الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولعلو رتبة القضاء وعظيم فضله جعل الله لمن حكم بين الناس مع أهليته أجرًا على اجتهاده وإن لم يصب في حكمه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وإذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطأَ فَلَهُ أَجْرٌ"(1)، وإنما أُجر على اجتهاده وبذل وسعه لا على خطئه (2). وقد جاء بذلك القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (3) فَأثنَى عَلَى دَاوُد بِاجْتِهَاده، وَأثنَى عَلَى سُلَيمانَ بِإِصَابَتِهِ وَجْهَ الحُكْمِ. وقد قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (4).
التحذير من تولي القضاء:
كان بعض أئمة السلف يحجم عن القضاء ويمتنع عنه أشد الامتناع حتى لو لحقه أذى في ذلك خوفًا على نفسه من خطره والوعيد الشديد الذي وردت السنة به على من تولى القضاء ولم يؤد الحق فيه (5)، ومن ذلك:
1 -
ما رواه عبد الله بن أَوْفَى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ مع القَاضِي ما لم يَجُرْ فإذا جَارَ تَخَلَّى الله عنه وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ"(6).
(1) صحيح البخاري، برقم (6919)، صحيح مسلم، برقم (1716).
(2)
معين الحكام (ص: 12)، تبصرة الحكام (1/ 12 - 13)، كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم (ص: 57)، كشاف القناع (6/ 286).
(3)
سورة الأنبياء: 78 - 79.
(4)
سورة العنكبوت: 69.
(5)
كأبي قلابة، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، والشافعيُّ كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم (ص: 63)، مغني المحتاج (4/ 373)، المغني (10/ 89).
(6)
سنن الترمذيُّ، برقم (1330)، سنن ابن ماجه، برقم (2312)، المستدرك على الصحيحين (4/ 105)، برقم (7026)، وقال: الإسناد صحيح، ووافقه الذهبي، صحيح ابن حبان
2 -
وما رواه أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وَليَ القَضاءَ، أو جُعِلَ قَاضِيًا بين الناس فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ"(1).
3 -
وما رواه بريْدَةَ عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم قال: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس عن جهل فهو في النار"(2).
= (11/ 448)، برقم (5062)، وحسنه محققه شعيب الأرنؤوط.
قال الحافظ: رواه الترمذيُّ وابن ماجه وابن حِبَّانَ وَالحاكِمُ من حديث عبد الله بن أبي أَوْفَى. وزاد ابن ماجه: "فإذا جَارَ وَكَّلَهُ اللهُ إلَى نَفْسِه"، وَلِلحَاكِم:"فهذا جَارَ تَبْرَأَ اللهُ منهَ" وقال التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا من حديث عِمْرَانَ القَطَّانِ. قُلتُ: وَفِيهِ مَقَالٌ إلَّا أنَّهُ ليس بالمَتْرُوكِ، وقد اسْتَشْهَدَ بِهِ البُخَارِيُّ، وَصَحَّحَ له ابن حبَّانَ. تلخيص الحبير (4/ 181). وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 269)، برقم (1253).
(1)
مسند أحمد بن حنبل (2/ 365)، سنن أبي داود، برقم (3572)، سنن النسائي الكبرى (3/ 462)، برقم (5923)، سنن ابن ماجه، برقم (2308)، سنن الترمذيُّ، برقم (1325)، سنن الدارقطني (4/ 203)، المستدرك على الصحيحين (4/ 103)، برقم (7018)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
قال الحافظ العراقي: إسنادُهُ صحيحٌ. المغني عن حمل الأسفار (2/ 939)، برقم (3435).
وقال ابن الملقن: هذا الحديث حسن. البدر المنير (9/ 546). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 391)، برقم (3572). وقال الحافظ: أَعَلَّهُ ابن الجوْزِيِّ فقال: هذا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ، وَلَيْسَ كما قال وَكَفَاهُ قُوَّةً تَخْرِيجُ النَّسَائِي له، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ الخِلَافَ فيه على سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ قال وَالمَحْفُوظُ عن سَعِيدٍ المَقبُرِيّ عن أبي هُرَيْرَةَ. التلخيص الحبير (4/ 184).
(2)
سنن النسائي الكبرى (3/ 461)، برقم (5922)، سنن أبي داود، برقم (3573)، قال أبو دَاوُد: وَهَذَا أَصَحُّ شَيْءٍ، سنن ابن ماجه، برقم (2315)، سنن الترمذيُّ، برقم (1322)، سنن البيهقي الكبرى (10/ 117)، برقم (20142)، المستدرك على الصحيحين (4/ 101)، برقم (7012)، المعجم الكبير (2/ 21)، برقم (1156)، المعجم الأوسط (4/ 63)، برقم (3616).
وقد أجاب بعض العلماء عن ذلك بأن الوعيد إنما هو خاص بقضاة الجور قال ابن فرحون: إن كل ما جاء من الأحاديث التي فيها تخويف ووعيد لمن تولى القضاء إنما هي في حق قضاة الجور أو الجهّال الذين يُدْخِلُون أنفسهم في هذا المنصب بغير علم ففي هذين الصنفين جاء الوعيد. أما الحديث الأول فإنه يتضمن شرف القضاء وأن الله مع القاضي العادل، وأما الحديث الثاني ففيه دليل على فضيلة القاضي بالحق؛ إذ جعله ذبيح الحق امتحانا له؛ لِتَعْظُمَ له المثوبة امتنانًا ويبلغ بذلك حال الشهداء الذين لهم الجنة (1). وَأَمَّا الحديث الثالث فإن الوعيد فيه خاص بالجائر والجاهل بخلاف المجتهد في طلب الحق والحكم به ففيه بيان فضله وقد تقدم أن المجتهد في طلب الحق له أجر ولو أخطأ ولم يصب الحق.
ولقد تولى رسول صلى الله عليه وسلم القضاء وتولى بعده الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، وقضوا بين الناس بالحق، ودخولهم فيه دليل على علو قدره، ووفور أجره، ومن بعدهم تبع لهم، ووليه بعد الصحابة أكابر التابعين وتابعيهم. ومن كره الدخول في القضاء من العلماء مع فضلهم وصلاحيتهم، وصلاحهم فهو محمول على المبالغة في ورعهم وسلوك طريق السلامة فإن الأمر فيه خطير، ولعلهم رأوا من أنفسهم فتورًا، أو خافوا التقصير فيه أو أن لا يُنَفَّذَ ما حكموا به، أو أنه لم يتعين عليهم؛ لوجود غيرهم، أو خافوا من الاشتغال به الإقلال من وظائفهم في العبادات وتحصيل العلم وغير
= قال الحافظ العراقي: إسنادُهُ صحيحٌ. المغني عن حمل الأسفار (1/ 40)، برقم (152). وقال ابن الملقن: هذا الحديث صحيح. البدر المنير (9/ 552). وقال ابن عبد الهادي: إسناده جيد. المحرر في الحديث (1/ 637)، برقم (1170). وقال أيضًا في تنقيح تحقيق أحاديث التعليق (3/ 531): حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (4/ 196). وقال أيضًا ورواه الطبراني في الكبير ورجال الكبير ثقات. مجمع الزوائد (4/ 193). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 391)، برقم (3573).
(1)
تبصرة الحكام (1/ 13).