الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بـ (واجب الوقت)، ومن أبرز (الأمثلة) (1) على (نوّار الفتنة) الذي (لم يعقد) في القرن المنصرم:
فتنة جهيمان والحرم المكي
فتنة جهيمان بن محمد بن سيف العتيبي في الحرم المكي، ابتدأت في وقت ظهر الثلاثاء الأول من المحرم، وانتهت بعصر الخميس السابع عشر (2) من المحرم لسنة 1400هـ، وسببها الظاهر اعتقاد جماعة من خلال الرؤى وإسقاط أحاديث الفتن على غير وجهها (3)، أنّ رجلاً منهم -واسمه: محمد بن عبد الله القحطاني- هو المهدي، فدخلوا المسجد الحرام، وسفكوا فيه الدماء، وأبلغوا الناس عند المغرب: اليوم ستخسف الأرض بالجيش القادم إلينا، ولم تخسف الأرض بالطبع، فقالوا للناس: أُرجئَ الأمر أربعة أيام أخرى، وهلم جراً (4) ، واستمر القتال عشرين يوماً تقريباً، وتوفّي فيها من الجيش الذي حاربهم (12) ضابطاً و (115) ضابط صف وجندي، وأُدخل المستشفيات للمعالجة من الإصابات (49) ضابطاً و (402) ضابط صف وجندي.
(1) لا يلزم منها التطابق التام بين (أصحابها) و (الخوارج) ، وإنما خصَّت للمشابهة في (المسلك) و (الطريقة) فحسب.
(2)
وعليه تعطلت في هذه الفتنة شعيرة الأذان على مآذن الحرم اثنتين وثمانين مرة.
(3)
سيأتي -إن شاء الله تعالى- تأصيل في (الإسقاط) وضوابطه ومعالمه، ومما ينبغي أن يذكر: أنّ لـ (جهيمان) عناية قوية بأحاديث (الفتن) ، وله فيها رسالة مفردة مطبوعة، وله شطحات في التنزيل والإسقاط، كانت من الأسباب الرئيسة لوقوعه في (فتنة البغي على الحرم) ، فضلاً عن غمزه وطعنه في العلماء، والتقدّم بين أيديهم في فهمها. انظر نماذج من ذلك في رسالته «الإمارة والبيعة والطاعة» (ص22-23) ، و «الميزان لحياة الإنسان وسبب الخروج عن الصراط المستقيم والموقف الصحيح في بيان الحق» ، وانظر كتاب أخينا إبراهيم أبو العينين «تحذير ذوي الفطن» (ص 59-67) ، و «الخوارج الحروريّون» (ص 70-72) .
(4)
انظر تصريحات للملك فهد -وكان آنذاك وليّاً للعهد- نشرت في جريدة «الرياض» يوم الأحد/25صفر/سنة 1400هـ، الموافق 13/يناير/سنة 1980م.
ونفّذ حكم القتل في (63) شخصاً من هؤلاء (بغاة الحرم) ، وعثر على (15) جثة من هذه الفئة عند تطهير أقبية الحرم، وتم التعرف على أصحابها من قبل من اعتقلوا من هذه الفئة، وذكر أنّ (27) شخصاً من هذه الفئة قد توفّوا متأثرين بإصاباتهم، وأنّ عقوبة القتل قد خفضت إلى السجن لمدد مختلفة على (19) شخصاً، وأن عدد النساء والصبيان الذين وجدوا مع هذه الفئة قد بلغ (23) ، وأن (38) شخصاً لم يثبت التحقيق اشتراكهم، وتمّ الإفراج عنهم (1) .
فهذه الفتنة العظيمة التي حلَّت بأرض الحرم المكي الشريف سببها عدم فقه إسقاط أحاديث الفتنة على الواقع، على الرغم من أن بعض رؤوس المشاركين فيها لهم اطلاع على الأحاديث، ودراية بأهمية الوقوف على الصحيح منها، ونبذ الواهي والضعيف، ووصفهم بيان هيئة كبار العلماء آنذاك في دورة مجلسهم الخامسة عشرة بأنهم «فئة ضالة آثمة؛ لاعتدائها على حرم الله، وسفكها فيه الدم الحرام، وقيامها بما يسبِّب فرقة المسلمين، وشق عصاهم» ، ووصفوا بما دعت إليه هذه الفئة بأنه «بذور فتنة وضلال، وطريق إلى الفوضى والاضطراب، والتلاعب بمصالح العباد والبلاد، وأنّ دعواهم قد يغترّ بظاهرها السذّج، وفي باطنها الشر المستطير» وحذروا -جزاهم الله خيراً- المسلمين مما في تلك النشرات من التأويلات الباطلة، والشّبه الآثمة، والاتجاهات السيئة (2) .
ومن الجدير بالذكر هنا أمور:
أولاً: صلة هذه الفتنة بالعراق تظهر من خلال مقدمة؛ وهي: هل هذه
(1) الأرقام المثبتة أعلاه من تصريح لوزير الداخلية، نشر في جريدة «الرياض» في 22 صفر سنة 1400هـ، الموافق 10/يناير/1980م.
(2)
انظر عنهم: «الخوارج الحروريّون ومقارنة مبادئهم بمبادئ الفرق الإسلامية» (ص 68-92) .
الفرقة من الخوارج؟ فإن كانوا كذلك، فتكون هي من (المهيجات) التي جاءت من هناك، وخرجت من ضئضئ ذلك الرجل، الذي لو قتل، لارتاح الناس من شره، فهي حينئذٍ شر من تلك الشرارة.
ثانياً: نفى جهيمان في غير رسالة من رسائله أنهم من الخوارج، وذكر أن بعض العلماء وطلبة العلم الراكنين إلى المناصب والمراتب والرواتب ينعتهم بذلك!
ويفرق بين (الخارجيّ) و (الخارج بغياً عن الحكام) بقوله: «فمذهب الخوارج كفر، والخروج على الإمام ومنازعته ظلم، يجب ردع صاحبه عنه وقتله» (1) . وبناءً عليه يقول عن نفسه وجماعته مع علماء عصره:
ولا يخدعنّك تفريقه المذكور، فهو لعب بالألفاظ، لا تنويع فيه، فالخوارج -عند أهل التحقيق- ليسوا بكفار (3) ، وأبرز شيء في دينهم التكفير بالكبيرة، والخروج على الحكام، وهو يلتقي معهم في الأمر الثاني، فاسمع إليه وهو يقرر في آخر رسالته «الإمارة والبيعة» (ص 37) بعد تقريره ضعف حديث أخرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 1855)، وفيه:«خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم» ، يقول:
«وعلى فرض صحته، فليس لهؤلاء الحكام فيه حجة؛ لأنه يقول «أئمتكم» ؛ يعني: أئمة المسلمين، فهؤلاء الحكام ليسوا أئمة؛ لأن إمامتهم للمسلمين باطلة، ومنكر يجب إنكاره كما تقدم ذلك بالأدلة؛ لأنهم ليسوا من
(1)«الإمارة والبيعة والطاعة» (ص 14) .
(2)
«الإمارة والبيعة والطاعة» (ص 29)
(3)
انظر الرسالة نفسها (ص 12 وما بعد) .
قريش، ولا يقيمون الدين، ولم يجتمع عليهم المسلمون، وإنما أصحاب ملك، سخروا المسلمين لمصالحهم، بل جعلوا الدين وسيلة لتحقيق مصالحهم الدنيوية؛ فعطلوا الجهاد، ووالوا النصارى، وجلبوا علىالمسلمين كل شر وفساد» .
فهو يلتقي في نظرته إلى الحكام مع الخوارج، من ضرورة الخروج عليهم، والزعم بأنهم ليسوا بأئمة! وقرر هذا في رسالة مفردة مطبوعة سمّاها «نصيحة الإخوان إلى المسلمين والحكام» .
ويعجبني كلام الشيخ عبد المحسن آل عبيكان، لما تكلم عن الخوارج، وذكر حادثة الحرم بإلماحة، وقال عن أصحابها:
ويزعمون أنهم من أهل الحديث، وأنهم يتمسكون بالسنة،
(1) وسموا جماعتهم بـ (السلفية) ! وأصبحت (السلفية) قميصاً يتسربل به كثير من الأدعياء والدخلاء على هذه الدعوة المباركة، ومن أوجب الواجبات على أهلها في جميع البلدان، ولا سيما الذين وُضِعوا فيها موضع القدوة، وعرفوا على أنهم رموز لها: أنْ (يتمايزوا) عن هؤلاء، وا أسفاه وا غوثاه بالله من دعوة (سلفية) اتخذت (المنامات) أصلاً لها في هذا (الخروج) ، واعتمد أبناؤها على التقليد، فهذا شأن (الصوفية) و (التبليغ) ، لا الدعوة الرشيدة المعتمدة على الكتاب والسنة، وتقريرات العلماء بالأدلة والزبر والبينات، ورحم الله العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز، فإنه رد عليهم آنذاك، بقوله:«أما اعتماد المنامات في إثبات كون فلان هو المهدي، فهو مخالف للأدلة الشرعية ولإجماع أهل العلم والإيمان؛ لأنّ المَرائي مهما كثرت لا يجوز الاعتماد عليها في خلاف ما ثبت به الشرع المطهر؛ لأن الله -سبحانه- أكمل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة قبل وفاته عليه الصلاة والسلام، ثم إنّ المهدي قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بالشرع المطهر، فكيف يجوز له ولأتباعه انتهاك حرمة المسجد الحرام وحرمة المسلمين وحمل السلاح عليهم بغير حق؟» . من جريدة عكاظ، 18 من المحرم 1400هـ.
(2)
قطعة من حديث أخرجه البخاري (361) ، ومسلم (1066)، وغيرهما من حديث علي رفعه: «يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، =
وليسوا كذلك، ولم يفهموا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً هم حدثاء أسنان، وهذا معلوم، ومن أدرك تلك الوقعة علم أن أكثرهم من صغار السن، ومن سفهاء الأحلام، وأكثرهم من الجهلة، وليسوا من كبار الناس، ولا ممن يتصدر المجالس، فهذا الحديث صدق على هؤلاء القوم، حسب ما اجتهدت في تطبيقه، وعلى كل حال؛ فهم خارجون عن الطاعة، وخارجون على الإمام، وأنهم فعلوا فعلاً منكراً، ولا شك.
ولا يعني هذا أنّ الخوارج كفّار خارجون عن ملة الإسلام، فإن عليّاً
…
رضي الله عنه لم يكفرهم، ولكن يكفي أنهم أهل ضلال، وأنه ينبغي أنْ يُقاتلوا، وأنْ لا يبقى منهم أحد بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ فسادهم عظيم، وشرهم كبير.
ومما يذكر في هذا المقام، أنّ بعض العلماء أدخل حديث:«يبايع لرجل بين الركن والمقام، ولن يستحل هذا البيت إلا أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب» (1) أدخلوه في باب المهدي، بينما أرى أنه ينطبق على من بويع في تلك الفتنة؛ لأنّ استحلال البيت لا يكون مع مبايعة المهدي، وقد حصل الاستحلال عند مبايعة ذلك الشخص في تلك الفتنة، والله أعلم» .
= يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة» .
وتأمل «آخر الزمان» ، فالذين خرجوا على علي أول الزمان، و «حدثاء الأسنان» ، والذين خرجوا على علي كانوا من كبار السن، و «سفهاء الأحلام» ، والذين خرجوا على علي كانوا من ذوي العقول، و «يقولون من قول خير البرية» ، وفسِّر هذا: أنهم يقولون من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصحيح لبعض شراح الحديث. انظر:«عون المعبود» (13/80) . والخوارج كانوا يقولون: حسبنا كتاب ربنا.
(1)
أخرجه أحمد (2/351) ، والطيالسي (2373) ، وابن أبي شيبة (7/462) ، وأبو القاسم البغوي في «الجعديات» (2810) ، وابن حبان (6827) ، والحاكم (4/500)، وإسناده صحيح. وانظر:«السلسلة الصحيحة» (579) .
وأخيراً
…
كان الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- يسمّيهم في بعض مجالسه بـ: (الخوارج)(1) .
وقال شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «السلسلة الصحيحة» (5/278) تحت حديث رقم (2236)، ونصه:«ينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صلِّ بنا، فيقول: لا، إنّ بعضهم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة» :
وفتنة المهدي والخوض فيها قديم، فها هو حفص بن غياث يقول: قلت لسفيان الثوري: يا أبا عبد الله! إن الناس قد أكثروا في المهدي، فما تقول فيه؟ قال:«إنْ مرَّ على بابك، فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه» (3) ، وهذا
(1) اسمع شريطاً مسجلاً له في (سلسلة الهدى والنور)(751/1) .
(2)
علماً أنّ بعض المرجفين ردد حينها أنّ الألباني من وراء جهيمان، أو نحوه من الكذب والبهتان، وليس هذا صنيع العلماء الراسخين الربانيين، وأشاعوا حينها -أيضاً- أنّ (محمد بن عبد الله) لم يقتل، ولم يقدروا عليه، وفرَّ إلى الجبال، وسيكون له خروج قريب، مع أنّ الجهات المسؤولة نشرت آنذاك صورته؛ لقطع هذه الأراجيف.
(3)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (7/31) .
تطبيق لقاعدة سلفية مهمة في الفتن، وهي الدوران مع النصوص، وعدم التعجل في إسقاطها، وضرورة فهمها على ظاهرها.
والغفلة في هذا الباب قاتلة (1) ، وهي «زلة مضروب بها الطبل» (2) ، وقد وقعت لبعض الأقدمين، فبُكِّت، وتُكلِّم معه شديداً.
نقل ابن سعد (3) عن شيخه محمد بن عمر الواقدي في ترجمة (محمد ابن عجلان)، قال:«وخرج محمد بن عجلان مع محمد بن عبد الله بن حسن، حين خرج بالمدينة، فلما قُتِلَ محمدُ بن عبد الله وولي جعفر بن سليمان بن علي المدينة، بعث إلى محمد بن عجلان فأُتيَ به، فَبَكَّته وكلَّمه كلاماً، وقال: خرجتَ مع الكذّاب، وأَمَرَ به تُقْطع يده. فلم يتكلم محمد بن عجلان بكلمة، إلا أنه يحرّك شفتيه بشيء لا يدرى ما هو، يظن أنه يدعو، قال: فقام منْ حَضَر جعفرَ بن سليمان من فقهاء أهل المدينة وأشرافهم. فقالوا: أصْلَحَ الله الأمير، محمد بن عجلان فقيه أهل المدينة وعابدها! وإنما شُبِّه عليه وظن (4) أنه المهديّ الذي جاءت فيه الرواية. فلم يزالوا يطلبون إليه حتى تركه، فولى محمد بن عجلان منصرفاً لم يتكلم حتى أتى منزله» .
ومن الفتن التي (لم يعقد نوارها) ، واصطلى المسلمون بنارها، وهي من مهيّجات فتن العراق، وكانت لرُقْعَتِها أثر قوي في استمرارها:
(1) حصر أخونا الشيخ محمد أحمد إسماعيل المقدّم في كتابه «المهدي وفقه أشراط الساعة» مدّعي (المهدوية) ، وتكلَّم عليهم بتفصيل حسن؛ فانظره فإنه مفيد.
(2)
مقولة للخليل بن أحمد، أسندها عنه الزبيدي في «طبقات النحويين واللغويين» (ص 48) ، والمعافى النهرواني في «الجليس الصالح» (3/177) ، وذكرها الزمخشري في «ربيع الأبرار» (3/210) .
(3)
في «طبقاته» (7/526 - ط. الخانجي) .
(4)
هذا صوابها، وفي مطبوع «الطبقات» :«وظهر» ! فلتصحح.