الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
حين بدأت الاطلاع على أدب العصر المملوكي، لاحظت ظواهر أدبية مختلفة، لا زالت بحاجة إلى الدرس الجاد والمتأني، ولا زالت تنتظر من يخرجها إلى النور بعد أن قبعت قرونا متطاولة في ظلام الإهمال الذي تعامل به الدارسون مع أدب العصر المملوكي بحجج مختلفة ومسوغات واهية.
فقد أعرض معظم الباحثين عن دراسة أدب العصر، ورموه بالانحطاط والتقليد والجمود، ولم يقفوا عنده إلا وقفة عجلى لا تغني ولا تفيد، فاكتنفه الغموض في أذهان طلاب الأدب وشداته، لا يعرفون عنه غير الأحكام الجاهزة الظالمة التي اعتدنا إطلاقها عند الحديث عن أدب العصر المملوكي وما بعده.
ولم تقتصر أوصاف الجمود والانحطاط على الأدب فقط، بل أطلقت على العصر كله، وجوانب الحياة فيه، ولا ندري ما مسوغات أصحاب هذه الأحكام، ولكنها بلا شك لم تأت نتيجة دراسة مستفيضة، وأبحاث جادة، وتقييم منصف، ويبدو أن إهمال أنشطة العصر المختلفة وظلمها، يرجع إلى أمور خارجة عن نطاق الأدب والثقافة، وتتعلق بقضايا أخرى تخص الدارسين أنفسهم، الذين تابعوا في دراستهم للأدب العربي ما جاء به المستشرقون، وهؤلاء لهم نظرتهم الخاصة إلى التاريخ العربي والأدب العربي، تختلف عن نظرتنا إليهما. والعصر المملوكي هو عصر إنهاء الوجود الصليبي من وطننا العربي، وعصر رد الاجتياح المغولي المدمر، وعصر توقيف الامتداد الأوروبي نحو الشرق، وأدبه يطفح بتمجيد الانتصارات العربية على الفرنجة الأوربيين، ويظهر ذلّهم حين أرادوا سلخ بلاد الشام عن الجسد العربي الإسلامي، والقضاء على الوجود العربي الإسلامي المستقل.
ومن التناقض الظاهر في أحكام هؤلاء الدارسين أنهم وسموا العصر المملوكي بأنه عصر انحطاط، وأن وسائل التعبير فيه عاجزة قاصرة، يفتقر إلى الأديب الكبير والشاعر العظيم، وإلى جانب ذلك ازدهر فن العمارة، واتسعت دائرة الفنون الزخرفية، وشهد ظهور الموسوعات الكبيرة، والمؤلفات العظيمة في حقول المعرفة المختلفة، ولا ندري كيف استقامت لهم هذه الأحكام المتناقضة.
لكن سرعان ما تصدى الباحثون المخلصون للتراث العربي، والحريصون على إظهار حقائقه، لمثل هذه الآراء، فأشادوا بهذا العصر ذي الأثر العظيم، وبما أنجزته أمتنا خلاله في مناحي الحياة المختلفة.
وقد تعود قلة الاهتمام بالعصر المملوكي وأدبه- كما قيل- إلى أن الباحثين توجهوا في دراساتهم إلى عصور الإسلام الأولى التي شهدت قيام الدولة العربية الإسلامية وفتوحاتها، وازدهار حضارتها، حتى إذا وصلوا إلى العصر المملوكي فترت همّتهم، واكتفوا بما أشيع حول هذا العصر من آراء، ورددوا ما أطلق عليه من أحكام.
والذي أشيع عن الأدب المملوكي، أنه أدب الزينة الثقيلة والألاعيب اللفظية، وأنه خلا من الإبداع، وقد يكون في هذا شيء من الصحة، لكنه لا ينطبق على الأدب المملوكي كله، والشعر منه خاصة، ففيه ما هو جيد، وفيه ما هو غير ذلك، وهذه ميزة عصور الأدب جميعها، بل هي ميزة كل شاعر، وربما زادت نسبة الشعر الذي لم يرق للدارسين في هذا العصر عن غيرها في العصور السابقة، وكان هذا الشعر مقبولا عند أهله، وليس لنا أن نحاكمه بغير حكمهم، وليس لنا أن نهمله لأنه لم يجد قبولا في أنفسنا، فالناس كانوا يقبلون على شعر عصرهم ويستسيغونه، ويتذاكرونه وينفعلون به.
إن الغبن الذي لحق بالأدب المملوكي، وسوء الحكم عليه، جعلني أبحث عن
صورة مشرقة من صور الأدب المملوكي، تترك لدى المطلع انطباعا مغايرا لما هو سائد عنه، فوقعت على المدائح النبوية، الفن الشعري الذي نما وتكامل في هذا العصر، فكان أبرز فنونه وأرقاها، وأكثرها تأثيرا في الحركة الشعرية وفي مجتمع ذلك الوقت، وهو الفن الذي استمر وجوده والإقبال عليه إلى أيامنا هذه.
ولم يرزق هذا الفن إلى الآن من يدرسه دراسة جادة متأنية، تحيط بكل قضاياه، وتبرز أهميته وأثره، ومن التفت إليه كانت التفاتته عجلى، اقتصرت على الوصف والتعداد دون الدخول إلى جوهره، وبسط النظر في تركيبه، وبيان تطوره، وإذا غاص فيه، قصر ذلك على قصائد بعينها أو شاعر بعينه، فاحتاج الأمر إلى بسط القول فيه، وإيضاح معالمه في أذهان من سمعوا به أو قرؤوا شيئا منه، وفي أذهان من يهتزون طربا للمدائح النبوية المنشدة، ولمعانيها البديعة في أيامنا هذه.
وربما تساءل بعض المطلعين حول صحة هذا الادعاء، فللدكتور (زكي مبارك) كتاب بعنوان (المدائح النبوية في الأدب العربي) ، وهو يظهر من عنوانه أنه أوسع وأشمل من عنوان البحث الذي اخترته، وهذا صحيح، فللدكتور مبارك فضل الريادة في هذا الباب، لكنه لم يكن يقصد التأليف في المدائح النبوية، ولم يتوسع في دراستها، وجاء كتابه أقرب إلى التعريف منه إلى الدراسة المستأنية، خلط فيه المديح النبوي مع الشعر الديني باتجاهاته المختلفة. فقد عرضه ضمن دراسة أخرى، ثم فصله عنها كما قال في مقدمة كتابه:«هذا كتاب لم يكن ظهوره في الحسبان، فهو في الأصل باب من كتاب قدمته إلى الجامعة المصرية عن (أثر التصوف في الأدب والأخلاق) ورأت اللجنة المؤلفة بدرسه أن الباب الخاص بالمدائح النبوية خليق بأن يظهر مستقلا عن الأصل بعض الاستقلال» «1» .
(1) مبارك، د. زكي: المدائح النبوية في الأدب العربي ص 8.
ولم يكن فن المدائح النبوية لذلك العصر فنا طارئا على الأدب العربي، فقد عرف في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جزء من الشعر الديني، الذي يعد أقدم ألوان الشعر عند الأمم جميعها، فالتقاء الفن بالدين قديم ضارب في أعماق التاريخ، فقبل الأديان السماوية كانت الصلاة مقرونة بالرقص والترنّم بالأغاني تقربا للإله، وكانت العبادة ألوانا من الفنون إلى جانب النصوص التي كانت تتلى، والتي كانت تعد من الأدب الجميل، الذي يحتفل في إنشائه ليؤثر في سامعيه.
وكان الدين وما يزال من المصادر الهامة التي تمد الأدباء بموضوعات أدبهم، وترقق مشاعرهم وأحاسيسهم وتوحي لهم بكثير من إبداعاتهم.
ويلتقي الدين والأدب في هدفهما، وهو تقويم النفس الإنسانية والمجتمع الإنساني، وإشباع الحاجة الإنسانية إلى الخير والجمال، وقد خدم الأدب العقيدة منذ القدم، فسجل دعوتها، وبث شعائرها بين البشر، وشرح مضامينها، وشاركها في بث الفضائل في نفوس الناس، وترغيبهم بالأخلاق الحسنة وتنفيرهم من الرذائل.
ومن هنا جاءت المدائح النبوية فنا أصيلا من فنون الشعر الديني، له خطره وله مكانته عند المسلمين فهو متعلق بصاحب الدين والمثل الإنساني الأعلى، فرسول الله صلى الله عليه وسلم شخصية إنسانية فريدة، هي أعظم شخصيات التاريخ الإنساني، فكان لا بد للأدب من أن يغتني بالحديث عنها، وكان لا بد للأدب من أن يشيد بها وبفضائلها، ويقدم للناس فيضا من خصائص الإنسان الكامل، ليقتدوا بها، وتصفو نفوسهم بتملّيها، وشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم استوجبت المدح من المسلمين وغيرهم لعظمتها وسموها.
(1) مبارك، د. زكي: المدائح النبوية في الأدب العربي ص 9.
نعم إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق الحمد أو المدح على الناس، وهو الذي أثنى عليه الله تعالى في كتابه العزيز، وهو الذي شجع الشعراء على أن يرتقوا بفنهم إلى آفاق إنسانية رحبة، ووجههم نحن الحق والخير بالقول والفعل، فقال:«إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة» «1» .
ورمى إلى كعب بن زهير بردته حين مدحه، وكان إذا أنشد حسان شعره يشرق وجهه الكريم ويدعو له ويشجعه ويثيبه، وكذلك كان يفعل مع عبد الله بن رواحة وكعب ابن مالك.
فكان المديح النبوي الفن الشعري الصادق الذي لا يخالطه رياء ولا يشوبه غرض، وكان المديح النبوي المضمون السامي لشعر انتشر انتشارا كبيرا بين الناس.
لقد عرف المديح النبوي منذ بعثة رسول الله هاديا ونذيرا، ونظمه الشعراء من الصحابة وشعراء العصور اللاحقة، لكنه لم يصبح ظاهرة متفردة إلا بعد مدة طويلة من الزمن، ولم يستقر ويتكامل إلا في العصر المملوكي، أو قبيله بقليل؛ إذ أضحت له قواعده وأصوله، وتقاليده المعنوية والفنية.
لقد كانت المدائح النبوية أرقى الفنون الشعرية في ذلك الوقت، وأكثرها سيرورة وتأثيرا، فجمعت بين الفن الرفيع والقبول العام، تذاكرها الناس على اختلاف مشاربهم وتباين ثقافاتهم، ورددوها وحفظوها.
لذلك كله، استحق فن ذلك العصر، المدائح النّبوية، دراسة شاملة، تخلّصه من أي لبس يحيق به وبحقيقته، وتظهر تأثيره وجماله، وتبرز ماله من انتشار وفاعلية، ما زالت حية بيننا، وأظنها ستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
(1) الحديث صحّحه السيوطي في الجامع الصغير 1/ 331.
ولم أشأ أن أقيد نفسي بقيود شديدة من الزمان والمكان، فأشرت إلى فن المدح النبوي قبيل العصر المملوكي وبعده بقليل، وإلى ما جادت به قرائح الشعراء خارج حدود الدولة المملوكية في مشرق الوطن العربي ومغربه، لأن الأدب لا ينقسم ويتميز بانتهاء دولة وقيام دولة، ولأن الحدود لم تكن تمنع الانتقال والتواصل والتكامل، ولو اقتصرت على الحدود الزمانية والمكانية لدولة المماليك، لجاء البحث ناقصا مفتقرا إلى جوانب هامة من المدح النبوي، وإلى النظرة الشمولية إليه.
وآمل أن تكون هذه الدراسة إضافة للدراسات التي توضح حقيقة الأدب المملوكي، وتخدم الأدب العربي ولغته الشريفة.
فلم أقصد في هذا البحث إلا الحق وإيضاح إحدى ظواهر الأدب العربي، ولم أعمد إلى الإساءة لمذهب أو التشكيك في معتقد، فالصعوبات والإشكالات الفكرية تحيط بالموضوع، وتجعل التصرف به عسيرا، فالمواقف بنت زمنها وظروفها، وعرضها من مستلزمات البحث العلمي.
د. محمود سالم محمد