الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقبلون الأمان من بني قنطوراء، «لأنفسهم وهلكوا» ؛ أي: بأيديهم، ولعل المراد بهذه الفرقة المستعصم بالله ومن معه من المسلمين، طلبوا الأمان لأنفسهم ولأهل بغداد، وهلكوا بأيديهم عن آخرهم. وقال شارح: أراد النبي صلى الله عليه وسلم بالبصرة بغداد؛ لأن بغداد كانت قرية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من قرى البصرة، إطلاقاً لاسم الجزء على الكل، فالواقعة وقعت كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أراد البصرة المعهودة فلعله يقع بعد ذلك إذ لم يسمع أن الكفار نزلوا بها قط للقتال، «وفرقة يجعلون ذراريهم» ؛ أي: أولادهم الصغار ونساءهم، «خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشهداء» ؛ أي: الكاملون، والمعنى: أن فرقة ثالثة هم الغازية المجاهدة في سبيل الله قاتلوا الترك قبل ظهروهم على أهل الإسلام، فاستشهد معظمهم، ونجت منهم شرذمة قليلون. كذا ذكره الأشرف. وقال غيره: وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم؛ فإنه وقع كما أخبر، وكانت هذه الواقعة في صفر سنة ست وخمسين وست مئة» .
ثانياً: وقعت حوادث كثيرة قبل الاجتياح المذكور لبغداد
، ثم الشام، ثم مصر، دلت على تفرق المسلمين وتشتتهم، وطمع الكفار بأطراف بلادهم، إذ كان أول خروج التتار قبل وصولهم إلى بغداد بخمسين سنة، فهم دخلوها سنة (656هـ) ، وكان أول خروجهم سنة (606هـ) زمن طاغية التتار الأكبر (جنكيز خان) .
قال ابن العماد في «شذرات الذهب» في حوادث سنة (624هـ) :
وقال الجلال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» (1) في الكلام على خلافة المستعصم بالله آخر خلفاء العباسيين:
«أرضُ التتار بأطراف بلاد الصين، وهم سكان براري، ومشهورون بالشَّر والغدر، وسببُ ظهورهم أنّ إقليم الصين متسع، دَورُه ستةُ أشهر، وهو ستُّ ممالك، ولهم ملك حاكم على الممالك الست، هو القان الأكبر المقيم بطمغاج، وهو كالخليفة للمسلمين، وكان سلطانُ إحدى الممالِك السِّت -وهو دوش خان- قد تزوجَ بعمَّةِ جنكيز خان، فحضر زائراً لعمته، وقد مات زوجُها، وكان قد حضر مع جنكيز خان كشلوخان، فأعلمَتْهُما أن الملك لم يخلف ولداً، وأشارت على ابن أخيها أن يقوم مقامه، فقام وانضمَّ إليه خلقٌ من المغول، ثم سير التقادم إلى القان الأكبر، فاستشاط غيظاً، وأمر بقطْعِ أذناب الخيل التي أهدِيَتْ، وطردها، وقتْل الرسل؛ لكون التتار لم يتقدَّمْ لهم سابقةٌ بتملُّك، إنما هم بادية الصين، فلما سمع جنكيز خان وصاحبُه كشلوخان تحالفا على التعاضد، وأظهرا الخلاف للقان، وأتَتْهُما أممٌ كثيرة منَ التتار، وعلمَ القانُ قوَّتَهم وشرَّهم، فأرسل يؤانِسُهُم ويُظْهِرُ مع ذلك أنه ينذرُهُم ويهدِّدُهم، فلمْ يُغْن ذلك شيئاً، ثم قَصَدَهُم وقصدوه، فوقع بينهم ملحمةٌ عظيمةٌ، فكَسرُوا القانَ الأعظَم وملكوا بلاده، واستَفْحَل شرُّهم، واستمر المُلْك بين جنكيز خان وكشلوخان على المشاركة.
ثم سارا إلى بلاد شاقون (2) من نواحي الصين فمَلَكَاها، فمات كشلوخان، فقام مقامه ولده، فاستضعفه جنكيز خان، فوثب عليه وظفر به، واستقلَّ جنكيزُ خان، ودانَتْ له التتارُ، وانقادتْ له، واعتقدوا فيه الألوهية، وبالغوا في طاعته.
(1)(ص 535-537 - ط. دار القلم، بعناية قاسم الشماعي ومحمد العثماني) ، وذكر قبله خبراً عن الموفق عبد اللطيف، ثم قال: «وقال غيره:
…
» وساق المذكور.
(2)
بلاد شاقون: إما سنجان أو نانكين، عاصمة الصين القديمة.
ثم كان أولُ خروجهم في سنةِ ستٍّ وستِّ مِئَةٍ من بلادهم إلى نواحي الترك وفرغانة، فأرسلَ خوارزمُ شاه محمدَ بنَ تكش صاحب خراسان الذي أبادَ الملوكَ، وأخذ الممالِكَ، وعزمَ على قصدِ الخليفة، فلمْ يتهيّأْ له، فأمرَ أهلَ فرغانة والشاش وكاسان وتلكَ البلادِ النّزِهَةِ العامرةِ بالجلاءِ والجَفَلَى إلى سَمْرَقند وغيرِها، ثم خرَّبَها جميعاً خوفاً من التتار أن يملِكُوها؛ لعلمه أنه لا طاقة له بهم.
ثم صارت التتار يتخطفون ويتنقلون إلى سنةِ خمسَ عشْرةَ، فأرسل فيها جنكيزُ خان إلى السلطان خوارزم شاه رُسلاً وهدايا، وقال الرسول: إن القان الأعظم يسلِّمُ عليك، ويقول لك: ليسَ يَخْفَى عليَّ عِظَمُ شأْنِك، وما بلغْتَ من سلطانك، ونفوذِ حُكمِك على الأقاليم، وأنا أرى مسالمَتَك من جملة الواجبات، وأنت عندي مثلُ أعزّ أولادي، وغيرُ خافٍ عليك أنني تملَّكتُ الصينَ، وأنتَ أخبرُ الناس ببلادي، وأنها مثاراتُ العساكرِ والخيول، ومعادنِ الذهبِ والفضةِ، وفيها كفايةٌ عن غيرها، فإن رأيتَ أن تعقد بيننا المودَّة، وتأمُرَ التجّار بالسفر لتعمَّ المصلحتين فعلت.
فأجابه خوارزمُ شاه إلى مُلتَمَسه، وبشَّر جنكيز خان بذلك، واستمرَّ الحالُ على المهادنة إلى أنْ وصل من بلاده تجّار.
وكان خال خوارزم شاه ينوب على بلاد ما وراء النهر، ومعه عشرون ألف فارس، فشرَهَتْ نفسُه إلى أموالِ التّجار، وكاتَب السلطانَ يقول: إن هؤلاء القومِ قدْ جاءوا بزيّ التجار، وما قصْدُهُم إلاّ التجسُّس، فإنْ أذِنْتَ لي فيهم، فأذِنَ له بالاحتياط عليهم، فقبَضَ عليهم وأخذَ أموالهَم (1) ، فرَدَّتْ رسل جنكيز
(1) يا له من تدبير سيئ وقلة بصر بعواقب الأمور؛ حيث اتخذ جنكيز خان من ذلك حجة يطرق بها هذه البلاد، ويأتي بأفعاله الفظيعة الهمجية، والتاريخ يعيد نفسه، وما نراه اليوم هو عين ما وقع بالأمس، مع تغيُّر في الحوادث، وتعدد في الوسائل، والله العاصم.
خان إلى خوارزم شاه تقولُ: إنك أعطَيْتَ أمانَكَ التجارَ فَغدَرْتَ، والغدرُ قبيح، وهو من سلطان الإسلام أقبَح، فإن زعمتَ أنّ الذي فعله خالُكَ بغيرِ أمركَ فسلِّمْه إلينا، وإلا سَوف تشاهدُ مِني ما تَعرِفُني به، فحصلَ عند خوارزم شاه من الرعبِ ما خَامَر عقْلَه، فتجلّد وأمر بقتل الرسل، فقُتِلوا.
فيا لها من حركة لما أَهدَرَتْ من دماءِ المسلمين، وأجرَتْ بكلِّ نقطةٍ سيلاً من الدم.
ثم سار جنكيز خان إليه، فانجفل خوارزم شاه عن جيحون إلى نيسابور، ثم سار إلى برج همذان رعباً من التتار، فأحدق به العدو، فقتل كل من معه، ونجا هو بنفسه، فخاضَ الماءَ إلى جزيرة، ولحِقَته علّة ذات الجنب، فمات بها وحيداً فريداً، وكُفِّن في شاش فراش كان معه، وذلك في سنة (سبع عشرة وست مئة) ، وملكوا جميع مملكة خوارزم شاه» .
وذكر ابن الأثير في «كامله» (1) ما كان من أمر التتار إلى سنة (628) ،
(1) في أحداث سنة (سبع عشرة وست مئة)(12/358 - ط. دار صادر) : (ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام)، وفي أحداث سنة (ثمان وعشرين وست مئة) (12/495) :(ذكر خروج التتر إلى أذربيجان وما كان منهم)، وفي (12/499) :(ذكر دخول التتر ديار بكر والجزيرة وما فعلوه في البلاد من الفساد) ، وأخربوا سنة ثمان وخمسين مدينة حلب وغيرها، وحكى فيه أهاويل، ومما قال في (12/500-501) :
«ولقد حكي لي عنهم حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقى الله سبحانه وتعالى في قلوب الناس منهم، حتى قيل: إنّ الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحد، لا يتجاسر أحد أن يمدّ يده إلى ذلك الفارس.
ولقد بلغني أنّ إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتريّ ما يقتله به، فقال له: ضَعْ رأسك على الأرض ولا تبرح؛ فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتريّ فأحضر سيفاً وقتله به.
وحكى لي رجل، قال: كنتُ أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر، وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلِمَ لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف. فقلتُ: هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله، فلعلّ الله يخلّصنا؛ فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذتُ سكيناً وقتلتُه وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير» . =
وأبو الفدا (1) ما كان منهم إلى حين وفاته.
ثم قال الجلال السيوطي (2) :
«ولما دخلت سنةُ ستٍّ وخمسين وصل التتار إلى بغداد، وهم مئتا ألف ويقدمهم هولاكو، فخرج إليهم عسكر الخليفة، فهُزِمَ العسكَرُ، ودخلوا بغداد يوم عاشوراء، فأشار الوزير -لعنه الله- على المستعصم بمصانعتهم، وقال: أخرج إليهم أنا في تقرير الصلح، فخرج وتوثق بنفسه منهم، وورد إلى الخليفة، وقال: إن الملك قد رغب في أن يزوّج ابنته بابنك الأمير أبي بكر، ويبقيك في منصب الخلافة، كما أبقى صاحب الروم في سلطنته، ولا يريد إلا أن تكون الطاعة كما كان أجدادك مع السلاطين السلجوقية، وينصرف عنك بجيوشه، فليُجب مولانا إلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين، ويمكن
…
بعد ذلك أن تفعل ما تريد، والرأي أن تخرج إليه، فخرج إليه في جمع من الأعيان.
فأُنزِل في خيمةٍ، ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضُروا العَقْد، فخرجوا من بغداد فَضُرِبَتْ أعناقُهم، وصار كذلك: تخرجُ طائفةٌ بعد طائفة، فتضربُ أعناقُهم، حتى قُتِل جميعُ من هُناك من العُلماء والأمراءِ والحُجّاب والكبار، ثم مُدَّ الجسرُ، وبُذل السيف في بغداد، واستمر القتلُ فيها نحوَ أربعين يوماً، فبلغَ القتلى أكثر من ألف ألف نَسمة، ولم يسلَم إلا مَن اختفى في بئرٍ أو قناة، وقُتِل الخليفة رفساً، قال الذهبي (3) : وما أظنه دُفن، وقُتل
= وانظر: «شفاء القلوب» (268-296) ، «العبر» (5/245) ، «الروضتين في أخبار الدولتين» (2/477 و4/411) ، واستولوا على بغداد في أول سنة ست وخمسين وست مئة.
(1)
في «تاريخه» (2/216، 246-251، 308-313، 314-320، 332، 334، 339، 347-349، 368، 381-385، 387-389) .
(2)
في «تاريخ الخلفاء» (ص 539-540) .
(3)
ما زال النقل بواسطة السيوطي، وكلام الذهبي في «تاريخ الإسلام» .
معه جماعةٌ من أولادِه وأعمامِه، وأسر بعضُهم، وكانَت بليّةٌ لم يُصَبِ الإسلامُ بمثلها، ولم يتمَّ للوزير ما أراد، وذاق من التتار الذلَّ والهوان، ولم تطُل أيامُه بعد ذلك» .
ثم قال (1) :
ولخص علي بن موسى في خاتمة رسالته «في وصف المدينة» (2)(ص 153-155) ما جرى في بغداد على وجهٍ أظهر فيه سبب قدوم التتار -عليهم لعائن الله إلى يوم القيامة، ولا رحم فيهم مغرز إبرة-، فقال عن (أهل بغداد) :
«وقصتهم مع التتار عجيبة مهولة، ولم يتفق مثلُها من قَبْلُ ولا من بَعْدُ، وتلخيصها على ما ذكره المؤرخون؛ أن وزيرَ الخليفة المعتصم بالله مؤيدُ الدين -بل هو خاذل الدين- ابنُ العلقميّ الرافضيّ، كان بينه وبين أبي بكر ابن المسعتصم والدوادار عداوةٌ عظيمةٌ لأذيّتهما لإخوانه الرافضة ونهب مَحَلَّتهم المسماة بالكرخ؛ فإنه كان قد وقع في سنة خمس وخمسين وست مئة فتنةٌ بين أهل السنة والرافضة ببغداد فأدَّتْ إلى نَهبِ وقتلِ جماعة، وذلت الرافضةُ إخوانُه وأوذوا، فكاتب التتار وحرَّضَهم على أخذ بغداد لأجل ما جرى على الرافضة من النهب والخزي، وظن المخذول أن الأمر يتم له، وأن يقيم خليفة علويّاً، فأرسل أخاه ومملوكه إلى هلاكو -أخزاه الله- يسهل عليه أخذ بغداد،
(1) في «تاريخ الخلفاء» (ص 541) .
(2)
مطبوعة ضمن «رسائل في تاريخ المدينة» ، منشورات دار اليمامة، الرياض، قدم لها وأشرف على طبعها حمد الجاسر.
وطلب أن يكون نائباً لهم عليها، فوعدوه بذلك، ثم ساروا ونزلوا على بغداد سنة ست وخمسين وست مئة، وفي كلام بعضهم أنه حلق رأس إنسان، وكتب الرسالة على رأسه بالوشم، وفي آخرها: إذا قرأتم الرقعة قطعوها.
وتركه إلى أن ينبت شعره واستتر ذلك بالشعر بعث به إليهم، وقال له: مُرْهم يحلقوا رأسك ويقرأوا ما عليها، ففعلوا ذلك، ثم قتلوه امتثالاً لأمره، فلما نزلوا على بغداد أشار ابن العلقمي على المعتصم بالله أن يرسله إليهم في تقرير الصلح، فخرج الخبيث وتوثق لنفسه، ورجع فقال للمستعصم: إن الملك هلاكو قد رغب في أن يزوج بنته بابنك الأمير أبي بكر، وأن يكون الطاعة له كما كان أجدادك مع الملوك السلجوقية، ثم يرتحل عنك، فأجابه الخليفة إلى ذلك، وخرج إليك الخليفة في أعيان الدولة، ثم استدعى الوزير العلماء والرؤساء، ليحضروا لعقد ابن عمه، فخرجوا إليه، فضُربَتْ رقابُهم، وصار يبعث إلى طائفته فتضرب أعناقهم، حتى بقيت الرعية بلا راع، ثم أمر هلاكو بالمستعصم وولده أبي بكر، فرُفِسا حتى ماتا، ثم دخلت التتار بغداد وبذلوا السيف في أهلها، واستمر القتل والسبي نيفاً وثلاثين (1) يوماً، فقَلَّ من نجا، وعبارة ابن السبكي في «الطبقات الوسطى» : وقتل أمير المؤمنين وبعده سائر المسلمين، ورفع الصليب على جدران دور بني العباس، وسُمِع الناقوس من بيوت الخلفاء بني عم نبي الله محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وانتُهِكَتِ المحارم، وخُربت الجوامع، وعُطلت المساجد وصارت بلاقع» .
وقال النجم سعيد الذهلي في «مقدمة تاريخه» : إن عسكر بغداد كان قد خرج إليهم أولاً، فهربوا وتبعهم عسكر بغداد، وقتل البغداديون منهم خلقاً، وأبعدت لأُوبُهُم إلى بغداد، فلما تَعدَّوْا نهر نشيرين من دُجَيل فتح عسكر هلاكو من نهر نشير المذكور، فحال بين عسكر بغداد والرجوع إليها، وحكى
(1) في الأصل: «وثلاثون» !.
لي بعض الأعيان أن ابن العلقمي أنفذَ أحد أصحابه وفتح ذلك النهر على جيش المسلمين، والله أعلم، فدهمهم عسكرُ هلاكو ليس لهم منجى، فلم ينج منهم إلا من نجت به دابته من المياه والأوحال، وألقى عالَمٌ عظيمٌ أنفسَهم في دجلة طلباً للسلامة، فهلكوا لمّا نُقِلَ اللأمَةُ، وغلقت أبواب سور بغداد، ونصب عليه المجانيق (1) ، وصَعَد من تخلّفَ ببغدادَ مِنَ الرَّمْيِ، ويقولون: الحالُ ينصلحُ -إن شاء الله- فلا تظهروا (2) حرباً، فبقي أياماً كذلك، ثم عاد إلى بغداد، وعسكرُ هلاكو يبالغون ويرمون المجانيق (1) ، حتى صعدوا على السور وتمكنوا من البلد، ثم ذكرَ خروجَ ابنِ العلقمي إليهم، ثم رجوعَه وخروجَ الخليفةِ وابنِه إليهم، ثم قَتْلَ الخليفةِ ووقوعَ السيفِ في بغدادَ، قال: وعمل السيفُ في بغداد مدّةَ شهرٍ وعشَرةِ أيام، ولم ينجُ إلا الطفيف من أهل بغداد، وإلا أهل الحلة والكوفة، فإن أكابرهم توصلوا إلى هلاكو في الطاعة والانقياد، وقضى الله سلامة أهل البصرة لعدم تمكُّنِ العسكر من العبور إليهم بطريق المد والجزر، ومَسحَ السيفُ من عداهُم من أهل الضياع وغيرهم سوى النصارى، وخلَتْ بغدادُ من أهلها، واستولى عليها الحريقُ فحرقت المحالُّ والأسواقُ، واحترقت دارُ الخليفة والجامعُ الكبير بها، حتى وصلت النار إلى خزائن الكتب الخاصة، وعمّ الحريقُ أكثر الأماكن حتى القصور البرانية؛ مثل الحلة وترب الرصافة مدفن ولاة الخلافة، وشوهد يختُ مدفن الإمام المستنصر بالله عظام الخلفاء ورؤوسهم وآثار الحريق وشوهد على بعض حيطانها
مكتوب:
إنْ تُرِد عبرةً فهذي بنو العباس دارت عليهم الدايرات
استُبيحَ الحريمُ إذ قُتِل الأحيا
…
ء منهم وأُحرِقَ الأموات
(1) في الأصل: «مناجيق» !
(2)
في الأصل: «تظهرون» !
ولم يسلم من الحريق إلا ما سكَنَه عسكرُ هلاكو في الوقعة، وقد جافَتِ القتلى وامتزجت بالأوحال حتى لم يَبقَ للمارِّ في الأسواق موضعُ قدمٍ إلا على قتيل، ووجد في كثير من المواضع جثثُ القتلى كالتلول الكبار، وشاهد من سلم من الأهوال ما لا يُعبّرُ عنه، ثم عمّ الوباءُ وكثرةُ الموتِ والفَنا، وثار الذباب على الناس حتى غطى الجدران، ووصلت قوافل الحلّة بأنواعِ المأكول، وكانوا يتعرضون للكتب المجلدة النفيسة؛ كلّ مجلدٍ بفلس، فإن خزائن الوقوف نُهبَت، واحترقت الكتب، وأُلقيَتْ تحت أرجل الدواب، وشوهد بالمدرسة المستنصرية معالف للدواب مبنية بالكتب موضع اللبن، وكذا كان بباب سوق النظامية، قال: وبالجملة فلم يسمع في قديم الزمان بأعظم من هذه الحادثة، انتهى ملخصاً.
ويقال: إن هلاكو أمر بعدِّ القتلى، فبلغوا ألف ألف وثمان مئة ألف وكسر، فعند ذلك نودي بالأمان، ثم هلك ابن العلقمي في السنة المذكورة قبل شهر رجب، وخيَّب الله أمله، وانعكست عليه آراؤه، وأكل يده ندماً، فإنه بعد تلك الرتبة الرفيعة ووزارة العراق منفرداً أربع عشرة سنة منفرداً، ولي وزارة التتار مشاركاً لغيره وانحطت رتبته، حتى كان يركب كديشاً فصاحت عليه امرأة: يا ابن العلقمي، هكذا كنت تركب في أيام أمير المؤمنين؟ وكان ذا حِقدٍ وغِلٍّ لأهل السنة، وكان المستعصمُ آخرَ الخلفاء العراقيين، وكانت دولتهم خمس مئة وأربعاً وعشرين سنة، وكان هذا الخليفةُ حليماً كريماً سليمَ الباطِن، لكنه كان لا يخرج عن رأي ابن العلقمي، فدبّر هذه المكيدة التي أهلكت المسلمين.
وكانت بغداد في ذلك الزمان فسطاط الإسلام ومَحَطَّ رحالِ العلماء وأهل الصلاح، فهلك غالبهم، وبقي الوقت بلا خليفة ثلاث سنين، ومن أحسن ما أنشد في ذلك قول ابن التعاويذي:
بادتْ وأهلُوها معاً فبُيوتُهم
…
بِبَقاءِ مولانا الوزيرِ خرابُ
ولا يَسَعُ مختصرُنا هذا من الكلام على هذه القصة أكثرَ من هذه النبذة، والله -تعالى- أعلم بالصواب» .
فلا ريبَ أن تلك المصائب العظمى التي أزالتِ الدولةَ العباسية، وقتلت من المسلمين ما يربو عن أربعين مليوناً، وخربت تلك البلاد الزاهية العامرة، هي الشر الكبير، والمصيبة العظمى، والويل للعرب والمسلمين.
وقال ابن السبكي في «طبقات الشافعيةالكبرى» (1) مبيّناً ما أصاب المسلمين آنذاك، وأفاض في ذلك على النحو الذي ذكرناه، ثم قال:
«وقيل: إن هولاكو أمر بعد ذلك بعدِّ القتلى، فكانوا ألفَ ألفٍ وثمان مئة، النصف من ذلك تسع مئة ألف، غير من لم يُعَدّ ومن غرق، ثم نودي بعد ذلك بالأمان، فخرج من كان مختبئاً، وقد مات الكثيرُ منهم تحت الأرض، بأنواع من البلايا، والذين خرجوا ذاقوا أنواع الهوان والذل، ثم حُفِرَتِ الدُّورُ، وأُخِذَتِ الدفائنُ والأموال التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى، وكانوا يدخلون الدارَ فيجدون الخبيئةَ فيها، وصاحبُ الدار يحلفُ أنّ له السنين العديدة فيها ما علم أن بها خبيئةً، ثم طلبتِ النصارى أن يقعَ الجهرُ بشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، وأن يَفعَل معهم المسلمون ذلك في شهر رمضان، فأُلزم المسلمون بالفطر في رمضان، وأكلِ الخنزير، وشربِ الخمر، ودخل هولاكو إلى دار الخليفة راكباً -لعنه الله-، واستمر على فرسه، إلى أن جاء إلى سُدَّة الخليفة، وهي التي تتضاءلُ عندها الأسودُ ويتناوله سَعْدُ السُّعودِ، كالمستهزئ بها، وانتهك الحُرَمَ من بيت الخليفة وغيرِه، وأعطى دار الخليفة لشخص من النصارى، وأُريقت الخمور في المساجد والجوامع، ومُنِع المسلمون من الإعلان بالأذان، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذه بغدادُ، لم تكن دارَ كُفرٍ قَطُّ، جرى عليها هذا الذي لم يقع منذ
(1)(8/271-272) .