الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغزل:
وإذا كانت القصيدة التقليدية في المدح قد حوت في مقدمتها الغزل بالمحبوبة التي هيّج ذكراها الوقوف على الأطلال وذكر الديار، فإن المدحة النبوية لم تخل من الغزل، جريا على عادة الشعراء، واتّباعا لسنّة العرب في شعرهم، لأن الغزل يستميل القلوب، وتهواه الأسماع، وكان الشعراء يوردونه في بداية قصائدهم ليسترعوا انتباه سامعيهم إلى غرضهم ومقصدهم من الشعر.
وقد نقل شعراء المديح النبوي هذه السنّة إلى قصائدهم، وجاروا بها الشعراء الذين مدحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، مثل حسان بن ثابت وكعب بن زهير، بيد أن شعراء المديح النبوي في العصر المملوكي، والأدباء الذين أولعوا بهذا الفن اشترطوا في الغزل الذي تصدّر به المدحة النبوية شروطا، تبتعد به عمّا يخدش الحشمة، وعمّا لا يليق في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن حجة في ذلك:«إن الغزل الذي يصدّر به المديح النبوي، يتعين على الناظم أن يحتشم فيه ويتأدب، ويتضاءل ويتشبب، مطربا بذكر سلع ورامة، وسفح العقيق والعذيب، والغوير ولعلع، وأكناف حاجر، ويطرح ذكر محاسن المرد، والتغزل في ثقل الأرداف، ورقة الخصر، وبياض الساق، وحمرة الخد، وخضرة العذار، وما أشبه ذلك» «1» .
وبعد أن ردّدت عائشة الباعونية ما قاله ابن حجة، أضافت:«فإن سلوك هذا الطريق في المدح النبوي مشعر بقلة الأدب، وحسب العاقل قول الله تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ «2» .
(1) ابن حجة: خزانة الأدب ص 11.
(2)
الباعونية: شرح الفتح المبين ص 312؟ والآية: الحج/ 30.
وقد أورد ابن حجة في خزانته أمثلة على الغزل المحتشم والغزل الذي لا يليق بالمدحة النبوية، ويظهر أن هذه المسألة كانت موضع أخذ ورد، يناصر بعض الشعراء والأدباء توجّه ابن حجة، ويعارضه آخرون اقتداء بالشعراء الذين مدحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فعبّر النبهاني عن هذا الاختلاف بالرأي في قوله:«أما قصيدة بانت سعاد التي اتخذها دليلا بعض من سلك هذا المسلك، واستحسنه، وهو في نفسه غير حسن، فهي لا تصلح دليلا لذلك، لأن ناظمها كعب بن زهير- رضي الله عنه كان قبل إسلامه شاعرا جاهليا، فنظمها على طريقتهم قبل أن يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ويسلم على يديه، ويعرف آداب بالإسلام.. ولم يحصل مثل هذا التشبيب بعد إسلامه، ولا من أحد من شعراء النبي صلى الله عليه وسلم» «1» .
ولا يخطّئ النبهاني الشعراء الذين تغزلوا في مقدمات مدحاتهم النبوية تغزلا ماديا، بل يلتمس لهم المعذرة والمسامحة، فيقول:«ولئن أساؤوا من تلك الجهة بعض الإساءة، فقد أحسنوا من جهة مديحهم للنبي صلى الله عليه وسلم كل الإحسان، وقال صلى الله عليه وسلم: «اتبع السيئة الحسنة تمحها» «2» .
والأرجح أن الغزل في مقدمة المدحة النبوية، ليس مقصودا لذاته، ولا يعبّر عن مشاعر محرّمة عند المادح، ولا يقصد به إثارة غرائز السامعين، وهو لا يعدو مقدمة فنية لإثبات المقدرة الشعرية، وجريا على عادة متأصلة في نفوس الشعراء، وإنما يكون الغزل المحتشم أكثر ملاءمة للموضوع، وجو القصيدة، وجلالة الممدوح، ويبدو أن مقدرة الشاعر الفنية، وتأصّل الاتجاه الشعري عنده، هو الذي يفرض عليه لون الغزل الذي يقدم به للمدحة النبوية، ولا يعقل أن يورد شاعر يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصيدته ما يسيء إليها عامدا متعمّدا، لذلك لم يردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزل كعب، ولم يكره ذلك منه،
(1) المجموعة النبهانية: 1/ 14.
(2)
المصدر نفسه 1/ 15، والحديث في مسند ابن حنبل: 5/ 158.
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدرك الظروف التي ينظم فيها الشعراء شعرهم، ففي ذلك الوقت كان الغزل يقتضي وصف محاسن المحبوبة، وهذا ما فعله كعب حين قدّم لقصيدته بقوله:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
…
متيّم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البيّن إذ رحلوا
…
إلّا أغنّ غضيض الطّرف مكحول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
…
لا يشتكى قصر منها ولا طول «1»
إن الغزل الذي قدّم به الشعراء لمدائحهم النبوية، وتابعوا فيه كعب بن زهير- رضي الله عنه هو تقليد شعري محض، مثل تقليد ابن هتيمل «2» الذي نظم مدحة نبوية نهج في أسلوبها ومعانيها منهج القدماء، وهذا كان أسلوبه في شعره كله، فلا غرابة حين نجده في مقدمة مدحته النبوية يذكر الأطلال ويتغزل، ويصف محبوبته بالأوصاف نفسها التي ذكرها القدماء، وكأن الأمر لا يعدو صورة شعرية تتكرر، وليست تجارب عاطفية، أو أوصافا لمحبوبة يعرفها، ويعرف مواطن الجمال فيها، ويطلع على مفاتنها، لذلك نجد مقدمته لمدحته النبوية تسير كالتالي:
لولا محبّة أهل الدّار والدّار
…
ما غاض صبري وجفني ماؤه الجاري
ولا عكفت وأصحابي تعنّفني
…
على العكوف على نؤي وأحجار
أستودع الله أرواحا رحلن بها
…
عنّا المهابين أحداج وأكوار
(1) ديوان كعب بن زهير: ص 9.
(2)
ابن هتيمل: القاسم بن علي، أصله من جنوب الجزيرة العربية، استقر في مكة يمدح أمراءها، وهو عربي الأرومة من خزاعة، توفي سنة (656 هـ) . مقدمة ديوانه.
تحت المازر من أكفالها كثب
…
ترتجّ من تحت قضبان وأقمار
وفي البراقع من ألحاظها فتن
…
يطلعن ما بين أطواق وأزرار «1»
وأحيانا لا يتعدى وصف محاسن المحبوبة ما يمكّن الشاعر من إظهار براعته البديعية وولعه بفنون الصنعة الشعرية، والغزل والوصف يتسعان لمثل هذه الضروب البديعية، وعند ما نقرأ غزل الشاعر في مقدمة مدحته، ندرك على الفور أنه لا يتحدث عن تجربة شعورية، وإنما يستعرض مقدرة بديعية، وهذا ما نلمسه في المقدمة الغزلية لمدحة القلقشندي «2» النبوية:
سيف العيون على العشّاق مسلول
…
وصارم اللّحظ مسنون ومصقول
والخدّ كالجمر أو كالورد في شبه
…
والخال في خدّه بالنار مشعول «3»
وهكذا أخذ الغزل في مقدمات المديح النبوي يبتعد عن الأوصاف الحسية للمحبوبة وعن التغزل بمحبوبة معروفة، وأضحى غزلا صناعيا صرفا، موجّها إلى محبوبة غير متعينة، يظهر خلاله الشاعر عواطفه ومشاعر الحنين والوجد التي يتسم بها الشعر الديني، ومنه المدائح النبوية، وهذا ما نشعر به في غزل ابن خالدون الذي قدّم به لمدحته النبوية، فقال:
أسرفن في هجري وفي تعذيبي
…
وأطلن موقف عبرتي ونحيبي
لله عهد الظّاعنين وقد غدا
…
قلبي رهين صبابة ووجيب
(1) ديوان ابن هتيمل: ص 62.
(2)
القلقشندي: أحمد بن علي الفزاري، مؤرخ أديب، ولد في قلقشندة قرب القاهرة، له تصانيف أهمها (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) . توفي سنة (821 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 2/ 8.
(3)
المجموعة النبهانية: 3/ 143.