الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كل هذا بسبب أنهم خالفوا كثيراً من نصوص الكتاب والسنة، وأهمها:{لَقَد كَان لَكُم في رَسُول الله أُسوة حَسَنة لِمَن كَان يَرجو اللهَ واليومَ الآخرَ وذكر الله كثيراً}
…
بماذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
تعلمون أنه بدأ بالدعوة بين الأفراد الذين كان يظن فيهم الاستعداد لتقبل الحق، ثم استجاب له من استجاب كما هو معروف في السيرة النبوية، ثم التعذيب والشدة التي أصابت المسلمين في مكة، ثم الأمر بالهجرة الأولى والثانية إلى آخر ما هنالك، حتى وطد الله عز وجل الإسلام في المدينة المنورة، وبدأت هنالك المناوشات، وبدأ القتال بين المسلمين وبين الكفار من جهة، ثم اليهود من جهة أخرى، وهكذا
…
إذاً لا بد أن نبدأ نحن بتعليم الناس الإسلام كما بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام،
…
» .
فصل
الفرق بين المطلوب الشرعي وواجب الوقت
وما عليه أصحاب الثورات والانقلابات ودعاة الخروج
يتّضح للمقارن بين كلام أئمة الدعوة الكبار، وعلى رأسهم مشايخها: ابن باز، والألباني، وابن عثيمين رحمهم الله جميعاً- أن الذي يدعون إليه هو منهج الأنبياء، وهو طريق طويل وشاق، والغاية فيه إقامة الدين، وتربية الشباب عليه، التربية الربانية، لا الحزبية، ولا تعلّقهم بالمكاسب والمناصب، بخلاف الثوريين فإنهم ساسة (1) في خطاباتهم، وفتاواهم، وأطروحاتهم،
(1) أعني: حالهم كحال المشتغلين بالسياسة اليوم، من ركوب الموجات، والدخول في =
وطريقة معالجتهم للمستجدات، فضلاً عن أسلوبهم في الوصول إلى (سُدّة) الحكم!
وأفصح العلامةُ السلفيُّ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله تعالى- عن الفرق بين هاتين الطائفتين، فقال: «فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها، عن علم وبصيرة وتمسكاً بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النصح والإرشاد، وبث الخير والثبات على وجه واحد والسير في خط مستقيم، وما كنا لنجد هذا كله إلا فيما تفرغنا له من خدمة العلم والدين، وفي خدمتهما أعظم خدمة، وأنفعها للإنسانية عامة.
ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسي لدخلناه جهراً، ولضربنا فيه المثل بما عرف عنا من ثباتنا وتضحياتنا، ولقدنا الأمة كلها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهل شيء علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نبلغ من نفوسها إلى أقصى غايات التأثير عليها؛ فإن مما نعلمه، ولا يخفى على غيرنا أن القائد الذي يقول للأمة:(إنك مظلومة في حقوقك، وإنني أريد إيصالك إليها)، يجد منها ما لا يجد من يقول لها:(إنك ضالة عن أصول دينك، وإنني أريد هدايتَك) ، فذلك تلبيه كلها، وهذا يقاومه معظمها أو شطرها! وهذا كله نعلمه، ولكننا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبيَّنَّا، وإننا -فيما اخترناه- بإذن الله راضون، وعليه متوكّلون» (1) .
ويلتقي مع هذا، ويؤكد ما ذهبنا إليه من ارتباط هذه الفتن بالخروج الذي ابتدأ ظهوره من العراق، وهاج منها حتى وصل الجزائر:
= الدهاليز، والتخطيط للوصول إلى المصالح الشخصية لهم، وإن كانوا (أصوليين) في الهدف المعلن -وفي هذا شك عندما يطول الطريق- إلا أنهم (وصوليون) في كيفية تحصيله، ولا سيما عند (الأزمات) و (الورطات) ! والشاهد قائم في كلام محمد سرور السابق، وغيره مما هو مشاهد ملموس كثير كثير.
(1)
«الصراط السوي» ، عدد رمضان - سنة 1352هـ، (رقم 15) .
ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-:
فإذا اتفق من هذه الجهة شبهة وشهوة، ومن هذه الجهة شهوة وشبهة، قامت الفتنة، والشارع أمر كل إنسان بما هو المصلحة له وللمسلمين، فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم،
…
وأمر الرعية بالطاعة والنصح،
…
وأمر بالصبر على استئثارهم، ونهى عن مقاتلتهم ومنازعتهم الأمر مع ظلمهم؛ لأنّ الفساد الناشئ من القتال في الفتنة أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر، فلا يُزَالُ أَخَفُّ الفسادين بأعظمهما» (2) .
قال أبو عبيدة: هذا أصل سلفي منهجي محكم غاب عن هؤلاء الخائضين في الدماء إلى الركب، وهم يزعمون السلفية، وليسوا أهلاً للاجتهاد، فكيف إذا تكلم العلماء: أهل العلم والدين، وقرروا خطأ صنيعهم،
(1) أخرجه البخاري (2672) ، ومسلم (174) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
«منهاج السنة النبوية» (4/540-542) .
وتوافق ذلك مع ما هو محسوس مشاهد؟!
وقبل أن أنتقل إلى فتنة أخرى، وهي من أعظم ما جرى في هذا العصر، أرى لزاماً عليَّ التنبيه والتأكيد على أمور (1) :
أولاً: الواجب في هذه الأزمنة خصوصاً إظهار شعار العلماء في الإصلاح، دون شعار هؤلاء الصغار، فإن سائر الواجبات الشرعية لا تقوم إلا بذلك، وإذا ترك ذلك ظهر شعار أهل البدع والضلال، ولذا صار إظهار هذا الشعار مأموراً به من هذه الجهة (2) .
ثانياً: إظهار شعار هؤلاء المراهقين اليوم يُتَوسّلُ به إلى مقاصد الكائدين للإسلام وأهله، ولم يحل للمفتي أن يُفتيَ بما يجُرُّ إلى مفاسدهم، لو كانت أصل أفعالهم مشروعةً، فكيف والعلماء -قديماً وحديثاً- يرون منعها، ومحال أن تقوم عند هؤلاء أدلة لم تصل العلماء، ولكن قامت عندهم شُبَه، وتلاحقت الأحداث، فلم يجدوا بدّاً إلا أن يبقوا على مواقفهم، وإن تضمنت تحليل ما حرمه الله ورسوله من إراقة الدماء، وإزهاق النفوس (3) ، وإلحاق ما يفعلونه بالجهاد، وليس لهم على تقريرات العلماء بأدلتها الشرعية أجوبة صحيحة، ولا معارض لها مقاوم، فمن ادّعى بطلانها، فليُجب عنها أجوبة مفصّلة، وإلا؛
(1) وهي بمثابة المقدمات الممهدات للكلام عن فتنة عظيمة جدّاً، فاقت التي قبلها ورققتها، وقد سمعتُ شيخنا الألباني رحمه الله يقول عن (فتنة الخليج الأولى) ما معناه:«ما مر بالمسلمين -على تاريخهم الطويل- فتنة أعظم منها» . وما كانت هذه الفتنة -التي ستأتي - مع فتنة (الخليج الأولى) إلا وسائل لتحقيق (احتلال العراق) ولا قوة إلا بالله العظيم.
(2)
ليعلم أن المأمور به قد تجتمع جهات عديدة به، كالرحم الجار العالم، فهذا له ثلاثة حقوق، وبالعكس -كما قال الإمام أحمد عن لحم الخنزير الميت:«هو حرام من وجهين» ، فإن غصبه أو سرقه من نصراني، صار حراماً من ثلاثة أوجه، فالتحريم يقوى ويضعف بحسب قوة المفاسد وضعفها، وبحسب تعدد أسبابه. قاله ابن القيم في «الفروسية» (ص 315 - بتحقيقي) .
(3)
انظر مواقف تقشعر لها الأبدان، وتشيب لها الرؤوس -وقد شابت- في:«مدارك النظر» (ص 415 وما بعد) .
فليعرف قدره، ولا يتعدى طوره، ولا يقتحم المهالك.
ثالثاً: غاية هؤلاء الثائرين إما أن يَغْلبوا وإما أن يُغْلبوا، ثم يزول أجرهم، ويفنى ذكرهم، ولا تكون لهم عاقبة، فلا أقاموا ديناً، ولا أبقوا دنيا، بخلاف العلماء الربانيين، فإن لهم ثمرة، وحملوا الأمانة نقيّة، وسلّموها لمن بعدهم ناصعة جليّة.
قال ابن تيمية في «منهاج السنة النبوية» (4/528-532) على إثر سرده جماعات من الثائرين الخارجين على أئمة الجور في زمانهم، وبعضهم لا يحمل المبادئ العقدية التي ينادي بها الخوارج من التكفير بالكبيرة، قال:
«وغاية هؤلاء إما أن يَغلبوا وإما أن يُغلبوا، ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة؛ فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقاً كثيراً، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهزموا وهزم أصحابهم، فلا أقاموا ديناً ولا أبقوا دنيا، والله -تعالى- لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة، فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال، وهم أعظم قدراً عند الله وأحسن نية من غيرهم.
وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق، وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خلق من أهل العلم والدين، والله يغفر لهم كلِّهم.
وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث: أين كنت يا عامر؟ قال: كنت حيث يقول الشاعر:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
…
وصوَّتَ إنسانٌ فكدتُ أطير
أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء.
وكان الحسن البصري يقول: إنّ الحجاج عذاب الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع، فإن -الله تعالى - يقول:{ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} [سورة المؤمنون: 76]، وكان طلق بن حبيب يقول: اتقوا الفتنة بالتقوى. فقيل له: أجمل لنا التقوى. فقال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو رحمة الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عذاب الله. رواه أحمد وابن أبي الدنيا.
وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث. ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة؛ للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم، وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين.
وباب قتال أهل البغي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشتبه بالقتال في الفتنة، وليس هذا موضع بسطه. ومن تأمل الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، واعتبر -أيضاً- اعتبار أولي الأبصار؛ علم أنّ الذي جاءت به النصوص النبوية خير الأمور، ولهذا لما أراد الحسين رضي الله عنه أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتباً كثيرة، أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين، كابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج، وغلب على ظنهم أنه يقتل، حتى إن بعضهم قال: أستودعك الله من قتيل. وقال بعضهم: لولا الشفاعة لأمسكتك ومنعتك من الخروج. وهم في ذلك قاصدون نصيحته طالبون لمصلحته ومصلحة المسلمين. والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد، لكن الرأي يصيب تارة
ويخطئ أخرى.
فتبين أنّ الأمر على ما قاله أولئك، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتلوه مظلوماً شهيداً، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده، فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشر بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك، وصار ذلك سبباً لشر عظيم، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن، كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن.
وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمداً أو مخطئاً لم يحصل بفعله صلاح، بل فساد، ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بقوله:«إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (1) ، ولم يُثْنِ على أحد لا بقتال في فتنة، ولا بخروج على الأئمة، ولا نزع يد من طاعة، ولا مفارقه للجماعة.
وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابة في الصحيح كلها تدل على هذا، كما في «صحيح البخاري» من حديث الحسن البصري: سمعت أبا بكرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم علىالمنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» . فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد، وحقق ما أشار إليه من أن الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
وهذا يبين أن الإصلاح بين الطائفتين كان محبوباً ممدوحاً يحبه الله ورسوله، وأن ما فعله الحسن من ذلك كان من أعظم فضائله ومناقبه التي أثنى
(1) أخرجه البخاري (2704، 3629، 3746، 7109) وغيره.
بها عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان القتال واجباً أو مستحبّاً لم يُثنِ النبي صلى الله عليه وسلم على أحد بترك واجب أو مستحب، ولهذا لم يثن النبي صلى الله عليه وسلم على أحد بما جرى من القتال يوم الجمل وصفين فضلاً عما جرى في المدينة يوم الحرّة، وما جرى بمكة في حصار ابن الزبير، وما جرى في فتنة ابن الأشعث وابن المهلب وفي ذلك من الفتن، ولكن تواتر عنه أنه أمر بقتال الخوارج المارقين الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنهروان بعد خروجهم عليه بحروراء؛ فهؤلاء استفاضت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بقتالهم، ولما قاتلهم علي رضي الله عنه فرح بقتالهم، وروى الحديث فيهم، واتفق الصحابة على قتال هؤلاء، وكذلك أئمة أهل العلم بعدهم لم يكن هذا القتال عندهم كقتال أهل الجمل وصفين وغيرهما مما لم يأت فيه نص ولا إجماع، ولا حمده أفاضل الداخلين فيه، بل ندموا عليه ورجعوا عنه.
وهذا الحديث من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث ذكر في الحسن ما ذكره، وحمد منه ما حمده، فكان ما ذكره وما حمده مطابقاً للحق الواقع بعد أكثر من ثلاثين سنة؛ فإن إصلاح الله بالحسن بين الفئتين كان سنة إحدى وأربعين من الهجرة، وكان علي رضي الله عنه استشهد في رمضان سنة أربعين، والحسن حين مات النبي صلى الله عليه وسلم كان عمره نحو سبع سنين، فإنه ولد عام ثلاث من الهجرة، وأبو بكرة أسلم عام الطائف، تدلى ببكرة؛ فقيل له أبو بكرة، والطائف كانت بعد فتح مكة، فهذا الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن كان بعد ما مضى ثمانٍ من الهجرة، وكان بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثين سنة التي هي خلافة النبوة، فلا بد أن يكون قد مضى له أكثر من ثلاثين سنة، فإنه قاله قبل موته صلى الله عليه وسلم» .
رابعاً: قد يقول قائل: نسلِّم لك ما تقول، نظراً لخَوَرِنا وضعْفِنا، وطمع العدو بنا، ولغربة الدين بين ظهرانينا، ولما يترتب الآن على الخروج من قتل النفوس بلا فائدة، وإلا؛ فالخروج -قديماً- قد حصل مرات! وعلى هيئة
(ثورات) ! وهذا أمر مشهور في التاريخ، فها هي ثورة (النفس الزكية)(1) ، و (ثورة الإمام المحدث أحمد بن نصر الخزاعي)(2) ، وغيرهما.
والجواب على هذا في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، قال:
«وإذا قال القائل: إنّ عليّاً والحسين إنما تركا القتال في آخر الأمر للعجز؛ لأنه لم يكن لهما أنصار، فكان في المقاتلة قتل النفوس بلا حصول المصلحة المطلوبة؟
قيل له: وهذا بعينه هو الحكمة التي راعاها الشارع صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج على الأمراء (3) ، وندب إلى ترك القتال في الفتنة، وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بالحرة وبدير الجماجم على يزيد والحجّاج وغيرهما.
لكن إذا لم يُزَلِ المنكر إلا بما هو أنكر منه، صار إزالته على هذا الوجه منكراً، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف، كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكراً.
وبهذا الوجه صارت الخوارج تستحل السيف على أهل القبلة، حتى قاتلت عليّاً وغيره من المسلمين، وكذلك من وافقهم في الخروج على الأئمة بالسيف في الجملة من المعتزلة والزيدية والفقهاء وغيرهم، كالذين خرجوا مع
(1) لبعض المعاصرين دراسة منشورة مفردة عنها.
(2)
انظر: «تاريخ الطبري» (9/135-139، 190 - ط. المعارف) ، «طبقات الحنابلة» (1/80-82) ، «طبقات الشافعية الكبرى» (2/51) ، «تاريخ بغداد» (5/173-176) ، «سير أعلام النبلاء» (11/166) ، «البداية والنهاية» (10/303-307) .
(3)
قد يكون (خروج) دون اعتقادٍ من جميع الوجوه لمذهب (الخوارج) ، وسيأتي مصرحاً بهذا في كلام ابن تيمية.
محمد بن عبد الله بن حسن بن حسين، وأخيه إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسين وغير هؤلاء، فإن أهل الديانة من هؤلاء يقصدون تحصيل ما يرونه ديناً.
لكن قد يخطئون من وجهين:
أحدهما: أن يكون ما رأوه ديناً ليس بدين، كرأي الخوارج وغيرهم من أهل الأهواء؛ فإنهم يعتقدون رأياً هو خطأ وبدعة، ويقاتلون الناس عليه، بل يكفّرون من خالفهم، فيصيرون مخطئين في رأيهم، وفي قتال من خالفهم أو تكفيرهم ولعنهم.
وهذه حال عامة أهل الأهواء، كالجهمية الذين يدعون الناس إلى إنكار حقيقة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، ويقولون: إنه ليس له كلام إلا ما خلقه في غيره، وإنه لا يرى، ونحو ذلك، وامتحنوا الناس لما مال إليهم بعض ولاة الأمور، فصاروا يعاقبون من خالفهم في رأيهم: إما بالقتل، وإما بالحبس، وإما بالعزل ومنع الرزق، وكذلك قد فعلت الجهمية ذلك غير مرة، والله ينصر عباده المؤمنين عليهم.
والرافضة شر منهم: إذا تمكنوا فإنهم يوالون الكفار وينصرونهم، ويعادون من المسلمين كل من لم يوافقهم على رأيهم (1) ،
وكذلك من فيه نوع
(1) أكّد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا المعنى في كثير من كتبه، وفي غير موطن من «المنهاج» ؛ أبرزها ما فيه (3/374)، قال:
وقال عنهم في (3/377) :
«ولهذا لما خرج الترك الكفار من جهة المشرق، فقاتلوا المسلمين، وسفكوا دماءهم ببلاد خراسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها، كانت الرافضةُ معاونةً لهم على قتال المسلمين، ووزير بغداد المعروف بالعلقمي، هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس معاونة لهم على المسلمين، وكذلك الذين كانوا بالشام بحلب وغيرها من الرافضة، كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتال =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المسلمين، وكذلك النصارى الذين قاتلهم المسلمون بالشام، كانت الرافضة من أعظم أعوانهم» .
وقال بعد ذلك مباشرة كلاماً مهماً غاية، يستحق أنْ يُعتنى به، وأنْ يُنشر في المجالس والصحف السيّارة:
قلت: قاله بناءً على ما في نبوءاتهم وكتبهم، من أنّ دولتهم من (الفرات) إلى (النيل)، وهم جادّون في السعي لتحصيل ذلك. نشرت جريدة «المسلمون» : السنة الثالثة عشرة، العدد (468) : الجمعة 29/صفر/1418هـ - 4/يوليو/1997م، تحت عنوان:(طقوس يهودية على نهر الفرات)، تحته ما نصه:
«كشف تقرير مثير ومرفق بالصور الفوتوغرافية نشرته صحيفة «هاآرتس» الصهيونية في ملحقها الأسبوعي، عن قيام جماعة يهودية متطرفة تدعى (حباد) بإحياء طقوس يهودية قديمة على ضفاف نهر الفرات، في منطقة تقع بالقرب من الحدود التركية السورية؛ وذلك في نطاق إيمان هذه المجموعة -التي تلقى الدعم الكامل من حكومة (نتنياهو) - بما وصفته بـ «الحدود التوراتية لأرض إسرائيل الكبرى» ، التي تمتد من الفرات إلى النيل.
وأوضح التقرير أن مجموعة من أنصار هذه الحركة اليهودية العنصرية المتطرفة، منهم طيارون وضباط في احتياط الجيش الصهيوني، توجهوا مؤخراً في رحلة خاصة إلى ضفاف نهر الفرات عن طريق تركيا، حيث وصلت الجماعة بطائرة استقلوها من مطار (اللد) في فلسطين المحتلة، إلى قرية نائية شرقي تركيا (ميران) تبعد حوالي 20كم عن الحدود التركية مع سوريا.
وأضاف أن المجموعة التي كانت بقيادة الطيار الاحتياط (غيدي شارون) 46 عاماً نزلوا هناك مزودين ببوق النفخ الذي يستخدم حسب طقوس اليهود في الإيذان ببدء طقوسهم اليهودية، حيث قام أعضاء الجماعة بإحياء طقوس يهودية قديمة أعادوا في نطاقها طباعة 240 نسخة من توراة قديمة على ضفة نهر الفرات بوصفه الحدود الشمالية (لأرض إسرائيل) ، وذلك وفق الحدود التي رسمتها التوراة الموضوعة لما يسمى بـ (أرض إسرائيل) » .
والعجب اليوم ممن يدعو إلى التقارب مع الرافضة! وقد قرأت مقالة في بعض صحفنا الأردنية بعنوان (للفتنة مئة رأس) ، كتبها بعضهم بعد موت الشيعي (باقر الحكيم) بانفجار النجف، وقرر فيه: أن مثل كلام ابن تيمية هذا يغذي الفتنة!! قلت: في هذا تعدٍّ على استقراء الأحداث التي وقعت في التاريخ
…
وعلى هذه القواعد التي قعّدها العلماء الربانيون، ولو أننا تدبرنا بعمق الآثار وقواعد العلماء لأرحنا واسترحنا، وفقهنا كيف نتعامل مع (الفتنة) بلا (فتنة) !
من البدع: إما من بدع الحلولية: حلولية الذات أو الصفات، وإما من بدع النّفاة أو الغلو في الإثبات، وإما من بدع القدرية أو الإرجاء أو غير ذلك، تجده يعتقد اعتقادات فاسدة، ويكفر من خالفه أو يلعنه، والخوارج المارقون أئمة هؤلاء في تكفير أهل السنة والجماعة وفي قتالهم.
الوجه الثاني: من يقاتل على اعتقاد رأي يدعو إليه مخالف للسنة والجماعة؛ كأهل الجمل وصفين والحرة والجماجم وغيرهم، لكن يظن أنه بالقتال تحصل المصلحة المطلوبة، فلا يحصل بالقتال ذلك، بل تعظم المفسدة أكثر مما كانت، فيتبين لهم في آخر الأمر ما كان الشارع دل عليه من أول الأمر (1) .
وفيهم من لم تبلغه نصوص الشارع، أو لم تثبت عنده، وفيهم من يظنها منسوخة كابن حزم، وفيهم من يتأولها، كما يجري لكثير من المجتهدين في كثير من النصوص.
فإنه بهذه الوجوه الثلاثة يترك من يترك من أهل الاستدلال العمل ببعض النصوص؛ إما أن لا يعتقد ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يعتقدها غير دال على مورد الاستدلال، وإما أن يعتقدها منسوخة.
ومما ينبغي أن يعلم: أن أسباب هذه الفتن تكون مشتركة، فيَرِدُ على القلوب من الواردات ما يمنع القلوب عن معرفة الحق وقصده، ولهذا تكون بمنزلة الجاهلية، والجاهلية ليس فيها معرفة الحق ولا قصده، والإسلام جاء بالعلم النافع والعمل الصالح، بمعرفة الحق وقصده. فيتفق أن بعض الولاة
(1) وتعلُّقُ بعض المتأخرين بما حصل مع هؤلاء إنما هو من باب الهوى فحسب! ولشيخ الإسلام ابن تيمية في «منهاج السنة النبوية» (8/522-523) تفريق مهمٌّ بين الجمل وصفين، وأنه ليس من القتال المأمور به، بل تَرْكه أفضل من الدخول فيه، بخلاف قتال الحرورية والخوارج، قال:«فإن قتال هؤلاء واجب بالسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وباتفاق الصحابة، وعلماء السنة» .
يظلم باستئثار، فلا تصبر النفوس على ظلمه، ولا يمكنها دفع ظلمه إلا بما هو أعظم فساداً منه، ولكن لأجل محبة الإنسان لأخذ حقه ودفع الظلم عنه، لا ينظر في الفساد العام الذي يتولد عن فعله» (1) .
قال أبو عبيدة: ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية تأصيل منهجيّ من خلال نصوص الأحاديث النبوية -وقد ساق بعضاً منها-، وبالنظر إلى استقراء الحوادث التي تمّ فيها (الخروج) ، وله كلام يشعر بذلك، وفيه -أيضاً- تفسير لهذه الظاهرة، ومعيار لتقويم الأشخاص الذين شاركوا فيها، وقبل أن أسوق كلامه الذي فيه هذا الأمر الخطير، لا بد من التأكيد على ما سبق بإيرادي لكلام لشيخنا الألباني رحمه الله في تعليقه على حديث عبادة بن الصامت، الذي أخرجه البخاري (7199، 7200) ، ومسلم (1709) -والسياق له-، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم» .
قال رحمه الله في «السلسلة الصحيحة» (7/1240-1243) تحت حديث رقم (3418) : «ثم إن في هذا الحديث فوائد ومسائل فقهية كثيرة، تكلم عليها العلماء في شروحهم
…
» ، قال: «والذي يهمني منها هنا: أن فيه ردّاً صريحاً على الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
…
رضي الله عنه، فإنهم يعلمون دون أي شك أو ريب أنهم لم يروا منه (كفراً بواحاً) ، ومع ذلك استحلوا قتاله، وسفك دمه، هو ومن معه من الصحابة والتابعين، فاضطر رضي الله عنه لقتالهم واستئصال شأفتهم، فلم ينْجُ منهم إلا القليل، ثم غدروا به رضي الله عنه، كما هو معروف في التاريخ.
(1)«منهاج السنة النبوية» (4/536-539) .
والمقصود أنهم سنوا سنة -في الإسلام- سيئة، وجعلوا الخروج على حكام المسلمين ديناً على مر الزمان والأيام، رغم تحذير النبي صلى الله عليه وسلم منهم في أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم:«الخوارج كلاب النار» (1) .
ورغم أنهم لم يروا كفراً بواحاً منهم، وإنما دون ذلك من ظلم وفجور وفسق» .
ثم قال -وهذا هو الشاهد من كلامه -رحمه الله تعالى-:
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (15/307-308) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (18663) ، والحميدي في «المسند» (908) ، والطيالسي في «المسند» (رقم 1136) ، وأحمد في «المسند» (5/253، 256) ، والترمذي في «الجامع» (رقم 3000) ، وابن ماجه في «السنن» (رقم 176) ، والطبراني في «الكبير» (15/327-328، 328 رقم 8033-5036، 8049، 8056) ، و «الأوسط» ، و «الصغير» (2/117) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (6/338-339 رقم 2519) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (رقم 68) ، وابن نصر في «السنة» (ص 16-17) ، وابن أبي حاتم في «التفسير» (5/1429 رقم 8150) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (8/188) ، واللالكائي في «السنة» (151، 152) ، والآجري في «الشريعة» (ص 35، 36) ، وابن الجوزي في «الواهيات» (1/163 رقم 262) ، وابن المنذر في «التفسير» -كما في «الدر المنثور» (2/291) - من طرق عن أبي غالب، به. بألفاظ متقاربة، وبعضهم اختصره.
قال الترمذي: «هذا حديث حسن» .
قلت: أبو غالب حزوّر البصري، صاحب أبي أمامة، ضعيف، يعتبر به في الشواهد والمتابعات، وقد تابعه:
* صفوان بن سُلَيم -وهو ثقة-، عند أحمد في «المسند» (5/269) ، وابنه عبد الله في «السنة» (رقم 1546) ؛ وسنده صحيح.
* سيار الأموي -وثقه ابن حبان (4/335) -في التابعين- وأعاده! (6/423) -في أتباع التابعين-، وفي «التقريب» : صدوق، ومن منهجه في مثله قوله: مقبول- عند أحمد في «المسند» (5/250) -أيضاً-. ولقوله: «شر قتلى
…
» ، «كلاب أهل النار» شاهد من حديث عبد الله بن أبي أوفى. انظر:«مسند عبد الله بن أبي أوفى» لابن صاعد (رقم 39، 40) ، «الحنائيات» (225) وتعليقنا عليه، ففيه بقية التخريج.
«واليوم -والتاريخ يعيد نفسه كما يقولون-؛ فقد نبتت نابته من الشباب المسلم، لم يتفقهوا في الدين إلا قليلاً، ورأوا أن الحكام لا يحكمون بما أنزل الله إلا قليلاً، فرأوا الخروج عليهم دون أن يستشيروا أهل العلم والفقه والحكمة منهم، بل ركبوا رؤوسهم، وأثاروا فتناً عمياء، وسفكوا الدماء، في مصر، وسوريا، والجزائر، وقبل ذلك فتنة الحرم المكي، فخالفوا بذلك هذا الحديث الصحيح الذي جرى عليه عمل المسلمين سلفاً وخلفاً إلا الخوارج.
ولما كان يغلب على الظن أن في أولئك الشباب من هو مخلص يبتغي وجه الله، ولكنه شُبِّه له الأمر أو غرر به؛ فأنا أريد أن أوجه إليهم نصيحة وتذكرة، يتعرفون بها على خطأهم، ولعلهم يهتدون.
فأقول: من المعلوم أن ما أمر به المسلم من الأحكام منوط بالاستطاعة؛ حتى ما كان من أركان الإسلام، قال -تعالى-:{وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ البَيتِ مَن اسْتَطاعَ إليه سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ، وهذا من الوضوح بمكان فلا يحتاج إلى تفصيل.
والذي يحتاج إلى التفصيل؛ إنما هو التذكير بحقيقتين اثنتين:
الأولى: أن قتال أعداء الله -من أي نوع كان- يتطلب تربية النفس على الخضوع لأحكام الله واتباعها؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:
«المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله» (1) .
والأخرى: أن ذلك يتطلب الإعداد المادي والسلاح الحربي؛ الذي ينكأُ أعداء الله؛ فإن الله أمر به أمير المؤمنين، فقال:{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} [الأنفال: 60] ، والإخلال بذلك مع الاستطاعة؛ إنما هو من صفات المنافقين، وكذلك قال
(1)«الصحيحة» (549) . (منه)
فيهم رب العالمين: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} [التوبة: 46] .
وأنا أعتقد جازماً أن هذا الإعداد المادي لا يستطيع اليوم القيام به جماعة من المؤمنين دون علم من حكامهم -كما هو معلوم-، وعليه؛ فقتال أعداء الله من جماعة ما سابقٌ لأوانه، كما كان الأمر في العهد المكي، ولذلك؛ لم يؤمروا به إلا في العهد المدني؛ وهذا هو مقتضى النص الرباني:{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] .
وعليه؛ فإني أنصح الشباب المتحمس للجهاد، والمخلص حقّاً لرب العباد: أن يلتفتوا لإصلاح الداخل، وتأجيل الاهتمام بالخارج الذي لا حيلة فيه، وهذا يتطلب عملاً دؤوباً، وزمناً طويلاً؛ لتحقيق ما أسميه بـ:(التصفية والتربية) ؛ فإن القيام بهذا لا ينهض به إلا جماعة من العلماء الأصفياء، والمربين الأتقياء، فما أقلهم في هذا الزمان، وبخاصة في الجماعات التي تخرج على الحكام!
وقد ينكر بعضهم ضرورة هذه التصفية، كما هو واقع بعض الأحزاب الإسلامية، وقد يزعم بعضهم أنه قد انتهى دورها، فانحرفوا إلى العمل السياسي أو الجهاد، وأعرضوا عن الاهتمام بالتصفية والتربية، وكلهم واهمون في ذلك، فكم من مخالفات شرعية تقع منهم جميعاً بسبب الإخلال بواجب التصفية، وركونهم إلى التقليد والتلفيق، الذي به يستحلون كثيراً مما حرم الله! وهذا هو المثال: الخروج على الحكام؛ ولو لم يصدر منهم الكفر البواح.
وختاماً أقول: نحن لا ننكر أن يكون هناك بعض الحكام يجب الخروج عليهم؛ كذاك الذي كان أنكر شرعية صيام رمضان، والأضاحي في عيد الأضحى، وغير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة، فهؤلاء يجب قتالهم بنص الحديث، ولكن بشرط الاستطاعة كما تقدم، ولكن مجاهدة اليهود المحتلين للأرض المقدسة والسافكين لدماء المسلمين أوجب من قتال مثل ذاك الحاكم من وجوه كثيرة، لا مجال الآن لبيانها؛ من أهمها: أن جند ذاك
الحاكم من إخواننا المسلمين، وقد يكون جمهورهم -أو على الأقل الكثير منهم- عنه غير راضين، فلماذا لا يجاهد هؤلاء الشباب المتحمس اليهود، بدل مجاهدتهم لبعض حكام المسلمين؟! أظن أنْ سيكون جوابهم عدم الاستطاعة بالمعنى المشروح سابقاً، والجواب هو جوابنا، والواقع يؤكد ذلك؛ بدليل أن خروجهم -مع تعذر إمكانه- لم يثمر شيئاً سوى سفك الدماء سُدىً! والمثال -مع الأسف الشديد- لا يزال ماثلاً في الجزائر، فهل من مدّكر؟!» .
«وأمر الرعية بالطاعة والنصح، كما ثبت في الحديث الصحيح: «الدين النصيحة» -ثلاثاً- قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (1) .
«وأمر بالصبر على استئثارهم، ونهى عن مقاتلتهم ومنازعتهم الأمر مع ظلمهم؛ لأنّ الفساد الناشئ من القتال في الفتنة، أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر، فلا يُزال أخف الفسادين بأعظمهما.
ومن تدبر الكتاب والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتبر ذلك بما يجده في نفسه وفي الآفاق علم تحقيق (2) قول الله -تعالى-:{سَنُريهم آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وفي أَنفُسِهم حَتّى يَتَبَيَّن لَهُم أَنّه الحَقّ} [فصلت: 53] ؛ فإنّ الله
…
-تعالى- يُري عباده آياته في الآفاق وفي أنفسهم؛ حتى يتبين لهم أنّ القرآن حق، فخبره صدق وأمره عدل:{وَتَمّت كَلِمَةُ رَبِّك صِدقاً وَعَدلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وهو السَّمِيعُ العَلِيم} [الأنعام: 115] .
ومما يتعلق بهذا الباب، أن يُعلم أنّ الرجل العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد
(1) أخرجه مسلم (55) من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
(2)
فالذي ذكره من ضرورة (الطاعة والنصح) و (الصبر على الاستئثار) حتى تصلح الأحوال من سنن الله الثابتة في الأمم، وهي لا تتغير ولا تتبدل.
يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين.
ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتزيد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد.
والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا، ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم، وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه.
هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم» (1) .
ثم ذكر مجموعة من (الفتن) من هذا النوع، قال بعد كلام:
«وعامة الخلفاء الملوك جرى في أوقاتهم فتن، كما جرى في زمن يزيد ابن معاوية قتل الحسين، ووقعة الحرّة، وحصار ابن الزبير بمكة، وجرى في زمن مروان بن الحكم فتنة مرج راهط بينه وبين النعمان بن بشير، وجرى في زمن عبد الملك فتنة مصعب بن الزبير وأخيه عبد الله بن الزبير، وحصاره
…
-أيضاً- بمكة، وجرى في زمن هشام فتنة زيد بن علي، وجرى في زمن مروان ابن محمد فتنة أبي مسلم، حتى خرج عنهم الأمر إلى ولد العباس.
ثم كان في زمن المنصور فتنة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين
(1)«منهاج السنة النبويه» (4/542-544) .