الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَظْهَرُ فِي بَادِي الرَّأْيِ أَنَّ التَّفْرِيقَ مَتَى حَصَلَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَأَنْ وَجَبَ ابْتِدَاءً الصَّوْمُ كَمَا قُلْنَاهُ فِي جَمِيعِ النَّظَائِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّ الصَّوْمَ بِوَصْفِ التَّتَابُعِ لَمْ يَحْصُلْ وَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ الْمَطْلُوبُ الشَّرْعِيُّ مَعَ إمْكَانِ الْإِتْيَانِ بِهِ وَجَبَ الْإِتْيَانُ بِهِ هَذَا هُوَ الْقَاعِدَةُ
(وَالْجَوَابُ) عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِبَيَانِ قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى قِسْمَيْنِ خِطَابُ وَضْعٍ وَخِطَابُ تَكْلِيفٍ فَخِطَابُ الْوَضْعِ هُوَ نَصْبُ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ وَالتَّقْدِيرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَخِطَابُ التَّكْلِيفِ هُوَ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ وَالنَّدْبُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ فَأَمَّا خِطَابُ الْوَضْعِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ وَلَا قُدْرَتُهُ وَلَا إرَادَتُهُ كَالتَّوْرِيثِ بِالْأَنْسَابِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ وَلَا هُوَ مِنْ قُدْرَتِهِ وَلَا إرَادَتِهِ فَيَدْخُلُ الْمِيرَاثُ فِي مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ وَلِذَلِكَ نُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْغَافِلِينَ وَنُطَلِّقُ بِالْإِضْرَارِ وَنُوجِبُ الظُّهْرَ بِالزَّوَالِ وَالصَّوْمَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ وَخِطَابُ التَّكْلِيفِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ فَمَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ لَا يُكَلَّفُ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ لَا يَلْزَمُهُ حَتَّى يَعْلَمَ بِهِ غَيْرَ أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْعِلْمِ يَقُومُ مَقَامَ الْعِلْمِ فِي التَّكْلِيفِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَبْسُوطَةً فَإِذَا وَضَحَتْ فَنَقُولُ الْمُتَابَعَةُ مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ مُكَلَّفٌ بِهِ وَصِفَةُ الْمُكَلَّفِ بِهِ مُكَلَّفٌ بِهَا وَالتَّتَابُعُ صِفَةُ الصَّوْمِ فَتَكُونُ مُكَلَّفًا بِهَا، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ فَلِذَلِكَ يَسْقُطُ التَّكْلِيفُ بِهَا فِي تِلْكَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَالْوَصَايَا وَالنُّذُورِ فِي الْإِطْلَاقَاتِ،
فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ يَظْهَرْ لَك أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ إذَا وَجَدُوا الْأَئِمَّةَ الْأُوَلَ قَدْ أَفْتَوْا بِفَتَاوَى وَسَطَرُوهَا فِي كُتُبِهِمْ بِنَاءً عَلَى عَوَائِدَ لَهُمْ قَدْ زَالَتْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُفْتُوا بِتِلْكَ الْفَتَاوَى فَإِنَّ فَتْوَاهُمْ بِهَا وَقَدْ زَالَتْ تِلْكَ الْعَوَائِدُ خَطَأٌ ضَرُورَةَ أَنَّهَا فُتْيَا بِالْحُكْمِ الْمَبْنِيِّ عَلَى مُدْرَكٍ بَعْدَ زَوَالِ مُدْرَكِهِ وَالْفُتْيَا بِذَلِكَ الْحُكْمِ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَمِنْ ذَلِكَ فَتْوَى أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ الْيَوْمَ بِلُزُومِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي لَفْظِ الْحَرَامِ وَالْخَلِيَّةِ وَالْبَرِّيَّةِ وَنَحْوِهَا بِنَاءً عَلَى عَادَةٍ كَانَتْ فِي زَمَانِهِ رضي الله عنه وَتِلْكَ الْعَادَةُ قَدْ زَالَتْ فَإِنَّا لَا نَجِدُ الْيَوْمَ أَحَدًا يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ بِالْخَلِيَّةِ وَلَا بِالْبَرِيَّةِ وَلَا بِحَبْلِك عَلَى غَارِبِك وَلَا بِوَهَبْتُكِ لِأَهْلِك، وَلَوْ وَجَدْنَاهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْلًا عُرْفِيًّا يُوجِبُ لُزُومَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ كَثِيرُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَلَفْظَ الشَّمْسِ وَالْبَدْرِ كَثِيرُ الِاسْتِعْمَالِ فِي ذَوَاتِ الْجَمَالِ وَلَفْظَ الْبَحْرِ وَالْغَيْثِ وَالنَّدَى كَثِيرَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْكِرَامِ الْبَاذِلِينَ الْمَالَ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تَصِرْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَنْقُولَةً لِهَذِهِ الْمَعَانِي إذْ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهَا ضَابِطُ الْمَنْقُولِ وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ اللَّفْظُ يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَعْنَى بِغَيْرِ قَرِينَةٍ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مَعَ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِي هَذِهِ الْمَعَانِي لَا تُفْهَمُ مِنْهَا هَذِهِ الْمَعَانِي إلَّا بِالْقَرِينَةِ اهـ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ اهـ.
(وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ) وَالثَّانِي الْمُقَابِلَيْنِ لِلْمَشْهُورِ فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ فَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِيهِ وَمَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِيهِ هُوَ أَنَّ ابْنَ الْقَصَّارِ الْقَائِلَ بِالثَّانِي وَالشَّافِعِيَّ الْقَائِلَ بِالثَّالِثِ قَدْ أَعْرَضَا عَنْ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَاعْتَبَرَا مَا وُضِعَ فِي الْعُرْفِ لِإِزَالَةِ الْعِصْمَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّأْنَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ فَإِنَّ اللَّفْظَ إذَا كَانَ مَوْضُوعًا فِي اللُّغَةِ لِمَعْنًى وَكَانَ لَفْظٌ آخَرُ مَوْضُوعًا فِيهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، ثُمَّ صَارَ فِي الْعُرْفِ مَنْقُولًا لَهُ فَلَا فَرْقَ فَإِنَّ النَّقْلَ الْعُرْفِيَّ كَالْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ وَيَصِيرُ إذْ ذَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فَإِنْ لَمْ يَصِرْ اللَّفْظُ الثَّانِي مَنْقُولًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى وَلَكِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ فَهَا هُنَا يَكُونُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَرْقٌ وَأَنَّ الْأَوَّلَ صَرِيحٌ وَالثَّانِيَ كِنَايَةٌ فَيَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ الْمُعَيِّنَةِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى وَإِيرَادُ الْأَصْلِ عَلَى الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُرُودِ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَصِيرَ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي الشَّرْعِ أَوْ الْعُرْفِ فَإِنَّ الْكِتَابَ الْعَزِيزَ كَمَا يَرِدُ بِالْحَقَائِقِ كَذَلِكَ يَرِدُ بِالْمَجَازَاتِ وَبِالْكِنَايَاتِ الْقَرِيبَةِ وَالْبَعِيدَةِ كَثِيرًا جِدًّا وَيَعْتَمِدُ فِي حُكْمِهِ عَلَى الْقَرَائِنِ وَالتَّصْرِيحِ بِالْمُرَادِ فَلَا يَلِيقُ أَنْ يُجْعَلَ مَا وَرَدَ فِيهِ كَيْفَ كَانَ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي وَرَدَ فِيهِ وَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِدْلَال بِمُجَرَّدِ الْوُرُودِ عَلَى الصَّرَاحَةِ وَالْوَضْعِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى الْمَشْرُوعِيَّةِ اهـ.
رَدَّهُ ابْنُ الشَّاطِّ بِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا وَرَدَ فِيهِ شَيْءٌ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي الشَّرْعِ أَوْ الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُرُودِهِ بِالْكِنَايَاتِ وَالْمَجَازَاتِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى أَصْلًا أَوْ عُرْفًا، بَلْ مَجَازًا حَتَّى لَا يُسْتَدَلَّ بِوُرُودِهِ عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ أَوْ عُرْفِهَا أَوْ عُرْفِ الشَّرْعِ فَإِنَّ الْكِتَابَ الْعَزِيزَ كَمَا يَرِدُ بِالْكِنَايَاتِ وَالْمَجَازَاتِ يَرِدُ أَيْضًا بِالْحَقَائِقِ وَهِيَ الْأَصْلُ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّجَوُّزِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الطَّلَاقِ مِنْ النِّيَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُشْتَرَطُ]
(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الطَّلَاقِ مِنْ النِّيَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُشْتَرَطُ)
لِلنِّيَّةِ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَالْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ ثَلَاثُ إطْلَاقَاتٍ
(الْإِطْلَاقُ الْأَوَّلُ) بِمَعْنَى الْقَصْدِ لِإِنْشَاءِ الصِّيغَةِ
الْأَحْوَالِ لِمُنَافَاةِ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ وَالْمَرَضِ وَالْإِغْمَاءِ وَنَحْوِهَا التَّكْلِيفُ لُطْفًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادِ وَعَدَمِ وَطْءِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ شَرْطٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ افْعَلْ كَذَا قَبْلَ كَذَا أَنَّ التَّقَدُّمَ شَرْطٌ وَلِذَلِكَ يَصْدُقُ قَوْلُنَا اسْتَأْذِنْ الْمَرْأَةَ فِي النِّكَاحِ وَأَحْضِرْ الْوَلِيَّ قَبْلَ الْعَقْدِ أَنَّ هَذَيْنِ شَرْطَانِ، وَكَذَلِكَ اسْتَتِرْ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَتَطَهَّرْ وَانْوِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ شُرُوطٌ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ يُفِيدُ الشَّرْطِيَّةَ كَانَ تَقَدُّمُ الْعَدَمِ شَرْطًا فَلِذَلِكَ قَدَحَ فِيهِ النِّسْيَانُ وَغَيْرُهُ فَإِنَّ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ يَثْبُتُ مُطْلَقًا وَمَا يَثْبُتُ مُطْلَقًا اُعْتُبِرَ مُطْلَقًا، فَيَكُونُ شَرْطًا فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ فَيُؤَثِّرُ فَقْدُهُ وَالتَّكْلِيفُ لَمَّا كَانَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ شَرْطَيْنِ فِيهِ فُقِدَ التَّكْلِيفُ عِنْدَ عَدَمِهِمَا فَإِذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] أَنَّهُ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَيْسَ قَبْلَهُمَا وَطْءٌ وَلَا فِي أَثْنَائِهِمَا وَطْءٌ فَهَذَانِ أَمْرَانِ قَدْ يَتَغَيَّرُ أَحَدُهُمَا بِتَقَدُّمِ الْوَطْءِ فَاسْتَحَالَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُصَدَّقَ أَنَّهُ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَيْسَ قَبْلَهُمَا وَطْءٌ لِأَجْلِ تَقَدُّمِ الْوَطْءِ وَبَقِيَ الْآخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَيْسَ فِي خِلَالِهِمَا وَطْءٌ وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْمُتَعَذِّرَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ وَالْمُمْكِنَ يُسْتَصْحَبُ فِيهِ التَّكْلِيفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وَلِقَوْلِهِ عليه السلام «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» فَلِذَلِكَ قُلْنَا يَبْتَدِي الصَّوْمَ فِي الظِّهَارِ مُتَتَابِعًا إذَا وَطِئَهَا قَبْلَهُ وَإِنْ كَانَ وَصْفُ تَقَدُّمِ عَدَمِ الْوَطْءِ قَدْ تَعَذَّرَ؛ لِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ الْبَاقِي.
وَأَمَّا فِي النَّذْرِ وَنَحْوِهِ فَيَأْتِي
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فِي قَوْلِهِمْ إنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الصَّرِيحِ إجْمَاعًا احْتِرَازًا مِنْ سَبْقِ اللِّسَانِ لِمَا لَمْ يُقْصَدْ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ اسْمُهَا طَارِقًا فَيُنَادِيهَا فَيَسْبِقُ لِسَانُهُ فَيَقُولُ لَهَا يَا طَالِقُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ اللَّفْظَ وَمِثْلُ الصَّرِيحِ الْكِنَايَاتُ الظَّاهِرَةُ فَفِي الْخَرَشِيِّ وَحَاشِيَةِ الْعَدَوِيِّ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْمُخْتَصَرِ وَرُكْنُهُ أَهْلٌ وَقَصْدٌ إلَخْ الْمُرَادُ بِالْقَصْدِ قَصْدُ النُّطْقِ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَيْهِ فِي الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ مَدْلُولَهُ وَهُوَ حَلُّ الْعِصْمَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَلَزِمَ، وَلَوْ هَزَلَ وَقَصَدَ حَلَّهَا فِي الْكِنَايَةِ الْخَفِيَّةِ اهـ
(الْإِطْلَاقُ الثَّانِي) بِمَعْنَى الْقَصْدِ لِاسْتِعْمَالِ الصِّيغَةِ فِي قَوْلِهِمْ النِّيَّةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصَّرِيحِ إجْمَاعًا وَمِثْلُهُ الْكِنَايَةُ الظَّاهِرَةُ كَمَا عَلِمْت فَقَوْلُ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا مِنْ خَصَائِصِ الْكِنَايَاتِ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا مَعْنَى الطَّلَاقِ أَيْ وَهُوَ حَلُّ الْعِصْمَةِ يُرِيدُ الْخَفِيَّةَ لَا الظَّاهِرَةَ
(الْإِطْلَاقُ الثَّالِثُ) بِمَعْنَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ فِي قَوْلِهِمْ فِي لُزُومِ الطَّلَاقِ بِالنِّيَّةِ قَوْلَانِ فَأَطْلَقُوا النِّيَّةَ هَا هُنَا عَلَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ يُرِيدُونَ هَلْ يَلْزَمُ إذَا أَنْشَأَ طَلَاقَهَا بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ كَمَا يُنْشِئُهُ بِكَلَامِهِ اللِّسَانِيِّ أَمْ لَا يَلْزَمُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْوَلِيدِ قَوْلَانِ فَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالنِّيَّةِ وَإِلَّا فَمَنْ قَصَدَ وَعَزَمَ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ عَدَمُهُ لَا يَلْزَمُهُ بِذَلِكَ طَلَاقٌ إجْمَاعًا، وَقَدْ عَبَّرَ ابْنُ الْجَلَّابِ عَنْ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ بِالِاعْتِقَادِ بِقَلْبِهِ فَقَالَ، وَمَنْ اعْتَقَدَ الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَلْفِظْ بِلِسَانِهِ فَفِي لُزُومِ الطَّلَاقِ لَهُ قَوْلَانِ وَلَمْ يَرِدْ حَقِيقَةُ الِاعْتِقَادِ إذْ لَا يَلْزَمُ بِهِ طَلَاقٌ إجْمَاعًا فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بُطْلَانُ اعْتِقَادِهِ بَقِيَتْ لَهُ زَوْجَةً اتِّفَاقًا فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ فِي كَلَامِهِمْ وَأَنَّهَا أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ هَكَذَا يَنْبَغِي تَقْرِيرُ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْأَصْلِ فِي الْإِطْلَاقِ الثَّالِثِ وَحَيْثُ قَالُوا فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الصَّرِيحِ قَوْلَانِ فَيُرِيدُونَ بِالنِّيَّةِ هَا هُنَا الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ وَأَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ النِّيَّةَ هَا هُنَا وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ إذَا أَنْشَأَ طَلَاقَهَا بِكَلَامِهِ اللِّسَانِيِّ فَفِي اشْتِرَاطِ إنْشَائِهِ أَيْضًا بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ قَوْلَانِ وَالْمَشْهُورُ اشْتِرَاطُهُ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْوَلِيدِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَأَنَّهُ إذَا طَلَّقَ بِلِسَانِهِ لَا بُدَّ أَنْ يُطَلِّقَ بِقَلْبِهِ اهـ بِتَوْضِيحٍ لِلْمُرَادِ فَقَدْ نَظَرَ فِيهِ ابْنُ الشَّاطِّ بِقَوْلِهِ مَا قَالَهُ فِي الْإِنْشَاءَاتِ فِيهِ نَظَرٌ اهـ
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ إنَّمَا هُمَا فِي لُزُومِ الطَّلَاقِ إذَا أَنْشَأَهُ بِكَلَامِهِ اللِّسَانِيِّ فَقَطْ وَعَدَمِ لُزُومِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْوَلِيدِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَهُوَ خِلَافُ مَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ إنَّمَا هُمَا فِي لُزُومِهِ إذَا أَنْشَأَهُ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ فَقَطْ وَعَدَمِ لُزُومِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْوَلِيدِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ فَفِي مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ وَفِي لُزُومِهِ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ خِلَافٌ قَالَ الْبُنَانِيُّ (تَوْضِيحُ) الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ إذَا أَنْشَأَ الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ بِكَلَامِهِ النَّفْسَانِيِّ وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ اللُّزُومِ لِمَالِكٍ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَهُوَ الَّذِي يَنْصُرُهُ أَهْلُ الْمَذْهَبِ الْقَرَافِيُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَالْقَوْلُ بِاللُّزُومِ لِمَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ قَالَ فِي الْبَيَانِ وَالْمُقَدِّمَاتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَهُوَ الْأَشْهَرُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ حَلَّ الْعِصْمَةَ الْمُنْعَقِدَةَ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَلُّهَا كَذَلِكَ إنَّمَا يَكْفِي بِالنِّيَّةِ فِي التَّكَالِيفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّيَّةِ لَا فِيمَا بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ اهـ انْتَهَى كَلَامُ الْبُنَانِيِّ بِلَفْظِهِ، بَلْ يُشْعِرُ بِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ الْأَصْلِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ إذَا أَنْشَأَ طَلَاقَهَا بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ كَمَا يُنْشِئُهُ بِكَلَامِهِ اللِّسَانِيِّ فَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالنِّيَّةِ وَعَبَّرَ عَنْهُ ابْنُ الْجَلَّابِ بِالِاعْتِقَادِ بِقَلْبِهِ فَقَالَ، وَمَنْ اعْتَقَدَ عَلَى أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ إنْشَاءَ الطَّلَاقِ بِالْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ فَقَطْ لَا يَتَأَتَّى كَمَا
بِيَوْمٍ غَيْرِ الْيَوْمِ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ نَاسِيًا يَصِلُهُ بِآخِرِ صِيَامِهِ تَكْمِلَةً لِلْعِدَّةِ لَا لِتَحْصِيلِ وَصْفِ التَّتَابُعِ فِي جَمِيعِ الصَّوْمِ، بَلْ فِي آخِرِهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ قَدْ تَعَذَّرَ فَأَفْطَرَ نَاسِيًا وَبَقِيَ تَحْصِيلُهُ فِي آخِرِهِ مُمْكِنًا فَوَجَبَ الْمُمْكِنُ وَسَقَطَ الْمُتَعَذِّرُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ وَأَنْوَاعِ الصَّوْمِ الْمُتَتَابِعِ فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى.
(مَسْأَلَةٌ) قَالَ مَالِكٌ رحمه الله إذَا تَطَوَّعَ بِالصَّوْمِ أَوْ بِالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ وَعَرَضَ عَارِضٌ يَقْتَضِي فَسَادَهُ نَاسِيًا أَوْ مُجْتَهِدًا لَمْ يَجِبْ قَضَاءُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَإِنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا أَوْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى قَاعِدَةِ الْوُجُوبِ بِالشُّرُوعِ مَعَ أَنَّ قَاعِدَةَ الْوُجُوبِ بِالشُّرُوعِ تَقْتَضِي الْقَضَاءَ مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَصَوْمَ رَمَضَانَ يَقْضِيهِمَا إذَا فَسَدَا بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ فَكَانَ يَلْزَمُهُ هُنَا كَذَلِكَ وَهُوَ إشْكَالٌ كَبِيرٌ فَإِنَّ الْوَاجِبَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حَالُهُ
(وَالْجَوَابُ) عَنْهُ أَنَّ وُجُوبَ التَّطَوُّعَاتِ عِنْدَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] نَهَى سبحانه وتعالى عَنْ الْإِبْطَالِ، فَيَكُونُ الْإِكْمَالُ وَاجِبًا مُكَلَّفًا بِهِ وَالتَّكْلِيفُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَا يَجِبُ الْإِتْمَامُ حَالَةَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ فَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ كَذَلِكَ.
وَإِذَا تَعَمَّدَ الْإِفْسَادَ انْدَرَجَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ فِي التَّكْلِيفِ لِحُصُولِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ لِقَوْلِهِ عليه السلام فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رضي الله عنهما فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ «اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ» وَكَانَتَا عَامِدَتَيْنِ لِإِفْسَادِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
يَشْهَدُ لَهُ أَوَّلًا قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا
…
جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا
بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَثَانِيًا تَعْلِيلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَظَهْرِيَّةَ الْقَوْلِ بِعَدَمِ لُزُومِهِ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ فَقَطْ بِمَا تَقَدَّمَ فِي عِبَارَةِ الْبُنَانِيِّ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ هُوَ مَنْشَأُ تَعْبِيرِ الْأَصْلِ فِي الْإِطْلَاقِ الثَّالِثِ بِمَا ذَكَرَ أَوْ يَقُولُ سَيَأْتِي لِلْأَصْلِ نَقْلُهُ عَلَى أَنَّ إلْزَامَ الطَّلَاقِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ إنَّمَا هُوَ إذَا نَطَقَ بِلِسَانِهِ غَيْرَ مُطَلِّقٍ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ كَمَا قَالَ أَيْ مَالِكٌ فِي مَسْأَلَةِ الْبَتَّةِ أَيْ الْآتِيَةِ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ
(وَصْلٌ) فِي تَوْضِيحِ هَذَا الْفَرْقِ وَاَلَّذِي قِيلَ بِمَسَائِلَ
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَوْ أَرَادَ التَّلَفُّظَ بِالطَّلَاقِ فَقَالَ اشْرَبِي أَوْ نَحْوَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْوِيَ طَلَاقَهَا بِمَا تَلَفَّظَ بِهِ فَيَجْتَمِعُ اللَّفْظُ وَالنِّيَّةُ اهـ يَعْنِي أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَصَدَ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِلَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ بِأَنْ قَالَ اسْقِنِي الْمَاءَ أَوْ اُدْخُلِي أَوْ اُخْرُجِي فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوقِعْ الطَّلَاقَ بِلَفْظٍ يُرَادُ الطَّلَاقُ بِهِ وَهُوَ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا بِنِيَّةِ اسْقِنِي أَيْ بِاسْقِنِي الْمُصَاحِبِ لِنِيَّةِ حُصُولِ الطَّلَاقِ حَتَّى يَلْزَمَ الطَّلَاقُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْلُولُهُ الِالْتِزَامِيُّ الطَّلَاقَ وَالْكِنَايَةَ اصْطِلَاحًا اُسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الطَّلَاقِ بِالنِّيَّةِ وَاللَّفْظِ مَعًا لَا مِنْ بَابِ الطَّلَاقِ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ اللَّفْظِ حَتَّى يُقَالَ لَا يَلْزَمُ بِهَا طَلَاقٌ إجْمَاعًا اهـ.
خَرَشِيٌّ بِتَوْضِيحٍ عَلَى أَنَّهُ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِنَايَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَهِيَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ، فَلَيْسَتْ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَلَا كِنَايَةً فَافْهَمْ (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قَالَ مَالِكٌ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَنِيَّتُهُ وَاحِدَةٌ فَسَبَقَ لِسَانُهُ لِلْبَتَّةِ لَزِمَهُ الثَّلَاثُ قَالَ سَحْنُونٌ إذَا كَانَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْوِهِ قَالَ الْأَصْلُ يُرِيدُ أَيْ سَحْنُونٌ أَنَّ اللَّفْظَ وَحْدَهُ لَا يَلْزَمُ بِهِ الطَّلَاقُ وَهُوَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ نِيَّةٌ مَعَ لَفْظِ الثَّلَاثِ فَلِذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ ثَلَاثٌ فِي الْفُتْيَا وَيَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ فِي الْقَضَاءِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) قَالَ صَاحِبُ التَّنْبِيهَاتِ يُؤْخَذُ اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ مَعَ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فِي الْكِتَابِ أَيْ الْمُدَوَّنَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَرَادَ تَعْلِيقَهُ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَيْ عَدَمُ التَّعْلِيقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَهُ نَظَائِرُ قَالَ وَيَتَخَرَّجُ مِنْ قَوْلِهِ أَيْ مَالِكٍ فِي الَّذِي أَرَادَ وَاحِدَةً فَسَبَقَ لِسَانُهُ لِلْبَتَّةِ وَمِنْ هَزْلِ الطَّلَاقِ أَيْضًا إلْزَامُ الطَّلَاقِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، وَكَذَا مَسْأَلَةُ مَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى مِنْ وَثَاقِ وِلَايَتِهِ وَجَاءَ مُسْتَفْتِيًا طَلُقَتْ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ بَرِّيَّةٌ وَلَمْ يَنْوِ بِهِ طَلَاقًا وَلَا يُدَيِّنُ إذْ يُؤْخَذُ النَّاسُ بِأَلْفَاظِهِمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ نِيَّتُهُمْ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَرِينَةٌ مُصَدَّقَةٌ كَأَنْ يَكُونَ جَوَابًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْكِتَابِ، وَقِيلَ يُدَيِّنُ مُطْلَقًا اهـ بِتَصَرُّفٍ.
قَالَ الْأَصْلُ وَوَافَقَ صَاحِبَ التَّنْبِيهَاتِ عَلَى أَنَّ مَسْأَلَةَ الْوَثَاقِ طَلَاقٌ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ اللَّخْمِيُّ مَعَ أَنَّ إلْزَامَ الطَّلَاقِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ إنَّمَا هُوَ إذَا نَطَقَ بِلِسَانِهِ غَيْرَ مُطَلِّقٍ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ كَمَا قَالَ أَيْ مَالِكٌ فِي مَسْأَلَةِ الْبَتَّةِ أَمَّا إذَا صُرِفَ اللَّفْظُ بِقَصْدِهِ عَنْ إزَالَةِ الْعِصْمَةِ إلَى غَيْرِهِ نَحْوُ مَسْأَلَةِ الْوَثَاقِ فَإِلْزَامُ الطَّلَاقِ بِهِ لَوْ قِيلَ إنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ لَمْ يَبْعُدْ؛ لِأَنَّهُ نَظِيرُ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقِيلَ لَهُ: مَا صَنَعْت فَقَالَ هِيَ طَالِقٌ وَأَرَادَ الْإِخْبَارَ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ لَا يَلْزَمُهُ فِي الْفُتْيَا إجْمَاعًا وَنَظِيرُهُ أَيْضًا مَنْ لَهُ أَمَةٌ وَزَوْجَةٌ اسْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حِكْمَةُ، وَقَالَ حِكْمَةُ طَالِقٌ، وَقَالَ نَوَيْت الْأَمَةَ لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ فِي الْفُتْيَا اتِّفَاقًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَثَاقِ عَلَى اللُّزُومِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ الْفُتْيَا، وَقَوْلُهُ وَجَاءَ مُسْتَفْتِيًا وَإِنْ أَوْهَمَ اللُّزُومَ فِي الْفُتْيَا مُعَارَضٌ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ يُؤْخَذُ النَّاسُ بِأَلْفَاظِهِمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ نِيَّتُهُمْ إذْ الْأَخْذُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْحَاكِمِ
ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي حَالَةٍ يَثْبُتُ فِيهَا التَّكْلِيفُ فَبَقِيَتْ الْحَالَةُ الَّتِي لَا يَثْبُتُ فِيهَا التَّكْلِيفُ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَيَقْتَصِرُ بِهِ حَيْثُ وَرَدَ (فَإِنْ قُلْت) الصَّوْمُ فِي رَمَضَانَ وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ يُقْضَيَانِ مُطْلَقًا فَلِمَ لَا أَقْضِي هَذَا مُطْلَقًا، قُلْت الْمَشْهُورُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَيُتَّبَعُ ذَلِكَ الْأَمْرُ عَلَى حَسَبِ وُرُودِهِ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ فِي الْوَاجِبِ الْمُتَّصِلِ مَعَ الْعُذْرِ وَعَدَمِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وَالْمَرَضُ عُذْرٌ، وَقَدْ وَجَبَ مَعَهُ الْقَضَاءُ فَلِذَلِكَ أَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَرِدْ لَنَا فِي التَّطَوُّعَاتِ مِثْلُ ذَلِكَ، بَلْ فِي صُورَةِ عَدَمِ الْعُذْرِ خَاصَّةً فَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ تَبَعٌ لِلْأَمْرِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهَذَا هُوَ تَلْخِيصُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُبْطِلُهُ وَشَرْطُ قَاعِدَةِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَقَاعِدَةِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ.
(الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُطَلَّقَاتِ يَقْضِي قَبْلَ عِلْمِهِنَّ بِالطَّلَاقِ وَأَمَدِ الْعِدَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُنَّ اسْتِئْنَافهَا وَيَكْتَفِينَ بِمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ عِلْمُهُنَّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُرْتَابَاتِ يَتَأَخَّرُ الْحَيْضُ وَلَا يُعْلَمُ لِتَأَخُّرِهِ سَبَبٌ)
فَإِنَّهُنَّ يَمْكُثْنَ عِنْدَ مَالِكٍ رحمه الله تِسْعَةَ أَشْهُرٍ غَالِبَ مُدَّةِ الْحَمْلِ اسْتِبْرَاءً فَإِنْ حِضْنَ فِي خِلَالِهَا احْتَسَبْنَ بِذَلِكَ الْحَيْضِ وَانْتَظَرْنَ بَقِيَّةَ الْأَقْرَاءِ إلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَلَا يَزَلْنَ كَذَلِكَ حَتَّى يَكْمُلَ لَهُنَّ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
دُونَ الْمُفْتِي وَثَانِيًا بِاشْتِرَاطِهِ الْقَرِينَةَ فَإِنَّ الْمُفْتِيَ يَتْبَعُ الْأَسْبَابَ وَالْمَقَاصِدَ دُونَ الْقَرَائِنِ وَإِلَّا فَيَلْزَمُ مُخَالَفَةُ الْقَوَاعِدِ وَيَتَعَذَّرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ أَيْ مَسْأَلَةِ الْوَثَاقِ وَبَيْنَ مَا ذَكَرَ مِنْ النَّظَائِرِ فَافْهَمْ
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) ذَهَبَ إمَامُنَا وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُك وَنَوَى عَدَدًا لَزِمَهُ مَا نَوَاهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا نَوَى الثَّلَاثَ لَزِمَهُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ مُحْتَجًّا بِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يُفِيدُ إلَّا أَصْلَ الْمَعْنَى فَالزَّائِدُ يَكُونُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَالنِّيَّةُ لَا تُوجِبُ طَلَاقًا وَاحْتِجَاجُهُ هَذَا مَدْفُوعٌ بِوَجْهَيْنِ
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ لَفْظَ ثَلَاثًا مَعَ صَرِيحِ الطَّلَاقِ كَلَفْظِ دِرْهَمًا مَعَ نَحْوِ عِشْرِينَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَدَدِ، فَكَمَا أَنَّ لَفْظَ دِرْهَمًا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ عِنْدِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا يُفِيدُ اخْتِصَاصَ الْعَدَدِ بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لُغَةً كَذَلِكَ لَفْظُ ثَلَاثًا فِي نَحْوِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يُخَصَّصُ اللَّفْظُ بِالْبَيْنُونَةِ وَكُلُّ مَا كَانَ يَحْصُلُ مَعَ الْمُفَسَّرِ كَتَخْصِيصِ صَرِيحِ الطَّلَاقِ بِالْبَيْنُونَةِ مَعَ لَفْظِ ثَلَاثًا وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْمُفَسَّرَ إنَّمَا جُعِلَ لِفَهْمِ السَّامِعِ لَا لِثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَوَجَبَ أَنْ يُعَدَّ مَنْطُوقًا بِهِ فِيهِ إذْ الْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ بَيَانٍ لِمُجْمَلٍ يُعَدُّ مَنْطُوقًا بِهِ فِي ذَلِكَ الْمُجْمَلِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] لَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ الصَّلَوَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لَكِنْ لَمَّا وَرَدَ الْبَيَانُ مِنْ السُّنَّةِ فِي خُصُوصِيَّاتِهَا وَهَيْئَتِهَا وَأَحْوَالِهَا عُدَّ ذَلِكَ ثَابِتًا بِلَفْظِ الْقُرْآنِ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ بِالْقُرْآنِ
(الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَافَقْنَا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا أَوْ طَلَّقْتُك أَوْ طَلِّقِي نَفْسَك وَنَوَى الثَّلَاثَ لَزِمَتْهُ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا وَإِلَّا فَمَا الْفَارِقُ
(الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ) حَكَى صَاحِبُ كِتَابِ مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي أَنَّ الرَّشِيدَ كَتَبَ لَيْلَةً إلَى قَاضِيهِ أَبِي يُوسُفَ يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ:
فَإِنْ تَرْفُقِي يَا هِنْدُ فَالرِّفْقُ أَيْمَنُ
…
وَإِنْ تَخْرِقِي يَا هِنْدُ فَالْخَرْقُ أَشْأَمُ
فَأَنْتِ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ
…
ثَلَاثًا وَمَنْ يَخْرِقْ أَعَقُّ وَأَظْلَمُ
فَبِينِي بِهَا أَنْ كُنْتِ غَيْرَ رَفِيقَةٍ
…
وَمَا لِامْرِئٍ بَعْدَ الثَّلَاثِ مُقَدَّمُ
فَقَالَ مَاذَا يَلْزَمُهُ إذَا رَفَعَ الثَّلَاثَ، وَإِذَا نَصَبَهَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فَقُلْت هَذِهِ مَسْأَلَةٌ نَحْوِيَّةٌ فِقْهِيَّةٌ وَلَا آمَنُ الْخَطَأَ فِيهَا إنْ قُلْت فِيهَا بِرَأْيِي فَأَتَيْت الْكِسَائِيَّ وَهُوَ فِي فِرَاشِهِ فَسَأَلْته فَقَالَ إنْ رَفَعَ ثَلَاثٌ طَلُقَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَلَاقٌ وَأَخْبَرَ أَنَّ الطَّلَاقَ التَّامَّ ثَلَاثٌ وَإِنْ نَصْبَهَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَمَا بَيْنَهُمَا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ فَكَتَبْت بِذَلِكَ إلَى الرَّشِيدِ أَوَّلَ اللَّيْلِ إثْرَ إرْسَالِهِ بِالسُّؤَالِ فَأَرْسَلَ إلَيَّ آخِرَ اللَّيْلِ بِغَالًا مُوسَقَةً قُمَاشًا وَتُحَفًا جَائِزَةً عَلَى الْجَوَابِ فَوَجَّهْت بِهَا إلَى الْكِسَائِيّ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَعَانَنِي عَلَى الْجَوَابِ اهـ.
قَالَ الْأَمِيرُ عَلَى الْمُغْنِي وَالْأَبْيَارِيُّ عَلَيْهِ تَخْرِقِي مِنْ بَابِ فَتَحَ وَكَرَمَ وَأَيْمَنَ تَفْضِيلٌ مِنْ الْيُمْنِ الْبَرَكَةِ ضِدَّ أَشْأَمَ وَالْخَرْقُ الْعُنْفُ وَزْنًا وَمَعْنًى هُنَا اسْمٌ لَا غَيْرُ وَبِفَتْحِ الْخَاءِ وَالرَّاءِ مَصْدَرٌ وَاسْمٌ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ الْقَامُوسِ وَيَأْتِي بِمَعْنَى الدَّهْشِ لِخَوْفٍ أَوْ حَيَاءٍ وَعَدَمِ إتْقَانِ الْعَمَلِ بِالْيَدِ أَيْضًا، وَمَنْ يَخْرِقْ جَعَلَهَا ابْنُ يَعِيشَ شَرْطِيَّةً حَذَفَ صَدْرَ جَوَابِهَا أَيْ فَهُوَ أَعَقُّ، وَقَالَ الدَّمَامِينِيُّ مَوْصُولَةٌ خَبَرُهَا أَعَقُّ وَتَسْكِينُ يَخْرِقْ لِلتَّخْفِيفِ كَقِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو فِي نَحْوِ يَأْمُرْكُمْ فَأَصْلُهُ الرَّفْعُ، وَقَوْلُهُ أَنْ كُنْت بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَلَامُ الْعِلَّةِ مُقَدَّرَةٌ مَعَهَا فَالْمَعْنَى بِينِي أَيْ ابْعَدِي عَنِّي وَفَارِقِينِي بِهَذِهِ التَّطْلِيقَاتِ لِأَجْلِ أَنْ كُنْت غَيْرَ رَفِيقَةٍ أَيْ لَمْ يَكُنْ فِيك رِفْقٌ وَلِينٌ، بَلْ شُؤْمٌ وَعُنْفٌ وَمُقَدَّمُ اسْمُ مَفْعُولٍ بِمَعْنَى التَّقَدُّمِ أَيْ الْمَصْدَرِ فَهُوَ مِنْ قَدَّمَ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ فَالْمَعْنَى لَيْسَ لِأَحَدٍ تَقَدُّمٌ إلَى الْخَمْسَةِ مَثَلًا بَعْدَ إيقَاعِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهَا نِهَايَةُ الطَّلَاقِ اهـ وَبُحِثَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِوُجُوهٍ
(الْوَجْهُ
ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ أَوْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ فَإِذَا انْقَضَتْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لَيْسَ فِي خِلَالِهَا حَيْضٌ اسْتَأْنَفْنَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ كَمَالَ السَّنَةِ فَإِنْ حِضْنَ قَبْلَ السَّنَةِ بِلَحْظَةٍ اسْتَأْنَفْنَ الْأَقْرَاءَ حَتَّى تَمْضِيَ سَنَةٌ لَا حَيْضَ فِيهَا وَوَافَقَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رضي الله عنه.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنهما تَنْتَظِرُ الْحَيْضَ إلَى سِنِّ الْإِيَاسِ حُجَّةُ مَالِكٍ رحمه الله قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه أَيُّمَا امْرَأَةٍ طَلُقَتْ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ رُفِعَتْ عَنْهَا حَيْضَتُهَا فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ بَانَ بِهَا حَمْلٌ فَذَاكَ وَإِلَّا اعْتَدَّتْ بَعْدَ التِّسْعَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ؛ وَلِأَنَّهُنَّ بَعْدَ التِّسْعَةِ يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ إذْ لَوْ كَانَ لَظَهَرَ غَالِبًا فَيَنْدَرِجْنَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] إذَا تَقَرَّرَ هَذَا بَقِيَ السُّؤَالُ الْمُحْوِجُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَقَاعِدَةِ تَقَدُّمِ الْعَدَدِ قَبْلَ الْعِلْمِ فَإِنَّهُنَّ إذَا مَضَى لَهُنَّ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لَا حَيْضَ فِيهَا فَقَدْ مَضَى لَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فِي خِلَالِهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَةِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أُخَرَ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَبَيْنَ الثَّلَاثَةِ تَمْضِي قَبْلَ الْعِلْمِ وَالْمَقْصُودُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ بِمُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا حَمْلٌ.
وَقَدْ حَصَلَتْ فَالْمَوْضِعُ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذِهِ النِّسْوَةَ وَإِنْ انْكَشَفَ الْغَيْبُ عَنْ إيَاسِهِنَّ إلَّا أَنَّ الْعِدَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بَعْدَ سَبَبِهَا وَإِنْ عُلِمَ حُصُولُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ قَبْلَ السَّبَبِ فَإِنَّ مَنْ غَابَ عَنْ امْرَأَةٍ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْعَشْرِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا فَإِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ وَهِيَ الْعَشْرُ سِنِينَ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ غَيْرَ أَنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ وَقَعَتْ قَبْلَ السَّبَبِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْأَوَّلُ) لِصَاحِبِ الْمُغْنِي أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُنْظَرَ لِمَا أَرَادَهُ هَذَا الشَّاعِرُ الْمُعَيَّنُ فَيُقَالُ هُوَ إنَّمَا أَرَادَ الثَّلَاثَ لِقَوْلِهِ بَعْدُ فَبِينِي بِهَا، الْبَيْتَ، وَإِمَّا أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ قَوَاعِدِ الْفُقَهَاءِ وَاسْتِحْسَانَاته م فَيُقَالُ الصَّوَابُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ مُحْتَمِلٌ لِوُقُوعِ الثَّلَاثِ وَلِوُقُوعِ الْوَاحِدَةِ أَمَّا الرَّفْعُ فَلِأَنَّ " الـ " فِي الطَّلَاقِ إمَّا لِمَجَازِ الْجِنْسِ كَمَا تَقُولُ الرَّجُلُ الْمُعْتَدُّ بِهِ وَإِمَّا لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ مِثْلُهَا فِي {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] أَيْ، وَهَذَا الطَّلَاقُ الْمَذْكُورُ عَزِيمَةً ثَلَاثٌ وَلَا تَكُونُ لِلْجِنْسِ الْحَقِيقِيِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْإِخْبَارُ عَنْ الْعَامِّ بِالْخَاصِّ كَمَا يُقَالُ الْحَيَوَانُ إنْسَانٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ إذْ لَيْسَ كُلُّ حَيَوَانٍ إنْسَانٌ وَلَا كُلُّ طَلَاقٍ عَزِيمَةٌ وَلَا ثَلَاثٌ فَعَلَى الْجِنْسِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ كَمَا قَالَ الْكِسَائِيُّ وَعَلَى الْعَهْدِيَّةِ تَقَعُ الثَّلَاثُ، وَهَذَا مِمَّا فَاتَ الْكِسَائَيَّ.
وَأَمَّا النَّصْبُ فَلِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَأَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ فَيَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ حَيْثُ جُعِلَ مَعْمُولًا لِطَلَاقِ الْأَوَّلِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ إذْ الْمَعْنَى فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَاعْتُرِضَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ أَوْ جُعِلَ مَعْمُولًا لِلطَّلَاقِ الثَّانِي وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ أَمَّا إذَا جُعِلَ مَفْعُولًا لِطَلَاقِ الثَّانِي وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ فَلَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الثَّلَاثِ، بَلْ وَاحِدَةٍ وَلَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي عَزِيمَةٍ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَصْدَرًا مُؤَوَّلَةٌ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ كَمَا أَنَّ طَلَاقَ مُؤَوَّلٌ بِطَالِقٍ فَلَا يَلْزَمُ وُقُوعُ الثَّلَاثِ وَإِنْ احْتَمَلَهَا بِجَعْلِ " الـ " لِلْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى وَالطَّلَاقَ عَزِيمَةٌ إذَا كَانَ ثَلَاثًا بِمَعْنَى أَنَّ الْفِرَاقَ بِهِ حَالَ كَوْنِهِ ثَلَاثًا فَإِنَّمَا يَقَعُ مَا نَوَاهُ اهـ بِتَصَرُّفٍ وَتَوْضِيحٍ قَالَ الْبُنَانِيُّ قَالَ ابْنُ غَازِيٍّ وَهُوَ تَحْرِيرٌ عَجِيبٌ اهـ.
وَبَقِيَ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ مَعَ النَّظَرِ إلَى قَوَاعِدِ الْفُقَهَاءِ وَاسْتِحْسَانَاته م وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُقَالُ إنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ إذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ الْوَاحِدَةَ وَغَيْرَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا وَاحِدَةٌ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا وَاحِدَةٌ رَفَعَ أَوْ نَصَبَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ إذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ ذَلِكَ مُرَاعَاةً لِلِاحْتِيَاطِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا الثَّلَاثُ رَفَعَ أَوْ نَصَبَ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ حَوَاشِي الْمُغْنِي لِلْأَمِيرِ وَالْأَبْيَارِيِّ قَالَ عبق عَلَى خَلِيلٍ مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا لُزُومُ الثَّلَاثِ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ احْتِيَاطًا اهـ أَيْ وَلَا يُلْتَفَتُ لِمُطَابَقَةِ النَّحْوِ وَلِذَا قَالَ الشَّيْخُ الْعِمَادِيُّ مُجِيبًا لِلشَّيْخِ أَحْمَدَ الدَّمَنْهُورِيِّ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ هَذَا:
وَمَذْهَبُنَا الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ مَالِكٍ
…
وُقُوعُ ثَلَاثٍ مُطْلَقًا وَهُوَ أَسْلَمُ
إلَى أَنْ قَالَ:
، وَقَدْ قَالَ فِي الْمُغْنِي خِلَافَ الَّذِي جَرَى
…
كَمَا لِلدَّمَامِينِيِّ بِنَصٍّ يُتَرْجَمُ
وَإِنْ انْتِصَابًا وَارْتِفَاعًا كِلَاهُمَا
…
يُفِيدُ احْتِمَالَيْهِ بِذَلِكَ صَمَّمُوا
فَيُحْتَمَلُ التَّوْحِيدُ دُونَ ثَلَاثَةٍ
…
وَيُحْتَمَلُ التَّوْقِيفُ وَالْوَقْفُ أَفْخَمُ
اهـ كَنُونٍ.
وَأَجَابَ ابْنُ الصَّائِغُ عَنْ الِاحْتِمَالِ مَعَ الرَّفْعِ بِاخْتِيَارِ الشِّقِّ الْأَوَّلِ وَاعْتِمَادِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ الْوَاحِدَةَ وَغَيْرَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا وَاحِدَةٌ فَصَحَّ أَنَّهُ عَلَى الرَّفْعِ طَلُقَتْ وَاحِدَةٌ كَمَا فِي حَوَاشِي الْأَمِيرِ عَلَى الْمُغْنِي وَأَيَّدَهُ فِي الْقَصْرِ بِأَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ اخْتِيَارَهُ الشِّقَّ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي كَمَا زَعَمَ الشُّمُنِّيُّ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ تَعْبِيرِ الْمُغْنِي بِالصَّوَابِ الْمُقْتَضِي أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْكِسَائِيُّ خَطَأٌ، الثَّانِي أَنَّ السَّائِلَ لَهُ أَجَلُّ فَقِيهٍ فَلَا يَحْسُنُ قَطْعُ النَّظَرِ عَنْ قَوَاعِدِ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَابِهِ وَالْكِسَائِيُّ لَمْ يَكُنْ غَرًّا فِي تِلْكَ الْقَوَاعِدِ
وَالْوَاقِعُ قَبْلَ السَّبَبِ مِنْ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَالصَّلَاةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالصَّوْمِ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى جَعَلَ الْإِيَاسَ سَبَبًا لِلْعِدَّةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَهُ عَلَيْهَا بِصِيغَةِ الْفَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] فَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى السَّبَبِيَّةِ فِي الْإِيَاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ كَقَوْلِنَا اقْطَعُوا السَّارِقَ وَاجْلِدُوا الزَّانِيَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الْمُتَقَدِّمَةَ أَسْبَابٌ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا كَذَلِكَ هَاهُنَا يَكُونُ الْإِيَاسُ سَبَبًا لِلِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَالْوَاقِعُ مِنْ الْأَشْهُرِ قَبْلَ كَمَالِ التِّسْعَةِ وَاقِعٌ قَبْلَ إيَاسِنَا وَإِيَاسِهِنَّ مِنْ الْحَيْضِ، فَيَكُونُ وَاقِعًا قَبْلَ سَبَبِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيَتَعَيَّنُ اسْتِئْنَافُ ثَلَاثَةٍ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ.
وَأَمَّا الْمُطَلَّقَاتُ تَمْضِي لَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَقَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ يَمْضِي لَهُنَّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ بَعْدَ الْوَفَاةِ وَقَبْلَ عِلْمِهِنَّ بِأَنَّ تِلْكَ الْآجَالَ عِدَدٌ وَقَعَتْ بَعْدَ أَسْبَابِهَا وَهِيَ الْوَفَاةُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِلْمُ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ لَيْسَ سَبَبًا إجْمَاعًا وَالْإِيَاسُ هُنَا سَبَبٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَحَقَّقَ كَمَا تَحَقَّقَتْ الْوَفَاةُ وَالطَّلَاقُ فَلِذَلِكَ لَمْ تَحْصُلْ الْعِدَّةُ قَبْلَهُ كَمَا لَا تَعْتَدُّ قَبْلَ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ وَالتَّبَايُنُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَإِنَّمَا كَانَتْ الْعَرَبِيَّةُ وَالْقِرَاءَةُ أَغْلَبَ عَلَيْهِ اهـ.
وَأَجَابَ الْأَصْلُ عَنْ الِاحْتِمَالِ مَعَ النَّصْبِ بِأَنَّ الْمُرَجِّحَ لِجَعْلِهِ مَعْمُولًا لِطَلَاقِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَوْ تَمْيِيزٌ هُوَ أَنَّهُ مُنَكَّرٌ يَحْتَمِلُ سَبَبُ تَنَكُّرِهِ جَمِيعَ مَرَاتِبِ الْجِنْسِ وَأَعْدَادِهِ وَأَنْوَاعِهِ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ التَّنْكِيرِ فَاحْتَاجَ لِلتَّمْيِيزِ لِيَحْصُلَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْمُنَكَّرِ الْمَجْهُولِ،
وَأَمَّا الطَّلَاقُ الثَّانِي فَبِتَعْرِيفِهِ وَاسْتِغْرَاقِهِ النَّاشِئِ عَنْ لَامِ التَّعْرِيفِ يُسْتَغْنَى عَنْ الْبَيَانِ اهـ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ الِاسْتِغْرَاقُ الْمَجَازِيُّ الْحَقِيقِيُّ لِمَا عَلِمْته فِي كَلَامِ الْمُغْنِي الْمُتَقَدِّمِ فَلَا تَغْفُلْ نَعَمْ قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ يُمْكِنُ عَلَى إرَادَةِ الْكُلِّ الْمَجْمُوعِيِّ أَيْ لَا كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّ مَجْمُوعَ أَفْرَادِ الطَّلَاقِ ثَلَاثٌ وَالْمَجْمُوعُ خَاصٌّ، فَيَكُونُ إخْبَارًا عَنْ خَاصٍّ بِخَاصٍّ وَرَدَّهُ الشُّمُنِّيُّ بِأَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ عِنْدَهُمْ مِنْ بَابِ الْكُلِّيَّةِ أَيْ الْحُكْمِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ وَلِهَذَا امْتَنَعَ وَصْفُ الْمُفْرَدِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ حَرْفُ الِاسْتِغْرَاقِ بِنَعْتِ الْجَمْعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَإِنْ حَكَاهُ الْأَخْفَشُ فِي نَحْوِ الدِّينَارِ الصُّفْرِ وَالدَّرَاهِمِ الْبِيضِ أَمِيرٌ بِتَوْضِيحٍ
(الْوَجْهُ الثَّانِي) قَالَ الْأَمِيرُ فِي حَوَاشِي الْمُغْنِي شَنَّعَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ عَلَى الْمُصَنِّفِ يَعْنِي ابْنَ هِشَامٍ بِأَنَّهُ جَهِلَ بِمَقَامِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةَ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ فَلَا يَحْتَاجُ أَبُو يُوسُفَ إلَى مُرَاجَعَةِ الْكِسَائِيُّ قُلْنَا أَيْ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ هَذَا مِنْ تَعَاوُنِ الْعُلَمَاءِ وَمُشَارَكَتِهِمْ خُصُوصًا أَهْلَ دَوْلَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ عَيْنُ إمَامِيَّةِ أَبِي يُوسُفَ وَكَمَالِهِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِرَأْيِهِ مَعَ عَدَمِ احْتِيَاجِهِ وَهَكَذَا شَأْنُ السَّلَفِ وَلَعَمْرِي الْكِسَائِيّ أَحَدُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ وَإِمَامُ الْعَرَبِيَّةِ يَتَكَلَّمُ مَعَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ اهـ بِلَفْظِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ قَالَ الْأَمِيرُ أَيْضًا قِيلَ الصَّوَابُ أَنَّ السُّؤَالَ مِنْ الْكِسَائِيّ لِمُحَمَّدٍ قُلْنَا أَيْ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ تَعَدُّدُ الْوَاقِعَةِ مُمْكِنٌ اهـ بِلَفْظِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
2 -
(الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ) فِي بِدَايَةِ ابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ مَالِكٍ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ دُونِ الثَّلَاثِ فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك وَمِثْلُ الْبَتَّةِ وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ حَيْثُ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَهُ فِي الْخُلْعِ.
وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَيُصَدِّقُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ دُونِ الثَّلَاثِ فِيهَا؛ لِأَنَّ طَلَاقَ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بَائِنٌ وَيُقْبَلُ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ دُونِ الثَّلَاثِ فِيهَا مُطْلَقًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِالْكِنَايَاتِ كُلِّهَا مَعَ هَذِهِ الْقَرِينَةِ إلَّا بِأَرْبَعٍ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك وَاعْتَدِّي وَاسْتَبْرِي وَتَقَنَّعِي؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ الْمُحْتَمَلَةِ غَيْرِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُحْتَمَلَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِمَا إنَّهُ يَعْتَبِرُ فِي الْمُحْتَمَلَةِ نِيَّةً اهـ مُلَخَّصًا وَلَا يَخْفَاك أَنَّ إطْلَاقَهُ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ فِي تَقْسِيمِهَا مِنْ أَنَّ بَتَّةً وَحَبْلَك عَلَى غَارِبِك مِمَّا يَلْزَمُ بِهِ ثَلَاثٌ وَلَا يَنْوِي مُطْلَقًا مِثْلُ وَأَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ مِمَّا يَلْزَمُ فِيهِ الثَّلَاثُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا كَغَيْرِهَا إنْ لَمْ يَنْوِ أَقَلَّ نَعَمْ قَدْ مَرَّ عَنْ الْأَصْلِ أَنَّ الْمَدَارَ فِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْعُرْفُ فَلَعَلَّ مَا تَقَدَّمَ مَبْنِيٌّ عَلَى عُرْفٍ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى عُرْفٍ آخَرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
2 -
(الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ) فِي حَاشِيَةِ الْعَطَّارِ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ قَالَ الْقَرَافِيُّ، قُلْت يَوْمًا لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ إنَّ الْقُرَّاءَ الْتَزَمُوا قَاعِدَةَ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ لِلْعُمُومِ فِي الْأُصُولِ وَخَالَفُوهَا فِي الْفُرُوعِ حَيْثُ قَالُوا لَوْ قَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَبَبُ الْمُخَالَفَةِ أَنَّ الْأَيْمَانَ تَتْبَعُ الْمَنْقُولَاتِ الْعُرْفِيَّةَ دُونَ الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ إذَا تَعَارَضَا، وَقَدْ انْتَقَلَ اللَّامُ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ لِحَقِيقَةِ