الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ بِغَيْرِ مَالٍ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ فِي عَدَمِ التَّبَرُّعِ وَهَذِهِ قَاعِدَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ نَصَّ عَلَيْهَا ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ وَصَاحِبُ الْجَوَاهِرِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ وَلَا تَخْتَصُّ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بِمَا يَجِبُ عَلَى الْمَدْفُوعِ عَنْهُ كَالدَّيْنِ، بَلْ يَنْدَرِجُ فِيهَا غُسْلُ الثَّوْبِ وَخِيَاطَتُهُ وَرَمْيُ التُّرَابِ مِنْ الدَّارِ وَنَحْوُ ذَلِكَ عَلَى الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَجْعَلُ مَالِكٌ لِسَانَ الْحَالِ قَائِمًا مَقَامَ لِسَانِ الْمَقَالِ فَكَأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ بِلِسَانِ مَقَالِهِ وَخَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَجَعَلَ الْأَصْلَ فِي فِعْلِ الْغَيْرِ التَّبَرُّعَ.
وَإِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ بِلِسَانِ الْمَقَالِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَمَنْ لَاحَظَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَهُوَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ فَيَقُولُ الْمُعْتِقُ قَامَ عَنْ الْمُعْتَقِ عَنْهُ بِوَاجِبٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَيُقَدَّرُ انْتِقَالُ مِلْكِهِ عَنْهُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ قَبْلَ صُدُورِ الْعِتْقِ بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ حَتَّى يَثْبُتَ الْوَلَاءُ وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ بِقَاعِدَةِ النِّيَّةِ فَإِنَّهُ يَشْتَرِطُهَا وَهِيَ مُتَعَذِّرَةٌ مَعَ الْغَفْلَةِ وَنُجِيبُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْعِتْقِ عَنْ الْمَيِّتِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ الْفَرْقُ بِأَنَّ الْحَيَّ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْعِتْقِ عَنْ نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ بَابُ التَّقَرُّبِ فَنَاسَبَ أَنْ يُوَسِّعَ الشَّرْعُ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَهُ الْقِيَاسُ عَلَى أَخْذِ الزَّكَاةِ كُرْهًا مَعَ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهَا وَيُفَرَّقُ أَيْضًا بِأَنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ لِأَجْلِ امْتِنَاعِ الْمَالِكِ وَهَاهُنَا الْمُعْتَقُ عَنْهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَبِأَنَّ مَصْلَحَةَ الزَّكَاةِ عَامَّةٌ فَيُوَسَّعُ فِيهَا لِعُمُومِ الضَّرُورَةِ بِخِلَافِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهَا قَلِيلَةٌ وَهِيَ خَاصَّةٌ فَلَا يُخَالِفُ فِيهَا قَاعِدَةَ النِّيَّةِ وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ قَاعِدَةَ النِّيَّةِ وَهِيَ مَنْفِيَّةٌ حَالَةَ عَدَمِ الْإِذْنِ وَأَشْهَبُ يَقُولُ الْإِذْنُ مِنْ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
عِنْدَ قَوْلِهِ قَبْلُ إلَّا أَنْ يُسْتَحَقَّ شَيْءٌ فَيَلْزَمَ وَكُلُّهُمْ سَاقُوهُ كَأَنَّهُ الْمَذْهَبُ وَلَمْ يَحْكُوا غَيْرَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ كَلَامُ الرَّهُونِيِّ بِتَصَرُّفٍ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
(خَاتِمَةٌ) نَسْأَلُ اللَّهَ حُسْنَهَا اعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ اعْتِبَارَ الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ هُنَا عِنْدَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ تَارَةً وَعَدَمَ اعْتِبَارِهَا تَارَةً كَمَا عَلِمْت مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَرْقِ الَّذِي فَاتَ الْأَصْلَ ذِكْرُهُ فِي فُرُوقِهِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْعَادَةِ الْمُحَكَّمَةِ وَالْعَادَةِ الْغَيْرِ الْمُحْكَمَةِ وَأَنَا أُحَرِّرُهُ لَك هُنَا لِيَتَّضِحَ لَك الْمَقَامُ بِحَوْلِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ فَأَقُولُ قَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي كِتَابِهِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ الْفِقْهِيَّةِ مَا خُلَاصَتُهُ إنَّ الْعَادَةَ الْمُحَكَّمَةَ مَا تَحَقَّقَ فِيهَا شَرْطَانِ
(الشَّرْطُ الْأَوَّلُ) الِاطِّرَادُ فَلَا تُعْتَبَرُ الْمُطَرِّبَةُ وَفِي اعْتِبَارِ مَا تَعَارَضَتْ فِي اعْتِبَارِهَا لِظُنُونٍ خِلَافٌ
(الشَّرْطُ الثَّانِي) أَنْ لَا تَتَعَارَضَ مَعَ شَرْعٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَالْإِقْدَامُ عَلَيْهَا قَطْعًا مَثَلًا إذَا أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ لَمْ يَدْخُلْ وَرَثَتُهُ عَمَلًا بِتَخْصِيصِ الشَّرْعِ إذْ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ قَالَ وَأَصْلُهَا قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» قَالَ الْعَلَائِيُّ وَلَمْ أَجِدْهُ مَرْفُوعًا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَصْلًا وَلَا بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ بَعْدَ طُولِ الْبَحْثِ وَكَثْرَةِ الْكَشْفِ وَالسُّؤَالِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَاعْتِبَارُ الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ رَاجِعٌ إلَيْهِ مَسَائِلُ فِي الْفِقْهِ لَا تُعَدُّ كَثْرَةً قَالَ فَتُعْتَبَرُ وَتُقَدَّمُ حَتَّى عَلَى الشَّرْعِ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ بِالسَّمَكِ وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ لَحْمًا أَوْ لَا يَجْلِسُ عَلَى بِسَاطٍ أَوْ تَحْتَ سَقْفٍ أَوْ فِي ضَوْءِ سِرَاجٍ لَمْ يَحْنَثْ بِالْجُلُوسِ عَلَى الْأَرْضِ وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ بِسَاطًا وَلَا تَحْتَ السَّمَاءِ وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ سَقْفًا وَلَا فِي الشَّمْسِ وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ سِرَاجًا أَوْ لَا يَضَعُ رَأْسَهُ عَلَى وَتَدٍ لَمْ يَحْنَثْ بِوَضْعِهَا عَلَى جَبَلٍ وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ وَتَدًا أَوْ لَا يَأْكُلُ مَيْتَةً أَوْ دَمًا لَمْ يَحْنَثْ بِالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ فَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ يُقَدَّمُ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى الشَّرْعِ لِأَنَّهَا اسْتَعْمَلَتْ فِيهِ تَسْمِيَةٌ بِلَا تَعَلُّقِ حُكْمٍ وَتَكْلِيفٍ قَالَ وَفِي تَقْدِيمِهِ عَلَى اللُّغَةِ إذَا تَعَارَضَ مَعَهَا لِأَنَّهُ مُحْكَمٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ سِيَّمَا الْأَيْمَانُ أَوْ تَقْدِيمُ اللُّغَةِ عَمَلًا بِالْوَضْعِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ فِي حَقِّ الْعَرَبِيِّ فَقَطْ أَمَّا الْعَجَمِيُّ فَيُعْتَبَرُ عُرْفُهُ قَطْعًا إذْ لَا وَضْعَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْعُرْفُ الْخَاصُّ فَإِنْ كَانَ مَحْصُورًا لَمْ تُؤَثِّرْ مُعَارَضَتُهُ لِلْعُرْفِ الْعَامِّ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْصُورٍ اُعْتُبِرَ وَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْعَامِّ فِي الْأَصَحِّ فَافْهَمْ اهـ.
وَمِنْهُ تَعْلَمُ أَنَّ الْعَادَةَ الْغَيْرَ الْمُحْكَمَةَ مَا انْتَفَى عَنْهَا أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُطْرِبَةَ لَمْ تَتَقَرَّرْ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى تُعْتَبَرَ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِمُعَارَضَتِهَا لِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ حُكْمُهَا مُنْكَرًا مِنْ بَقَايَا الْجَاهِلِيَّةِ فِي كُفْرِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَعُكُوفِهِمْ عَلَى عَوَائِدِهِمْ الَّتِي جَاءَ الشَّرْعُ بِإِبْطَالِهَا فَمَنْ اسْتَحَلَّهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ حُكِمَ بِكُفْرِهِ وَارْتِدَادِهِ كَمَا فِي بُغْيَةِ الْمُسْتَرْشِدِينَ عَنْ أَحْكَامِ النَّوَازِلِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَنْ فَتَاوَى بَامَخْرَمَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِيهِ]
(الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِيهِ) .
وَذَلِكَ أَنَّ الصَّرِيحَ لُغَةً كَمَا فِي الْمُخْتَارِ كُلُّ خَالِصٍ أَيْ لِقَوْلِ الْعَرَبِ لَبَنٌ صَرِيحٌ إذَا لَمْ يُخَالِطْهُ شَيْءٌ وَنَسَبٌ صَرِيحٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَائِبَةٌ مِنْ غَيْرِهِ وَعَلَيْهِ فَاللَّفْظُ الصَّرِيحُ مَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْبُعْدِ وَشَرْعًا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ
بَابِ الْكَلَامِ وَالْإِبَاحَةِ وَالنِّيَّةُ مِنْ بَابِ الْمَقَاصِدِ وَالْإِرَادَةِ فَلَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَصْدُ الْإِنْسَانِ لِعِتْقِ مِلْكِ غَيْرِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه إنْ دَفَعَ لَهُ جُعْلًا أَجْزَأَ وَإِلَّا فَلَا لِلْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ فَتَخْرُجُ بِالْجُعْلِ عَنْ الْهِبَةِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى قَصْدٍ فَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ هِيَ سِرُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مُشْكِلَةٌ وَأَشْكَلَ مِنْهَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ عَبْدُ الْحَقِّ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعِتْقُ عَنْ الْغَيْرِ تَطَوُّعًا بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَهَذَا أَشْكَلُ مِنْ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ دَلَالَةُ الْحَالِ دُونَ الْمَقَالِ وَهَاهُنَا لَا دَلَالَةَ حَالٍ وَلَا يُقَالُ فَلَا يُتَّجَهُ وَيَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ الْعِتْقِ عَنْ الْوَاجِبِ.
وَمَنْ يَشْتَرِطُ الْإِذْنَ يَقُولُ الْإِذْنُ تَضَمَّنَ الْوَكَالَةَ فِي نَقْلِ مِلْكِهِ لِلْآذِنِ وَعِتْقِهِ عَنْهُ بَعْدَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ وَيَكُونُ الْمَأْذُونُ لَهُ وَكِيلًا فِي الْأَمْرَيْنِ وَمُتَوَلِّيًا لِطَرَفَيْ الْعَقْدِ وَالْمُوجِبُ لِهَذِهِ التَّقَادِيرِ كُلِّهَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّصَرُّفُ إلَّا بِهَا وَمَا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ إلَّا بِهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ صَوْنًا لِلْكَلَامِ عَنْ الْإِلْغَاءِ فَهَذَا تَحْرِيرُ هَذَا الْفَرْقِ وَتَحْرِيرُ مَسَائِلِهِ.
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (فَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ هِيَ سِرُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مُشْكِلَةٌ وَأَشْكَلُ مِنْهَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ عَبْدُ الْحَقِّ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعِتْقُ عَنْ الْغَيْرِ تَطَوُّعًا بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَهَذَا أَشْكَلُ مِنْ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ دَلَالَةُ الْحَالِ دُونَ الْمَقَالِ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ) ، قُلْت لَا إشْكَالَ فِي ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ عِبَادَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا وَلَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الْإِذْنِ وَلَا إلَى تَقْدِيرِ الْمِلْكِ وَالْوَكَالَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ بَعْدُ صَحِيحٌ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فِي الْمُقَدِّمَاتِ فِي الصَّرِيحِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فَعِنْدَ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ لَفْظُ الطَّلَاقِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ، وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ الصَّرِيحُ الطَّلَاقُ وَمَا اشْتَهَرَ مَعَهُ كَالْخَلِيَّةِ وَالْبَرِّيَّةِ وَنَحْوِهِمَا، وَقِيلَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ كَالطَّلَاقِ وَالسَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وقَوْله تَعَالَى {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وقَوْله تَعَالَى {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ وَبِمَاذَا يَلْزَمُ هَلْ بِالنِّيَّةِ فَقَطْ لِمَالِكٍ وَيُرِيدُ بِالنِّيَّةِ التَّطْلِيقَ بِالْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ، وَقِيلَ بِاللَّفْظِ فَقَطْ قَالَ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا هَذَا فِي الْفُتْيَا، وَأَمَّا فِي الْقَضَاءِ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتِهِ وَلَا يُصَدَّقُ اتِّفَاقًا اهـ
(وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ) مِنْ الثَّلَاثَةِ فِي الصَّرِيحِ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ فَفِي مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ وَلَفْظَةُ طَلَّقْت وَأَنَا طَالِقٌ أَوْ أَنْتِ أَوْ مُطَلَّقَةٌ أَوْ الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ لَا مُنْطَلِقَةٌ وَتَلْزَمُ وَاحِدَةٌ إلَّا لِنِيَّةِ أَكْثَرَ اهـ قَالَ الْبُنَانِيُّ أَيْ لَفْظُ الصَّرِيحِ مَحْصُورٌ فِي الْأَلْفَاظِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى مَا فِي ضج عَنْ الْقَرَافِيِّ مِنْ أَنَّ كَلَامَ الْفُقَهَاءِ يَقْتَضِي أَنَّ الصَّرِيحَ هُوَ مَا كَانَ فِيهِ الْحُرُوفُ الثَّلَاثَةُ الطَّاءُ وَاللَّامُ وَالْقَافُ وَهُوَ مُشْكِلٌ لِشُمُولِهِ نَحْوُ مُنْطَلِقَةٍ وَمَطْلُوقَةٍ فَلِذَا عَدَلَ هُنَا عَنْ ضَبْطِ الصَّرِيحِ بِمَا ذَكَرَ إلَى ضَبْطِهِ بِالْأَلْفَاظِ الْأَرْبَعَةِ اهـ بِلَفْظِهِ أَيْ وَنَحْوِ مُنْطَلِقَةٍ وَمَطْلُوقَةٍ مِنْ الْكِنَايَاتِ الْخَفِيَّةِ لَا الظَّاهِرَةِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مِنْ الصَّرِيحِ كَمَا سَيَأْتِي فَمِنْ هُنَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِسُكُونِ الطَّاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ لَا تَكُونُ طَلَاقًا إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالنِّسَاءِ وَهُوَ مُتَّجَهٌ
(وَالْقَوْلُ الثَّانِي) مِنْ الثَّلَاثَةِ فِي الَّذِي يَلْزَمُ بِهِ الصَّرِيحُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْخَرَشِيِّ عِنْدَ قَوْلِ الْخَرَشِيِّ قَوْلُهُ وَفِي لُزُومِهِ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ خِلَافٌ يَعْنِي أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَنْشَأَ الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ كَمَا يُنْشِئُهُ بِلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ بِلِسَانِهِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِذَلِكَ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ خِلَافٌ فِي التَّشْهِيرِ، وَلَيْسَ مَعْنَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ أَنْ يَنْوِيَ الطَّلَاقَ وَيُصَمِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَبْدُوَ لَهُ، وَلَا أَنْ يَعْتَقِدَ الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ بِلِسَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ طَلَاقٌ إجْمَاعًا اهـ بِلَفْظِهِ.
وَالْكِنَايَةُ لُغَةً مَا فِيهِ خَفَاءٌ وَمِنْهُ كَنَيْتَهُ أَبَا عَبْد اللَّهِ كَأَنَّك أَخْفَيْت الِاسْمَ بِالْكُنْيَةِ تَعْظِيمًا لَهُ وَفِي الصِّحَاحِ يُقَالُ كَنَيْت وَكَنَوْتُ وَكُنْيَتُهُ بِضَمِّ الْكَافِّ وَكَسْرِهَا وَاصْطِلَاحًا هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ لُغَةً وَسِرُّ الْفَرْقِ إمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْمَشْهُورِ مِنْ الثَّلَاثَةِ فِي الصَّرِيحِ فَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ إمَّا أَنْ يَدُلَّ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَإِمَّا أَنْ لَا يَدُلَّ بِالْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ فَإِنْ دَلَّ اللَّفْظُ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ صِيغَةُ الطَّلَاقِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ، نَحْوُ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مُطَلَّقَةٌ، وَقَدْ طَلَّقْتُك أَوْ الطَّلَاقُ لَازِمٌ لِي أَوْ قَدْ أَوْقَعْت عَلَيْك الطَّلَاقَ وَأَنَا طَالِقٌ مِنْك كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ لِخَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ فَهُوَ الصَّرِيحُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعٌ لِإِزَالَةِ قَيْدِ الْعِصْمَةِ خَاصَّةً عَلَى الصَّحِيحِ لَا لِإِزَالَةِ مُطْلَقِ الْقَيْدِ وَخَصَّهُ الْعُرْفُ بِإِزَالَةِ قَيْدِ الْعِصْمَةِ خَاصَّةً كَمَا زَعَمَ الْأَصْلُ قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَكَوْنُ هَذِهِ الصِّيَغِ وَقَعَتْ فِي الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ إخْبَارَاتٌ لَا يَضُرُّ إمَّا لِأَنَّ الشَّرْعَ يُقَدِّرُ وُقُوعَ مُخْبَرِهَا قَبْلَ النُّطْقِ بِهَا بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ لِضَرُورَةِ تَصْدِيقِهِ، وَإِذَا صَارَ صَادِقًا لَزِمَهُ مَا نَطَقَ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ كَمَا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي صِيَغِ الْعِتْقِ وَجَمِيعِ صِيَغِ الْعُقُودِ مِنْ بِعْت وَاشْتَرَيْت وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا كَمَا وَقَعَتْ فِيهِ إخْبَارَاتٌ كَذَلِكَ وَقَعَتْ فِيهِ إنْشَاءَاتٌ كَمَا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ فَيَبْقَى النَّظَرُ فِي كَوْنِهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ
(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ)
الْقُرُبَاتُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ قِسْمٌ حَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي ثَوَابِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ نَقْلَهُ لِغَيْرِهِمْ كَالْإِيمَانِ فَلَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَهَبَ قَرِيبَهُ الْكَافِرَ إيمَانَهُ لِيَدْخُلَ الْجَنَّةَ دُونَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ إنْ كَفَرَ الْحَيُّ هَلَكَا مَعًا أَمَّا هِبَةُ الثَّوَابِ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَقِيلَ الْإِجْمَاعُ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَقِيلَ الْإِجْمَاعُ فِيهَا وَقِسْمٌ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ فِي نَقْلِ ثَوَابِهِ لِلْمَيِّتِ وَهُوَ الْقُرُبَاتُ الْمَالِيَّةُ كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَقِسْمٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ فِيهِ حَجْرٌ أَمْ لَا وَهُوَ الصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رضي الله عنهما.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ فَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رضي الله عنهما يَحْتَجَّانِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا هُوَ فِعْلٌ بَدَنِيٌّ وَالْأَصْلُ فِي الْأَفْعَالِ الْبَدَنِيَّةِ أَنْ لَا يَنُوبَ أَحَدٌ فِيهَا عَنْ الْآخَرِ وَلِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، وَلِقَوْلِهِ عليه السلام «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَصَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ» وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَنْبَلٍ بِالْقِيَاسِ عَلَى الدُّعَاءِ فَإِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ يَصِلُ لِلْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ وَالْكُلُّ عَمَلٌ بَدَنِيٌّ وَلِظَاهِرِ قَوْلِهِ عليه السلام لِلسَّائِلِ «صَلِّ لَهُمَا مَعَ صَلَاتِك وَصُمْ لَهُمَا مَعَ صَوْمِك يَعْنِي أَبَوَيْهِ» وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى الدُّعَاءِ لَا يَسْتَقِيمُ فَإِنَّ الدُّعَاءَ فِيهِ أَمْرَانِ
(أَحَدُهُمَا) مُتَعَلِّقُهُ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُهُ نَحْوَ الْمَغْفِرَةِ فِي قَوْلِهِمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ أَوْ مَنْقُولَةً مِنْ الْخَبَرِ إلَى الْإِنْشَاءِ وَكِلَاهُمَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.
وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ لَكِنَّهُ إمَّا أَنْ يُحْسِنَ اسْتِعْمَالَهُ فِيهِ مَجَازًا لِوُجُودِ الْعَلَاقَةِ الْقَرِيبَةِ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا فِي الْمُدَوَّنَةِ، نَحْوُ أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ بَتَّةٌ أَوْ بَتْلَةٌ أَوْ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك أَوْ أَنْتِ حَرَامٌ أَوْ كَالْمَيْتَةِ أَوْ الدَّمِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ الْفِرَاقُ أَوْ السَّرَاحُ أَوْ اعْتَدِّي فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ فَالْخَلِيَّةُ الْفَارِغَةُ وَالْفَرَاغُ حَقِيقَةٌ فِي خُلُوِّ جِسْمٍ مِنْ جِسْمٍ فَشَبَّهَ بِهِ خُلُوَّ الْمَرْأَةِ مِنْ عِصْمَةِ النِّكَاحِ وَالْبَرِيَّةُ مِنْ الْبَرَاءَةِ وَهُوَ مُطْلَقُ السَّلْبِ كَيْفَ كَانَ الْمَسْلُوبُ وَالْبَائِنُ مِنْ الْبَيْنِ وَهُوَ الْبُعْدُ بَيْنَ الْأَجْسَامِ وَيُقَالُ فِي الْمَعَانِي بَوْنٌ لَا بَيْنٌ شَبَّهَ الْبُعْدَ مِنْ الْعِصْمَةِ بِالْبُعْدِ بَيْنَ الْجِسْمَيْنِ، وَالْبَتُّ الْقَطْعُ فِي جِسْمٍ شَبَّهَ بِهِ قَطْعَ الْعِصْمَةِ، وَكَذَلِكَ الْبَتْلَةُ وَمِنْهُ فَاطِمَةُ الْبَتُولُ رضي الله عنها لِانْقِطَاعِهَا فِي الشَّرَفِ عَنْ النِّسَاءِ، وَقِيلَ لِانْقِطَاعِهَا عَنْ الْأَزْوَاجِ إلَّا عَلِيًّا رضي الله عنه وَمِنْهُ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك؛ لِأَنَّ عَادَةَ الدَّابَّةِ فِي الرَّعْيِ إذَا أَمْسَكَ صَاحِبُهَا حَبْلَهَا لَا تَتَهَنَّى فِي الرَّعْيِ لِتَوَهُّمِهَا أَنَّهُ يَجُرُّهَا بِهِ، وَإِذَا أَرَادَ تَهْنِئَتَهَا بِالرَّعْيِ أَلْقَى حَبْلَهَا عَلَى كَتِفِهَا وَهُوَ غَارِبُهَا فَتَطْمَئِنُّ حِينَئِذٍ فَشَبَّهَ بِهِ طَلَاقَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى مُخَلَّاةً لِنَفْسِهَا، وَكَذَلِكَ الْبَوَاقِي، وَإِمَّا أَنْ لَا يُحْسِنَ اسْتِعْمَالَهُ فِيهِ مَجَازًا لِعَدَمِ وُجُودِ الْعَلَاقَةِ الْقَرِيبَةِ، بَلْ إمَّا أَنْ تُوجَدَ بَيْنَهُمَا الْعَلَاقَةُ الْبَعِيدَةُ فَإِذَا اعْتَمَدَ فِيهِ عَلَيْهَا سُمِّيَ مَجَازُ التَّعْقِيدِ.
وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى مَنْعِهِ كَقَوْلِهِ تَزَوَّجْت بِنْتَ الْأَمِيرِ مُرِيدًا رَأَيْت وَالِدَ عَاقِدِ الْأَنْكِحَةِ بِالْمَدِينَةِ مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ مِنْ لَوَازِمِهِ الْعَاقِدُ؛ لِأَنَّهُ مُبِيحُهُ وَالْعَاقِدُ مِنْ لَوَازِمِهِ أَبُوهُ؛ لِأَنَّهُ مُوَلِّدُهُ.
وَأَمَّا أَنْ لَا تُوجَدَ بَيْنَهُمَا عَلَاقَةٌ أَلْبَتَّةَ لَا قَرِيبَةٌ وَلَا بَعِيدَةٌ، وَهَذَا الْقِسْمُ بِنَوْعَيْهِ هُوَ مَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ أَيْ ظَاهِرَةٍ، بَلْ هُوَ الْكِنَايَةُ الْخَفِيَّةُ قَالَ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ هَذَا نَحْوُ قَوْلِهِ اسْقِنِي الْمَاءَ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ لُزُومُهُ وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي تَعْلِيلِهِ فَقِيلَ هُوَ طَلَاقٌ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لِعَدَمِ صَلَاحِيَّةِ اللَّفْظِ، وَقِيلَ بَلْ اللَّفْظُ كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ وَضْعَهُ الْآنَ لِلطَّلَاقِ وَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ إنْشَاءَ الْوَضْعِ لَا تَجِدُهُ يَخْطِرُ بِبَالِ النَّاسِ فِي الْعَادَةِ عِنْدَ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ وَصَحَّحَ ابْنُ الشَّاطِّ تَعْلِيلَ الْأَصْلِ بِأَنَّهُ عَبَّرَ بِلَفْظِ نَحْوِ اسْقِنِي عَنْ الطَّلَاقِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ وَلَا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ عَلَى حَدِّ التَّعْبِيرِ عَنْ الْأَرْضِ بِالسَّمَاءِ، وَعَنْ السَّمَاءِ بِالْأَرْضِ وَنَحْوِهِ مِمَّا نَصَّ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا عُرِّيَ فِي اسْتِعْمَالِهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ هَا هُنَا أَنْ يُقَالَ إنَّ لَفْظَ نَحْوِ الْأَكْلِ أَوْ السَّقْيِ إذَا أَطْلَقَهُ الْمُسْتَعْمِلُ وَأَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا عَرَبِيًّا وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ كَوْنِهِ لَيْسَ عَرَبِيًّا أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقًا بِالنَّصْبِ أَوْ الْخَفْضِ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا عَرَبِيًّا وَمَعَ ذَلِكَ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ قَالَ الْخَطَّابُ أَيْ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ جَاهِلًا فَوَاضِحٌ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَهَازِلٌ وَهَزْلُهُ جَدٌّ أَفَادَهُ عَبَقٌ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا، وَقِيلَ لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ.
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِالنِّيَّةِ لَا يَلْزَمُ وَاللَّفْظُ لَا يَصْلُحُ إمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّوْقِيفِ وَأَنَّ اللُّغَاتِ وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَلِقَوْلِ الْمَازِرِيِّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ وَالْغَزَالِيِّ فِي الْبَسِيطِ لَا يَجُوزُ أَيْ عَلَى التَّوْقِيفِ لِأَحَدٍ أَنْ يَضَعَ لَفْظًا لِمَعْنًى أَلْبَتَّةَ، بَلْ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ فِي الْبَسِيطِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْدُقَ أَلْفًا أَيْ يُسَلِّمَهُ صَدَاقًا وَيُعَبِّرَ عَنْهُ بِأَلْفَيْنِ لِلتَّجَمُّلِ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالِاصْطِلَاحِ وَأَنَّ اللُّغَاتِ وَضَعَهَا أَهْلُ اللُّغَةِ أَوْ عَلَى مَذْهَبِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عَدَمِ الْجَزْمِ بِالتَّوْقِيفِ وَالِاصْطِلَاحِ فَلِعَدَمِ الْعَلَاقَةِ الْقَرِيبَةِ الْمُصَحِّحَةِ
وَالْآخَرُ ثَوَابُهُ فَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يُرْجَى حُصُولُهُ لِلْمَيِّتِ وَلَا يَحْصُلُ إلَّا لَهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا دَعَا لِلْمَيِّتِ بِالْمَغْفِرَةِ
(وَالثَّانِي) وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى الدُّعَاءِ فَهُوَ الدَّاعِي فَقَطْ، وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ مِنْ الثَّوَابِ عَلَى الدُّعَاءِ شَيْءٌ فَالْقِيَاسُ عَلَى الدُّعَاءِ غَلَطٌ وَخُرُوجٌ مِنْ بَابٍ إلَى بَابٍ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِمَّا أَنْ نَجْعَلَهُ خَاصًّا بِذَلِكَ الشَّخْصِ أَوْ نُعَارِضَهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَنُعَضِّدَهَا بِأَنَّهَا عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِانْتِقَالِ وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ إذَا قُرِئَ عِنْدَ الْقَبْرِ حَصَلَ لِلْمَيِّتِ أَجْرُ الْمُسْتَمِعِ وَهُوَ لَا يَصِحُّ أَيْضًا لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ يَتْبَعُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فَمَا لَا أَمْرَ فِيهِ وَلَا نَهْيَ لَا ثَوَابَ فِيهِ بِدَلِيلِ الْمُبَاحَاتِ وَأَرْبَابِ الْفَتَرَاتِ وَالْمَوْتَى انْقَطَعَ عَنْهُمْ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي.
وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ لَا يَكُونُ لَهُمْ ثَوَابٌ وَإِنْ كَانُوا مُسْتَمِعِينَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَهَائِمَ تَسْمَعُ أَصْوَاتَنَا بِالْقِرَاءَةِ وَلَا ثَوَابَ لَهَا لِعَدَمِ الْأَمْرِ لَهَا بِالِاسْتِمَاعِ فَكَذَلِكَ الْمَوْتَى وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ وَلَا يَقَعُ فِيهِ خِلَافٌ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ بَرَكَةُ الْقِرَاءَةِ لَا ثَوَابُهَا كَمَا تَحْصُلُ لَهُمْ بَرَكَةُ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُدْفَنُ عِنْدَهُمْ أَوْ يُدْفَنُونَ عِنْدَهُ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَمْرِ فَإِنَّ الْبَهِيمَةَ يَحْصُلُ لَهَا بَرَكَةُ رَاكِبِهَا أَوْ مُجَاوِرِهَا وَأَمْرُ الْبَرَكَاتِ لَا يُنْكَرُ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْصُلُ بَرَكَتُهُ لِلْبَهَائِمِ مِنْ الْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ ضَرَبَ فَرَسًا بِسَوْطٍ فَكَانَ لَا يُسْبَقُ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَانَ بَطِيءَ الْحَرَكَةِ وَحِمَارُهُ عليه السلام كَانَ يَذْهَبُ إلَى بُيُوتِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَدْعِيهِمْ إلَيْهِ بِنَطْحِ رَأْسِهِ الْبَابَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ بَرَكَاتِهِ عليه السلام
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لِلِاسْتِعْمَالِ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الشِّقِّ الْأَخِيرِ يُعْلَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْلِيلِ الْأَصْلِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ.
وَأَمَّا عَنْ الشِّقِّ الْأَوَّلِ فَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ مَا أَدْرِي مَا دَلِيلُ أَيْ الْمَازِرِيِّ وَالْغَزَالِيِّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ وَضْعِ لَفْظِ اسْقِنِي الْمَاءَ لِإِنْشَاءِ الطَّلَاقِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ لِاسْتِدْعَاءِ سَقْيِ الْمَاءِ بِوَضْعِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ وَالصَّحِيحُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مَالِكًا وَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَيْ التَّوْقِيفِ وَالِاصْطِلَاحِ فَلَمْ يَقُمْ عِنْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ أَوْ جَزْمٌ بِأَنَّهَا اصْطِلَاحِيَّةٌ أَوْ جَزْمٌ بِأَنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ لَكِنَّهُ لَمْ يَقُمْ عِنْدَهُ دَلِيلُ الْمَنْعِ مِنْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وَضَعَهُ اللَّهُ لَهُ إذْ لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِهَا تَوْقِيفِيَّةً أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ مِنْ وَضْعِنَا إيَّاهَا لِمَعْنًى غَيْرِ مَا لَهُ وَضَعَهَا وَلَا مِنْ اسْتِعْمَالِهَا فِي ذَلِكَ، بَلْ مَعْنَى كَوْنِهَا تَوْقِيفِيَّةً أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْأَلْفَاظَ كُلَّهَا لِمَعَانِيهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ مَنَعَنَا مِنْ وَضْعِ كُلِّ لَفْظٍ مِنْهَا لِغَيْرِ مَا وَضَعَهُ لَهُ أَوْ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ أَوْ النَّقْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ بِلَفْظِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَإِنْ كَانَ لِلْبَحْثِ فِيهِ مَجَالٌ فَتَأَمَّلْ بِإِمْعَانٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَفْظُ الطَّلَاقِ أَوْ طَالِقٍ أَوْ مُطَلَّقَةٍ يُفِيدُ زَوَالَ الْعِصْمَةِ إمَّا لُغَةً عَلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ الشَّاطِّ.
وَإِمَّا عُرْفًا عَلَى مَذْهَبِ الْأَصْلِ وَلَفْظُ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ مُطَلَّقَةٌ أَوْ الطَّلَاقُ لَازِمٌ لِي يُفِيدُ إنْشَاءَ الطَّلَاقِ عُرْفًا أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَلَا يُفِيدُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْخَبَرَ لُغَةً وَالشَّرْعُ يُقَدِّرُ وُقُوعَ مُخْبَرِهَا قَبْلَ النُّطْقِ بِهَا بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ لِضَرُورَةِ تَصْدِيقِهِ، وَإِذَا صَارَ صَادِقًا لَزِمَهُ مَا نَطَقَ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ، وَأَمَّا لَفْظُ خَلِيَّةٍ عَلَى انْفِرَادِهِ فَلَا يُفِيدُ زَوَالَ الْعِصْمَةِ لَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا، بَلْ مَجَازًا وَمِثْلُهُ سَائِرُ الْأَلْفَاظِ وَالْكِنَايَاتُ الظَّاهِرَةُ وَلَفْظُ أَنْتِ خَلِيَّةٌ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ بِجُمْلَتِهِ عُرْفًا الْإِنْشَاءَ إلَّا أَنَّ لَفْظَ خَلِيَّةٍ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِمُفْرَدِهِ يُفِيدُ عُرْفًا الطَّلَاقَ وَإِزَالَةَ الْعِصْمَةِ لَمْ يَكُنْ بِجُمْلَتِهِ يُفِيدُ عُرْفًا إنْشَاءَ الطَّلَاقِ وَإِزَالَةَ قَيْدِ الْعِصْمَةِ بِخُصُوصِهِ، وَكَذَا سَائِرُ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ.
وَإِنَّمَا غَلَبَ فِي الْعُرْفِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الطَّلَاقِ وَإِزَالَةُ الْعِصْمَةِ فَأُلْحِقَ لِذَلِكَ بِالصَّرِيحِ فِي اسْتِغْنَائِهِ عَنْ النِّيَّةِ لِقِيَامِ الْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ مَقَامَ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا يَنْصَرِفُ بِصَرَاحَتِهِ لِمَا وُضِعَ لَهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى نِيَّةٍ إذْ النِّيَّةُ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي اللَّفْظِ الْمُتَرَدِّدِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ وَغَيْرِهِ لِتَمْيِيزِ الْمُرَادِ مِنْهُ عَنْ غَيْرِ الْمُرَادِ كَمَا فِي نَحْوِ اسْقِنِي الْمَاءَ مِمَّا لَمْ يَغْلِبْ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ الْخَفِيَّةِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الطَّلَاقِ وَإِنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ مَجَازًا وَالْمَجَازُ يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ النَّاقِلَةِ عَنْ الْحَقِيقَةِ الَّتِي يَنْصَرِفُ إلَيْهَا اللَّفْظُ بِصَرَاحَتِهِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ وَلَمْ يَنْسَخْهَا عُرْفٌ فَكِنَايَةُ الطَّلَاقِ قِسْمَانِ ظَاهِرَةٌ وَهِيَ مَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعُرْفِ فِي الطَّلَاقِ فَأُلْحِقَ بِالصَّرِيحِ فِي اسْتِغْنَائِهِ عَنْ النِّيَّةِ وَخَفِيَّةٌ وَهِيَ مَا لَمْ يَغْلِبْ فِي الْعُرْفِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الطَّلَاقِ، بَلْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ مَجَازًا فَافْتَقَرَ إلَى النِّيَّةِ النَّاقِلَةِ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَيْهِ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَنْقُولٌ فِي الْعُرْفِ مِنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ لِلطَّلَاقِ أَيْ إزَالَةِ الْعِصْمَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَاقِ مَجَازًا وَالْمَنْقُولُ إمَّا أَنْ يُنْقَلَ لِأَصْلِ الطَّلَاقِ فَقَطْ فَيَصِيرُ فِي الْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ مِثْلُ أَنْتِ طَالِقٌ فِي اللُّغَةِ فَيَلْزَمُهُ بِهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَإِمَّا أَنْ يُنْقَلَ لِأَصْلِ الطَّلَاقِ مَعَ الْبَيْنُونَةِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ فَيَلْزَمُ بِهِ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّهَا مُسَمَّاهُ الْعُرْفِيُّ وَإِمَّا أَنْ يُنْقَلَ لِلطَّلَاقِ وَالْبَيْنُونَةِ مَعَ وَصْفِ الْعَدَدِ الثَّلَاثِ فَيَلْزَمُهُ بِهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ وَيَصِيرُ النُّطْقُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ عُرْفًا كَالنُّطْقِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لُغَةً إلَّا أَنَّ هَذَا إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ الثَّلَاثِ غَالِبًا وَفِي الثَّلَاثِ نَادِرًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقْصِدُ الِاحْتِيَاطَ فَيَحْمِلُهُ عَلَى الثَّلَاثِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْغَالِبِ فَيَلْزَمُهُ بِهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ.
فَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الصِّيَغِ
كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ فِي مُعْجِزَاتِهِ وَكَرَامَاتِهِ عليه السلام وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلَفًا فِيهَا فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ لَا يُهْمِلَهَا فَلَعَلَّ الْحَقَّ هُوَ الْوُصُولُ إلَى الْمَوْتَى فَإِنَّ هَذِهِ أُمُورٌ مُغَيَّبَةٌ عَنَّا، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ إنَّمَا هُوَ فِي أَمْرٍ وَاقِعٍ هَلْ هُوَ كَذَلِكَ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ التَّهْلِيلُ الَّذِي عَادَةُ النَّاسِ يَعْمَلُونَهُ الْيَوْمَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْمَلَ وَيُعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يُيَسِّرُهُ وَيُلْتَمَسَ فَضْلُ اللَّهِ بِكُلِّ سَبَبٍ مُمْكِنٍ وَمِنْ اللَّهِ الْجُودُ وَالْإِحْسَانُ هَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِالْعَبْدِ.
(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَبْطُلُ التَّتَابُعُ)
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمُشْكِلَةِ فَإِنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا أَكَلَ فِي صَوْمِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُبْطِلُ التَّتَابُعَ)
قُلْت جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِيهِ صَحِيحٌ إلَّا قَوْلَهُ فَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] أَنَّهُ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَيْسَ قَبْلَهُمَا وَطْءٌ وَلَا فِي أَثْنَائِهَا وَطْءٌ فَإِنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ بِحَسَبِ مَسَاقِ كَلَامِهِ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي عَدَمَ تَقَدُّمِ الْوَطْءِ مُطْلَقًا.
وَهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ تَقْتَضِيَهُ الْآيَةُ لِاشْتِمَالِ الْآيَةِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ وَطْؤُهَا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ الصَّوْمَ وَطْءٌ بَعْدَ الظِّهَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ بَعْدَهُ فِي الْفُرُوقِ السِّتَّةِ صَحِيحٌ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
إنَّمَا هُوَ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الضَّوَابِطِ هَلْ وُجِدَتْ أَمْ لَا وَإِلَّا فَكُلُّ مَنْ سَلَّمَ ضَابِطًا سُلِّمَ حُكْمُهُ وَيَكُونُ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ مَنْ صَادَفَ الضَّابِطَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَالضَّعِيفُ الْفِقْهِ مَنْ تَوَهَّمَ وُجُودَهُ أَوْ عَدَمَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَعَلَى الْفَقِيهِ اسْتِيفَاءُ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْحَرَامِ فَمِنْ قَائِلٍ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ نَقْلٌ أَلْبَتَّةَ فَهِيَ كَذِبٌ فَلَا يَلْزَمُ بِهَا شَيْءٌ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَمِنْ قَائِلٍ حَصَلَ فِيهَا النَّقْلُ لِأَصْلِ الطَّلَاقِ فَيَلْزَمُ بِهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ.
وَمِنْ قَائِلٍ حَصَلَ فِيهَا النَّقْلُ لِلطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَيَلْزَمُ بِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ تَتَخَرَّجُ جَمِيعُ الصُّوَرِ هَذَا تَلْخِيصُ مَا عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ فَمِنْ هُنَا فِي الْخَرَشِيِّ وَحَاشِيَةِ الْعَدَوِيِّ عَلَيْهِ وَشَرْحِ أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ وَالصَّاوِي عَلَيْهِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ أَلْفَاظَ الطَّلَاقِ تَنْقَسِمُ إلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ
(الْقِسْمُ الْأَوَّلُ) مَا يَلْزَمُ بِهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ إلَّا لِنِيَّةِ أَكْثَرَ وَهُوَ لَفْظُ التَّصْرِيحِ كَأَنْتِ طَالِقٌ وَنَحْوُ اعْتَدِّي مِنْ الْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ
(الْقِسْمُ الثَّانِي) مَا يَلْزَمُ بِهِ الثَّلَاثُ وَلَا يَنْوِي مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَدْخُولًا بِهَا أَمْ لَا وَهُوَ نَحْوُ بَتَّةٍ وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك؛ لِأَنَّ الْبَتَّ هُوَ الْقَطْعُ فَكَأَنَّ الزَّوْجُ قَطَعَ الْعِصْمَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ وَلَمْ يَبْقَ بِيَدِهِ مِنْهُ شَيْءٌ؛ وَلِأَنَّ الْحَبْلَ كِنَايَةٌ عَنْ الْعِصْمَةِ الَّتِي بِيَدِ الزَّوْجِ أَيْ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِصْمَةِ وَكَوْنُهَا عَلَى غَارِبِهَا أَيْ كَتِفِهَا كِنَايَةٌ عَنْ مِلْكِهَا بِالطَّلَاقِ
2 -
(الْقِسْمُ الثَّالِثُ) مَا يَلْزَمُ فِيهِ الثَّلَاثُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَوَاحِدَةٌ فِي غَيْرِهَا مَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ وَهُوَ نَحْوُ وَاحِدَةٍ بَائِنَةٍ نَظَرًا لِبَائِنَةٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَبِغَيْرِ لَفْظِ الْخُلْعِ إنَّمَا تَكُونُ ثَلَاثًا وَلَمْ يُنْظَرْ وَالْوَاحِدَةُ إمَّا لِكَوْنِهِ صِفَةً لِمَرَّةٍ مَحْذُوفًا أَيْ مَرَّةً وَاحِدَةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ بَائِنَةٌ وَإِمَّا لِأَنَّهُ يُحْتَاطُ فِي الْفُرُوجِ مَا لَا يُحْتَاطُ فِي غَيْرِهَا فَاعْتُبِرَ لَفْظُ بَائِنَةٍ وَأُلْغِيَ لَفْظُ وَاحِدَةٍ قَالَ الصَّاوِيُّ لَكِنَّ مَحَلَّ هَذَا إذَا كَانَ عُرْفُ التَّحَالُفِ أَنَّ مَعْنَى الْبَائِنَةِ الْمُنْفَصِلَةِ أَمَّا إذَا كَانَ مَعْنَاهَا الظَّاهِرَةَ الَّتِي لَا خَفَاءَ فِيهَا وَقَصَدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَالظَّاهِرُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَتَكُونُ بَعْدَ الدُّخُولِ رَجْعِيَّةً اهـ فَتَنَبَّهْ.
(الْقِسْمُ الرَّابِعُ) مَا يَلْزَمُ فِيهِ الثَّلَاثُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا كَغَيْرِهَا إنْ لَمْ يَنْوِ أَقَلَّ وَهُوَ نَحْوُ أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ أَوْ الدَّمِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ وَهَبْتُك لِأَهْلِك أَوْ لَا عِصْمَةَ لِي عَلَيْك أَوْ أَنْتِ حَرَامٌ أَوْ أَوْ خَلِيَّةٌ أَيْ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ بَرِيَّةٌ أَوْ خَالِصَةٌ أَيْ مِنِّي أَوْ بَائِنَةٌ أَوْ أَنَا بَائِنٌ مِنْك أَوْ خَلِيٌّ أَوْ بَرِيءٌ أَوْ خَالِصٌ
(الْقِسْمُ الْخَامِسُ) مَا يَلْزَمُ فِيهِ الثَّلَاثُ مُطْلَقًا مَا لَمْ يَنْوِ أَقَلَّ وَهُوَ خَلَّيْت سَبِيلَك
(الْقِسْمُ السَّادِسُ) مَا يَلْزَمُ فِيهِ الثَّلَاثُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَيَنْوِي فِي غَيْرِهَا وَهُوَ نَحْوُ وَجْهِي مِنْ وَجْهِك حَرَامٌ أَوْ وَجْهِي عَلَى وَجْهِك حَرَامٌ أَوْ لَا نِكَاحَ بَيْنِي وَبَيْنَك أَوْ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك أَوْ أَنْتِ سَائِبَةٌ أَوْ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَك حَرَامٌ وَلَا حَلَالٌ، أَوْ مَا انْقَلَبَ إلَيْهِ مِنْ أَهْلٍ حَرَامٌ كَقَوْلِهِ يَا حَرَامُ إنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَكَقَوْلِهِ الْحَلَالُ حَرَامٌ أَوْ حَرَامٌ عَلَيَّ أَوْ جَمِيعُ مَا أَمْلِكُ حَرَامٌ وَقَصَدَ إدْخَالَ الزَّوْجَةِ
(الْقِسْمُ السَّابِعُ) مَا يَلْزَمُ فِيهِ وَاحِدَةٌ إلَّا لِنِيَّةٍ أَكْثَرَ وَهِيَ رَجْعِيَّةٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَهُوَ فَارَقْتُك قَالَ الدَّرْدِيرُ وَكُلُّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَدُلَّ الْبِسَاطُ وَالْقَرَائِنُ عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ الطَّلَاقِ وَأَنَّ الْمُخَاطَبَةَ بِلَفْظٍ مِمَّا ذَكَرَ لَيْسَتْ فِي مَعْرِضِ الطَّلَاقِ بِحَالٍ وَإِلَّا صَدَقَ فِي نَفْيِ الطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ كَالصَّرِيحِ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ فِي نَفْيِهِ عِنْدَ قِيَامِ الْقَرَائِنِ كَمَا لَوْ أَخَذَهَا الطَّلْقُ عِنْدَ وِلَادَتِهَا فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إعْلَامًا أَوْ اسْتِعْلَامًا أَوْ كَانَتْ مَرْبُوطَةً فَقَالَتْ لَهُ هِيَ أَوْ غَيْرُهَا أَطْلِقْنِي فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ أَيْ اسْتَطْلِقِي وَإِلَّا كَانَ كَاذِبًا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ كَمَا فِي الْعَدَوِيِّ عَلَى الْخَرَشِيِّ قَالَ الدَّرْدِيرُ
الظِّهَارِ أَوْ الْقَتْلِ أَوْ النَّذْرِ الْمُتَتَابِعِ نَاسِيًا أَوْ مُجْتَهِدًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ وَطِئَ نَهَارًا غَيْرُ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا نَاسِيًا قَضَى يَوْمًا مُتَّصِلًا بِصَوْمِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ابْتَدَأَ الصَّوْمَ مِنْ أَوَّلِهِ فَإِنْ وَطِئَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَوَّلَ صَوْمِهِ أَوْ آخِرَهُ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا ابْتَدَأَ الصَّوْمَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله إنْ وَطِئَهَا لَيْلًا لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ وَوَافَقْنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ الْفِطْرُ يُبْطِلُ التَّتَابُعَ مُطْلَقًا وَخَالَفَهُمَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَعَلَّلَا ذَلِكَ بِأَنَّ الْفِطْرَ بِاخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ الْمَرَضِ وَالْإِغْمَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَالْمَرَضِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ كَالْمَرِيضِ عِنْدَهُ.
وَقَالَ أَبُو الطَّاهِرِ مِنْ أَصْحَابِنَا إنْ أَفْطَرَ جَاهِلًا فَقَوْلَانِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْجَاهِلَ هَلْ يَلْحَقُ بِالْعَامِدِ أَمْ لَا وَفِي السَّهْوِ وَالْخَطَأِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ثَالِثُهَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ السَّهْوِ فَيُجْزِئُ وَالْخَطَأِ فَلَا يُجْزِئُ وَيَبْتَدِي لِأَنَّ مَعَهُ تَمْيِيزَهُ بِخِلَافِ السَّهْوِ وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ التَّتَابُعُ مَأْمُورٌ بِهِ فَيَقْدَحُ فِيهِ النِّسْيَانُ أَوْ التَّفْرِيقُ مُحَرَّمٌ فَلَا تَضُرُّ مُلَابَسَتُهُ سَهْوًا فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ لَا يَأْثَمُ الْإِنْسَانُ بِمُلَابَسَتِهَا مَعَ عَدَمِ الْقَصْدِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ سَاهِيًا أَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً جَاهِلًا بِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ أَوْ أَكَلَ طَعَامًا نَجِسًا أَوْ حَرَامًا مَغْصُوبًا غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا عَلَى عَدَمِ الْإِثْمِ (قُلْت) وَهَذِهِ الْفَتَاوَى كُلُّهَا مُشْكِلَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ لَفْظَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَمْرٌ مُتَعَلِّقٌ بِطَلَبٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] وَمَعْنَاهُ لِيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَيَكُونُ خَبَرًا مَعْنَاهُ الْأَمْرُ أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَالضَّابِطُ فِي الظَّاهِرَةِ عَلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي غَيْرِ وَاحِدَةٍ بَائِنَةٍ أَنَّ اللَّفْظَ إنْ دَلَّ عَلَى قَطْعِ الْعِصْمَةِ بِالْمَرَّةِ لَزِمَ فِيهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا وَلَا يَنْوِي وَذَلِكَ مِثْلُ بَتَّةٍ وَحَبْلِك عَلَى غَارِبِك مِنْ نَحْوِ قَطَعْت الْعِصْمَةَ بَيْنِي وَبَيْنَك وَعِصْمَتُك عَلَى كَتِفِك أَوْ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ دَلَّ عَلَى الْبَيْنُونَةِ وَالْبَيْنُونَةُ لِغَيْرِ خُلْعٍ ثَلَاثٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَصَادِقَةٌ بِوَاحِدَةٍ فِي غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِي الْبَيْنُونَةِ ظُهُورًا رَاجِحًا فَثَلَاثٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا جَزْمًا كَغَيْرِهَا مَا لَمْ يَنْوِ الْأَقَلَّ كَحَرَامٍ وَمَيِّتَةٍ وَخَلِيَّةٍ وَبَرِيَّةٍ وَوَهَبْتُك لِأَهْلِك وَمَا ذَكَرَ مَعَهَا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِي الْبَيْنُونَةِ ظُهُورًا مُسَاوِيًا فَثَلَاثٌ مُطْلَقًا إلَّا لِنِيَّةٍ أَقَلَّ كَخَلَّيْتُ سَبِيلَك وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِي الْبَيْنُونَةِ ظُهُورًا مَرْجُوحًا بِأَنْ كَانَ ظُهُورُهُ فِي غَيْرِ الْبَيْنُونَةِ رَاجِحًا لَزِمَهُ الْوَاحِدَةُ مَا لَمْ يَنْوِ أَكْثَرَ كَفَارَقْتُكِ
(الْقِسْمُ الثَّامِنُ) مَا يَنْوِي فِيهِ وَفِي عَدَدِهِ وَهُوَ نَحْوُ اذْهَبِي وَانْصَرِفِي وَانْطَلِقِي أَوْ أَنْتِ مَطْلُوقَةٌ أَوْ مُنْطَلِقَةٌ مِمَّا لَيْسَ مِنْ صَرِيحِهِ وَلَا مِنْ كِنَايَاتِهِ الظَّاهِرَةِ لِاسْتِعْمَالِهَا فِي الْعُرْفِ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ، بَلْ مِنْ الْكِنَايَاتِ الْخَفِيَّةِ إنْ قَصَدَ بِهَا الطَّلَاقَ لَزِمَهُ وَإِلَّا فَلَا اهـ.
فَالِانْطِلَاقُ لَيْسَ مِنْ الطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَا مِنْ مَادَّةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ الطَّاءُ وَاللَّامُ وَالْقَافُ قِيلَ وَإِنْ كَانَا فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى إزَالَةِ مُطْلَقِ الْقَيْدِ يُقَالُ لَفْظٌ مُطْلَقٌ وَوَجْهٌ طَلْقٌ وَحَلَالٌ طَلْقٌ وَانْطَلَقَتْ بَطْنُهُ وَأُطْلِقَ فُلَانٌ مِنْ السِّجْنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَهِرَ عُرْفًا فِي إزَالَةِ خُصُوصِ قَيْدِ الْعِصْمَةِ هُوَ الطَّلَاقُ دُونَ الِانْطِلَاقِ وَمَا اُشْتُقَّ مِنْهُ نَحْوُ أَطْلَقْتُك وَانْطَلَقْت مِنْك وَانْطَلِقِي مِنِّي وَأَنْتِ مُنْطَلِقَةٌ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الطَّلَاقَ فِي اللُّغَةِ لِإِزَالَةِ مُطْلَقِ الْقَيْدِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ لِإِزَالَةِ قَيْدِ الْعِصْمَةِ خَاصَّةً كَمَا عَلِمْت
(وَثَانِيهِمَا) الْقَوْلُ بِصِحَّةِ مَا يُسَمِّيهِ النُّحَاةُ بِالِاشْتِقَاقِ الْكَبِيرِ أَيْ بِصِحَّةِ الْمُنَاسَبَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ لَفْظَيْنِ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي جَمِيعِ الْحُرُوفِ الْأُصُولِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى أَوْ تَنَاسُبِهِ كَالْحَمْدِ وَالْمَدْحِ الْمُسَمَّاةِ عِنْدَ النُّحَاةِ بِالِاشْتِقَاقِ الْكَبِيرِ لِكَثْرَةِ أَفْرَادِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّغِيرِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُنَاسَبَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ لَفْظَيْنِ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي جَمِيعِ الْحُرُوفِ الْأُصُولِ وَالتَّرْتِيبِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ لِلْمَادَّةِ كَالضَّارِبِ وَالضَّرْبِ لِاخْتِصَاصِ هَذَا بِالْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ وَهُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ قَلَّتْ أَفْرَادُ الْكَبِيرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُنَاسَبَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ لَفْظَيْنِ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَكْثَرِ الْحُرُوفِ الْأُصُولِ فَقَطْ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى أَوْ تَنَاسُبِهِ كَالْفَلْقِ وَالْفَلْجِ بِالْجِيمِ وَهُمَا الشِّقُّ وَزْنًا وَمَعْنًى وَالْقَوْلُ بِصِحَّةِ الِاشْتِقَاقِ الْكَبِيرِ ضَعِيفٌ، اهـ بِتَوْضِيحٍ مِنْ الْأَبْيَارِيِّ عَلَى حَوَاشِي الْمُغْنِي.
قُلْت وَمِنْ الْأَكْبَرِ لَا مِنْ الْكَبِيرِ قَوْلُ الْأَصْلِ وَمِنْ الْكِنَايَةِ الَّتِي أَصْلُهَا مَا فِيهِ خَفَاءٌ لَكِنْ لِإِخْفَائِهِ الْأَجْسَامَ وَمَا يُوضَعُ فِيهِ فَسَقَطَ قَوْلُ ابْنِ الشَّاطِّ وَمَا أَرَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَصِحُّ عِنْدَ مَنْ صَحَّحَ الِاشْتِقَاقَ الْكَبِيرَ مِنْ النُّحَاةِ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ ثَالِثُ حُرُوفِهَا يَاءٌ أَوْ وَاوٌ وَلَكِنَّ ثَالِثَ حُرُوفِهِ نُونٌ إلَّا أَنْ يُدَّعَى إبْدَالُ النُّونِ وَفِي ذَلِكَ بُعْدٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ فَتَأَمَّلْ مُنْصِفًا.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِالْقَافِ فَقَالَ الْعَلَّامَةُ الرَّهُونِيُّ إنْ قَصَدَ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ كَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ مُرِيدًا بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ مِنْ الْكِنَايَاتِ الْخَفِيَّةِ فَيَلْزَمُ بِالنِّيَّةِ كَقَوْلِهِ لَهَا أَنْتِ قَالِقٌ بِإِبْدَالِ الطَّاءِ قَافًا أَوْ مُثَنَّاةً فَوْقِيَّةً حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لُغَتُهُ كَذَلِكَ كَمَا قَالَهُ عج وَتَبِعَهُ عبق وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ تَامًّا، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَتَرَكَ النُّطْقَ بِالْقَافِ كَانَ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْخَطَّابُ عَنْ الرَّمَّاحِ وَسَلَّمَهُ مِنْ الْجَرَيَانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الطَّلَاقِ بِالنِّيَّةِ أَيْ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ اهـ بِتَوْضِيحٍ وَاخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِيمَا
مُتَتَابِعَيْنِ.
وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِمُوَافَقَتِهِ الظَّاهِرَ مِنْ بَقَاءِ الْخَبَرِ خَبَرًا عَلَى حَالِهِ وَنَسْتَفِيدُ الْوُجُوبَ مِنْ قَوْله تَعَالَى فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مُتَعَلِّقٌ بِطَلَبٍ لَا يُدْفَعُ فَكَيْفَ يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّهْيِ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ بَشِيرٍ وَلَا يُمْكِنُ الِاعْتِمَادُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّتَابُعَ إذَا كَانَ وَاجِبًا كَانَ تَرْكُهُ مُحَرَّمًا فَإِنَّ كُلَّ وَاجِبٍ تَرْكُهُ مُحَرَّمٌ وَكُلَّ مُحَرَّمٍ تَرْكُهُ وَاجِبٌ فَالْوُجُوبُ مِنْ لَوَازِمِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْرِيمُ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُوبِ فِي النَّقِيضِ الْمُقَابِلِ فَاَلَّذِي يَصِحُّ فِي الْآيَةِ أَنَّ التَّتَابُعَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُحَرَّمِ وَأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَحْرِيمِ التَّفْرِيقِ هَذَا بَعِيدٌ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ بَقِيَ الْإِشْكَالُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَلَمْ يَأْتِ بِهِمَا الْمُكَلَّفُ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ كُلِّهَا النَّاسِي وَالْمُجْتَهِدُ وَالْمُكْرَهُ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ فَرَّقُوا وَلَمْ يَقَعْ فِعْلُهُمْ مُطَابِقًا لِمُقْتَضَى الطَّلَبِ فَوَجَبَ الْبَقَاءُ فِي الْعُهْدَةِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَلَب الصَّلَاةَ بِالنِّيَّةِ وَالطَّهَارَةِ وَالسِّتَارَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الشُّرُوطِ فَمَنْ نَسِيَ أَحَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَوْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فِيهَا أَوْ أُكْرِهَ عَلَى عَدَمِهَا بَطَلَتْ الصَّلَاةُ، وَكَذَلِكَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي رَمَضَانَ أَوْ نَسِيَ أَوْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَإِنَّ صَوْمَهُ يَبْطُلُ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَمَا بَالُ التَّتَابُعِ خَرَجَ عَنْ هَذَا النَّمَطِ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ هَذَا وَجْهُ الْإِشْكَالِ.
وَكَذَلِكَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا فِي الْإِغْمَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ التَّتَابُعُ كَمَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بِالْإِغْمَاءِ، وَكَذَلِكَ الْمَرَضُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ مِثْلُهُ فَالْكُلُّ مُشْكِلٌ وَاَلَّذِي
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
إذَا قَالَ لَهَا أَنَا طَالِقٌ مِنْك أَوْ أَنْتِ الطَّلَاقُ هَلْ هُوَ مِنْ الصَّرِيحِ أَوْ مِنْ الْكِنَايَاتِ الْخَفِيَّةِ
(الْأَوَّلُ) فِي الصِّيغَتَيْنِ هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهُوَ فِي الْأُولَى مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا مَا فِي الثَّانِيَةِ فَمَذْهَبُهُ الثَّانِي قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْمَصْدَرِ عَنْ اسْمِ الْفَاعِلِ مَجَازٌ فَيَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَأَجَابَ الْأَصْلُ بِأَنَّهُ مَجَازٌ تَعَيَّنَ بِقَرِينَةٍ تَعَذَّرَ أَنَّهَا عَيْنُ الطَّلَاقِ، وَإِذَا تَعَيَّنَ لِاسْمِ الْفَاعِلِ اسْتَغْنَى بِذَلِكَ عَنْ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّعَيُّنَ مَانِعٌ مِنْ التَّرَدُّدِ وَالنِّيَّةُ إنَّمَا يُفْتَقَرُ إلَيْهَا حَالَةَ التَّرَدُّدِ اهـ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رضي الله عنهما فِي الْأُولَى
(الثَّانِي) تَمَسُّكًا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ الْأَمْرُ
(الْأَوَّلُ) أَنَّهُ لَيْسَ مَحْبُوسًا بِالنِّكَاحِ، بَلْ هِيَ الْمَحْبُوسَةُ
(الْأَمْرُ الثَّانِي) الْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِهِ أَنَا طَالِقٌ فَلَوْ كَانَ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ لَوَقَعَ كَالْمَرْأَةِ
(الْأَمْرُ الثَّالِثُ) أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُوصَفُ بِهِ فَلَا يُقَالُ زَيْدٌ مُطَلَّقٌ وَنَقَلَ الْبَاجِيَّ فِي الْمُنْتَقَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مِنْهُ وَأَجَابَ الْأَصْلُ عَنْ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ عَنْ عَمَّتِهَا وَأُخْتِهَا وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ لَازِمٌ بِالنِّكَاحِ فَيَخْرُجُ عَنْ لُزُومِهِ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ وَصْفَهُ بِطَالِقٍ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَنْ امْرَأَةٍ فَلَمْ يُعَيِّنْهَا اللَّفْظُ، وَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِصْمَتِهِ لِتَعَذُّرِ تَعَوُّدِ الْأَزْوَاجِ دُونَ الزَّوْجَاتِ أَيْ فَثَبَتَ الْفَارِقُ فَلَا قِيَاسَ وَبَطَلَتْ الْمُلَازَمَةُ بَيْنَ طَرَفَيْ الشَّرْطِيَّةِ فَافْهَمْ، وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ مُطَلَّقَ اسْمُ مَفْعُولٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي لِطَلَاقِهِ غَيْرَهُ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ اهـ.
وَتَعَقَّبَ ابْنُ الشَّاطِّ جَوَابَهُ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ مَعْنَى الطَّلَاقِ مَعْنَى الِانْطِلَاقِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الطَّلَاقُ حَلُّ الْعِصْمَةِ فَقَطْ وَهُوَ أَمْرٌ يَصْدُرُ مِنْ الرَّجُلِ وَيَقَعُ بِالْمَرْأَةِ فَإِذَا قَالَ أَنَا طَالِقٌ مِنْك فَقَدْ عَكَسَ الْمَعْنَى أَيْ جَعَلَ صُدُورَ حَلِّ الْعِصْمَةِ مِنْهَا وَاقِعًا بِهِ فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا أَيْ فَيَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَجَوَابُهُ الثَّانِي بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يَخْطِرُ بِالْبَالِ أَيْ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ وَصْفُهُ بِطَالِقٍ عَنْ امْرَأَةٍ لَمْ يُعَيِّنْهَا اللَّفْظُ حَتَّى يَثْبُتَ الْفَارِقُ وَتَبْطُلَ الْمُلَازَمَةُ الْمَذْكُورَةُ فَافْهَمْ وَجَوَابُهُ الثَّالِثُ بِأَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي لِطَلَاقِهِ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ مُتَعَذِّرًا حَقِيقَةً، فَلَيْسَ بِمُتَعَذِّرٍ مَجَازًا اهـ.
(قَالَ الْأَصْلُ) وَيَلْزَمُ عَلَى رَأْيِنَا الْقَائِلِينَ بِأَنَّ أَلْفَاظَ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ الظَّاهِرَةِ بِجُمْلَتِهَا كَلَفْظِ صَرِيحِهِ بِجُمْلَتِهِ نُقِلَتْ مِنْ الْخَبَرِ إلَى الْإِنْشَاءِ بِخِلَافِ أَلْفَاظِ كِنَايَاتِهِ الْخَفِيَّةِ وَالنَّقْلُ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْعُرْفِ أَمْرَانِ
(الْأَمْرُ الْأَوَّلُ) أَنَّ الْعُرْفَ إذَا تَحَوَّلَ إلَى الضِّدِّ تَحَوَّلَتْ تِلْكَ إلَى الْأَلْفَاظِ بِتَحَوُّلِهِ فَصَارَ الْمُشْتَهِرُ الظَّاهِرُ خَفِيًّا وَالْخَفِيُّ مُشْتَهِرًا ظَاهِرًا وَمَا قَضَيْنَا بِأَنَّهُ صَرِيحٌ كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ بِأَنَّهُ كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ صَرِيحًا بِحَسَبِ الْعُرْفِ الطَّارِئِ، وَإِذَا بَطَلَ الْعُرْفُ فَقَطْ وَلَمْ يُنْقَلْ لِلضِّدِّ لَزِمَ أَنْ لَا يَصِيرَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ صَرِيحًا، بَلْ وَلَا كِنَايَةً ظَاهِرَة، بَلْ تَحْتَاجُ جَمِيعُ الْأَلْفَاظِ فِي لُزُومِ الطَّلَاقِ بِهَا إلَى النِّيَّةِ
(الْأَمْرُ الثَّانِي) أَنَّ الْمُفْتِيَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ أَحَدًا بِالطَّلَاقِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِ ذَلِكَ الْعُرْفِ الَّذِي رُتِّبَتْ الْفُتْيَا عَلَيْهِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَلَدٍ آخَرَ لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ الْعُرْفُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَهُ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ حَالِ عُرْفِ بَلَدِهِ مِنْ صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ عَلَى الضَّابِطِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنَّ الْعَوَائِدَ لَا يَجِبُ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا بَيْنَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ الْأَقْطَارِ كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي فِي كُلِّ زَمَانٍ يَتَبَاعَدُ عَمَّا قَبْلَهُ أَنْ يَتَفَقَّدَ الْعُرْفَ هَلْ هُوَ بَاقٍ أَمْ لَا فَإِنْ وَجَدَهُ بَاقِيًا أَفْتَى بِهِ وَإِلَّا تَوَقَّفَ عَنْ الْفُتْيَا، وَهَذَا هُوَ الْقَاعِدَةُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعَوَائِدِ كَالنُّقُودِ وَالسِّكَكِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَاتِ وَالْأَيْمَانِ