الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في سياق كلام العلماء في تحديد من هم المانعون
أورد غير واحد قول جابر الذي فيه: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم. قلنا (1) : من أين ذاك؟ قال: من قبل العجم، يمنعون ذاك. ثم قال: يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مُدي. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل الروم» (2) في معرض بيانه للمنع الوارد في حديثنا هذا: «منعت العراق درهمها وقفيزها،
…
» إلخ.
ومن ذهب إلى هذا جماعة؛ منهم:
* الإمام البيهقي في كتابه «دلائل النبوة» (6/330-331) ، فإنه ساق حديث أبي هريرة، وذكر تأويلين (3) له؛ أحسنهما عنده:«إن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنهم سيسلمون وسيسقط عنهم ما وُظِّف عليهم» ! وقال: «وتفسيره
…
» . وأورد حديث جابر هذا (4) .
وناقشه في اختياره ابنُ كثير، وأقره على الاستدلال بحديث جابر، قال في «البداية والنهاية» (6/203) :
«وقد اختلف الناس في معنى قوله عليه السلام: «منعت العراق
…
» إلخ؛ فقيل: معناه: أنهم يسلمون فيسقط عنهم الخراج، ورجّحه البيهقي، وقيل: معناه: أنهم يرجعون عن الطاعة ولا يؤدون الخراج المضروب عليهم، ولهذا
(1) القائل: أبو نضرة، واسمه المنذر بن مالك بن قُطعة العبدي.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
انظرهما: (ص 226) .
(4)
ونقل كلامه ولم يتعقبه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (2/211) ، ولكنه أخرج أثر جابر من سياق آخر.
قال: «وعدتم من حيث بدأتم» ؛ أي: رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل ذلك. كما ثبت في «صحيح مسلم» (1) : «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء» » ، قال:
«ويؤيد هذا القول؛ ما رواه الإمام أحمد
…
» وأورد قول جابر، ثم عطف على ذكر لفظ مسلم في «صحيحه» ، وفيه قولة جابر مع ما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم (2)، وقال:«والعجب أن الحافظ أبا بكر البيهقي احتجّ به على ما رجّحه من أحد القولين المتقدمين، وفيما سلكه نظر، والظاهر خلافه» (3) .
قال أبو عبيدة: وما رجحه ابن كثير غير دقيق (4) ؛ إذ (المنع) فيه معنى (الغلبة) ، ويدل عليه قول جابر هذا، وقد أحسن النووي لما قال:
«إن معناه -أي: المنع-: أن العجم والروم يستولون على البلاد في آخر الزمان، فيمنعون حصول ذلك للمسلمين» .
ولي هنا ملاحظات مهمات:
الأولى: في الحديث الذي معنا: «منعت العراق
…
» وفي قول جابر: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم» وكذا أهل الشام، وليس في هذا استيلاء عسكري على البلاد، وإنما في (منع أهل العراق) خيرات بلادهم؛ بحيث لا يتوسعون فيها على الرغم من كثرة الخيرات، وخصوبة الأرض، ووجود المقوّمات الاعتيادية لتحصيل ذلك، فقول النووي -رحمه الله تعالى-:«يستولون على البلاد في آخر الزمان» لازمٌ لهذه الألفاظ المتصوّرة في زمانه، والجامع بين (أشراط الساعة) عدم وجودها في زمن
(1) رقم (146) .
(2)
أعني قوله صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر أمتي خليفة
…
» .
(3)
«البداية والنهاية» (6/203) .
(4)
انظر لزاماً: ما قدمناه (ص 226) .
النبي صلى الله عليه وسلم، وليس (الذم) ، أو (الكراهة) ، أو (الحرمة) ؛ كما يعتقد كثير من الناس.
الثانية: أما بالنسبة إلى (الاستيلاء العسكري) ؛ فيحتاج إلى نصٍّ آخر، وهذا ما سأقوم به -إن شاء الله تعالى- في دراسة مفردة عن (الروم) و (العجم) وصِلَتِهِما بأحاديث الفتن، وسيكون ذلك بخصوص (ديار أهل الإسلام) جميعاً، بما فيها (العراق) ، ولكن الذي يهمني الآن ما يخص (منع خيرات العراق والشام ومصر) أهلها - (وهو منطوق حديثنا) -.
الثالثة: المتأملُ قولَ جابر: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم،
…
من قبل العجم، يمنعون ذلك، يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مُدي،
…
من قبل الروم» يخلص إلى:
1-
منع أهل العراق هو الأول، ثم يتبعه منع أهل الشام (1)، إذ «معنى قوله رضي الله عنه:«يوشك» : يسرع. وقيل: عسى» (2) . والمعنى الأول يفيد الزمن، وكذا وقع ترتيبه في حديث أبي هريرة، وأثر جابر.
2-
المانعون لخيرات العراق هم العجم، والمانعون لخيرات الشام هم الروم، وهما مختلفان، وهذا هو الفرق بينهما:
العَجم: من (العُجمة) ؛ وهي: «كون اللفظ مما وضعه غير العرب» (3) ؛ بمعنى: «أن تكون الكلمة أو الجملة على غير أوزان الكلام، عند العرب الفصحاء» (4) .
وعليه؛ فـ (الأعجمي) : «معناه في كلام العرب: الذي في لسانه (عُجمة) ،
(1) وأما أهل مصر؛ فمسكوت عنه في كلام جابر، ومصرح به في الحديث المرفوع الذي نحن بصدده، والظاهر أنه متأخر عنهما، ولكن نحتاج إلى معرفة من يقوم به.
(2)
«إكمال المعلم» (8/457) ، و «شرح النووي على صحيح مسلم» (18/53) .
(3)
«دستور العلماء» (2/217 - ط. دار الكتب العلمية) .
(4)
«معجم مصطلحات أصول الفقه» (ص 280) لقطب سانو.
وإن كان من العرب. والعَجميّ: الذي أهله من العجم، وإن كان فصيح اللسان. يقال: رجل أعجمي، ورجل أعجم: إذا كان في لسانه عُجمة. ويقال للدواب: عُجم؛ لأنها لا تتكلم» (1) .
فهؤلاء هم الذين يمنعون العراق خيراتهم، فهم خليط وأمشاج من الناس، تجمعهم (العُجمة) .
وجاء ذكرهم كثيراً في النصوص، وسموا في بعض الأحاديث الصحيحة بـ (بني الأصفر)(4) .
وعليه؛ فيحتمل أن يكون الحديث «مُنِعت» -بضم الميم وكسر النون- على البناء للمجهول، وهو حينئذٍ يلتقي مع:«يوشك أهل العراق أن لا يُجبى إليهم» .
قال صاحب «تكملة فتح الملهم» (6/292) شارحاً حديث: «منعت العراق
…
» :
(1)«الزاهر في معاني كلمات الناس» (2/61 - ط. العراقية) تحقيق حاتم الضامن.
(2)
القائل -كما يأتي- هو النووي، ويريد: أهل الشام من العرب.
(3)
«تهذيب الأسماء واللغات» (3/130) ، وذُكر في أسباب تسميتهم أمورٌ أخرى؛ انظرها في «معجم البلدان» (3/97) ، و «لسان العرب» (12/258) ، و «مختار الصحاح» (ص 264) .
(4)
لراقم هذه السطور رسالة مفردة في (الملاحم) ، فيها البيان التفصيلي لهذا الإجمال، يسر الله إتمامها وإظهارها.
«إنه إخبار بأن الكفار يسيطرون في آخر الزمان على معظم البلاد، فيمنعون مسلمي هذه البلاد من الحصول على ما يحتاجون إليه من الأموال (1) ، ويؤيده ما سيأتي في باب (لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل
…
إلخ) من حديث جابر رضي الله عنه، قال:«يوشك أهل العراق أن لا يُجبى إليهم قفيز ولا درهم. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل العجم، يمنعون ذلك. ثم قال: يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مُدْي. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل الروم» . والظاهر على هذا التفسير أن يكون حديث الباب بلفظ: «مُنِعَت» ، بضم الميم وكسر النون على البناء للمجهول، ولم أر ذلك مصرحاً في شيء من الروايات، والله أعلم» انتهى.
ودرج على هذا جماعة من السابقين؛ مثل:
* القاضي عياض.
قال في «إكمال المعلم» (8/457) :
«وقوله: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم
…
» هو مثل قوله: «منعت العراق درهمها
…
» الحديث، وقد فسّره في الحديث أن معناه: منعها الجزية والخراج؛ لغلبة العجم والروم على البلاد» .
* النووي في هذا الموطن.
فإنه اكتفى بقوله في «شرح صحيح مسلم» (18/53) عند أثر جابر: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم
…
» :
«قد سبق شرحه قبل هذا بأوراق» ؛ يريد: كلامه الذي قدمناه عنه (2) .
* صديق حسن خان.
(1) سيأتي مزيد بيان لهذا في (فصل: حصار العراق الاقتصادي) .
(2)
ومثله صنع صديق حسن خان في «السراج الوهاج» (11/380) .
نقل كلام النووي على حديث أبي هريرة السابق بتمامه، وقال عقبه:
ودرج على هذا جماعة من الباحثين والمطَّلعين المعاصرين، فإنهم اعتنوا بكلام النووي، وأقروه على ما قال، ومنهم من أورد مقولته في سياق كلامٍ زاد الحديثَ معنىً وبياناً، وإليك شذرات من كلامهم:
* قال الأستاذ مصطفى أبو النصر الشلبي في كتابه «صحيح أشراط الساعة ووصف ليوم البعث وأهوال يوم القيامة» (2) تحت عنوان (قطع المال والغذاء عن العراق وغيرها من بلاد الإسلام) :
ثم أورد حديثَ جابرٍ بلفظ مسلمٍ، وكلامَ النووي بتمامه عليه، وعلق عليه قائلاً:
«قلت: لا يعني من قوله أنه قد وُجد في زمانهم أن ذلك لا يتكرر؛ فإنّ مِنْ أشراط الساعة ما يتكرر أكثرَ من مرة، كما في حديث تداعي الأمم على
(1)«السراج الوهاج» (11/368) . وسيأتي تفصيل قوله: «قد وجد ذلك كله في هذا الزمان الحاضر» .
(2)
(ص 176-178) .
الأمة الإسلامية؛ فقد حدَثَ هذا أكثر من مرة في تاريخ الأمة، وهو يحدث الآن بشكل أوسع وأوضح» .
* وقال الأستاذ عمر سليمان الأشقر -حفظه الله تعالى- في كتابه «اليوم الآخر القيامة الصغرى» (1) تحت عنوان (توقُّفُ الجزية والخراج) ما نصه:
«كانتِ الجزيةُ التي يدفعها أهلُ الذمة في الدولة الإسلامية، والخراجُ الذي يدفعه من يستغلُّ الأراضيَ التي فُتِحت في الدولة الإسلامية من أهم مصادر بيت مال المسلمين، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ذلك سيتوقف، وسيفقد المسلمون بسبب ذلك مورداً إسلاميّاً هامّاً، ففي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مدها (2) ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم» شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه.
والقفيز والمد (2) والإردب: مكاييلُ لأهلِ ذلك الزمان في تلك البلاد، وبعضها لا يزال معروفاً إلى أيامنا، والدرهم والدينار أسماءٌ للعملات المعروفة في ذلك الوقت، ومنع تلك البلاد للمذكورات في الحديث بسبب استيلاء الكفار على تلك الديار في بعض الأزمنة، فقد استولى الروم، ثم التتار على كثير من البلاد الإسلامية، وفي عصرنا احتَلَّ الكفار ديار الإسلام، وأذهبوا دولة الخلافة الإسلامية، وأبعدوا الشريعة الإسلامية عن الحكم. قال النووي في تعليقه على الحديث:«الأشهر في معناه: أن العجم والروم يستولون على البلاد في آخر الزمان، فيمنعون حصول ذلك للمسلمين، وقد روى مسلم هذا بعد ذاك بورقات عن جابر، قال: «يوشك أن لا يجيء إليهم قفيز ولا درهم. قلنا من أين ذلك؟ قال: من قبل العجم، يمنعون ذاك» . وذكر
(1)(ص 154-155) .
(2)
كذا في المطبوع، وصوابه:«مُدْيها» .
في منع الروم ذلك بالشام مثله، وهذا قد وجد في زماننا في العراق، وهو الآن موجود. وقيل: لأنهم يرتدون آخر الزمان، فيمنعون ما لديهم من الزكاة وغيرها. وقيل: معناه: أن الكفار الذين عليهم الجزية تقوى شوكتهم في آخر الزمان، فيمتنعون مما كانوا يؤدونه من الجزية والخراج، وغير ذلك» . وكل هذه التعليلات لسبب منع تلك الإيرادات لخزينة الدولة الإسلامية التي ذكرها النووي وُجِدَتْ، علاوةً على انهيار الدولة الإسلامية التي كانت تقيم اقتصادها على الشريعة الإسلامية، فإلى الله المشتكى» .
وقال العلامة الشيخ التويجري في كتابه «إتحاف الجماعة فيما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة» (1) بعد أن أورد حديث أبي هريرة -وعزاه لأحمد ومسلم وأبي داود-:
واستشهد له ابن كثير بما رواه الإمام أحمد ومسلم (4) من حديث أبي نضرة، قال: كنا عند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما،
…
» وساقه» ، ثم قال: «قلت: وأصرح من هذا ما رواه الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «كيف أنتم إذا لم تجتبوا ديناراً ولا درهماً؟! فقيل له:
(1)(2/233-234 - ط. الصميعي) .
(2)
في «الدلائل» (6/330) ، وسبق كلامه.
(3)
(4/248 - مع «مختصر السنن» ) ، وفي هذا نظر، انظر ما قدمناه (ص 250) .
(4)
مضى تخريجه مفصلاً.
وكيف ترى ذلك كائناً يا أبا هريرة؟ قال: إي؛ والذي نفس أبي هريرة بيده عن قول الصادق المصدوق. قالوا: عم ذلك؟ قال: تنتهك ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيشد الله عز وجل قلوب أهل الذمة، فيمنعون ما في أيديهم (1) .
والذي يظهر لي في معنى قوله: «منعت العراق درهمها
…
» الحديث: أن ذلك إشارةٌ إلى ما صار إليه الأمر في زماننا وقبله بأزمان، من استيلاء الأعاجم من الإفرنج وغيرهم على هذه الأمصار المذكورة في حديث أبي هريرة
…
رضي الله عنه، وانعكاسِ الأمور بسبب ذلك، حتى صار أهلُ الذمّةِ أقوى من المسلمين وأعظمَ شوكةً، فامتنعوا من أحكام الإسلام التي كانت تجري عليهم من قبل، وانتفض حكم الخراج وغيره، ثم زاد الأمر شدة، فوُضِعَتْ قوانينُ أعداءِ الله ونظمُهم مكانَ الأحكام الشرعية، وأَلزَموا بها مَن تحتَ أيديهم من المسلمين، والذين انفلتوا من أيدي المتغلبين عليهم ما زالوا على ما عهدوه من تحكيم القوانين وسنن أعداء الله -تعالى-، والتخلق بأخلاقهم الرذيلة، بل على شرٍّ مما عهدوه؛ كما لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة» انتهى.
وأخيراً؛ فإن كثيراً من المحدثين في تخريجاتهم عَدُّوا (قول جابر)
…
-الذي له حكم الرفع (2) ، وفيه بيان المانعين- شاهداً لحديث أبي هريرة المرفوع الذي نحن بصدده، وهذا يدل على الصلة الوثيقة بينهما، وهو يلتقي مع كلام الشُّرّاح السابق، وهذا ما صنعه ابنُ كثير (3) ، وابنُ حجر (4) ، وأظهره
(1) سيأتي تخريجه.
(2)
من المقرر في علم المصطلح أنّ قول الصحابي فيما يخصّ الغيب -ومنه أشراط الساعة- له حكم الرفع، ما لم يأخذ عن أهل الكتاب. انظر:«النكت على ابن الصلاح» (2/ 531) ، «فتح المغيث» (2/132) .
(3)
انظر: «النهاية في الفتن والملاحم» (1/38-39 - ط. الشيخ إسماعيل الأنصاري) .
(4)
انظر: «فتح الباري» (6/280)، وفي مطبوعه: «ولمسلم عن جابر -أيضاً- مرفوعاً!!: يوشك أهل العراق
…
» كذا في الطبعة السلفية: (مرفوعاً) ! وهو خطأ، وكذا وقفتُ عليه في جميع =
على وجهٍ جليٍّ شيخُنا الألباني -رحمه الله تعالى- في كتابه «صحيح سنن أبي داود» (1)(8/368-369)، فإنه قال في آخر تخريجه لحديث أبي هريرة:
«وله شاهد من حديث جابر
…
نحوه: رواه مسلم (8/185) ، وأحمد (3/317) » .
وقال في «السلسلة الصحيحة» (7/القسم الأول/ 198، رقم 3072) عند تخريج حديث جابر مرفوعاً: «يكون في آخر أمتي خليفةٌ يحثو المال حثْواً، لا يعده عدّاً» : «وأيضاً: فإنه شهد له (2) حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ
…
» وأورده.
ويمكن أن يفرق بين الحديثين (3) بقولنا:
= الطبعات التي في مكتبتي؛ وهي: (7/787 - ط. دار أبي حيان) و (6/419 - ط. دار الفكر، و2/1500 - ط. بيت الأفكار، و6/324 - ط. العبيكان) . وكذا وقع -أيضاً- في «عمدة القاري» (15/102 - ط. المنيرية) للعيني.
(1)
مما ينبغي أن يُتَنبَّه له: أن لشيخنا الألباني كتابين بهذا العنوان، أحدهما: تام، وهو مختصر، وعليه الأحكام فقط، والآخر: ناقص، مطوّل، جوّده بتخريجات وتعليقات مسهبة، طبع بعد وفاته في (11) مجلداً عن (دار غراس) الكويت.
(2)
مع التنويه على أن موطن الشاهد منه ما سبق اللفظ المرفوع، وهو من قول جابر
…
رضي الله عنه.
(3)
ممن فرق بينهما -خلافاً لجماهير الشراح- المباركفوري في «منية المنعم» (4/362)، فقال عند قول جابر: «يوشك أهل العراق أن لا يُجبى إليهم
…
» : «ففي هذا الحديث -كذا، وهو أثر- أن العجم يمنعون أداء أموالهم إلى العراق، والروم يمنعوها من أهل الشام، وفي الحديث السابق أن العراق والشام ومصر تمنع أداء أموالها إلى المخاطبين، وهم أهل الحجاز خاصة، أو سكان جزيرة العرب عامة، ففي الحديثين خبران مستقلان!! وقد وقعا كلاهما، والله المستعان!!
قلت: وكلامه متعقَّب، بما مضى من معنى (المنع) ، والحديث الأول فيه ما يدل على حصار العجم للعراق ومنع وصول الخيرات لها، وليس كما قاله! وانظر أثر عبد الله بن عمرو (ص 296) .
إن قوله: «يوشك أهل العراق أن لا يُجبى إليهم
…
» ومثله الشام أن لا يُجبى هكذا بضم «أوله «يُجبى» ؛ أي: يُمنعون منه بسبب حصار ونحوه، أو مقاطعة خارجية، وهذا خاص -كما في الحديث- بالعراق والشام فقط، ولم تذكر «مصر» هنا، أما الحديث الآخر وهو «منَعَت العراق» ومثله الشام، ومثله مصر؛ فهو بفتح أوله «مَنَعت» ؛ أي أنهم هم الذين يمنعون ذلك؛ أي: هم الفاعلون، وليسوا المفعولَ بهم، وذكرت مصر هنا. وطبعاً هناك فرق هائل جوهري بين المعنيين؛ استفدناه من حركة «الحرف» الأول في كلٍّ من اللفظين:«يُجبى» و «مَنَعَت» ؛ فالأول (مبني للمجهول أو لما لم يسمّ فاعله) ، والثاني (مبني للمعلوم) . فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم أخبر أن أهل العراق سيحاصرون ويقاطعون، ويُمنع (بضم الياء التحتية) عنهم الطعام والمساعدات، ثم يفعل هذا بالشام -أيضاً-.
وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر -ليس له علاقة بالحديث الأول- أن البلدان الإسلامية سترتد (!!) في آخر الزمان فتمنع ما لزمها من الزكاة وغيرها، وقد ذكر العلماء أقوالاً أخرى، ولكن هذا الذي أثبته هو المعتبر؛ لأنه الواقع، ونص الحديث يؤيده، فقد جاء في آخر الحديث التالي:«وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم» . ويمكن أن نقول: أن الردة التي ذكرها العلماء ليست الردة عن الدين بالكلية، وإنما هي سقوط «الخلافة» وتفكك الدولة الإسلامية إلى دويلات مستقلة وانعدام بيت المال، ومنعت البلدان «الإسلامية» الخراج الذي كان يؤدى لبيت المال، وعلى أي التأويلات والتقديرات؛ فالحديثان مختلفان، سنداً ومتناً وفقهاً، ويمكن أن نضيف هذه العلامة كعلامة صغرى من علامات الساعة؛ وهي سقوط الخلافة، ومنع الدويلات الإسلامية المتشرذمة ما كان يجب عليها ويلزمها في دولة الخلافة» (1) .
(1)«رد السهام عن كتاب عمر أمة الإسلام» (ص 59-60) .