الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأماكن» (1) ، وهذا الضرب ليس موضوع حديثنا.
الضرب الثاني: الفتن التي تموج موج البحر
؛ أي: تضطرب وتدفع بعضها بعضاً، وشُبِّهت بـ (موج البحر)(2) ؛
لشدّة عظمها، وكثرة شيوعها، وهذا
(1)«فتح المنعم بشرح صحيح مسلم» (10/507) .
(2)
الفتن تظهر على هيئة أمواج، وهذه الأمواج منها القصير ومنها الطويل، وكله يعصف، ومصداقه ما أخرجه مسلم (2891) بسنده إلى حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعدُّ الفتن: «منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئاً، ومنهن فتن كرياح الصيف، منها صغار ومنها كبار» ولعل الثلاثة المذكورات موزعات في أوقات مختلفات، و (رياح الصيف) ويريد فيها بعض الشدة، وإنما خص رياح الصيف، لأنّ رياح الشتاء أقوى» قاله ابن الأثير في «جامع الأصول» (10/29) .
وشبهها برياح الصيف «لتفاوت زمنها، وسرعة مجيئها وذهابها، وكذلك التفاوت في الشدة، والآثار التي تحدثها، والله أعلم» ، كذا في «الفتنن والآثار والسنن» (ص54-55) و (الفتن التي تموج موج البحر) هن اللاتي «لايكدن لا يذرن شيئا» ، وهن (الفتن العامة) الواردة في جملة من الآثار -وستأتي-، ويمتاز هذا النوع بأن شرها يصل إلى جميع الناس، وتصيدهم كالأنعام، وورد ذلك في أحاديث سيأتي بعضها -أيضاً-.
ومن هذا النوع: الفتن التي تدخل بيت كل مسلم، قيل فيها: هي واقعة التتار، الآتي وصفها (ص 369 وما بعد) ، إذ لم يقع في الإسلام، ولا في غيره مثلها! كذا في «فيض القدير» (4/95) .
قلت: واقعة التتر مفردة من مفرداتها، وإلا فهي كثيرة، وقد تدخل الفتن الخاصة ببلدة معينة صغيرة، تخص فئة، أو عامة تشمل الناس جميعاً.
والفتن العامة، عاصفة، تموج وتضطرب، كما يموج البحر ويضطرب عند هيجانه، ويدفع بعضه بعضاً، ولا يمكن لأحد الوقوف أمامها، وقد لا ينجو منها إلا من اعتزلها، ولذا وصفت في بعض الآثار الآتية بأنها (صماء عمياء مطبقة) ، ذلك أن هذا النوع من (الفتن) إن وقع تكون له (ظلل) ، ولذا جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد (3/477) ، والطيالسي (1290) ، والحميدي (574) في «مسانيدهم» ، وابن أبي شيبة (15/13) ، وعبد الرزاق (20747) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2305، 2306) ، والبزار (3353، 3354، 3355 - «زوائده» ) ، والطبراني في «الكبير» (19/رقم442-446) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (12/رقم 1628-1632 - ط. الباز) ، وابن حبان (5956) ، والحاكم في «المستدرك» (1/34 و4/454-455) ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (ص152) ، وابن عبد البر في «التمهيد» (10/172) ، والبغوي في «شرح السنة» (4235) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (5/2409-2410 رقم 5895، 5896) عن كرز =
النوع يشتدّ بمضيّ الزمان، ويظهر للعيان، ويهيّج من بعض البلدان، وفق سنن للرحمن، وتكون تارةً على هيئة عواصف وكوارث وزلازل وبراكين، تصيب الطالحين وتمتد عند الكثرة إلى الصالحين، وتكون عذاباً وعقوبة لجماعة، ورحمة وخيراً ورفعةً لآخرين.
«وفي تشبيهه صلى الله عليه وسلم الفتن بأنها تموج كموج البحر إشارة واضحة إلى قوتها وشدتها، ثم إلى تتابعها، وإلى أنه لا يمكن لأحد الوقوف أمامها؛ لأنه لا يمكن لأحد أنْ يقف أمام موج البحر، وأنّ الناس أمام هذه الفتن ستضطرب حركتهم، ويختل توازنهم، وتضيق صدورهم، وينقطع نفسهم، وهذه حال من يصارع الموج.
= ابن علقمة رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله هل للإسلام من منتهى؟ قال: «أيّما أهل بيت -وقال في موضع آخر: قال: نعم، أيُّما أهل بيت -من العرب أو العجم، أراد الله بهم خيراً، أدخل عليهم الإسلام» . قال: ثم مه؟ قال: «ثم تقع الفتنن كأنها الظُّلل» ، قال: كلا، والله إن شاء الله. قال:«بلى، والذي نفسي بيده ثم تعودون فيها أسَاود صُباً يضرب بعضكم رقاب بعض، فخير الناس يومئذٍ: مؤمن معتزل في شعب من الشعاب، يتقي الله، ويذر الناس من شره» ، وهو صحيح، كما في «السلسلة الصحيحة» (رقم51)
ففي هذا الحديث فائدة مهمة، وهي أن الفتن تقع وكأنها (الظلل) وهي السحاب، تحيط بالناس من كل جهة، وأن الناس سيضرب بعضهم رقاب بعض، كما تنصب وترتفع الحية السوداء على الملدوغ فتلدغه، وهذا تفسير سفيان عند أحمد، وكذا شيخه الزهري، عند الحميدي والبيهقي وابن عبد البر.
فالفتن لها ظلل تنال من دين الخائض فيها، ولا سيما وهي (سوداء) و (عمياء) و (مطبقة) لا يظهر لها قبل من دبر، ولا ظهر من وجه، وكأنها حيات مصبوبة على الناس من السماء (وأساود: حيات، جمع أسود، إذا أرادت أن تنهش ارتفعت هكذا، ثم انصبت، وقال القرطبي في «التذكرة» (625) نقلاً عن ابن دحية:«وهو الذي يميل ويلتوي وقت النهش، ليكون أنكى في اللدغ وأشد صبّاً للسُّم» ، وشبهت بها الفتن لشدة سوادها وكثرتها، وعظم شأنها، وأنها يتبع بعضها بعضاً، فهي متراكمة كالظلل، وأكثر ما يظهر ذلك عند تقاتل المسلمين، وسفك بعضهم دماء بعض، كما حصل في سلسلة الحروب التي ظهرت في (العراق) ، وانقسم المسلمون على إثرها إلى مؤيد ومعارض، وخيمت الفتنة فترة من الزمن، وظهرت شجاعة المسلمين على بعضهم البعض، وهم أذلاء جبناء مع عدوهم، فإلى الله المشتكى، ولا قوة إلا بالله العظيم!
وإذا علمنا أنّ أمواج البحر تتكاثر وتتعاظم، مع شدة الريح وانتشار السحاب؛ فإنّ لنا أنْ نتصور جو الفتن بأنه جو مظلم، فالذي يشاهد موج البحر العاتي فتبدو أمامه زرقة البحر مع ظلمة السحاب وكثرته، مع شدة هبوب الرياح وقوتها؛ فكذلك الذي يواجه هذه الفتن، تحيط به الظلمات والأعاصير، فهو مهموم مغموم ظاهراً وباطناً، وللموج صوت وأي صوت؟ ولهذه الفتن صوت، لا يسمع الواقف فيها صوت ما عداها، وإنما تطبق عليه، فهي كالصاخة، فيظل الواقف فيها حيراناً خائفاً قلقاً، يتطلع إلى الأمان ولا يجده، وهل ينجو من البحر وشدة موجه إلا من بعد عنه، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:«فخير الناس يومئذ: مؤمن معتزل في شعب من الشعاب، يتقي الله، ويذر الناس من شره» (1) .
والناس حين يواجهون أمواج البحر مجتمعين، في أية حالة من حالاته، فإنه يسمع لهم صراخ وعويل وتهارش وتخاصم، لا يسمع الواحد منهم الآخر، وكل يريد أنْ ينجو بنفسه، وقد يُغرِق الواحدُ منهم غيرَه لينجو هو» (2) .
«ولعل هذا ما كنى به الحديث من شدة المخاصمة وكثرة المنازعة، وما ينشأ عن ذلك من المشاتمة والمقاتلة» (3) .
والجامع لجميع مجريات الفتنة وأحداثها: البلاءُ والنُّكران (4) في حقِّ مَنْ
(1) سيأتي تخريجه، وفي الباب أحاديث كثيرة. خرجت بعضاً منها في تعليقي على «العزلة والانفراد» (رقم 15، 16، 17، 18) .
(2)
«موقف المسلم من الفتن» (ص107-108) .
(3)
«فتح الباري» (6/701) .
(4)
أشار النووي في «شرحه على صحيح مسلم» (2/171) إلى قول حذيفة «فأسكت القوم» بسبب أنهم لم يكونوا يحفظون هذا النوع من الفتنة، وإنما حفظوا النوع الأول. وورد في حديث عبد الله بن عمرو الطويل:«وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها» ، وسيأتي ذكره وتخريجه وبيان فوائده، والحمد لله على آلائه ونعمائه.