الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابِ النَّوَاهِي، إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ جَعَلَ الْأَحْكَامَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا قَرَّرَهُ فِي أَصْلِ شَرْعِهِ وَلَمْ يَكِلْهُ إلَى خِيرَةِ الْخَلْقِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا وَكَلَ وُجُوبَهُ إلَى خِيَرَةِ الْخَلْقِ فَإِنْ شَاءُوا أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِإِنْشَاءِ سَبَبِهِ وَهُوَ النَّذْرُ وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَكَمَا جَعَلَ الْأَحْكَامَ عَلَى قِسْمَيْنِ جَعَلَ الْأَسْبَابَ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا قَرَّرَهُ فِي أَصْلِ شَرْعِهِ وَلَمْ يَكِلْهُ إلَى خِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ كَالزَّوَالِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَمَالِكِ النِّصَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا وَكَلَهُ لِلْعِبَادِ فَإِنْ شَاءُوا جَعَلُوهُ سَبَبًا وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يَجْعَلُوهُ سَبَبًا وَهُوَ شَرْطُ النُّذُورِ وَالطَّلَاق وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهَا أَسْبَابٌ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ السَّبَبِ فِيهَا فَإِنَّهَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهَا الْعَدَمُ وَلَمْ يَحْصُرْ ذَلِكَ فِي الْمَنْدُوبَاتِ كَمَا حَصَرَهُ فِي الْأَحْكَامِ الْمَنْذُورَاتِ فَلَا يُؤَثِّرُ النَّذْرَ إلَّا فِي نَقْلِ مَنْدُوبٍ لِوَاجِبٍ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ النَّذْرُ بَلْ عَمَّمَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمُمَكَّنَاتِ الْمُسْتَقْبَلَاتِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَيْسَ مِنْ الْمُكْتَسَبَاتِ كَهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَنُزُولِ الْأَمْطَارِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا اكْتِسَابٌ اخْتِيَارِيٌّ فَأَيُّ ذَلِكَ شَاءَ الْمُكَلَّفُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِوُجُوبِ مَنْذُورٍ عَلَيْهِ أَوْ لُزُومِ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ لَهُ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ وَالْوَاجِبِ الْمُتَأَصِّلِ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا قُصُورُ مَصْلَحَتِهِ عَنْ الْوُجُوبِ لِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ مَصْلَحَةُ النَّدْبِ وَالِالْتِزَامُ لَا يُغَيِّرُ الْمَصَالِحَ
ثَانِيهِمَا أَنَّ سَبَبَهُ لَا يُنَاسِبُ الْوُجُوبَ كَالْأَسْبَابِ الْمُقَرَّرَةِ فِي أَصْلِ الشَّرِيعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَوْنُ الْمَنْذُورَاتِ مُسْتَثْنَيَاتٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَهِيَ الِاسْتِثْنَاءُ عَنْ قَاعِدَةِ الْأَسْبَابِ أَشَدُّ بُعْدًا عَنْ الْقَوَاعِدِ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ انْتَقَلَتْ فِيهَا الْمَنْدُوبَاتُ لِلْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتُ فِيهَا أَصْلُ الْمَصْلَحَةِ وَأَمَّا فِي الْأَسْبَابِ فَقَدْ يَحْصُلُ مَا هُوَ قَدْ عَرِيَ عَنْ الْمَصْلَحَةِ أَلْبَتَّةَ كَطَيَرَانِ الْغُرَابِ وَصَرِيرِ الْبَابِ وَعُبُورِ النَّامُوسِ فَلَوْ قَالَ إنْ طَارَ الْغُرَابُ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ دِرْهَمٌ لَزِمَهُ ذَلِكَ أَوْ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَزِمَهُ جَمِيعُ مَا عَلَّقَهُ إذَا وُجِدَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ فَصَارَتْ الْأَسْبَابُ أَبْعَدَ عَنْ الْقَوَاعِدِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَعَ بُعْدِ الْأَحْكَامِ فِي أَنْفُسِهَا فَإِنْ قُلْت كَيْفَ اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ اعْتِبَارَ مَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ وَإِقَامَةَ مَصْلَحَةِ النَّدْبِ لِلْوُجُوبِ مَعَ أَنَّ قَاعِدَةَ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الشَّرَائِعِ أَنَّ الْأَحْكَامَ تَتْبَعَ الْمَصَالِحَ عَلَى اخْتِلَافِ رُتَبِهَا قُلْت الْأَسْبَابُ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَكَمَا أَنَّ عِظَمَ الْمَصْلَحَةِ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي عَادَةِ الشَّارِعِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا سَبَبٌ آخَرُ إذَا فُقِدَتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ وَهِيَ مَصْلَحَةُ أَدَبِ الْعَبْدِ مَعَ الرَّبِّ سبحانه وتعالى فِي أَنَّهُ إذَا وَعَدَ رَبَّهُ بِشَيْءٍ لَا يَخْلُفُهُ إيَّاهُ لَا سِيَّمَا إذَا الْتَزَمَهُ وَصَمَّمَ عَلَيْهِ فَأَدَبُ الْعَبْدِ مَعَ الرَّبِّ سبحانه وتعالى بِحُسْنِ الْوَفَاءِ وَتَلَقِّي هَذِهِ الِالْتِزَامَاتِ بِالْقَبُولِ خُلُقٌ كَرِيمٌ هُوَ سَبَبُ خُلْفِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي فِي نَفْسِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فِي النُّصُوصِ وَهُوَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا وَلَا مَعْنَى لِلْمَجَازِ إلَّا اسْتِعْمَالُ الثَّلَاثِ فِي الِاثْنَيْنِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْمَجَازُ فِي الظَّوَاهِرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ النِّيَّةُ هَا هُنَا مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ أَلْبَتَّةَ (الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ)
إذَا قَالَ كُلُّ حَلَالٍ عَلَيَّ حَرَامٌ وَحَاشَى زَوْجَتَهُ أَيْ نَوَى إخْرَاجَهَا مِنْ مَفْهُومِ الْحَلَالِ جَرَى فِي ذَلِكَ خِلَافُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِالنِّيَّةِ هَلْ يُجْزِئُ فَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ أَوْ لَا فَيَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ عَنْ صَاحِبِ الْجَوَاهِرِ أَنَّ مُنْشَأَ هَذَا الْخِلَافِ النَّظَرُ إلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ فَيُجْزِئُ بِالنِّيَّةِ أَوْ النَّظَرُ إلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَلَا يُجْزِئُ إلَّا نُطْقًا اهـ.
(الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ)
قَالَ اللَّخْمِيُّ قَالَ مُحَمَّدٌ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَقِيت الْقَوْمَ وَنَوَى فِي نَفْسِهِ إلَّا فُلَانًا لَا تُجْزِئُ فِيهِ النِّيَّةُ عَنْ قَوْلِهِ إلَّا فُلَانًا وَيَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ بِالنِّيَّةِ اللَّفْظَ الْمُخْرِجَ أَعْنِي قَوْلَهُ إلَّا فُلَانًا وَلَمْ يَقْصِدْ بِهَا الْإِخْرَاجَ وَالنِّيَّةُ شَأْنُهَا أَنْ تُؤَثِّرَ لَا أَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ مُؤَثِّرٍ آخَرَ وَيُضَافُ التَّأْثِيرُ لِذَلِكَ الْمُؤَثِّرِ الْآخَرِ وَهُوَ قَصَدَ أَنْ يَكُونَ الْإِخْرَاجُ لِلِاسْتِثْنَاءِ لَا لِلنِّيَّةِ وَنَوَى الِاسْتِثْنَاءَ فَهَذَا هُوَ سَبَبُ عَدَمِ تَأْثِيرِهَا وَعَدَمِ اعْتِبَارِهَا، أَمَّا لَوْ قَصَدَ الْإِخْرَاجَ بِهَا هِيَ فَإِنَّهُ يَنْفَعُهُ قَصْدُهُ ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ قَالَ أَيْ اللَّخْمِيُّ وَقِيلَ تَنْفَعُهُ النِّيَّةُ وَتَنُوبُ مَنَابَ الِاسْتِثْنَاءِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لَهُمَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَهَا مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي النُّصُوصِ نَحْوُ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَيْسَ قَابِلًا لِلْمَجَازِ أَلْبَتَّةَ فَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ النِّيَّةُ بِمُفْرَدِهَا فَلَا تَقُومُ مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ فَتَأَمَّلْ فَهَذَا بَيَانُ الْفَرْقِ إجْمَالًا وَتَفْصِيلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
[الفرق بَيْنَ قَاعِدَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ الْحُرْمَةِ إلَى الْإِبَاحَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَعَلَى الرُّتَبِ وَبَيْنَ قَاعِدَة الِانْتِقَالِ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى الْحُرْمَةِ يَكْفِي فِيهَا أَيْسَرُ الْأَسْبَابِ]
(الْفَرْقُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ الْحُرْمَةِ إلَى الْإِبَاحَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَعْلَى الرُّتَبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى الْحُرْمَةِ يَكْفِي فِيهَا أَيْسَرُ الْأَسْبَابِ)
يَقْتَضِي الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ صُوَرًا كَثِيرَةً وَقَعَتْ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْهَا أَنَّ عَقْدَك عَلَى الْأَجْنَبِيَّةِ مُبَاحٌ تَرْتَفِعُ إبَاحَتُهُ لَك بِمُجَرَّدِ عَقْدِ
الْفِعْلِ فَقَدْ يُسْتَفَادُ مِنْ هَيْئَةِ الْفَاعِلِ وَأَحْوَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ مَعَ خَالِقِهِ وَمَعْبُودِهِ مَصَالِحُ عَظِيمَةٌ وَأَيُّ مَصْلَحَةٍ أَعْظَمُ مِنْ الْأَدَبِ حَتَّى قَالَ رُوَيْمٌ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ اجْعَلْ عَمَلَك مِلْحًا وَأَدَبَك دَقِيقًا.
أَيْ اسْتَكْثِرْ مِنْ الْأَدَبِ حَتَّى تَكُونَ نِسْبَتُهُ فِي الْكَثْرَةِ نِسْبَةَ الدَّقِيقِ إلَى الْمِلْحِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَدَبِ مَعَ قَلِيلٍ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعَمَلِ مَعَ قِلَّةِ الْأَدَبِ وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ قَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَتَأَدَّبُوا مَعَهُ كَمَا يَتَأَدَّبُوا مَعَ أَمَاثِلِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُمْكِنُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ وَلَا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ وَلَمَّا كَانَ الْأَدَبُ مَعَ الْمُلُوكِ أَعْظَمَ نَفْعًا لِفَاعِلِهِ وَأَجْدَى عَلَيْهِ مِنْ كَثِيرِ الْخِدْمَةِ مَعَ قِلَّةِ الْأَدَبِ كَانَ الْوَاقِعُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ صِدْقُ الْوَعْدِ وَالْوَفَاءِ بِالِالْتِزَامِ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَفِي مُعَامَلَةِ الْمُلُوكِ وَلَمَّا عَظُمَ هَذَا الْمَعْنَى جُعِلَ هُوَ سَبَبَ الْوُجُودِ بَدَلًا مِنْ الْمَصَالِحِ فِي نَفْسِ الْأَفْعَالِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ لَك أَنَّ النُّذُورَ وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ الْقَوَاعِدِ مِنْ زَيْنِك الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ رَجَعَتْ إلَى الْقَوَاعِدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَصَارَتْ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَا عَرَى الْوُجُوبُ عَنْ مَصْلَحَةٍ تُنَاسِبُهُ وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَيْضًا حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْذُورَاتِ وَالشُّرُوطِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَدَارِكَهَا غَيْرُ مَدَارِكِ الْأَسْبَابِ وَالْوَاجِبَاتِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ مَصَالِحُ غَيْرُ مَصَالِحِ أَنْفُسِ الْأَفْعَالِ.
(الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْرُمُ لِصِفَتِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْرُمُ لِسَبَبِهِ)
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمُتَنَاوَلَاتِ لِلْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ يَحْرُمُ لِصِفَتِهِ وَهُوَ مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ تُنَاسِبُ التَّحْرِيمَ فَيَحْرُمُ أَوْ الْكَرَاهَةَ فَيُكْرَهُ فَالْأَوَّلُ كَالسُّمُومِ تَحْرُمُ لِعِظَمِ مَفْسَدَتِهَا وَالثَّانِي سِبَاعُ الطَّيْرِ أَوْ الضَّبُعِ مِنْ الْوَحْشِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَقِسْمٌ يُبَاحُ لِصِفَتِهِ إمَّا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ كَالْبُرِّ وَاللَّحْمِ الطَّيِّبِ مِنْ الْأَنْعَامِ وَإِمَّا لِعَدَمِ مَفْسَدَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي الْعَالَمِ فَلَا يَكَادُ يُوجَدُ شَيْءٌ إلَّا وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ مَفْسَدَةٌ وَيُمْكِنُ تَنْظِيرُهُ بِأَكْلِ شَعْرَةٍ مِنْ قُطْنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي جَسَدِ ابْنِ آدَمَ وَإِذَا كَانَتْ الْمَوْجُودَاتُ فِي هَذَا الْعَالَمِ إمَّا حَرَامٌ لِصِفَتِهِ أَوْ مُبَاحٌ لِصِفَتِهِ انْبَنَى عَلَى هَذَا قَاعِدَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا حَرُمَ لِصِفَتِهِ لَا يُبَاحُ إلَّا بِسَبَبِهِ وَمَا يُبَاحُ لِصِفَتِهِ لَا يَحْرُمُ إلَّا بِسَبَبِهِ
(فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ) كَالْمَيْتَةِ حُرِّمَتْ لِصِفَتِهَا وَهِيَ اشْتِمَالُهَا عَلَى الْفَضَلَاتِ الْمُسْتَقْذَرَةِ فَلَا تُبَاحُ إلَّا بِسَبَبِهَا وَهُوَ الِاضْطِرَارُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ حَرُمَ لِصِفَتِهِ وَهُوَ الْإِسْكَارِ فَلَا يُبَاحُ إلَّا بِسَبَبِهِ وَهُوَ الْغُصَّةُ
(وَالْقِسْمُ الثَّانِي) كَالْبُرِّ وَلُحُومِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ أُبِيحَتْ لِصِفَاتِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ فَلَا تَحْرُمُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
أَبِيهَا نِكَاحَهَا لِغَيْرِك وَمُجَرَّدُ الْعَقْدِ مِنْ أَيْسَرِ الْأَسْبَابِ وَالْمَبْتُوتَةُ لَا يَذْهَبُ تَحْرِيمُهَا إلَّا بِعَقْدِ الْمُحَلِّلِ وَوَطْئِهِ ثُمَّ عَقْدُ الْبَاتِّ بَعْدَ الْعِدَّةِ وَهَذِهِ رُتْبَةٌ فَوْقَ تِلْكَ الرُّتْبَةِ النَّاقِلَةِ عَنْ الْإِبَاحَةِ بِكَثِيرٍ
(وَمِنْهَا) الْمُسْلِمُ مُحَرَّمُ الدَّمِ وَلَا تَذْهَبُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ إلَّا بِالرِّدَّةِ أَوْ زِنَى بَعْدَ إحْصَانٍ أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ عَمْدًا عُدْوَانًا أَوْ حِرَابَةٍ وَهِيَ أَسْبَابٌ عَظِيمَةٌ فَإِذَا أُبِيحَ دَمُهُ بِالرِّدَّةِ حَرُمَ بِالتَّوْبَةِ أَوْ أُبِيحَ بِقَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ حَرُمَ بِالْعَفْوِ أَوْ أُبِيحَ بِزِنًى بَعْدَ الْإِحْصَانِ حَرُمَ بِالتَّوْبَةِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَلَا بُدَّ مِنْ رَجْمِهِ وَلَوْ تَابَ أَوْ أُبِيحَ بِالْحِرَابَةِ حَرُمَ بِتَوْبَتِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا لِقَوْلِ الْأَصْلِ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ فِيمَا عَلِمْت عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ الْمُحَارِبِ الْحَدُّ وَتَزُولُ إبَاحَةُ دَمِهِ إذَا تَابَ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ وَالتَّوْبَةُ أَيْسَرُ مِنْ الْقَتْلِ
(وَمِنْهَا) الْأَجْنَبِيَّةُ لَا يَزُولُ تَحْرِيمُ وَطْئِهَا إلَّا بِالْعَقْدِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى إذْنِهَا وَوَلِيِّهَا وَصَدَاقٍ وَشُهُودٍ وَيَكْفِي فِي إبَاحَتِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ الطَّلَاقُ فَتَرْتَفِعُ تِلْكَ الْإِبَاحَةُ بِالطَّلَاقِ الَّذِي يَسْتَقِلُّ الزَّوْجُ بِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ
(وَمِنْهَا) الْحَرْبِيُّ مُبَاحُ الدَّمِ وَتَزُولُ إبَاحَتُهُ بِالتَّأْمِينِ وَهُوَ سَبَبٌ لَطِيفٌ وَإِذَا حَرُمَ دَمُهُ بِالتَّأْمِينِ لَا يُبَاحُ إلَّا بِسَبَبٍ قَوِيٍّ يُزِيلُ تِلْكَ الْإِبَاحَةِ مِنْ خُرُوجٍ عَلَيْنَا أَوْ قَصْدٍ لِقَتْلِنَا حِرَابَةً وَخُرُوجًا عَلَى الْإِمَامِ الْعَدْلِ وَكَذَلِكَ تَزُولُ إبَاحَةُ دَمِهِ بِعَقْدِ الْجِزْيَةِ فَإِذَا حَرُمَ دَمُهُ بِعَقْدِ الْجِزْيَةِ لَا يُبَاحُ دَمُهُ بِكُلِّ الْمُخَالَفَاتِ لِعَقْدِ الْجِزْيَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مُخَالَفَةٍ قَوِيَّةٍ كَالتَّمَرُّدِ عَلَى الْإِمَامِ وَنَبْذِ الْعَهْدِ مُجَاهَرَةً وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُحْتَاجَةِ إلَى قُوَّةٍ شَدِيدَةٍ وَمُنَاقَشَةٍ عَظِيمَةٍ وَنَظَائِرُ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ أَعْنِي الْخُرُوجَ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى التَّحْرِيمِ وَالْخُرُوجَ مِنْ التَّحْرِيمِ إلَى الْإِبَاحَةِ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَكِنْ عَدَّ الْأَصْحَابُ مِنْهَا الْحِنْثَ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي صِيغَةِ الْبِرِّ وَعَدَمِ الْبِرِّ إلَّا بِجَمِيعِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي صِيغَةِ الْحِنْثِ وَتَخْرِيجِهِ عَلَى قَاعِدَتَيْهَا بِجَعْلِ الْحِنْثِ خُرُوجًا مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى التَّحْرِيمِ فَيَكْفِي فِيهِ أَيْسَرُ سَبَبٍ فَيَحْنَثُ بِجُزْءِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَكَلَ مِنْهُ لُبَابَهُ لِأَنَّهُ عَلَى بِرٍّ وَإِبَاحَةٍ حَتَّى يَحْنَثَ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ إبَاحَةٍ إلَى حُرْمَةٍ
إلَّا بِسَبَبِهَا وَهُوَ الْغَصْبُ وَالسَّرِقَةُ وَالْعُقُودُ الْفَاسِدَةُ وَنَحْوُهَا فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي هَذَا الْفَرْقِ مُطَّرِدَةٌ فِي جَمِيعِ الْمُتَنَاوَلَاتِ.
(الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَحْرِيمِ سِبَاعِ الْوَحْشِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَحْرِيمِ سِبَاعِ الطَّيْرِ)
اعْلَمْ أَنَّ النَّوَاهِيَ تَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ فَمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا إلَّا لِمَفْسَدَةٍ تَحْصُلُ مِنْ تَنَاوُلِهِ وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ عَادَتَهُ أَنَّ الْأَغْذِيَةَ تَنْقُلُ الْأَخْلَاقَ لِخُلُقِ الْحَيَوَانِ الْمُتَغَذِّي بِهِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ الْعَرَبَ لَمَّا أَكَلَتْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ حَصَلَ عِنْدَهَا فَرْطُ الْإِيثَارِ بِأَقْوَاتِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْإِبِلِ فَيَجُوعُ الْجَمْعُ مِنْ الْإِبِلِ الْأَيَّامَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهَا مَا تَأْكُلُهُ مُجْتَمِعَةً فَيَضَعُ كُلٌّ مِنْهَا فَمَهُ فَيَتَنَاوَلُ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِ مُدَافَعَةٍ عَنْ ذَلِكَ الْحَبِّ وَلَا يَطْرُدُ مَنْ يَأْكُلُ مَعَهُ وَلَا تَزَالُ الْإِبِلُ تَأْكُلُ عَلَفَهَا كَذَلِكَ بِالرِّفْقِ حَتَّى يَفْنَى جَمِيعُهُ مِنْ غَيْرِ مُدَافَعَةِ بَعْضِهَا بَعْضًا بَلْ مُعْرِضَةً عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ مِقْدَارِ مَا أَكَلَهُ غَيْرُهَا مِمَّا يُجَاوِرُهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ تُقَاتِلُ عِنْدَ الِاغْتِذَاءِ عَلَى حَوْزِ الْغِذَاءِ وَتَمْنَعُ مَنْ يَأْكُلُ مَعَهَا أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا وَذَلِكَ مُشَاهَدٌ فِي السِّبَاعِ وَالْكِلَابِ وَالْأَغْنَامِ وَغَيْرِهَا فَانْتَقَلَ ذَلِكَ لِخُلُقِ الْأَعْرَابِ فَحَصَلَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْإِيثَارِ لِلضَّيْفِ مَا لَمْ يَحْصُلْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ كَمَا أَنَّهُ حَصَلَ عِنْدَهُمْ الْحِقْدُ أَيْضًا لِأَنَّ الْجَمَلَ يَأْخُذُ ثَأْرَهُ مِمَّنْ آذَاهُ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَلَا يَزُولُ ذَلِكَ عَنْ خَاطِرِهِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ أَرْبَعًا أَكَلَتْ أَرْبَعًا فَأَفَادَتْهَا أَرْبَعًا أَكَلَتْ الْعَرَبُ لُحُومَ الْإِبِلِ فَأَفَادَتْهَا الْحِقْدَ وَأَكَلَتْ السُّودَانُ الْقُرُودَ فَأَفَادَتْهَا الرَّقْصَ وَأَكَلَتْ الْفِرِنْجُ الْخَنَازِيرَ فَأَفَادَتْهَا عَدَمَ الْغَيْرَةِ وَأَكَلَتْ التُّرْكُ الْخَيْلَ فَأَفَادَتْهَا الْقَسَاوَةَ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهَذِهِ السِّبَاعُ فِي غَايَةِ الظُّلْمِ وَقِلَّةِ الرَّحْمَةِ تَأْكُلُ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ غَيْرِ اكْتِرَاثٍ بِهَلَاكِ تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ وَلَا فَسَادِ أَبْنِيَتِهَا وَلَا مَا تَجِدُهُ مِنْ الْأَلَمِ فِي تَمْزِيقِ أَعْضَائِهَا وَتَثِبُ عَلَى ذَلِكَ وَثَوْبًا شَدِيدًا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ فِي ذَلِكَ لِحَاجَةٍ وَلِغَيْرِ حَاجَةٍ وَذَلِكَ لِفَرْطِ ظُلْمِهَا وَقِلَّةِ رَحْمَتِهَا وَذَلِكَ مُتَوَفِّرٌ فِي سِبَاعِ الْوَحْشِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ فَأَيْنَ الْأَسَدُ مِنْ الْعُقَابِ وَالصَّقْرِ وَأَيْنَ النَّمِرُ وَالْفَهْدُ مِنْ الضَّبُعِ وَالنِّسْرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْحِدَآتِ وَالْغِرْبَانِ وَنَحْوِهَا فَلَمَّا عَظُمَتْ الْمَفْسَدَةُ وَالظُّلْمُ فِي سِبَاعِ الْوَحْشِ حُرِّمَتْ لِئَلَّا يَتَنَاوَلَهَا بَنُو آدَمَ فَتَصِيرُ أَخْلَاقُهُمْ كَذَلِكَ وَلَمَّا قَصُرَتْ مَفْسَدَةُ سِبَاعِ الطَّيْرِ عَنْ ذَلِكَ فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ نَهَضَ عِنْدَهُ ذَلِكَ لِلتَّحْرِيمِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ سُوءِ الْأَخْلَاقِ وَإِنْ قَلَّتْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَنْهَضْ عِنْدَهُ ذَلِكَ لِلتَّحْرِيمِ لِخِفَّةِ أَمْرِهِ فَاقْتَصَرَ بِهِ عَلَى الْكَرَاهَةِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ سِبَاعِ الْوَحْشِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَلَا يَبَرَّ إذَا كَانَ عَلَى حِنْثٍ إلَّا بِفِعْلِ الْجَمِيع فَإِذَا حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّهُ فَلَا يَبَرُّ إلَّا بِأَكْلِ جَمِيعِهِ لِأَنَّهُ عَلَى حِنْثٍ حَتَّى يَبَرَّ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ حُرْمَةٍ إلَى إبَاحَةٍ.
قَالَ الْأَصْلُ هَذَا التَّخْرِيجُ ضَعِيفٌ فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ إنْ ادَّعَوْا لِكَثْرَةِ نَظَائِرِهِمَا فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهُمَا كُلِّيَّتَانِ فِي الشَّرِيعَةِ مَنَعْنَا تِلْكَ الدَّعْوَى لِانْدِرَاجِ صُورَةِ النِّزَاعِ فِيهَا فَلِلْخَصْمِ وَهُوَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه الْقَائِلُ بِعَدَمِ الْحِنْثِ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ تِلْكَ الدَّعْوَى لِأَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ قَلِيلَةٌ وَلَوْ كَانَتْ كَثِيرَةً وَضَمُّوا إلَيْهَا أَمْثَالَهَا فَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الدَّعْوَةَ الْعَامَّةَ الْكُلِّيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِالْمُثُلِ الْجُزْئِيَّةِ فَإِنَّهَا وَلَوْ انْتَهَتْ إلَى الْأَلْفِ اُحْتُمِلَ أَنَّهَا جُزْئِيَّةٌ لَا كُلِّيَّةٌ فَكَمْ مِنْ جُزْئِيَّةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِنَا كُلُّ عَدَدٍ زَوْجٌ: كُلِّيَّةٌ بَاطِلَةٌ بَلْ إنَّمَا تَصْدُقُ جُزْئِيَّةً فِي بَعْضِ الْأَعْدَادِ وَتِلْكَ الْأَعْدَادُ الَّتِي هِيَ زَوْجٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا لَا يُحْصَى عَدَدُهَا وَمَعَ ذَلِكَ فَالْكُلِّيَّةُ كَاذِبَةٌ لَا صَادِقَةٌ، وَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّهَا جُزْئِيَّةٌ احْتَاجُوا فِي تَخْرِيجِ صُوَرِ النِّزَاعِ عَلَيْهِمَا إلَى دَلِيلٍ آخَرَ أَنَّهُمَا جُزْئِيَّتَانِ يُوجِبُ كَوْنَ صُورَةِ النِّزَاعِ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ الْقِيَاسَ فَأَيْنَ الْجَامِعُ الْمُنَاسِبُ لِخُصُوصِ الْحُكْمِ السَّالِمِ عَنْ الْفَوَارِقِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَأَيْنَ هُوَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ.
وَأَمَّا تَخْرِيجُ بَعْضِ الْأَصْحَابِ مَسْأَلَةَ الْحِنْثِ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي صِيغَةِ الْبِرِّ وَعَدَمِ الْبِرِّ إلَّا بِجَمِيعِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي صِيغَةِ الْحِنْثِ عَلَى قَاعِدَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حَيْثُ قَالَ إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ فَهُوَ كَالْأَمْرِ أَوْ لَا يَفْعَلُ فَهُوَ كَالنَّهْيِ وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَجْزَائِهِ فَيَكُونُ فَاعِلُ الْجُزْءِ مُخَالِفًا وَالْمُخَالِفُ حَانِثٌ فَيَكُونُ فَاعِلُ الْجُزْءِ حَانِثًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ إنَّهُ تَخْرِيجٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَجْزَائِهِ لِضَرُورَةِ تَحْصِيلِهِ وَلَا يَتَأَتَّى تَحْصِيلُهُ إلَّا بِتَحْصِيلِ أَجْزَائِهِ كَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَجْزَائِهِ لِضَرُورَةِ تَفْوِيتِهِ وَلَا يَتَأَتَّى تَفْوِيتُهُ إلَّا بِتَفْوِيتِ أَجْزَائِهِ فَإِنَّ أَجْزَاءَ الشَّيْءِ لَا تَكُونُ أَجْزَاءً لَهُ حَقِيقَةً إلَّا بِتَقْدِيرِ اجْتِمَاعِهَا وَأَمَّا قَبْلَ اجْتِمَاعِهَا فَلَيْسَتْ بِأَجْزَاءٍ لَهُ حَقِيقَةً بَلْ بِضَرْبٍ مِنْ الْمَجَازِ وَهُوَ أَنَّهَا صَالِحَةٌ لَأَنْ تَكُونَ أَجْزَاءً لَهُ إذَا اجْتَمَعَتْ اهـ.
فَافْهَمْ قَالَ الْأَصْلُ وَأَحْسَنُ مَا رَأَيْت لِلْأَصْحَابِ فِي مَسْأَلَةِ الْحِنْثِ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي صِيغَةِ
(الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ ذَكَاةِ الْحَيَّاتِ وَقَاعِدَةِ ذَكَاةِ غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ)
قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْحَيَّاتِ إذَا ذُكِّيَتْ فِي مَوْضِعِ ذَكَاتِهَا جَازَ أَكْلُهَا لِمَنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَأَشَارَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ أَنَّهَا تُذَكَّى كَمَا يُذَكَّى الصَّيْدُ وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ إنَّهَا لِأَجْلِ الْعَجْزِ عَنْهَا إذَا جُرِحَتْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ جَسَدِهَا جَازَ تَنَاوُلُهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَهُوَ سَبَبٌ لِهَلَاكِ مُتَنَاوِلِهَا وَلَمْ يُطْلِقْ مَالِكٌ هَذَا الْإِطْلَاقَ بَلْ قَالَ إذَا ذُكِّيَتْ فِي مَوْضِعِ ذَكَاتِهَا وَلَمْ يَقُلْ إذَا ذُكِّيَتْ مِثْلَ الصَّيْدِ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ ذَكَاةَ الْحَيَّاتِ لَا يَحْكُمُهَا إلَّا طَبِيبٌ مَاهِرٌ وَصِفَةُ ذَكَاتِهَا عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْأَطِبَّاءِ إذَا أَرَادُوا اسْتِعْمَالَهَا فِي التِّرْيَاقِ الْفَارُوقِ أَوْ لِمُدَاوَاةِ الْجُذَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَنْ تُمْسَكَ بِرَأْسِهَا وَذَنَبِهَا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ حَذَرًا مِنْ أَنْ يَحْصُلَ لَهَا غَيْظٌ فَيَدُورَ السُّمُّ فِي جَسَدِهَا فَإِذَا أُخِذَتْ.
كَذَلِكَ ثُنِّيَتْ عَلَى مِسْمَارٍ مَضْرُوبٍ فِي لَوْحٍ ثُمَّ تُضْرَبُ بِآلَةٍ حَادَّةٍ كَالْقُدُومِ الْحَادِّ مِثْلَ الْمُوسَى وَنَحْوِهَا مِنْ الْآلَاتِ الْحَادَّةِ الرَّزِينَةِ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ عَلَى تِلْكَ الْخَشَبَةِ وَيَقْصِدُ بِتِلْكَ الضَّرْبَةِ آخَرَ الرَّقَبَةِ مِنْ جِهَةِ رَقَبَتِهَا وَذَنَبِهَا فَإِنَّ بَيْنَ رَأْسِهَا وَوَسَطِهَا مِقْدَارٌ رَقِيقٌ وَبَيْنَ ذَنَبِهَا وَوَسَطِهَا مِقْدَارٌ رَقِيقٌ فَيَتَجَاوَزُ ذَلِكَ الرَّقِيقَ مِنْ الْجِهَتَيْنِ وَيُوصَلُ الْمِقْدَارُ الْغَلِيظُ الَّذِي فِي وَسَطِهَا فَلَا يَتْرُكُ غَيْرَهُ وَيُحَازُ الرَّقِيقَانِ إلَى جِهَةِ الرَّأْسِ وَالذَّنَبِ وَيَقْطَعُ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَجِيزَةٍ فَمَتَى بَقِيَتْ جِلْدَةٌ يَسِيرَةٌ لَمْ تُقْطَعْ مَعَ الْجُمْلَةِ قَتَلَتْ آكِلَهَا لِأَنَّ السُّمَّ حِينَئِذٍ يَجْرِي مِنْ جِهَةِ الرَّأْسِ وَالذَّنَبِ فِي تِلْكَ الْجِلْدَةِ الْيَسِيرَةِ إلَى بَقِيَّةِ جَسَدِهَا الَّذِي هُوَ الْجُزْءُ الْغَلِيظُ بِسَبَبِ مَا يَحْدُثُ لَهَا مِنْ الْغَضَبِ عِنْدَ الْإِحْسَاسِ بِأَلَمٍ الْحَدِيدِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ رحمه الله مَوْضِعُ ذَكَاتِهَا فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَكَاتِهَا وَذَكَاةِ غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ فَهَذَا فَرْقٌ مِنْ جِهَةِ صِفَةِ الذَّكَاةِ وَفِيهَا فَرْقٌ آخَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الذَّكَاةَ شُرِعَتْ فِيهَا لِأَجْلِ السَّلَامَةِ مِنْ سُمِّهَا وَلَا يَكَادُ يَخْرُجُ مِنْهَا دَمٌ عِنْدَ ذَكَاتِهَا أَلْبَتَّةَ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ السَّلَامَةُ مِنْ سُمِّ رَأْسِهَا وَذَنَبِهَا وَلِذَلِكَ تُذَكَّى مِنْ وَسَطِهَا وَشُرِعَتْ الذَّكَاةُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ لِاسْتِخْرَاجِ الْفَضَلَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ أَجْسَادِهَا بِأَسْهَلَ الطُّرُقِ عَلَى الْحَيَوَانِ وَلَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَةِ الْقَيْدِ الْأَخِيرِ فَإِنَّا لَوْ وَسَّطْنَا الْحَيَوَانَ أَوْ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ خَرَجَتْ مِنْهُ الْفَضَلَاتُ لَكِنَّ ذَلِكَ شَاقٌّ عَلَى الْحَيَوَانِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ مَا يَخْرُجُ فَاخْتَارَ الشَّرْعُ قَطْعَ الْأَوْدَاجِ وَالْحُلْقُومِ لِتَخْرُجَ الْفَضَلَاتُ وَهِيَ الدِّمَاءُ وَالْأَخْلَاطُ كُلُّهَا مِنْ الْأَوْدَاجِ وَقَطْعُهَا خَفِيفٌ عَلَى الْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّوَسُّطِ لَوْ ضَرَبَ الْعُنُقَ وَقَطْعُ الْحُلْقُومِ يُوجِبُ قَطْعَ النَّفْسِ لِأَنَّهُ مَجْرَاهُ فَيَخْتَنِقُ الْحَيَوَانُ فَيُسْرِعُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْبِرِّ طَرِيقَةُ الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ وَضَابِطُهَا أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ يُسَاعِدُهُ الدَّلِيلُ فِي بَعْضِ صُوَرِ النِّزَاعِ دُونَ بَعْضِهَا فَيَفْرِضُ الِاسْتِدْلَالَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي يُسَاعِدُهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا.
فَإِذَا تَمَّ لَهُ فِيهَا الدَّلِيلُ بَنَى الْبَاقِيَ مِنْ الصُّوَرِ عَلَيْهَا فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْحَاجِبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ يَقُولُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ الْمَعْطُوفَاتُ نَحْوُ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا وَعَمْرًا، وَالْجُمُوعُ وَالْمُثَنَّيَاتُ نَحْوُ لَا أَكَلْت الْأَرْغِفَةَ أَوْ الرَّغِيفَيْنِ، وَأَسْمَاءُ الْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُفْرَدَةِ كَالرَّغِيفِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْخِلَافُ فِيهَا وَاحِدٌ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه لَا يَحْنَثُ إلَّا بِالْجَمِيعِ وَعِنْدَنَا بِالْبَعْضِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ فَنَقُولُ أَجْمَعنَا عَلَى مَا إذَا قَالَ الْحَالِفُ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا وَلَا عَمْرًا بِصِيغَةِ لَا النَّافِيَةِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَحَدِهِمَا وَاتَّفَقَ النُّحَاةُ عَلَى أَنْ لَا إذَا أُعِيدَتْ فِي الْعَطْفِ أَنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ لِلنَّفْيِ لَا مُنْشِئَةٌ نَفْيًا وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ - وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ - وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر: 19 - 21] فَذَكَرَ لَا فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ مَنْفِيٌّ فَحَيْثُ تُرِكَتْ لَا كَانَ مَعْنَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تُرِكَتْ فِيهِ مُسَاوِيًا لِمَعْنَى الْمَوْضِعِ الَّذِي ذُكِرَتْ فِيهِ غَيْرَ التَّوْكِيدِ وَشَأْنُ التَّوْكِيدِ أَنْ تَكُونَ الْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ مَعَهُ ثَابِتَةً قَبْلَهُ وَإِلَّا كَانَ مُنْشِئًا لَا مُؤَكِّدًا وَلَمَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ التَّحْنِيثُ مَعَ لَا الْمُؤَكِّدَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَبْلَ التَّحْنِيثِ تَحْقِيقًا لِحَقِيقَةِ التَّأْكِيدِ.
وَإِذَا اتَّضَحَ الْحِنْثُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِمُدْرَكٍ صَحِيحٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ الْحِنْثُ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ إذْ لَوْ ثَبَتَ الْحِنْثُ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لَزِمَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ قَائِلٌ بِالْحِنْثِ فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ مَالِكٌ رضي الله عنه وَأَتْبَاعُهُ وَقَائِلٌ بِعَدَمِ الْحِنْثِ فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَأَصْحَابُهُ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَحْنَثُ فِي صُورَةِ الْعَطْفِ دُونَ غَيْرِهَا كَانَ قَوْلًا خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ قَالَ الْأَصْلُ وَلَكِنَّ طَرِيقَةَ الْفَرْضِ وَالْبِنَاءِ ضَعِيفَةٌ لَا تَتِمُّ إلَّا فِي الْمُنَاظَرَةِ جَدَلًا بَعْدَ تَقَرُّرِ الْمَذَاهِبِ أَمَّا وَالْمُجْتَهِدُ يَجْتَهِدُ فَلَا يَصِحُّ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا انْبَنَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ مِنْ قَوْلِ الْمَنَاظِرِ الْآنَ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ
إلَيْهِ الْمَوْتُ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ قَاعِدَةَ تَذْكِيَةِ الْحَيَوَانِ تَعَيَّنَ أَنْ يُخَرَّجَ عَلَيْهَا الْخِلَافُ فِي صُورَةِ الذَّكَاةِ فَمَنْ لَاحَظَ عَدَمَ الْفَضَلَاتِ فِي الْجَرَادِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَمْ يُشْتَرَطْ الذَّكَاةُ فِيهَا وَجَعَلَ اسْتِخْرَاجَ الْفَضَلَاتِ أَصْلًا وَإِرَاحَةَ الْحَيَوَانِ تَبَعًا وَأَجَازَ مَيْتَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ عليه السلام «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ وَالْمَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ» وَمَنْ لَاحَظَ سُرْعَةَ زَهُوقِ الرُّوحِ وَجَعَلَهُ أَصْلًا فِي نَفْسِهِ لَمْ يُجِزْهَا إلَّا بِذَكَاةٍ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ رحمه الله وَمَنْ لَاحَظَ قَاعِدَةً أُخْرَى وَهُوَ إلْحَاقُ النَّادِرِ بِالْغَالِبِ فِي الشَّرِيعَةِ أَسْقَطَ ذَكَاةَ مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ كَالتِّمْسَاحِ وَالتُّرْسِ وَغَيْرِهِمَا نَظَرًا لِغَالِبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ رحمه الله وَمَنْ لَاحَظَ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى وَجَعَلَ مَيْتَةَ الْبَحْرِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لَمْ يُسْقِطْ الذَّكَاةَ فِي هَذَا النَّوْعِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وَهَذِهِ مَيْتَةٌ أَوْ يُلَاحِظُ قَاعِدَةً أُخْرَى وَهِيَ حَمْلُ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبِهِ دُونَ عُمُومِهِ فَيَخْتَصُّ بِالْمَيْتَةِ الَّتِي وَرَدَتْ الْآيَةُ فِيهَا وَهِيَ الْمَيْتَةُ الَّتِي كَانُوا يَأْكُلُونَهَا مِنْ الْحَيَوَانِ الْبَرِيِّ وَيَقُولُونَ تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهَ فَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ وَالْأَسْرَارُ هِيَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ وَلَمْ يَبْقَى مِنْهَا إلَّا ذَكَاةُ الْجَنِينِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا لَمْ تَجْرِ فِيهِ حَيَاةٌ لَمْ تَصِحَّ فِيهِ ذَكَاةٌ لَا مِنْ قِبَلِهِ وَلَا مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ وَلَا يُؤْكَلُ وَإِنْ جَرَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ وَعَلَامَةُ ذَلِكَ عِنْدَنَا كَمَالُ الْخَلْقِ وَنَبَاتُ الشَّعْرِ فَإِنْ ذُكِّيَتْ الْأُمُّ وَخَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ عَلَى الْفَوْرِ كَرِهَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ وَوَقَعَ فِي الْجَلَّابِ تَحْرِيمُهُ وَإِنْ اسْتَهَلَّ صَارِخًا انْفَرَدَ بِحُكْمِ نَفْسِهِ.
وَإِنْ لَمْ تُذَكَّ الْأُمُّ وَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا لَمْ يُؤْكَلْ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ حَيًّا حَيَاةً لَا يَعِيشُ مَعَهَا عَلِمَ ذَلِكَ أَوْ شَكَّ فِيهِ وَإِنْ ذُكِّيَتْ الْأُمُّ فَخَرَجَ مَيِّتًا فَذَكَاتُهَا ذَكَاتُهُ وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَكَاةٍ تَخُصُّهُ وَلَا يَكْفِي فِيهِ ذَكَاةُ أُمِّهِ وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ تُسَرِّعُ زَهُوقَ نَفْسِهِ بِسُهُولَةٍ فَإِنَّهُ كَالْجُزْءِ مِنْهَا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ أَوْ يُلَاحَظُ أَنَّهُ حَيَوَانٌ مُسْتَقِلُّ الْأَعْضَاءِ وَالْفَضَلَاتِ فَيَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ تَخُصُّهُ وَمَوْتُهُ بِمَوْتِ أُمِّهِ مَوْتٌ لَهُ بِالْغَمِّ وَالْآفَاتِ الْحَاصِلَةِ لَهُ فِي مَحَلِّهِ وَالْمَوْتُ بِذَلِكَ لَا يُبِيحُ فِي غَيْرِ صُورَةِ النِّزَاعِ فَكَذَلِكَ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ فَهَذَا مَنْشَأُ الْخِلَافِ مِنْ حَيْثُ الْقَوَاعِدُ وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّصُّ فَقَوْلُهُ عليه السلام «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد يُرْوَى بِرَفْعِ الذَّكَاةِ الثَّانِيَةِ وَنَصْبِهَا فَنَحْنُ وَالشَّافِعِيَّةُ نَعْتَمِدُ عَلَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ وَوَجْهُ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا أَنَّ الْمُبْتَدَأَ يَجِبُ انْحِصَارُهُ فِي الْخَبَرِ وَالْمُبْتَدَأُ هُنَا ذَكَاةُ الْجَنِينِ فَتَنْحَصِرُ فِي زَكَاةِ أُمِّهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَكَاةٍ أُخْرَى وَإِلَّا لَمَّا انْحَصَرَتْ فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ وَاعْتَمَدَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ وَالتَّقْدِيرُ لِوَجْهِ الْحُجَّةِ مِنْهَا أَنَّ هَذَا النَّصْبَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَامِلٍ يَقْتَضِي النَّصْبَ وَتَقْدِيرُهُ عِنْدَهُمْ ذَكَاةُ الْجَنِينِ أَنْ يُذَكَّى ذَكَاةً مِثْلَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
إنَّمَا جَاءَتْنَا بَعْدَ فُتْيَاهُ هُوَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَمُدْرَكُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى فُتْيَاهُ فِيهَا وَبَعْدَ إفْتَاءِ خَصْمِهِ وَهُوَ الْمُجْتَهِدُ الْآخَرُ فِيهَا فَلَهُ أَنْ يَقُولَ مَا ظَهَرَ لَهُ بِالدَّلِيلِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَ قَوْلِهِ إجْمَاعٌ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ خَصْمِهِ فَقَطْ فَإِذَا قَالَ خَصْمُهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدِي فِي الْجَمِيعِ فَلَهُ هُوَ أَنْ يَقُولَ يَحْنَثُ عِنْدِي فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَلَا إجْمَاعَ يَصُدُّهُ حِينَئِذٍ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ اعْتَمَدَ عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ لَمْ يَتَأَتَّ لَهُ ذَلِكَ وَمَتَى كَانَ الْمُنَاظِرُ الْآنَ قَائِمًا مَقَامَ إمَامِهِ وَمُدْرَكُ الْمُنَاظَرِ الْآنَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُدْرَكُ الْمُجْتَهِدِ لَمْ يَحُزْ لِلْمُنَاظِرِ الْآنَ الِاعْتِمَادُ عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ الَّتِي انْبَنَتْ عَلَيْهَا تِلْكَ الطَّرِيقَةُ أَيْضًا فَافْهَمْ اهـ.
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَمَا قَرَّرَهُ فِي بَيَانِ وَجْهِ ضَعْفِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ وَبَيَّنَ عَلِيٌّ أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا عَدَمَ ضَعْفِهَا وَفَرَضْنَا صِحَّةَ إجْمَاعِ النُّحَاةِ عَلَى مَا ذُكِرَ وَكَوْنَ إجْمَاعِهِمْ حُجَّةً وَقُلْنَا بِمُوجَبِ قَوْلِهِ.
وَشَأْنُ التَّوْكِيدِ أَنْ تَكُونَ الْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ مَعَهُ ثَابِتَةً قَبْلَهُ وَإِلَّا كَانَ مُنْشِئًا لَا مُؤَكِّدًا لَا يَلْزَمُ عَنْ قَوْلِنَا بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ مَقْصُودُهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكِ عَنْ النُّحَاةِ أَنَّهُمْ قَالُوا إنَّ لَا إذَا تَكَرَّرَتْ فِي الْعَطْفِ لَا تُفِيدُ فَائِدَةً غَيْرَ تَأْكِيدِ النَّفْيِ بَلْ قَالُوا لَا تُفِيدُ إنْشَاءَ النَّفْيِ بَلْ تَأْكِيدَهُ وَلَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُهَا لَا تُفِيدُ إنْشَاءَ النَّفْيِ بَلْ تَأْكِيدَهُ أَنْ لَا تُفِيدُ شَيْئًا غَيْرَ تَأْكِيدِ النَّفْيِ مَعَ تَأْكِيدِ النَّفْيِ وَهُوَ رَفْعُ احْتِمَالٍ ثَابِتٍ عِنْدَ عَدَمِ تَكْرَارِهَا فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا وَعَمْرًا بِلَا تَكْرَارِ لَا احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الِامْتِنَاعُ مِنْ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا مَعًا لَا مِنْ أَنْ يُكَلِّمَ أَحَدَهُمَا وَثَانِيهِمَا الِامْتِنَاعُ مِنْ أَنْ يُكَلِّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا مَعًا فَإِذَا تَكَرَّرَتْ أَفَادَتْ مَعَ التَّأْكِيدِ تَبَيُّنَ الْوَجْهِ الثَّانِي وَرَفْعَ احْتِمَالِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ إجْمَاعَ النُّحَاةِ وَلَا كَوْنَهُ حُجَّةً نَعَمْ مَسْأَلَةُ الْحِنْثِ بِبَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَإِنْ ضَعُفَ فِيهَا التَّخْرِيجُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَصِحَّ فِيهَا التَّخْرِيجُ الثَّانِي وَلَا الطَّرِيقَةُ الْمَذْكُورَةُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إشْكَالٌ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إشْكَالٌ قَوِيٌّ إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أَنَّ مُدْرَكَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الِاحْتِيَاطُ لِلْإِيمَانِ فَأَخَذَ بِالْأَشَدِّ وَمُدْرَكَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَعْلُهَا عَلَى مُقْتَضَاهَا الْمُتَيَقَّنِ فَأَخَذَ بِالْأَخَفِّ فَتَأَمَّلْ