الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومع ذلك لم ينس الدكتور علي أبو زيد في دراسته القيامة عن البديعيات أن يعدد فوائد البديعيات وآثارها في الثقافة العربية آنذاك، فذكر منها:
تعميم البلاغة ونشرها بين الناس، لأن المدائح كانت أكثر فنون الشعر انتشارا آنذاك.
ترسيخ أسس البديع، وتأكيد انفصاله عن علم البيان والمعاني.
العودة بالبديع إلى المدرسة الأدبية، وطريقة العرب البلغاء، التي تعتمد الشاهد، وإظهار مواطن الجمال فيه، والابتعاد عن الفلسفة والمنطق.
استنباط أنواع جديدة من البديع «1» .
القسم الثالث- التأليف:
لم يكتف المشتغلون بالمدائح النبوية بنظمها أو تخصيص الدواوين المستقلة لها، أو الزيادة عليها، فإن كثيرا من المهتمين بفن المدح النبوي لم يؤتوا الموهبة الشعرية، ولم تكن لديهم المقدرة على النظم، وكانت لديهم رغبة شديدة في المشاركة بهذا الفن الجميل الجليل، وحرصوا على ألّا يفوتهم ما تعود به المدائح النبوية على أصحابها، من شهرة ومكانة، ومن أمل بالمغفرة والثواب، وتحصيل الراحة والطمأنينة، لذلك عمد هؤلاء إلى شرح المدائح النبوية، وإظهار مقاصدها، وإيضاح المستغلق منها، وتوجيه المبهم، ليساعدوا بذلك من التبست عليهم بعض معاني المدح النبوي ومقاصده، واستغلقت بعض ألفاظه، وأبهمت أوجه الصنعة الفنية فيه.
وقد كثرت هذه الشروح كثرة مفرطة، وتناولت قصائد بعينها، تأتي في مقدمتها لامية كعب بن زهير وبردة البوصيري، إضافة إلى أن بعض الشعراء شرحوا قصائدهم
(1) أبو زيد، علي: البديعيات في الأدب العربي ص 251.
بأنفسهم، حرصا منهم على إيضاح مقاصدهم وخوفا من أن تؤول بعض عباراتها تأويلا لم يذهب إليه الشاعر، فيسيء إليه، أو لرغبة في التأليف عنده. وعدت الشروح آنذاك من ضروب التأليف التي يسعى إليها المؤلفون.
والشروح معروفة في التأليف قبل هذا العصر، لكنها زادت زيادة كبيرة فيه، وشملت مختلف العلوم، فكثرت الشروح والحواشي وما يقرب من ذلك.
وهكذا صارت تطالعنا شروح مختلفة لقصيدة واحدة، مثل قصيدة كعب بن زهير التي استمر شرحها في أوقات مختلفة فما أن ينتهي أحدهم من شرحها هنا حتى يبدأ آخر شرحها هناك، وصارت أسماء الشروح من العناوين البارزة في فهارس الكتب، مثل (شرح قصيدة كعب) و (حاشية على شرح ابن هشام لقصيدة كعب) و (بلوغ المراد على بانت سعاد) و (الجوهر الوقّاد في شرح بانت سعاد) و (كنه المراد في شرح بانت سعاد) وهكذا
…
ومن أمثلة شرح قصيدة كعب الشرح الذي وضعه ابن هشام، والذي مال به إلى اللغة وعلومها، حتى أصبح مما يعتمده المشتغلون باللغة وعلومها، فقد جعل من شرحه لقصيدة كعب كتابا يحوي مسائل اللغة والنحو، ودقائقها، وشرحه يسير على النحو التالي:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
…
متيّم إثرها لم يفد مكبول
«قوله: بانت سعاد، معنى بان: فارق، وله مصدران
…
ومذهب الكوفيين
…
والتاء حرف تأنيث لا اسم للمؤنث
…
قوله: سعاد، هو علم مرتجل، يريد به امرأة يهواها حقيقة وادعاء
…
» «1» .
(1) ابن هشام الأنصاري: شرح قصيدة كعب ص 47.
ويمضي ابن هشام في شرحه، فيستفيض في النحو ومسائله، واللغة وأمثلتها، مستشهدا على ما يذهب إليه بالقرآن الكريم والشعر العربي القديم، فيستغرق شرح البيت الواحد عشر صفحات.
وقد أصبح هذا الشرح مصدرا لشرّاح قصيدة كعب بن زهير الذين جاؤوا بعده، فمنهم من تابعه في اتجاهه اللغوي، ومنهم من أخذ شيئا من هذا الاتجاه، واتسع في الشرح ليشمل المعاني والسيرة والقضايا الدينية التي يقتضيها الحديث.
أما بردة البوصيري، فإنها نالت من الشروح والتفاسير ما لم تنله قصيدة في الشعر العربي، فبروكلمان عدّد لها تسعة وسبعين شرحا بلغات مختلفة، إضافة إلى عدد من ترجماتها إلى اللغات الأوروبية والفارسية والتترية «1» .
وكذلك الأمر مع همزيته، التي نالت اهتمام الشّراح وإقبالهم، وقد حصر بروكلمان ثمانية عشر شرحا في عصور متلاحقة «2» .
ومن أمثلة شرح البردة ما وضعه عليها أبو شامة المقدسي، وسار فيه على النحو التالي:
أمن تذكّر جيران بذي سلم
…
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
«قبل الخوض في الشرح، نشير إلى عدة أمور، يليق ذكرها بالمقام، منها أن عادة شعراء العرب جرت بأنهم يبتدئون في مطالع قصائدهم بذكر لوازم العشق
…
الجيران: جمع جار، والسلم: نوع من الشجر، وذي سلم: مكان
…
والبيت في تأويل المصدر، معطوف على تذكر، أي من هبوب الريح
…
» «3» .
(1) بروكلمان: تاريخ الأدب العربي 5/ 82.
(2)
المصدر نفسه: 5/ 98.
(3)
أبو شامة: شرح قصيدة البردة، ورقة 42.
وهكذا ينتقل أبو شامة من بيت إلى بيت، يبدأ بشرح مفرداته، ثم يعربه، ويذكر بعض القضايا الأدبية والدينية التي يقتضيها الشرح، مستشهدا على ذلك بالقرآن الكريم والحديث الشريف والشعر العربي، ومشيرا إلى بعض حوادث السيرة العطرة.
ومن الشروح المهمة للبردة الشرح إلى وضعه الغزي «1» تحت عنوان (الزبدة في شرح البردة)، وهو يأتي على النحو التالي:
وكيف تدعو إلى الدّنيا ضرورة من
…
لولاه لم تخرج الدّنيا من العدم
«وكيف: للاستفهام الإنكاري، أي لا
…
تدعو: أي تميل
…
لم تخرج الدنيا من العدم، إلى الوجود، ببناء تخرج للفاعل أو المفعول، وخرج بقول أصالة عمّا ضرورته إليها عرض، كالحاجة إلى قدر القوت وستر العورة، مع إعلامه صلى الله عليه وسلم أن ذلك ونحوه ليس من الدنيا، وإن كان فيها ضرورة
…
» «2» .
فهو في شرحه يهتم بالمعاني وأصولها، ويتسع في الاستشهاد بالقرآن الكريم والحديث الشريف والشعر العربي.
وإلى جانب هذه القصائد نجد مدائح نبوية أخرى، أخذها المؤلفون بالشرح والتفسير، وقد جاء في وصف أحد المخطوطات:«مضى شهاب الدين المقدسي إلى قصائد في مدح الرسول، شرحها، وسمّى شرحه (المقاصد السنية في شرح القصائد النبوية) ، وهي القصيدة اللامية المشهورة بالشقراطيسية.. وذات الأصول في مدح الرسول، وذات الدرر في معجزات سيد البشر، وذات القبول في مفاخر الرسول، ومفرجة الغمم في مدح سيد الأمم، ووداع الزائر للنبي الطاهر، وشكوى الاشتياق إلى النبي الطاهر الأخلاق» «3» .
(1) الغزي هو بدر الدين محمد بن محمد بن محمد، الفقيه المفسر المحدث، توفي سنة (984 هـ) . تراجم الأعيان: 2/ 93.
(2)
الغزي: الزبدة في شرح البردة ص 64.
(3)
بدوي، أحمد أحمد: الحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبية ص 44.
ومن المدائح النبوية التي اهتم أصحابها بشرحها البديعيات، فابن حجة جعل من شرحه لبديعيته كتابا كبيرا حوى كثيرا من قضايا المدح النبوي ومميزاته، وطائفة كبيرة من القضايا الأدبية التي كانت تهم أهل عصره، إضافة إلى قدر كبير من شعر العصر ونثره، وما فرضه السياق من التراث العربي.
وجعل الحلي من شرح بديعيته كتابا كبيرا في البديع، وكذلك السيوطي في شرح بديعيته (شرح نظم البديع) .
ومنهم أيضا أحمد بن محمد الخلوف «1» الذي «عمل بديعية ميمية، سمّاها «مواهب البديع في علم البديع» ، وشرحها شرحا حسنا) «2» .
وشرح البديعيات، إضافة إلى ما ظهر لنا في شرح المدائح النبوية، يحوي إيضاحا لفنون البديع والتمثيل لها، ولو أخذنا شرح بيت من خزانة ابن حجة على بديعيته، لكلفنا ذلك من أمر البحث شططا، فهو عند ما يبدأ الشرح على البيت الأول المخصص لفن من فنون البديع وهو براعة المطلع، نجده على النحو التالي:
لي في ابتدا مدحكم يا عرب ذي سلم
…
براعة تستهلّ الدّمع في العلم «3»
«اعلم أنه اتفق علماء البديع على أن براعة المطلع، عبارة عن طلوع أهلة المعاني واضحة في استهلالها..»
وبعد أن يعرّف المصطلح البديعي، يورد آراء علماء البديع به، وأمثلة من الشعر العربي القديم، ويتحدث عن قضايا أدبية، مثل الاستشهاد بشعر المولدين، كلامهم
(1) الخلوف، أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الحميري: شب في بيت المقدس وتعلم فيه، وعاد إلى المغرب، برع في النظم والنثر، وكتب لصاحب المغرب، امتدح النبي كثيرا. السخاوي: الضوء اللامع 2/ 122.
(2)
السخاوي: الضوء اللامع 2/ 122.
(3)
ابن حجة: خزانة الأدب ص 3.
ومعانيهم، ومثل شروط الغزل في المدح النبوي، وتراجم بعض الشعراء الذين استشهد بشعرهم، ويستطرد إلى ذكر شعر مشابه لما استشهد به، ويذكر رأيه فيه مستحسنا أو ناقدا، ولا ينسى أن يأتي بأمثلة من النثر، ويحاول أن يظهر كيف أخذ الآخر عن الأول، ثم يذكر أمثلة على النوع البديعي الذي يتحدث عنه، من بعض البديعيات التي سبقت بديعيته، ويوازن بينها، فأخذ ذلك نحو عشرين صفحة من خزانته.
فجاء شرحه هذا كتابا أدبيا جامعا، فيه أمثلة كثيرة من الأدب، شعره ونثره، من العصر الجاهلي إلى عصره، وفيه نقد وحديث عن قضايا الشعر العربي والنثر العربي، حتى بدت بديعيته التي يشرحها، ليست أكثر من متكأ لتشكيل كتاب أدبي، غني بأمثلته وقضاياه.
وقد استدعت هذه الشروح كتبا أخرى، تتعلق بالمدائح النبوية، هي الكتب التي رد فيها أصحابها على شراح المدائح النبوية، أو أضافوا إلى شروحهم، مثل كتاب (إقامة الحجة على ابن حجة الذي تعقّب صاحبه شرح ابن حجة، وانتقده في مواضع كثيرة من شرحه.
ولم تكن شروح المدائح النبوية خالصة للقصائد التي تشرحها، توضح غامضها، وتفسر لبسها، وتبسط القول في معانيها فقط، فإلى جانب ذلك كله، حفلت الشروح بالمعلومات اللغوية والأدبية، وأوضحت مسائل تاريخية ودينية، وزخرت بالشواهد الشعرية والنثرية من التراث العربي، ومن الأدب المعاصر لأصحاب الشروح، حتى غدت بعض الشروح، مثل شرح ابن حجة في خزانته من المصادر الهامة لأدب ذلك العصر. ومثل شرح الكافية البديعية للصفي الحلي، الذي وضعه على بديعيته، وأورد فيه معلومات كثيرة حول البديع والبلاغة والأدب.
والحلة السيّرا لابن جابر الذي شرح بديعيته بنفسه، وشرحها رفيقه الرعيني «1» ، وأودعها إشارات كثيرة في الأدب واللغة.
(1) الرعيني: أحمد بن يوسف بن مالك الغرناطي، رافق ابن جابر إلى مصر والشام، كان محدثا أديبا شاعرا ناثرا متقنا لعلوم العربية. توفي سنة (779 هـ) . الدرر الكامنة: 1/ 340.
وكذلك الفتح المبين لعائشة الباعونية، الشرح الذي وضعته على إحدى بديعتيها، وتحدثت فيه عن بعض قضايا المدح النبوي، وأودعته ملاحظات هامة في البلاغة واللغة والعقيدة والأدب، وغير ذلك مما يوسع ثقافة القارئ ويعلمه ويمتعه.
إن كثيرا من قضايا المدح النبوي وأصوله، وصلت إلينا من شروح المدائح النبوية، أو من مقدمات دواوين المدح النبوي، فكان للشروح أثر في إرساء بعض القواعد النظرية للمدح النبوي.
وكذلك الأمر مع بعض صور النقد التي ظهرت في الشروح لمعاني شعراء المدح النبوي وأساليبهم، والتي أظهرت المضمون العام للمدح النبوي وطريقة أدائه.
فالمدائح النبوية استدعت نشاطا تأليفيا يخدمها، هو الشرح، الذي حفز همم بعض المؤلفين، وحثّهم على المشاركة في فن المدح النبوي، فدرسوا ونقّبوا وتثقّفوا ليقوموا بهذه المهمة، فكان بذلك أحد عوامل نشاط حركة التأليف في هذا العصر.
ويضاف إلى ذلك كتب السيرة والدلائل والمناقب، والرسائل الي ألّفت للبحث في مسائل دينية، طرحت في المدائح النبوية، وكانت محل خلاف بين العلماء، ولوضع مادة كافية ومناسبة بين يدي شعراء المدح النبوي، ليفيدوا منها في قصائدهم.
وبذلك يظهر لنا أثر المدائح النبوية في الثقافة، فإلى جانب الإنتاج الشعري الغزير، وإغناء حركة الشعر العربي بقصائد كثيرة وهامة، كانت موضع اهتمام الناس جميعا، فإن المدائح النبوية استدعت مؤلفات كثيرة العدد، هي الشروح وغيرها من المؤلفات التي لها علاقة من نوع ما بفن المدح النبوي.
الخاتمة
بعد استعراض وقائع العصر المملوكي، تبيّن لنا أنه لم يكن عصر ركود وجمود كما هو شائع عنه، بل كان عصرا يموج بالحركة والنشاط، فالصراع مع أعداء الأمة لم يتوقف طول العصر، ونجح المماليك في قيادة رعاياهم نحو النصر، ورد غزوتين عاتيتين، وظلوا أندادا للمغول والفرنجة الأوروبيين، يذودون عن الوطن العربي، ويأخذون المبادرة أحيانا، فيفتحون قبرص ورودس، ويؤدبون المعتدين.
وكانوا في صراع دائم فيما بينهم على السلطة، لا تهدأ فتنهم، واستمرت كذلك الثورات ضدهم، ثورات العرب لاستعادة مكانتهم ومجدهم، والثورات الشعبية التي نشدت العدالة الاجتماعية، ورفع الظلم والبؤس عن العامة.
وكان النشاط الثقافي متأججا على عكس الصورة المعروفة عنه، فالعلماء كانوا يدرّسون ويؤلّفون، ويجوبون الأقطار العربية الإسلامية، فتركوا لنا ثروة ثقافية كبيرة وموسوعات معرفية عظيمة، والكتّاب احتلوا مكانة بارزة في مجتمعهم، والشعراء كثروا كثرة مفرطة، والموسوعات تترى، لتنظم معارف العصر، ومتفرقات التراث العربي.
أما الشعر، فإنه تلّون بألوان مختلفة، بعضها زاه مشرق، وبعضها باهت ثقيل، منه الشعر الذي ينظر إلى شعر السابقين ويتابعهم، ومنه الشعر الذي يحفل بالصنعة المعنوية واللفظية، ومنه الشعر الشعبي الذي ينحدر نحو العامية واللحن.
ونحن لا نستطيع أن نفرد العصر بمذهب شعري محدد- كما يشاع عنه-، فلم يخلص عصر من العصور لمذهب أدبي واحد، وإن طغى أحد المذاهب على غيره.
لقد طغت الصنعة على أدب العصر، وكأن الشعراء وجدوا في البديع وفنونه تجديدا ذا شأن، فلبّوا رغبة الناس الذين أولعوا بالزخرفة في مظاهر حياتهم جميعها، ولو تابعوا مظاهر التجديد التي وجدت قبلهم، لكان لشعرهم موقع آخر.
ومحاولة خروج شعراء العصر المملوكي على هذا النهج كانت في الغالب تنصرف إلى الشعر الشعبي الملحون. فالشعر العربي حافظ في تاريخه الطويل على معظم مقوماته، وما أصابه من تغير أو تجديد، كان انعكاسا لتغير طبيعة حياة الشاعر وتطور عقليته، واختلاف ظروفه، فالأدب عامة هو ثمرة تفاعل الأديب مع بيئته والظروف المؤثرة فيها، ولذا كانت موضوعات الشعر وشكله الفني في كل عصر صدى لمظاهر البيئة.
ونحن لا نريد أن نكلّف شعراء عصر المماليك بتجديد لا طاقة لهم به، ولا نريد أن نحاكمهم من منطلق اتجاهات عصرنا ومفاهيمه ونظرته إلى الشعر، لكننا نقرر واقعا، ونبيّن حالا، فمهما يكن شأن هذا الشعر، لا بد من دراسته وتأريخه وتقويمه.
بدأ المدح النبوي منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالناس من حوله أعجبوا بشخصيته وكمالها، فتوجهوا إليه بالمدح كما يمدحون ساداتهم وأشرافهم، إلا أن الشعراء من الصحابة أخذوا يميّزون مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مدح غيره، لأنه متميز عن غيره، فالمدح النبوي يختلف عن المدح العام في الشعر العربي بأنه موجه إلى النبي الكريم، وبأن معانيه تختلف عن معاني المدح العام في بعضها، وفي درجتها ومفهومها في بعضها الآخر، فالمعاني التقليدية التي مدح بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تتباين عن المعاني التقليدية التي مدح بها غيره في منطلقها وعمقها.
واختلف المدح النبوي أيضا عن الرثاء في الشعر العربي، لأن الشعراء الذين مدحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لم يكن قصدهم رثاؤه، ولم يظهروا التفجع والحزن، ولأن شعرهم نظم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بزمن طويل، وإن وجدنا قصائد رثاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم إثر وفاته،
فهي تختلف عن قصائد المدح النبوي التي لا تزال تنظم إلى أيامنا هذه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يختلف عن باقي البشر، يختلف الشعر الذي يقال فيه بعد وفاته عن الشعر الذي يقال في بقية الناس، وخاصة عند ما يتيّقن المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم موصول الحياة، فيخاطبونه مخاطبة الأحياء.
لقد مدح الشعراء المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم مدحا تقليديا في جلّه، يترسم طرائق الجاهليين، لأن التقاليد الفنية الجاهلية لا تزال راسخة في نفوسهم، بيد أن المعاني الإسلامية أخذت تزداد في مدحهم له شيئا فشيئا، فأرسوا قواعد فن المدح النبوي.
وفي العصر الراشدي والأموي تابع الشعراء ما بدأه الشعراء الصحابة، ولكن سرعان ما اختفى المدح النبوي أو كاد، ليقتصر ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض الأبيات في قصائد مدح آل البيت، وقصائد الفخر، أو عند المقارنة، ولولا شعر الكميت لكاد أن يكون هذا العصر انقطاعا لما كان عليه المدح النبوي في زمن البعثة النبوية.
واتسع هذا الذكر شيئا ما في بداية العصر العباسي، وتسابق الشعراء إلى نسب ممدوحيهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه من الوجوه، وما لبثت أن ظهرت قصائد المدح النبوي، التي عارض أصحابها قصائد مدح بها النبي الأمين في حياته، ثم نظم الشعراء مدائح نبوية خالصة، تنظر إلى كل ما تقدم، بيد أنها مما سمحت به قرائح الشعراء وظروفهم.
وعرف العصر العباس مراحل مختلفة من مراحل تطور المدح النبوي، وظهر فيه كثير من مفردات المدائح النبوية ولوازمها.
حتى إذا وصلنا إلى العصر الفاطمي والزنكي والأيوبي، وجدنا فن المدح النبوي ينتشر في بقاع البلاد العربية الإسلامية، ليرسخ ويتعمم فنا مستقلا قائما بذاته من فنون الشعر العربي في العصر المملوكي.
إن المدح النبوي هو لون من ألوان الشعر الديني، اختلط بألوان أخرى في مسيرة تطوره حتى العصر المملوكي، ولذلك عدّ بعض الدارسين مدح آل البيت والتشوق للأماكن المقدسة من المدح النبوي، وعدوا المدح النبوي جزآ من الشعر الصوفي، وخلطوا بين المولد النبوي والمدح النبوي، ولو تمعّنا في هذه الفنون لوجدناها تقترب من فن المدح النبوي وتتقاطع معه، لكنها تفترق عنه أيضا في نواح كثيرة، فالمدح النبوي الذي جرى على الطريقة التقليدية لا يلتقي بمجمل فن المدح النبوي وصورته التي عرفت في العصر المملوكي، ومدح آل البيت فيه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه ليس مدحا له، والشعر الصوفي كذلك الأمر، ويجاريهما شعر التشوق إلى الأماكن المقدسة.
والعبرة في التفريق بين هذه الفنون وبين المدح النبوي هو قصد الشاعر من إنشاء قصيدته، فإذا كان غرضه مدح آل البيت أو ذكر مواجده الصوفية أو تشوقه للمقدسات، وذكر فيها النبي الكريم، فإنه لا يعد من المدح النبوي، أما إذا كان غرضه مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر في قصيدته آل البيت أو تشوقه للمقدسات أو بعض المواجد الصوفية، فهو مدح نبوي.
أما الشعر الذي ورد في المولد النبوي، فهو لون من ألوان المدح النبوي، لكنه يقتصر على ذكر معنى من معانيه، أو ذكر مرحلة من مراحل حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مرحلة الولادة والطفولة.
وبذلك فهذه الفنون الشعرية قريبة من فن المدح النبوي، ومتميزة عنه، ومتقاطعة معه، فهي تقترب وتبتعد، وتتداخل وتتمايز، لكنها لا يمكن أن تعد بكل صورها من فن المدح النبوي الذي عرف في العصر المملوكي على صورة معينة، يصعب معها دمج هذه الألوان به، لكن هذه الفنون أثّرت في المدح النبوي وتأثرت به، وأعطته الصورة التي نعرفها.
وقد اتسع المدح النبوي اتساعا كبيرا لدواعي مختلفة، ولأنه فن أصيل يلتقي مع كوامن النفوس المؤمنة ومع متطلبات الحياة، فالدين ينظم حياة البشر ويعطيها معناها وغايتها، والأدب ينيرها ويجمّلها ويوسع آفاقها، وحين يلتقي الدين والأدب لرفعة المجتمع لا بد من أن يعملا على النهوض به نحو السعادة، وأن يخلصاه من منغصاته.
والأدب الديني ليس جديدا على أدبنا العربي، أو الآداب الآخرى، فالأدب والعقيدة متكاملان، والشعر لما له من مكانة في نفوس الناس، استطاع أن يخدم الدين، وينشر أهدافه ويدافع عنه، كما استطاع الدين أن يمدّ الشعر بموضوعات جليلة، وأن يمنحه ظلالا عاطفية محببة.
ومن هنا حاول شعراء المدح النبوي تجسيد المثل الإنساني الكامل، الذي يتفق جميع المسلمين على تعظيمه وتنزيهه، وقدموا للمطلعين على شعرهم التجارب الإنسانية الرائعة التي يكبرها العقل الإنساني ويفيد منها ويتخذها هدفا له، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم الإنسان الكامل وبطل أبطال البشرية، وجماع الخير، وممثل الفضائل ومجسّد العبقرية الإنسانية، والنور الكوني المقتبس من نور الله، والصورة المشرقة لخلافة الله في الأرض.
والأدب يعكس الحياة، وشعراء المدح النبوي لم يكونوا في شعرهم بعيدين عن عصرهم ومجتمعهم، وإنما كانوا يجسدون حالا موجودة، تشغل الناس، وهي الاحتفال بالنبي صلى الله عليه وسلم والإشادة به في ظل ظروف الحرب والقهر، أو تعرض الدين لهجمة شرسة، ونبيهم لافتراآت الغزاة وإفكهم، فكان لا بد لهم من الرد، والانتصار لدينهم ونبيهم، أو أنهم استحضروا السيرة النبوية والشمائل النبوية، وأشاعوها في حياتهم للوصول إلى هدف معين.
فهناك تبادل في التأثير والتأثر بين الأدباء ومجتمعاتهم، والأدب يسعى إلى تغيير المجتمع بما يقدمه إليه من قيم جديدة، أو يحيي فيه قيما معروفة، ويعمل على ترسيخها.
وينسجم هذا المفهوم للشعر مع المفهوم الإسلامي الذي أراد للشعر أن يكون أداة بناء للمجتمع، يشجع على التخلق بالأخلاق الفاضلة، واعتناق المثل العليا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبصّر الشعراء المسلمين بمواطن القول الحق، ويبعدهم عن الروح الجاهلية والتقاليد الفنية التي نشؤوا عليها، ونظموا شعرهم من وحيها، فهو أراد للشعر أن يكون فنا كريما، ملتزما بقضايا الإنسان، ينشد الحق والخير والمبادئ السامية، لا ممتهنا ولا وسيلة تكسب، وأراد للشاعر أن يكون فاضلا مؤمنا صادقا في فنه.
إن دواعي اتساع المدح النبوي ومسوغاته في العصر المملوكي كثيرة ومتنوعة، فالظروف السياسية والاجتماعية والدينية التي كانت سائدة آنذاك، كانت كلها تدفع الشعراء إلى مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإكثار من مدحه.
فالصراع مع العدو الخارجي كان على أشده، والغزاة أرادوا اقتلاع الوجود العربي، وقد صبغ الأوروبيين عدوانهم بصبغة دينية، فهاجموا الإسلام وانتقصوا من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردّ الشعراء عليهم بالإشادة برسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه وتقديمه على الناس جميعا والأنبياء الكرام، وقدموا في قصائد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم صورا من البطولة والتضحية وأمثلة على التفاني في نصرة الحق، ليحثوا المسلمين على مقاومة الغزاة، ورد عدوانهم على الأرض والأمة وتراثها.
وكذلك الأمر مع سياسة المماليك الداخلية، فقد انفردوا بالسلطة، ولم يقيموا العدالة الاجتماعية كما يجب أن تكون، ولم يحافظوا للعرب حقهم في التقدير، وهم أصحاب البلاد، وهم الذين حملوا راية الإسلام ورسالته إلى العالم، وهم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت المدائح النبوية لتذكر المماليك بهذه الحقائق ولتحفز العرب على المطالبة بحقوقهم، واستعادة مكانتهم وأمجادهم.
وحفل العصر الملوكي بصور من المظالم التي عانى منها الناس كثيرا فجاءت المدائح
النبوية متوسلة برسول الله صلى الله عليه وسلم ليرفع عنهم هذه المحن، فيرفعون ظلمهم عن الناس، ولعل الناس يعرفون حقوقهم، فيطالبون بها، ويرفعون الجور عن أنفسهم.
وكان للجدل الديني المحتدم بين المسلمين وأهل الكتاب من جهة، وبين المسلمين أنفسهم من جهة أخرى، أثره في دفع الشعراء لنظم المدائح النبوية، ولرد افتراآت الغزاة، ولمقاومة البدع الدينية، أو لعرض مذاهبهم الدينية وآرائهم في القضايا الدينية التي اختلف المسلمون حولها.
هذه الأسباب وغيرها كانت وراء اندفاع الشعراء إلى نظم المدائح النبوية، وانتشار هذه المدائح، وانشغال أهل العصر بها على اختلاف مستوياتهم ومشاربهم.
أما المدحة النبوية، فإنها قصيدة ذات مضمون مستقل، وشخصية متفردة، إذ إنها تحوي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه، وهو إنسان متفرّد بين بني البشر، وقد اصطلح مادحو النبي الكريم على مضمون محدد لها، واستقروا على إيراد معان محددة فيها، يتفاوتون فيما بينهم في القدر الذي يضمّنونه منها مدائحهم النبوية.
فالمضمون الأساس للمدحة النبوية هو مدح النبي صلى الله عليه وسلم الذي يتألف من الإشادة بأخلاقه وشمائله على الطريقة التقليدية وبالقيم التقليدية التي اعتاد الشعراء العرب على مدح سادتهم بها، لكن المعاني التقليدية أخذت طابعا خاصا في المدائح النبوية، واكتسبت وهجا فريدا عند نسبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرجت عن تقليديتها، لأن الشعراء باتوا يدركون مفهوم النبوة، ويعرفون أنهم يمدحون بها سيد الوجود، ويراعون فيها النبوة.
وإلى جانب ذلك مدحه الشعراء بالقيم الدينية وبمكانته صلى الله عليه وسلم عند ربه، ومكانته بين الأنبياء، وأثره في حياة الإنسانية، واستقصوا فضائله وخصائله الكريمة، وحرصوا على ألا يفوتهم شيء منها.
وحرصوا كذلك على ذكر سيرته العطرة، فأظهروا جوانب العظمة والموعظة فيها، وذكروا معجزاته الباهرة منتقلين في ذلك إلى الغيبيات ونظرية الحقيقة المحمدية التي أفاضوا فيها أيّما إفاضة، واستغرقوا في تفصيل جوانبها أيّما استغراق.
وقد ذكروا في مدائحهم الصحابة الكرام، وأشادوا بإخلاصهم لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتفانيهم في نصرة الدين، ومدحوا آل البيت الأطهار، ونوّهوا بمكانتهم الرفيعة وقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإضافة إلى ذلك كله ذكروا بعضا من هموم عصرهم وقضاياه، وبسطوا عقائدهم ومذاهبهم ودعو إلى الجهاد وحثّوا على التحلّي بمكارم الأخلاق، واختتموا قصائدهم بالدعاء والتوسل والصلاة على النبي.
كما أضاف مادحو النبي من المغاربة في بعض قصائدهم مدح سلطان وقتهم، وخاصة في المولديات.
وقد تلوّن مضمون المدحة النبوية باختلاف مذاهب الشعراء واتجاهاتهم الدينية، فانطلق كل شاعر في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم من موقعه وتوجهه وما يراه.
فمضمون المدحة النبوية هو الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما استلزمه هذا الحديث، وانعكاس العصر على صفحته.
أما معاني المدح النبوي، فمعظمها مستقى من القرآن الكريم والحديث الشريف والسيرة النبوية، والتراث العربي، شعره ونثره، وقليلة هي المعاني التي تعد ابتكارا جديدا من إبداعات شعراء المدائح النبوية، والتي جاء من الأفكار الجديدة التي عرفوها في عصرهم، ومما تفتقت عنه قرائحهم، فاقتنصوا المعنى من هنا وهناك، وبالقدر الذي أسعفتهم به ثقافتهم وموهبتهم.
لذلك نجد كثيرا من المدائح النبوية التي لا تحوي جديدا، والتي لا تعدو أن تكون نظما للسيرة أو سردا للمعجزات، فأتت فيها الأحاديث والروايات بنصها وألفاظها تقريبا.
ويعكس أسلوب المدحة النبوية الاتجاهات الفنية التي عرفت في العصر المملوكي، فنجد القصيدة التقليدية التي تبدأ بالوقوف على الأطلال وتثني بالغزل وذكر الرحلة، ليصل الشاعر بعد ذلك إلى موضوعه وهو المدح، ويختمها بالمراد من مدحته، وقد اختلف هذا الشكل من شاعر إلى شاعر، فبعضهم أخل به بعض الإخلال، وبعضهم غيّر فيه، فاستبدل بذكر الأطلال وديار المحبوبة، ذكر الأماكن المقدسة، وترك الغزل الإنساني المحسوس، وتغزّل غزلا عاما مجرّدا، مظهرا تشوقه ووجده، ومشاعره الدينية الرقيقة.
ونجد في المدائح النبوية القصائد التي تخلو من كل تقديم، كما نجد الأراجيز التي تميزت منذ القدم وعدت أحد أشكال القصيدة العربية.
وإلى جانب ذلك نرى الإضافات التي زيدت على القصائد، فغيّرت شكلها، مثل التشطير والتخميس والتسديس والتسبيع، مع الموشحات والأشكال المستحدثة الملحونة.
ونلاحظ كذلك وجود القصائد المخططة مسبقا، والتي وضع الشعراء لها قيودا محددة، كأن ينظم الشاعر عددا من القصائد، كل قصيدة تتألف من عشرة أبيات، ولها روي مختلف، ويرتبها ترتيبا أبجديا، بعدد حروف الهجاء وتسلسلها، وقد تكون القصائد مؤلفة من عشرين بيتا، فتكون من العشرينيات، وقد يزيد الشاعر قيوده، فيلتزم ببداية كل بيت من قصائده بحرف القافية، إلى غير ذلك من أساليب الصنعة الشكلية التي استحدثت في هذا العصر.
وتبعا لذلك جاءت صياغة القصائد متفاوتة أيضا، تعكس المذاهب الفنية للشعر في العصر المملوكي، فنجد المدائح النبوية التي تضارع القدماء في صياغتهم وألفاظهم وطريقتهم في التعبير الشعري، وتتابعهم في خصائص شعرهم، إما بالمعارضة التي يستعين بها الشاعر، فينظم على مثال معروف حاضر في ذهنه، يتتبعه في إطاره العام، مستفيدا من وزنه وقافيته وبعض ألفاظه وتعابيره، وإما بالإنشاء الذاتي، بعد أن يملك الشاعر عدة متابعة القدماء، من ذخيرة لغوية مناسبة، ومعرفة بالشعر القديم وأساليبه، ومقدرة شعرية تتيح له هذه المتابعة.
ونجد مدائح نبوية تحمل سمات عصرها، وتنظر إلى التراث الشعري السابق، فجاءت صياغتها وسطا في جزالتها وفصاحتها، يسير الشاعر فيها على سجيته، ووفق ما تسمح به ثقافته وموهبته، فهي لا ترقى إلى أشعار السابقين، ولا تهبط إلى أشعار البديعيين، عليها رواء الشعر، وفيها ثقل الصنعة، وتظل مقبولة إذا قيست بالضرب الثالث من قصائد المدح النبوي، الذي شغف به شعراء العصر، وأحالوا فيه القصائد إلى هياكل من الزينة اللفظية والمعنوية، ومتون لضروب البديع التي وصلوا بها إلى قدر كبير من التكلف والتصنع، فذهبت بالأسلوب الشعري والمعنى معا، ولم يبق من الشعر إلا شكله الخارجي من وزن وقافية، وما بينهما هو تعمل وتكلف، يحشد فيه الشاعر كل ما يستطيع من ضروب البديع وأفانين الصنعة.
أما الألفاظ في المدح النبوي، فإنها تتفاوت في صحتها وفصاحتها من شاعر إلى شاعر، فالمتمكن تأتي ألفاظه صحيحة فصيحة، والشاعر الذي يعاني ضعفا في ملكته الشعرية وثقافته اللغوية، يعوّض ما ينقصه بأخذ الألفاظ والتعابير من هنا وهناك، فيبتعد فيما ينظمه عن اللغة الشعرية والتعبير الشعري.
في حين أن الصنعة الشعرية قلما جاءت في المدائح النبوية خفيفة مقبولة، طوّعها الشعراء للشعر، وأخضعوها للمعنى، وأبقوها حلية للشعر، تحرك أسلوبه وتزيينه،
وكانت في الغالب ثقيلة متكلفة، لم تندمج في الشعر، وظلت نابية ظاهرة، جارت على المعنى والأسلوب معا، وأضحت هي المقصودة في الشعر، وجاءت العناصر الآخرى لخدمتها وإظهارها، وهذا لا يعني أن أهل عصرها كانوا ينفرون منها، بل على العكس من ذلك كانوا يسرّون بهذه الصنعة، لأنها تلبّي رغبتهم وتشبع ميولهم، وتقع في نفوسهم موقع الإعجاب، لأنها توافق هوى في نفوسهم، وترضي حاجتهم إلى الجمال كما كانوا يتصورونه.
وارتبطت المدائح النبوية بأوزان الشعر العربي المعروفة، وانطلقت بعد ذلك ومن خلالها إلى تشكيلات وزينة مختلفة، وإلى الأوزان التي عرفها أهل العصر، فنظمت المدائح النبوية وفق الأشكال الشعرية التي كانت معروفة في ذلك العصر، كالموشح والفنون الملحونة، وحاول الشعراء الإفادة من كل عناصر الإيقاع والموسيقا في اللغة والأوزان، ليفوا بحاجة المنشدين ومجالس الذكر.
إضافة إلى ذلك كله فإننا نجد مدحا نثريا متنوّعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء على شكل رسائل ومقامات، وفي خطب الكتب وأثنائها، إلى جانب الموالد النبوية.
فالشكل الشعري للمدحة النبوية، حمل كل الخصائص الفنية في العصر المملوكي، هذه الخصائص التي جاءت من تأثير البيئة في الشعراء، ومن نظرتهم الجمالية، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها.
إن انتشار المدائح النبوية انتشارا عظيما، لا بد أنه قد ترك آثارا مختلفة في النشاط الاجتماعي والثقافي للمجتمع المملوكي، ولا بد أن شعراء المدح النبوي قد لمسوا ذلك، وهذا ما حفزهم على المضي بنظم هذا الفن والاتساع به قدر استطاعتهم، فجعلوا من المدح النبوي مشاركة بدعوات الإصلاح في الحكم والمواعظ التي نثروها في المدائح النبوية، وانتقاد مظاهر الخلل في المجتمع، وخاصة حين تقرن هذه الدعوات بالقدوة الصالحة من سيرة سيد الخلق.
لقد وضعت المدائح النبوية أمام الناس أمثلة عظيمة من العدل الاجتماعي، وحرّكت في نفوسهم التّوق إلى العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، فتضافرت مع أسباب أخرى، ليظهر التململ الاجتماعي.
وكانت المدائح النبوية مناسبة عظيمة لينفّس العرب فيها عن كربهم وكبتهم، فهم يمدحون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عربي الأرومة واللسان، ويمدحون الصحابة الكرام، وهم عرب، ويشيدون بالعرب دون أن يعترضهم أحد، فالعرب افتخروا ببعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من بينهم، وبحملهم للرسالة السامية، وإقامتهم لدولة الإسلام، ومن الواجب أن يكون لهم شأن في بلادهم.
فقد أثارت المدائح النبوية وما تضمنته من مدح للعرب، في نفوس العرب الرغبة في الانتصاف، وأحيت الأمل باسترجاع مكانتهم في الدولة الإسلامية، وذكّرت الناس بحقهم، ووجوب مراعاة جانبهم، لفضلهم السابق ولشرفهم ببعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
ولو دققنا في الحركة الثقافية في العصر المملوكي، لوجدنا أنها جانب من حركة البحث عن الذات القومية التي تجلت في العناية بالتاريخ القومي والسير الشعبية وموسوعات التراث العربي.
وإضافة إلى ذلك كله كان الاعتقاد قويا بكل ما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه المدح النبوي، وبأثره في سامعيه، فكانت المدائح النبوية عندهم مما يجلب المنافع ويدفع المكاره، ووسيلة للوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة.
وقد أثارت المدائح النبوية جدلا عقائديا بين المسلمين، عرضوا فيها آراءهم ومعتقداتهم، وعرّفوا الناس بها وبأصولها، وتصدى شعراء المدح النبوي لما رأوه انحرافا في العقيدة، يهدّد وحدة المسلمين في عصر، هم فيه بأشد الحاجة إلى الوحدة لمجابهة الغزوات العاتية.
وأفاد الناس أيضا من مجادلة شعراء المدائح النبوية لأهل الكتاب، معرفة بأصول دياناتهم، والتقائها أو افتراقها عن الدين الإسلامي، وردّوا افتراآت الغزاة على الدين الإسلامي الحنيف ونبيه الكريم.
هذه ملامح من أثر المدائح النبوية الاجتماعي، وإلى جانب ذلك كان للمدائح النبوية أثر تعليمي تجلّى في المعلومات التاريخية والدينية، وصور البطولة والعظمة، والمواقف الأخلاقية الفذة، والقدوة الحسنة، والدروس المفيدة، التي حفلت بها المدائح النبوية، ولا بد أن الناس أفادوا منها تاريخا وخلقا ومعرفة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، وأنهم حاولوا الاقتداء بسنّته والابتعاد عمّا يخالفها.
لقد نقل شعراء المدح النبوي المقاصد الدينية إلى الشعر، وتابعوا الدين في توجيه الناس، وإرساء روح الجماعة بينهم، ومحاربة العادات السيئة والأوضاع الخاطئة، وتقديم القدوة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته. ووضعوا المعلومات الدينية والتاريخية في قالب الشعر الذي يصل إلى كل الناس، ويسهل حفظه، فأوصلوا إلى معاصريهم المعاني الإنسانية والنفسية والاجتماعية، ومقومات الأمة ومثلها العليا، التي أكسبتها شخصيتها لتتوارث وتستمر.
وظهر للمدح النبوي أثر في الشعر العربي آنذاك، تجسد في وجوه عدة، منها رسوخه غرضا شعريا مستقلا، وأخذه حيّزا كبيرا من الشعر المنظوم في ذلك العصر، وتأثيره في أغراض الشعر الآخرى.
وكان الشعراء يرون للمدح النبوي تأثيرا في شعرهم وشاعريتهم، فهو من ناحية يدخل السرور والطمأنينة إلى النفوس المؤمنة، ويشعرها بالارتياح، فيأتي شعرها رائقا.
بعيدا عن أدواء الشعر، وهو من ناحية ثانية يجعل شعرهم منتشرا بين الناس، ويشهرهم، ولذلك يحرصون على إجادته والاحتفال به، كيلا ينحدروا في نظمه
انحدارهم في نظم الموضوعات الآخرى، وبذلك يكون موضوع المدح النبوي دافعا للإبداع وحث القرائح، والإجادة.
وإلى جانب ذلك بلغ هذا الفن من الاتساع حدا كبيرا، إلى أن أصبح الفن الشعري الأول في العصر المملوكي، وتجلى ذلك في الدواوين الكثيرة المقتصرة على المدح النبوي، والمجموعات الشعرية الكبيرة الموقوفة عليه، والقصائد الكبيرة التي لم تعهد في الشعر العربي من قبل، ومشاركة كل الشعراء، أو من يأنس في نفسه مقدرة شعرية، مهما كانت بسيطة، في نظم المدائح النبوية.
ولا شك أن هذه الرغبة الكبيرة في المشاركة بفن المدح النبوي قد دفعت الراغبين إلى الدرس والتحصيل والاستعداد لنظم الشعر، فكان المدح النبوي أحد دوافع التعلم والتثقف، وأحد العوامل التي حثت القرائح وأعملت العقول، ومنعت الشعراء من الاستغراق كليّا في الصنعة الجامدة، والألاعيب اللفظية، فقداسة الموضوع حتّمت عليهم الارتقاء بشعرهم، والحرص على جزالته، لأنه لا شيء أهم من الشعر الديني يستحق عناء الدرس وبذل الجهد، وبذلك حافظ شعر المدح النبوي على شيء من الأصالة والجزالة، لم تتوفر للموضوعات الآخرى.
فالمدح النبوي بعث الحركة والنشاط في الشعر المملوكي، وحافظ على صورته الأصلية، وإن كان قد تأثر بأشكال التعبير الشعري التي عرفت آنذاك.
ودخلت مفردات المدح النبوي إلى قصائد الموضوعات الآخرى في شعر ذلك العصر، فكان الشعراء يختتمون قصائدهم بالصلاة على النبي، أو يفتتحونها بمدح النبي صلى الله عليه وسلم، أو يمدحون الخلفاء ببعض ما يمدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقدّمون للقصائد بما يقدم به للمدائح النبوية، أو يتمثّلون بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يستعيرون تعابير المدح النبوي للتعبير بها في المواضيع الآخرى كالمدح والغزل.
إن ظهور القصائد الطويلة في المدح النبوي جعل بعض النقاد يتسائلون عما إذا كانت المدائح النبوية قد قدمت الشكل الشعري الأقرب إلى الملاحم بعد القصائد التاريخية والسير الشعبية، في حين أنكر بعض الباحثين وجود الملاحم أو ما يقاربها في الأدب العربي.
ففي المدح النبوي عناصر كثيرة تلتقي مع فن الملحمة، فيه يمتزج العالم الواقعي بالعالم الروحي، وفيه عرض لحروب بطولية خارقة، وفيه قيم إنسانية نبيلة، وفيه سرد لأحداث الدعوة الإسلامية، ولحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنشوء الأمة وصراعها مع الأمم الآخرى، وفيه تجسيد للإنسان الكامل، والبطل الإنساني المطلق، والمثل الأعلى للإنسانية، وهذه كلها من عناصر الملحمة ومقوماتها.
فالمدائح النبوية حملت روح التغيير في الشعر العربي، لكن تجسيدها كان ضمن الحدود المعروفة والشكل الخارجي للقصيدة العربية، فلم تكن ملامح الملحمة على وضوحها عند غير العرب، وليس مهما أن تكون لدينا ملاحم متطابقة مع فن الملاحم عند الأمم الآخرى، ولكن المهم أن العبقرية العربية لم تكن قاصرة على إبداع مثل هذا الفن، وألا يعد غيابه قصورا في التفكير، وجفافا في القريحة، وضيقا في الأفق.
فإن لم تكن هذه القصائد ملاحم بالمفهوم المعروف لها، فلتكن ملاحم عربية، ولتكن لها شخصيتها المستقلة مثلما للأمة شخصيتها المستقلة، ولتكن الفن الذي يقابل الملاحم عند الأمم الآخرى.
وكان للمدح النبوي أثر وتأثر بالبديع الذي كان سائدا في ذلك العصر، فالبديع ظهر بدرجات متفاوتة في قصائد المدح النبوي، وطغى على بعضها، فأحالها إلى ما يقرب من المنظومات التعليمية، وكان من نتائج الإغراق في الصنعة البديعية عند شعراء المدح النبوي، ظهور لون خاص من المدائح النبوية، هو البديعيات، التي جمعت بين المدح النبوي وفنون البديع، فتم بذلك المزاوجة بين أكثر فنون الشعر انتشارا وبين الصنعة
السائدة، فأصحاب البديع حمّلوا المدائح النبوية بديعهم، لينتشر بانتشارها، وتعرف فنونه، ومن هنا جاء التصنع والتكلف الذي اتسمت به البديعيات، لأن الناظم يبذل جهدا عظيما في الملاءمة بين معاني المدح النبوي وبين إيراد النوع البديعي، وسبك شاهده، وهذا جهد عقلي محض، يذهب بالشاعرية والرواء الشعري.
ويمكن أن تعد البديعيات مرحلة وسطى بين الشعر والنظم، هي شعر لأنها تحوي موضوعا شعريا، ولأنه يتخللها بعض مظاهر الشعر، وهي نظم، لأنه ذكر لفنون البديع وإيراد الأمثلة عليها.
وكان من آثار المدح النبوي الثقافية، حركة التأليف التي قامت حول المدح النبوي، والتي تجلت في الشروح المختلفة لبعض قصائد المدح النبوي، والتي تعد مشاركة في فن المدح النبوي من الذين لم يؤتوا موهبة شعرية تتيح لهم نظم المدائح النبوية، وقد عنيت هذه الشروح بمعالجة قضايا المدح النبوي، والبحث في أصوله وقواعده، وحفلت بالمعلومات التاريخية والدينية واللغوية والأدبية، حتى أصبحت من المصادر الثقافية الهامة للعصر.
فالمدائح النبوية استدعت نشاطا تأليفيا يخدمها، هو الشرح الذي حفز همم بعض المؤلفين، وحثهم على المشاركة في فن المدح النبوي، فدرسوا وتثقفوا، ليقوموا بهذه المهمة، فكان بذلك أحد عوامل نشاط حركة التأليف في هذا العصر.
وبذلك نرى أن المدح النبوي الذي بدأ مسيرته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمر خافتا إلى ما قبل العصر المملوكي، أضحى الفن الشعري الأول في ذلك العصر، وأضحى فنا مستقلّا له أصوله وقواعده، وله دواوينه وشعراؤه، وإن تقاطع مع فنون شعرية مشابهة. وكان لذلك كله أسبابه السياسية والاجتماعية والدينية، وهذا ما ظهر في المدحة النبوية التي لم تقتصر على مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، وعلى ذكر كل ما يتعلق به،
بل تجاوزت ذلك لتحمل صدى عصرها، وآمال الناس آنذاك، فكانت دعوة إلى العدل الاجتماعي والتخلص من كل معوقات تقدم المجتمع وقوته، وكانت دعوة إلى الجهاد والذود عن الوطن، وإلى الوحدة والتضامن، وكانت تعبيرا عن الروح العربية في عصر ساده الأعاجم، فكان لها أثرها في الناس، وكان لها أثرها في الأدب والثقافة، وكانت حافظا للشعر العربي من الانحدار والجمود، إذ أبقت شيئا من أصالته، فكانت معبرا للقصيدة العربية إلى عصرنا الحديث.