرج مجاهد الدين أيبك الدويدار الصغير، وشهاب الدين سليمان شاه وسائر الأمراء في أول صفر، وخرج ابن الخليفة الأكبر أبو العباس أحمد يوم الجمعة ثاني صفر، ثم دخل الخليفة بغداد يوم الأحد رابع صفر ومعه جماعة من أمراء المغول وخواجه نصير الدين الطوسي، فأخرج إليهم من الأموال والجواهر والحلي والزركش والثياب وأواني الذهب والفضة والأعلاق النفيسة جملةً عظيمة، ثم عاد مع الجماعة إلى ظاهر السور بقية ذلك اليوم، فأمر السلطان بقتله، فقُتل يوم الأربعاء رابع عشر صفر، ولم يهرق دمه، بل جُعل في غراراة ورُفِسَ حتى مات، ودُفن وعُفي أثر قبره، وكان قد بلغ من العمر ستّاً وأربعين سنة وأربعة أشهر، وكانت مدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأياماً.

ثم قُتل ولده أبو العباس أحمد، وكان مولده سنة إحدى وثلاثين وست

= على طبقات الحنابلة» (1/291) .

(1)

هو المعروف بالباب الوسطاني.

(2)

تأمل المدة التي قضاها الوزير عند هولاكو وهي قرابة الأسبوعين، فضلاً عن أن أصحابه كانوا يمنعون أهل بغداد من قتال المغول! وكانوا يطمعون بالصلح.

ص: 381

مئة، وله من الأولاد: أبو الفضل محمد، ورابعة وهي التي تزوج بها خواجه هارون ابن الصاحب شمس الدين الجُويني، ومولدها يوم عيد النحر سنة خمس وخمسين، وأختها ست الملوك.

ثم قُتل ابن الخليفة الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن، ومولده سنة ثلاث وثلاثين، وله من الأولاد: أبو القاسم محمد، وبنت واحدة.

وأما ولد الخليفة الأصغر مُبارك وأخواته فاطمة وخديجة ومريم فإنهم لم يقتلوا، بل أسروا.

ثم عُيّن على بعض الأمراء فدخل بغداد ومعه جماعة ونائب أستاذ الدار ابن الجوزي، وجاءوا إلى أعمام الخليفة وأنسابه الذين كانوا في دار الصَّخْر ودار الشجرة، وكانوا يُطلبون واحداً بعد واحد، فيخرج بأولاده وجواريه، فيُحمل إلى مقبرة الخلاّل (1) التي تجاه المنظرة (2) فيُقتل، فقُتلوا جميعهم عن آخرهم.

ثم قُتِل مجاهدُ الدين أيبك الدُّويدارُ الصغير، وأمير الحاج فَلَك الدين محمد ابن علاء الدين ألطبرس الدُّويدار الكبير، وشهاب الدين سليمان شاه ابن برجم، وفَلَك الدين محمد بن قَيْران الظَّاهري، وقُطب الدين سَنْجر البَكْلكي الذي كان شِحْنة بغداد وحج بالناس عدة سنين، وعز الدين أبقرا شحنة بغداد -أيضاً-، ومحيي الدين ابن الجوزي أستاذ الدار وولده جمال

(1) مقبرة الخَلاّل: هي المقبرة المنسوبة إلى دفينها الشيخ عبد العزيز بن جعفر بن أحمد، أبي بكر، المعروف بغلام الخلال، من كبار علماء الحنابلة، وكانت وفاته سنة 363هـ، وقد تحرف اسم المقبرة في العصور التالية، إلى (الخلاني) ، ولمّا تَزَلْ تعرفُ بهذا الاسم.

(2)

هي منظرة الحلبة التي وصفها ياقوت بقوله: «موضع مُشرف يُنظر منه، وهي منظرة محكمة البنيان في وسط السوق في آخر محلة المأمونية ببغداد قرب الحلبة، كان أول من بناها المأمون، وكانت في أيامه تشرف على البرية، والآن هي في وسط البلد» . قلت: ويوافق هذه المنظرة حاليّاً: ساحة الخلاني أو قسم منها.

ص: 382

الدين عبد الرحمن، وأخوه شرف الدين عبد الله، وأخوه تاج الدين عبد الكريم، وشيخ الشيوخ صدر الدين علي بن النَّيّار، وشَرَف الدين عبد الله ابن أخيه، وبهاء الدين داود بن المختار، والنَّقيب الطاهر شمس الدين علي بن المختار، وشرف الدين محمد بن طاوس، وتقي الدين عبد الرحمن ابن الطَّبّال وكيل الخليفة.

وأُمر بحمل رأس الدويدار، وابن الدويدار الكبير، وسليمان شاه إلىالموصل، فحُمِلت وعُلِّقت ظاهر سور البلد.

ووضع السيف في أهل بغداد يوم الإثنين خامس صفر وما زالوا في قتل ونهب وأسر وتعذيب الناس بأنواع العذاب، واستخراج الأموال منهم بأليم العقاب، مدة أربعين يوماً، فقتلوا الرجال والنساء والصبيان والأطفال، فلم يبق من أهل البلد ومن التجأ إليهم من أهل السواد إلا القليل، ما عدا النصارى فإنهم عُيّن لهم شِحَانٌ حرسوا بيوتهم، والتجأ إليهم خلق كثير من المسلمين فسلموا عندهم، وكان ببغداد جماعة من التجار الذين يسافرون إلى خراسان وغيرها، قد تعلّقوا من قبل على أمراء المغول وكُتِب لهم فَرامين، فلما فُتحت بغداد خرجوا إلى الأمراء، وعادوا ومعهم من يحرس بيوتهم والتجأ إليهم

-أيضاً- جماعة من جيرانهم وغيرهم فسلموا، وكذلك دار الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي، فإنه سلم بها خلق كثير، ودار صاحب الديوان ابن الدَّامَغاني، ودار حاجب الباب ابن الدَّوامي، وما عَدا هذه الأماكن فإنه لم يسلم فيه أحد إلا من مَن كان في الآبار والقَنَوات.

وأُحرِقَ معظم البلد وجامع الخليفة وما يجاوره، واستولى الخَراب على البلد، وكانت القتلى في الدُّروب والأسواق كالتُّلول، ووقعت الأمطار عليهم ووطئتهم الخيول، فاستحالت صُورهم وصاروا عبرة لمن يَرَى، ثم نودي بالأمان، فخرجَ من تَخَلَّف وقد تَغَيَّرت ألوانهم، وذهلت عقولهم لما شاهدوا من الأهوال التي لا يُعَبَّر عنها بلسان، وهم كالموتى إذا خرجوا من القبور يوم

ص: 383

النشور من الخوف والجوع والبرد.

وأما أهل الحلة والكوفة فإنهم انتزحوا إلى البطائح بأولادهم وما قدروا عليه من أموالهم، وحضر أكابرهم من العلويين والفقهاء مع مجد الدين بن طاوس العَلَوي إلى حضرة السلطان وسألوه حقن دمائهم فأجاب سؤالهم، وعَيَّن لهم شِحْنَةً فعادوا إلى بلادهم وأرسلوا إلى من في البطائح من الناس يُعَرِّفونهم ذلك، فحضروا بأهلهم وأموالهم، وجمعوا مالاً عظيماً، وحملوه إلى السلطان، فتصدق عليهم بنفوسهم.

وأما واسط؛ فإن الأمير بغاتمر انحدر إليها بعساكره، وانتهى فيها إلى قَريب البصرة، فقتل ونَهَب وسَبَى، وكان الولاة والنُّقباء وأكبار الناس قد انحدروا بأهلهم وأموالهم إلى البصرة والبطائح فَسَلِموا.

قيل: إنَّ عدة القتلى ببغداد زادت على ثمان مئة ألف نفس عدا من ألقي من الأطفال في الوحول ومن هلك في القني والآبار وسراديب الموتى جوعاً وخوفاً، ووقع الوباء فيمن تخلَّف بعد القتل من شم روائح القتلى وشُرب الماء الممتزج في الجِيَف. وكان الناس يُكثرون من شم البصل لقوة الجيفة وكثرة الذُّباب فإنه ملأ الفضاء، وكان يسقط على المطعومات فيفسدها، وكان أهل الحلة والكوفة والسِّيب يجلبون إلى بغداد الأطعمة، فانتفع الناسُ بذلك، وكانوا يبتاعون بأثمانها الكتب النفيسة والصُّفر المُطَعَّم وغيره من الأثاث بأوهى قيمة، فاستغنى بهذا الوجه خلق كثير منهم.

ورحل السلطان من بغداد في جُمادى الأولى عائداً إلى بلاده ومقر ملكه، وفوّض أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر وجعله شحنة بها، وإلى الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي، وصاحب الديوان فخر الدين ابن الدَّامَغاني، ونجم الدين أحمد بن عِمران وهو من أهل باجِسرى كان يخدم في زمن الخليفة عاملاً، فاتصل الآن ببعض الأمراء، وحَضَر بين يدي السلطان، وأنهى إليه من حال العراق ما أوجب تقديمه وتشريفه وتعيينه في الأعمال الشرقية؛ وهي

ص: 384

الخالص وطريق خُراسان والبَنْدَنيجين، وأن يتفق مع الوزير وصاحب الدِّيوان في الحكم ولُقِّب المَلِك، ونجم الدين عبد الغني بن الدَّرْنوس، وشرف الدين العَلَوي المعروف بالطَّويل. وكان تاج الدين علي ابن الدَّارمي حاجب الباب قد خرج مع الوزير إلى حضرة السلطان، فأمر له أن يكون صَدْرَ الأعمال الفُراتية، فلم تطل مدته وتوفي في ربيع الأول، فجعل ولده مجد الدين حسين عوضه. وحضر أقضى القضاة نظام الدين عبد المنعم البَنْدَنيجي بين يدي السلطان، فأمر بأن يُقَرَّ على القضاء.

فلما عاد الوزير والجماعة من خدمة السلطان قرروا حالَ البلاد، ومهَّدوا قواعدَها وعينوا بها الصدور والنُّظار والنُّواب، فعينوا سراج الدين ابن البَجَلي (1) في الأعمال الواسطية والبَصْرية، ونجم الدين بن المُعين صدر الأعمال الحِلّية والكوفية، وفخر الدين مبارك ابن المُخَرِّمي صدر دُجَيْل والمُسْتَنصري، وعز الدين بن أبي الحديد كاتب السلة، فلم تطل أيامه وتوفي، فرُتِّب عوضه ابن الجمل النصراني، وعزَّ الدين ابن الموسوي العَلوي نائب الشرطة، والشيخ عبد الصمد بن أبي الجيش إمام مسجد قُمْرية خازن الديوان، ورتبوا في جميع الأعمال نُواباً وشرعوا في عمارتها.

فتوفي الوزير مؤيد الدين محمد ابن العلقمي في مستهل جمادى الآخرة، ودُفن في مشهد موسى بن جعفر عليه السلام، فأمر السلطان أن يكون ابنُه عز الدين أبو الفضل وزيراً بعده، ووصل الأمير قَرَاغا بعد ذلك إلى بغداد، وعَيَّنَ عماد الدين عمر بن محمد القزويني نائباً عنه، فكان يحضر الديوان مع الجماعة وكان ذا دين ومروءة، عَيَّنَ علي شهاب الدين بن عبد الله صدراً في الوقوف، وتقدم إليه بعمارة جامع الخليفة، وكان قد أُحرق كما ذكرنا، ثم فتح المدارس والرُّبط، وأثبت الفقهاء والصوفية وأدرَّ عليهم الأخباز

(1) هو سراج الدين علي ابن البجلي، قتله المغول بعد استخدامه، كما في «العسجد المسبوك» .

ص: 385

والمشاهرات، وسُلِّمَت مفاتيح دار الخليفة إلى مجد الدين محمد ابن الأثير، وجُعل أمر الفرّاشين والبوّابين إليه، وتقدم للجاثليق بسُكنى دار علاء الدين ألطبرس الدويدار الكبير التي على شاطئ دجلة فسكنها، ودق الناقوس على أعلاها، واستولى على دار الفلك التي كانت رباطاً للنساء تجاه هذه الدار المذكورة، وعلى الرِّباط البشيري المجاور لها، وهَدَم الكتابة التي كانت على البابين، وكتب عوضها بالسّرياني!» .

ولقد قال الشعراء في واقعة بغداد أشعاراً كثيرة (1)، منها ما قاله شمس الدين محمد بن عُبيدالله الكوفي الواعظ (2) :

بانُوا ولي أدمعٌ في الخَدّ تَشتَبكُ

ولوعةٌ في مجال الصَّدْر تَعتَركُ

بالرُّغم لا بالرِّضا مني فراقُهم

ساروا ولم أدر أيَّ الأرض قد سَلَكوا

يا صاحبي ما احتيالي بعد بُعدِهِمُ

أشِرْ عليَّ فإنَّ الرأي مُشتَرَكُ

عَزَّ اللقاءُ وضاقت دونه حِيَلي

فالقلبُ في أمره حَيْران مرتبكُ

يَعُوقني عن مُرادي ما بُليتُ به

كما يَعُوق جَناحَيْ طائرٍ شَرَكُ

أروم صَبراً وقلبي لا يُطاوعني

وكيف يَنهضُ من قد خانَه الورِكُ

إنْ كنتَ فاقد إلْفٍ نُحْ عليه معي

فإننا كلُّنا في ذاك نشتركُ

يا نكبةً ما نجا من صرفها أحدٌ

من الوَرَى فاستوى المملوكُ والمَلِكُ

تَمَكَّنَتْ بعد عِزٍّ في أحبَّتنا

أيْدي الأعادي فما أبْقوا ولا تَرَكوا

لو أنَّ ما نالهم يُفدَى فديتهم

بمُهجَتي وبما أصبَحْتُ أمتَلِكُ

(1) جمعها الأستاذ مأمون فريز جرار في كتاب له مطبوع، بعنوان «الغزو المغولي، أحداث وأشعار» ، ولـ (العراق) و (بغداد) و (الفرات) ذكر كثير في هذه الأشعار، وهي تذكر فلتة تؤكد صحة ما جاء في كثير من الأخبار.

(2)

الأبيات في «الحوادث الجامعة» (334-335) ، «عيون التواريخ» (20/137) مع اختلاف في ترتيب بعض الأبيات، وزيادة.

ص: 386

رَبْع الهِدَاية أضحَى بعد بُعدهم

معَطَّلاً ودم الإسلام مُنسَفِكُ

أين الذين على كل الوَرَى حَكَمُوا

أين الذين اقتنوا أين الأُولَى ملكوا

وقفتُ من بَعدِهم في الدار أسألها

عنهم وعَمّا حَوَوْا فيها وما مَلَكُوا

أجابني الطَّلَلُ البالي ورَبعُهم الـ

ـخالي: نعم ها هنا كانوا وقد هَلَكوا

لا تَحسَبُوا الدَّمع ماءً في الخُدود جَرَى

وإنما هي رُوح الصَّب تَنسَبكُ

ولما شاهد تُرَب الرُّصافة وقد نُبشت قبور الخلفاء وأُحرقت تلك الأماكن، وأُبرزت العظام والرؤوس! كتب على بعض الحيطان (1) :

إن تَرِد عِبرَة فتلكَ بنو العبـ

ـاس حَلَّت عليهم الآفاتُ

استبيح الحَريم إذ قُتِلَ الأحـ

ـياء منهم وأُحرِقَ الأمواتُ

ومما قاله -أيضاً- (2) :

يا عُصبة الإسلام نُوحوا واندبوا

أَسَفاً على ما حَلَّ بالمُستَعصِمِ

دَسْت الوَزارة كان قبل زَمَانه

لابن الفُرات فصار لابن العَلقَمِي!» (3)

(1)«الحوادث الجامعة» (ص 335) .

(2)

«الحوادث الجامعة» (ص 335) ، «شذرات الذهب» (5/271) ، «تاريخ الخلفاء» (472) .

(3)

ذكر الذهبي في «تاريخ الإسلام» قسماً من قصيدة نظمها تقي الدين إسماعيل بن أبي اليسر التنوخي في ستة وستين بيتاً مطلعها:

لسائل الدَّمع عن بغداد أخبار

فما وقوفك والأحباب قد ساروا

ونشرها المستشرق سوموغي في مجلة (B. S. O. A. S) ، وقسم منها في «النجوم الزاهرة» (7/51-52) و «درة الأسلاك» (1/25) ، و «شذرات الذهب» (5/271-272) ، و «تاريخ الخلفاء» (473) .

وخير من ترجم لشهداء الواقعة من الأمراء والقادة والزعماء والفقهاء والمحدثين والعلماء؛ هو تاج الدين ابن الساعي مؤرخ العراق، الذي نجى من هذه الواقعة، ونقله عنه صاحب «العسجد المسبوك» ، والذهبي في «تاريخ الإسلام» ، وابن كثير في «البداية والنهاية» ، فمن أراد استزادة فعليه بها.

ص: 387

ولابن الشروي ضمن قصيدة فيما ذكر ابن شاكر الكتبي في «عيون التواريخ» (20/140-141) :

وانزل على بغداد وانْدُب أهلَها

دار السلام وقل عليك سلامُ

فإذا رأيتَ وقد عفّت من أهلها

واعتادها بعد الضياء ظلامُ

فانشد هناك وقل بقلب والهٍ

يا دارُ ما صنعتْ بك الأيامُ

ويلاه! يا بغدادُ أورثتِ الحشا

ناراً لها بين الضّلوع ضرامُ (1)

قال أبو عبيدة: تأمل قوله: «فعبروا دجلة، فلما تجاوزوا قنطرة باب البصرة بفرسخ واحد رأوا عساكر المغول قد أقبلت كالجراد المنتشر،

» .

وهذا التطابق مع حديث أبي بكرة المرفوع: «ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له: دجلة، يكون عليه جسر يكثر أهلها، وتكون من أمصار المهاجرين، فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطورا، عراض الوجوه، صغار الأعين، حتى ينزلوا على شط النهر» . والحديث حسن، كما سبق بيانه بالتفصيل (2) .

(1) ما الذي هاج في نفسي عند قراءة هذه الأبيات؟! لقد نشر أمام عيني ما انطوى من ذكريات بغداد، وما مات من أيامها، وما نال أصحابها من أذى وضر، لقد ظلمكِ يا بغداد مَن سَمَّاكِ دار السلام، فأين السلام يا مَنزِل القواد والخلفاء، والمحدثين والفقهاء، والزهاد والأتقياء، والمغنين والشعراء، والمجان والظرفاء؟! لقد قال لك السلام: الوداع يا بغداد، يا موئل العربية، ويا قبة العرب، ويا مثابة العلم والتقى، واللهو والفسوق، والمجد والغنى، والفقر والخمول، يا دنيا فيها من كل شيء! نعم، السلام عليك من السلام، لقد غُلبتِ، ولم ينتصر عليك عدوكِ بسلاحهم، ولكن هدم أصحابُكِ مجدهم بأيديهم، كانوا يضربون بعضهم بعضاً، وكانوا يسلطون بعضنا على بعض! هل كان يُغلَب المسلمون أو يستسلمون لولا أن وجد أعداؤنا أناساً منا يعينوهم علينا، هل كانوا يُغلبون لولا الخائنون؟! لا تقل: جرأة، قُدرة

! فإنها تحتاج إلى حق وحنكة! وقل لي بربك: ما قيمة المقدرة إذا لم تكن مسخرة للحق؟! هل يسرق اللص، ويرسم الخطط للسرقة، ويقتل القاتل، ويعدّ العدّة للقتل، إلا وهو قدير؟! فلا قيمة للقدرة وحدها، إن لم تكن معها دين وحق ورحمة وفضيلة.

(2)

انظر: (ص 310، 314) .

ص: 388

وذهب إلى ما قررتُ جمعٌ من شراح الحديث، وهذه عباراتهم التي تدل على ذلك:

قال الطيبي في «شرحه على المشكاة» (1) في (الفصل الثاني) من (باب الملاحم) في (كتاب الفتن) عند هذا الحديث، -وهو التاسع منه- ما نصه:

«الحديث التاسع عن أبي بكرة: قوله: «بغائط» . الغائط: الوادي المطمئن، وغاط في الأرض يغوط ويغيط إذا غار. قوله:«عند نهر يقال له: دجلة» ؛ أراد: النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المدينة مدينة بغداد؛ فإن دجلة هي الشطّ، وجسرها في وسطها لا في وسط البصرة. وإنما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم ببصرة؛ لأن بغداد [كانت] موضعاً خارجاً منه قريب من بابه يدعى بباب البصرة، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم بغداد باسم بعضها، أو على حذف المضاف؛ كقوله -تعالى-:{وَاسْأَل القَريَةَ} . وبغداد ما كانت مبنية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الهيئة ولا كان مصراً من الأمصار؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويكون من أمصار المسلمين» بلفظ المستقبل، بل كان في عهده صلى الله عليه وسلم قُرىً متفرقة سورت بعد ما خربت مدائن كسرى منسوبة إلى البصرة محسوبة من أعمالها، وأن أحداً لم يسمع إلى زماننا بدخول الترك بصرة قط على سبيل القتال والحرب. ومعنى الحديث: أن بعضاً من أمتي سينزلون عند دجلة فيتوطنون ثَمَّةَ، ويصير ذلك الموضع مصراً من أمصار المسلمين، وهو بغداد، فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء فتقاتل أهل بغداد. وقال بلفظ:«جاء» دون يجيء؛ إيذاناً بوقوعه، فكأنه قد وقع» انتهى.

وتأمل تتمة الحديث؛ وهو:

«فيتفرق أهلها ثلاث فرق: فرقة يأخذون في أذناب البقر والبرية، هلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسم، وهلكوا، وفرقة يجلعون ذراريهم خلف ظهورهم

(1)(10/85-86 - ط. إدارة القرآن والعلوم الإسلامية/كراتشي) .

ص: 389

ويقاتلونهم وهم شهداء» .

فقوله: «فرقة يأخذون في أذناب البقر» ؛ أي: فرقة يعرضون عن المقاتلة هرباً منها وطلباً للخلاص، فيهيمون في البوادي ويهلكون فيها؛ أي: يعرضون عن المقاتلة، ويشتغلون بالزراعة ويتبعون البقر للحراثة. «وفرقة يأخذون لأنفسم» ؛ أي: يطلبون الأمان من بني قنطوراء، وهلكوا بأيديهم.

ولعل المراد بهذه الفرقة «المستعصم بالله» ومن معه من المسلمين، طلبوا الأمان لأنفسم ولأهل بغداد، هلكوا بأيديهم عن آخرهم. وفرقة ثالثة هم الغازية المجاهدة في سبيل الله قاتلوا الترك قبل ظهورهم على أهل الإسلام فاستشهد معظمهم، نجت منهم شرذمة قليلون. قاله الطيبي (1) -أيضاً-. وهذا ظاهر من خلال ما نقلناه عن ابن كثير وغيره.

ولِعَلي القاري شرح مفصّل لهذا الحديث في «المرقاة» (2) ، نسوقه بتمامه، قال رحمه الله:

« «ينزل أُناس» -بضم الهمزة، لغة- في ناس «من أمتي بغائط» ؛ أي: بغائر من الأرض، ذكره شارح، وفي الفائق: أي: بواد مطمئن «يسمونه البَصرة» -بفتح الموحدة، وفي نسخة بكسرها، وفي «القاموس» : البصرة: بلدة معروفة، ويحرك ويكسر الصاد، أو هو معرب بسرة؛ أي: كثير الطرق (3)

- «عند نهر»

-

(1) في «شرحه مشكاة المصابيح» (10/86) .

(2)

(5/166-167 - ط. دار إحياء التراث) .

(3)

قال المنذري في «مختصر سنن أبي داود» (6/168) : «إنما سميت البصرة؛ لأن المسلمين لما قدموها نظروا إلى الحصباء، فقالوا: إن هذه أرض بصرة؛ يعني: حصيبة. وقال الجوهري: البصرة: حجارة رخوة إلى البياض ماهي، وبها سميت البصرة» .

وقال (6/169) : «وبنى البصرة عقبة بن غزوان في سنة سبع عشرة من الهجرة علىالمشهور في خلافة عمر. وقيل: إنها لم يعبد بأرضها صنم. وقيل: سميت بالبصرة والبصر والبَصْر، وهو الكدّان، كان بها عند اختطافها. وقيل: البصر: الطين العَلِك. وقيل: الأرض الطيبة =

ص: 390

بفتح الهاء ويسكن- «يقال له: دِجلة» -بكسر الدال، ويفتح- نهر بغداد «يكون عليه جسر» ؛ أي: قنطرة ومعبر، «يكثر أهلها» ؛ أي: أهل البصرة، وفي «حاشية الشفاء» للعلبي: البصرة مثلث الباء، والفتح أفصح، بناها عتبة بن غزوان في خلافة عمر -رضي الله تعالى عنه-، ولم يعبد الصنم قط على ظهرها، والنسبة إليها بالكسر والفتح. قال «المغني» : والكسر في النسبة أفصح من الفتح. قلت: ولعله لمجاورة كسر الراء، هذا؛ وقد قال الأشرف: أراد صلى الله عليه وسلم بهذه المدينة مدينة السلام بغداد، فإن دجلة هي البسط وجسرها في وسطها، لا في وسط البصرة، وإنما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم ببصرة؛ لأن في بغداد موضعاً خارجياً منه قريباً من بابه، يدعى باب البصرة، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم بغداد باسم بعضها، أو على حذف المضاف؛ كقوله -تعالى-:{واسئل القرية} . وبغداد ما كانت مبنية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الهيئة ولا كان مصراً من الأمصار في عهده صلى الله عليه وسلم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:«ويكون من أمصار المسلمين» بلفظ الاستقبال، بل كان في عهده صلى الله عليه وسلم قُرىً متفرقة بعد ما خربت مدائن كسرى منسوبةً إلى البصرة محسوبةً من أعمالها، وهذا وإن أحداً لم يسمع في زماننا بدخول الترك بصرة قط على سبيل القتال والحرب، ومعنى الحديث: أن بعضاً من أمتي ينزلون عند دجلة ويتوطنون ثَمّةَ، ويصير ذلك الموضع مصراً من أمصار المسلمين، وهو بغداد، «وإذا كان» -اسمه مضمر- «في آخر الزمان جاء بنو قَنطورا»

-بفتح القاف وسكون النون مقصوراً وقد يمد-؛ أي: يجيئون ليقاتلوا أهل بغداد، وقال بلفظ:«جاء» دون يجيء؛ إيذاناً بوقوعه، فكأنه قد وقع، وبنو

= الحمراء. وقال صاحب «الجامع في اللغة» : البَصر والبِصر والبُصْرة: حجارة الأرض الغليظة» .

وسكنها الناس سنة ثماني عشر. قاله السمعاني في «الأنساب» (1/363) ، ونعتها بـ (قبة الإسلام! و (خزانة العرب) ، ومُصِّرت في خلافة عمر، وأرخ ياقوت ذلك سنة 14 من الهجرة. كذا قال عند (البصرة) ! ولكنه لما ذكر (الكوفة)، قال:«اختطت الكوفة سنة خطة البصرة 17 من الهجرة» ! فكأنه نسي ما ذكره هناك!

ص: 391

قنطورا (1)

اسم أبي الترك، وقيل: اسم جارية كانت للخليل عليه الصلاة والسلام، ولدت له أولاداً، جاء من نسلهم الترك وفيه نظر؛ فإن الترك من أولاد يافث بن نوح، وهو قبل الخليل بكثير. كذا ذكره بعضهم، ويمكن دفعه بأن الجارية كانت من أولاد يافث، أو المراد بالجارية بنت منسوبة للخليل؛ لكونها من بنات أولاده وقد تزوجها واحد من أولاد يافث، فأتت بأبي هذا الجيل، فيرتفع الإشكال بهذا القال والقيل، ويصح انتسابهم إلى يافث والخليل «عراض الوجوه» ، بدل أو عطف بيان، وكذا قوله:«صغار الأعين حتى ينزلوا على شط النهر فيتفرق أهلها ثلاث فرق» -بكسر ففتح: جمع فرقة-، (فرقةٌ) -بالرفع ويجوز نصبها- «يأخذون في أذناب البقر» ؛ من أخذ في الشيء: شرع فيه، وقوله:«في البرية» تتميم وتذييل؛ لأن أخذ أذناب البقر لا يكون غالباً إلا في البرية الخارجة عن المدينة التي يعبر عنها بالبحرية، ومنه قوله -تعالى-:{ظهر الفساد في البر والبحر} ، أو المراد بقوله:«في البرية» : اختيار العزلة، وإيثار الصحراء والخلاء على البلد، واجتماع الملأ، فعلى الأول: صفة أو حال، وعلى الثاني: بدل كل أو بعض، ويمكن أن تكون «في» تعليلية، وقوله:«وهلكوا» فذلك نتيجة لأفعالهم، والمعنى: أن فرقة يُعرِضُون عن المقاتلة هرباً منها وطلباً لخلاص أنفسهم، ومواشيهم، ويحملون على البقر فيهيمون في البوادي، ويهلكون فيها أو يعرضون عن المقاتلة، ويشتغلون بالزراعة ويتبعون البقر للحراثة إلى البلاد الشاسعة، فيهلكون. قال الطيبي رحمه الله: قوله: «يأخذون في أذناب البقر» ، على معنى يوقعون الأخذ في الأذناب؛ كقوله:

بجرح في عراقيبها نصلى

وكأنهم يبالغون في الاشتغال ولا يعبئون بأمر آخر، أو يوغلون في السير خلفها إلى البلاد الشاسعة فيهلكون فيها، «وفرقة يأخذون» ؛ أي: يطلبون أو

(1) انظر عنهم: ما قدمناه (ص 286) ..

ص: 392