الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للناس المثل الأعلى في كرم الأخلاق، وأقرّ من القيم العربية ما وافق روح الإسلام، وهذّبها وأعطاها مفهوما جديدا، فلا عجب حين يمدح الشعراء رسولهم الكريم بمثل هذه القيم، لأنها عنده تأخذ أبعادا جديدة، وتشع بالتقوى والقداسة، وهم يفعلون ذلك لرسوخ التقاليد الفنية في نفوسهم، ولأنهم يريدون ممن حولهم أن يقتدوا بالجانب الإنساني والأخلاقي من شخصية الرسول العظيمة ولتشيع محاسن الأخلاق بين الناس، والتي أكد رسول الله أنه جاء ليتمها «1» ، وأنه يريد للإنسانية خير الدنيا والآخرة، وأن الإسلام ليس دين عبادة فقط، بل هو دين عبادة ودين حياة.
ولا يسعنا إلا أن نقر بروعة ما مدح به الرسول الكريم على هذه الطريقة، وخاصة ما مدح به في حياته وهو لا شك، لون من ألوان المديح النبوي، إلا أن تشابهه مع ما مدح به غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجعلنا نزحزحه قليلا عن بقية المدح النبوي، الذي أخذ صورة أخرى تقرب من هذا الشعر حينا، وتبتعد حينا آخر.
ولم يكن شعراء زمن البعثة يرمون من وراء مديحهم للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هذا المديح متميّزا، وفنا قائما بذاته، ولم يكن مديحهم مديحا دينيا محضا، وإن ظهرت فيه السمات الدينية، في حين أن المدائح النبوية هي شعر ديني خالص، امتزج بنفس الشاعر وبما انعكس من أحوال العصر عليها.
القسم الثاني- مدح آل البيت:
ظهر الانحياز لآل البيت والتحزب لهم في وقت مبكر من عمر الدولة العربية الإسلامية، ويمكن أن يعد الشيعة أول فئة سياسية دينية في الإسلام، قالوا بتفضيل آل البيت عامة وأبناء علي بن أبي طالب وفاطمة- رضي الله عنهم خاصة، وبأحقيتهم في
(1) مسند ابن حنبل: 2/ 381.
الخلافة، لأنهم أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم فضلهم وسبقهم إلى الإسلام، فعلي بن أبي طالب كفله الرسول الكريم، وتربّى في حجره، وآمن به وهو طفل، ورافق النبي الكريم في مراحل الدعوة كافة، وكانت له المواقف العظيمة في نصرة الإسلام ونبيه، وتزوج فاطمة ابنة رسول الله، وأنجب منها شابين، هما سبطا رسول الله، وكان على جانب عظيم من العلم والعقل والإيمان ومحاسن الأخلاق والشجاعة، فكان أهلا للخلافة، ولذلك فضّله قسم من المسلمين على غيره من الصحابة- رضوان الله عليهم-، وقدموه عليهم في أحقية الخلافة.
وقد ورد في القرآن الكريم ما يشيد بذوي القربى، من ذلك قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 42/ 23]، وقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33/ 33] .
وإن ورد في صحيح البخاري تفسير للآية الأولى، يبعدها عن التشيع، فروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما «إلا المودة والقربى، قال: فقال سعيد بن جبير: قربى محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا وله فيه قرابة» «1» .
ويضاف إلى ذلك ما يذهب إليه الشيعة من أن رسول الله أوصى بالخلافة بعده لعلي صراحة، ويوردون في ذلك حديث الغدير، والوصية الصفراء، وحديث أهل العباء، وغير ذلك من الأحاديث التي تنص على تفضيل علي وأهل بيته، وحقهم في إمامة المسلمين.
ومعظم هذه الأحاديث لم ترد في كتب الحديث المعروفة، وإن جاءت بعض معانيها على نحو مختلف في غير كتب الصحاح، وما ورد في هذا الشأن في صحيح
(1) صحيح البخاري: 4/ 154.
مسلم ما رواه بسنده في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي:«أنت مني بمنزلة هارون بن موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» «1» .
وأورد حديثا آخر نصه هو: «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال: اللهم هؤلاء أهلي» «2» .
وهذا الحديث هو الذي يدعونه حديث العباء، ويقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاطهم بعباءته، فسموا أهل العباء. وورد في الصحيح أيضا خطبة غدير خم، وفيها يقول الرسول الكريم: «أنا تارك فيكم ثقلين: أو لهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به
…
وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي» «3» .
وجاء في مسند الإمام أحمد بعض الأحاديث التي تقترب من هذه الأحاديث، منها قول أحدهم «سمعت عليا وهو ينشد الناس: من شهد رسول الله يوم غدير خم، وهو يقول ما قال؟ فقام ثلاثة عشر رجلا، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله وهو يقول، من كنت مولاه، فعلي مولاه
…
» وعقّب المحقق على هذا الحديث بقوله: «إسناده ضعيف» «4» .
وجاء في المسند أيضا حديث عن علي يقول فيه: «والله إنه مما عهد إليّ رسول الله أنه لا يبغضني إلا منافق، ولا يحبني إلا مؤمن» «5» .
وما يوردونه حول وصية رسول الله لعلي لا نجد لها في كتب الصحاح ما يؤيده، فقد جاء في صحيح مسلم، كتاب الوصية، الحديث التالي: ذكروا عند عائشة أن عليا كان
(1) صحيح مسلم: ص 1870.
(2)
المصدر نفسه: ص 1871.
(3)
صحيح مسلم: ص 1873.
(4)
مسند الإمام أحمد: 2/ 57.
(5)
المصدر نفسه: 2/ 57.
وصيا فقالت: «متى أوصى إليه؟ فقد كنت مسندته إلى صدري، فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري، وما شعرت أنه مات، فمتى أوصى إليه» «1» .
وهكذا نشأ تيار يناصر أهل بيت رسول الله، ويتشدد في موالاتهم، تحول شيئا فشيئا إلى حزب سياسي ديني، فناوأ بني أمية وقاتلهم، وقاتل العباسيين، وظل ثائرا، يطالب بالخلافة، وخلال ذلك نشأ له تراث كبير من الفكر الديني، والأدب، تلوّن بألوان مختلفة، وتأثر بأفكار غريبة، وخاصة عند فرقه المتطرفة.
فلا عجب إذا وجدنا شعرا يمدح به آل البيت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يجمع به الشعراء مدحهم إلى مدحه، حتى إذا انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه، وتباينت آراء المسلمين في خلافته وانحاز بعضهم إلى علي- كرم الله وجهه- وجدنا مدح علي وآل رسول الله يزداد، ويظهر، مثل قول عامر بن واثلة، أبي الطفيل «2» (له صحبة وتشيع) :
إنّ النّبيّ هو النّور الذي كشفت
…
به عمايات باقينا وماضينا
ورهطه عصمة في ديننا ولهم
…
فضل علينا وحقّ واجب فينا «3»
ويبدو أن مديح الرسول ومديح آله اقترنا كما يظهر في هذين البيتين، منذ وقت مبكر كما قلنا، وكما هو حاصل في صلاة المسلمين، فإذا كان المدح موجها للنبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه آل البيت، فهو مدح نبوي، أما إذا كان موجها لآل البيت وذكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو يخرج عن إطار المديح النبوي، ومن هنا جاء التفريق بين مديح آل البيت ومديح النبي، على الرغم من أن بعض الباحثين لم يفرقوا بين هذين اللونين من المديح، وعدوا
(1) صحيح مسلم: ص 1257.
(2)
عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمر القرشي، أبو الطفيل، شاعر كنانة وأحد فرسانها، ومن ذوي الفضل والسيادة فيها، روى عن النبي عدة أحاديث، وحمل راية علي بن أبي طالب، وخرج على بني أمية مع المختار الثقفي، توفي سنة (100 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 1/ 118.
(3)
الأصفهاني: الأغاني 15/ 152.
مديح آل البيت من المديح النبوي، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم علة تفضيلهم ومدحهم، بيد أن هذا الأمر يحتاج إلى نظر، لأن الشعراء الذين توجهوا إلى آل البيت بالمدح، لم يكن غرضهم مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء ذكره في هذا المدح، لأن آل البيت ينتسبون إليه، ولأن غاية ما يمدحون به هو علاقتهم بسيد الوجود، ولذلك نجد الشيعة من الشعراء أقل الشعراء مدحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنهم اكتفوا بمدح آله، وعدّوا ذكره فيه مكافئا لمدحه منفردا، ومن هنا جاء التباين بين هذا الشعر وبين المدائح النبوية.
ولذلك لا يمكننا أن نعد القصائد التي مدح بها آل البيت من المديح النبوي، ففي الغالب تكون قصائد الشيعة دفاعا عن حق آل البيت في الخلافة، وتفضيلهم على من سواهم، وانتصارا لتوجه ديني، يضفي على آل البيت القداسة والصفات النبوية، بعد أن كان مدحهم في البداية لا يتعدى إظهار مشاعر الحب لهم، كما قال أبو الأسود الدؤلي «1» :
أحبّ محمّدا حبّا شديدا
…
وعبّاسا وحمزة والوصيّا
فإن يك حبّهم رشدا أصبه
…
وفيهم أسوة إن كان غيّا «2»
وكان الصحابة والتابعون المتشيعون لعلي بن أبي طالب، يرون في نصرته نصرة لدين الله تعالى، ويرون في النهوض معه جهادا في سبيل الله، ويظهرون نحوه مشاعر الحب والإجلال، كما قال هاشم بن عتبة المرقال «3» ، يذكر نفورهم إلى علي عليه السلام:
(1) أبو الأسود الدؤلي: ظالم بن عمرو بن سفيان، من الفقهاء الأعيان، ولي إمارة البصرة لعلي بن أبي طالب، وشهد معه صفين. توفي سنة (69 هـ) . ياقوت: معجم الأدباء 6/ 473.
(2)
الأنباري، عبد الرحمن: نزهة الألبا ص 3.
(3)
هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، المرقال، صحابي خطيب فارس، شهد القادسية واليرموك، وكان مع علي في حروبه. ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 1/ 101.
وسرنا إلى خير البريّة كلّها
…
على علمنا أنّا إلى الله نرجع
نوقّره في فضله ونجلّه
…
وفي الله ما نرجو وما نتوقّع
ونخصف أخفاف المطيّ على الوجا
…
وفي الله ما نزجي وفي الله نوضع «1»
وقد بيّن الشعراء أسباب التفافهم حول آل البيت، وأظهروا عواطفهم الدينية الممزوجة بتوجههم السياسي الذي يرمي إلى وصول آل البيت إلى الخلافة، والخلافة مقام ديني وسياسي في الوقت نفسه، وظل ذلك متداولا بين الشعراء الذين يميلون إلى التشيع أما الشعراء الذين لا يرون رأي الشيعة، فإنهم يمدحون آل البيت ويذكرون قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانتهم الرفيعة في الإسلام، مثل قول الفرزدق في زين العابدين:
الله شرّفه قدما وعظّمه
…
جرى بذاك له في لوحه القلم
من جدّه دان فضل الأنبياء له
…
وفضل أمّته دانت له الأمم
مشتقّة من رسول الله نبعته
…
طابت مغارسه والخيم والشّيم
من معشر حبّهم دين وبغضهم
…
كفر وقربهم منجى ومعتصم
مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم
…
في كلّ بدء ومختوم به الكلم «2»
ومرّ معنا ما قاله الكميت في هاشمياته التي جادل فيها الأمويين في حق الهاشميين في الخلافة والتي أشاد فيها بال البيت، واتسع في ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم اتساعا يسيرا.
واستمر الشعراء في مدح آل النبي مدحا دينيا حينا ومدحا سياسيا حينا آخر، وقد نسب للإمام الشافعي شعر يشيد فيه بال البيت، وكأن الإمام الشافعي يردّ على من انتقص قدرهم، فيقول:
(1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/ 188.
(2)
ديوان الفرزدق: 2/ 180.
يا أهل بيت رسول الله حبّكم
…
فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم القدر أنّكم
…
من لم يصلّ عليكم لا صلاة له «1»
وأوضح الإمام الشافعي موقفه الذي لا يفرق فيه بين الصحابة، ولا ينكر فضل أحدهم، فقال:
إذا نحن فضّلنا عليّا فإنّنا
…
روافض بالتّفضيل عند ذوي الجهل
وفضل أبي بكر إذا ما ذكرته
…
رميت بنصب عند ذكري للفضل
فلا زلت ذا رفض ونصب كلاهما
…
بحبّيهما حتى أوسّد بالرّمل «2»
وهكذا أخذ الشعراء يمدحون آل النبي الكريم، ويذهبون في مدحهم كل مذهب، ويذكرون في مدحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتسعون في ذكره ويقتصرون، وهم في معظم شعرهم يقصرون هذا الذكر على قرابة آله منه، وافتخارهم بالانتساب إليه، ومن ذلك مدح محمد بن حبيب الضبي «3» لعلي بن أبي طالب بقوله الذي اكتفى فيه بذكر وصية النبي لعلي فقط:
وصيّ محمّد حقّا عليّ
…
وقتّال الجبابر والقروم
وخازن علمه وأبو بنيه
…
ووارثه على رغم المليم
شفاعته لمن والاه حتم
…
إذا فرّ الحميم من الحميم
ومن يعلق بحبل الله فيه
…
فقد أخذ الأمان من الجحيم «4»
(1) ديوان الشافعي: ص 72.
(2)
ديوان الشافعي: ص 72.
(3)
ابن حبيب الضبي: محمد بن حبيب بن أمية، من موالي بني العباس، علامة بالأنساب والأخبار واللغة والشعر له عدة كتب منها (أمهات النبي) توفي سنة (265 هـ) . الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 6/ 473.
(4)
المرزباني: معجم الشعراء ص 419.
ويدخل في هذا الباب الرثاء الحار الذي رثى به شعراء الشيعة آل البيت، والذين استشهدوا منهم خاصة، على يد خصومهم السياسيين من الأمويين وغيرهم، مثل قول دعبل «1» في قصيدته المشهورة:
مدارس آيات خلت من تلاوة
…
ومنزل وحي مقفر العرصات
لآل رسول الله بالخيف من منى
…
وبالرّكن والتّعريف والجمرات
ديار عفاها جور كلّ منابذ
…
ولم تعف للأيّام والسّنوات
هم أهل ميراث النّبيّ إذا اعتزوا
…
وهم خير قادات وخير حمات
وإن فخروا يوما أتوا بمحمّد
…
وجبريل والفرقان ذي السّورات «2»
واستمر تيار التشيع في الشعر على هذا النحو، يبدأ الشعراء ويعيدون في الإشادة بال النبي، ويتوسلون بهم، ويتشفعون، يشمل مدحهم الهاشميين جميعا حينا، ويقتصرون على آل علي بن أبي طالب وذريته من فاطمة حينا آخر.
وظاهر من كل ما تقدم أن مدح الرسول الكريم لم يكن هدف الشعراء الذين مدحوا آل البيت، وأن ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم اقتضاه مقام المديح، وهو من لوازمه التي يقوم عليها، ولولاه لما كان مديح آل البيت والإشادة بهم والاعتقاد بمكانتهم الدينية.
وصار التشيع من التيارات البارزة في الشعر العربي، اختص به الشعراء الذين يرون رأي الشيعة، وتأثر به الشعراء الذين لا يذهبون مذهبهم، ودخلت تعابير الإشادة بهم في كتب الأدب، ومعاجم المعاني فالثعالبي أفرد التعابير التي تقال في آل النبي بفصل
(1) دعبل بن علي بن رزين الخزاعي، شاعر هجاء متشيع، توفي سنة (246 هـ) . ابن قتيبة: الشعر والشعراء ص 539.
(2)
ديوان دعبل: ص 78.
خاص، وهذا يؤكد أن هذه التعابير صارت شائعة، وأنها أضحت من عدة الأديب، فقال مثلا في كتابه (سحر البلاغة) تحت عنوان (ذكر الآل) :
«وعلى آله الذين عظّمهم توقيرا، وطهّرهم تطهيرا، أعلام الإسلام، وأمان الإيمان.. الذين أذهب عنهم الأرجاس، وطهّرهم من الأدناس، وجعل مودتهم أجرا على الناس
…
» «1» .
وأورد أيضا في كتاب الممادح والأثنية ما يخص منها أبناء النبوة، فقال:«استقى عرقه من منبع النبوة، ورضعت شجرته من ثدي الرسالة، وتهدلت أغصانه عن نبعة الإمامة» «2» .
وظل الشعراء على عهد بني العباس يمدحون آل النبي بما تقدم، وظلوا على شيء من الاتزان في الحديث عنهم، لا يتعدون إظهار المحبة، والدعوة إلى تبجيلهم، وضرورة وصولهم إلى حقهم، ويهاجمون من يعاديهم مثل قول الصاحب بن عباد «3» :
أحبّ النّبيّ وآل النّبيّ
…
لأنّي ولدت على الفطرة
إذا شكّ في ولد والد
…
فايته البغض للعتره «4»
لكن الغلو أخذ بالظهور عند شعراء الشيعة شيئا فشيئا، بعد أن أخذت الأفكار.
الغريبة طريقها إلى الشيعة، والفرق المتطرفة منهم خاصة، فابن أبي الحديد يقول في قوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ إنه علي بن أبي طالب «5» .
ويقول في النبي الكريم وعلي بن أبي طالب:
(1) الثعالبي: سحر البلاغة ص 12.
(2)
المصدر نفسه: ص 57.
(3)
الصاحب بن عباد، إسماعيل بن عباد بن العباس الطالباني، وزير غلب عليه الأدب، له تصانيف، توفي سنة (385 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 3/ 113.
(4)
ديوان الصاحب بن عباد: ص 77.
(5)
ابن أبي الحديد: القصائد السبع العلويات ص 120.
ولكنّ سرّ الله شطّر فيكما
…
فكنت لتسطو ثم كان ليغفرا
«والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم والأمير سرّان لله، فالنبي سرّ العفو، وعلي فيه سر الانتقام» «1» .
ونسبوا إلى علي كرم الله وجهه معجزات عرفت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا:«ردّت الشمس له مرتين، مرة بالمدينة عند حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومرة بالعراق بعد وفاته صلى الله عليه وسلم» .
ووصلوا في الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى ما لا مزيد بعده، فقد عقب شارح القصائد السبع العلويات على قول ابن أبي الحديد:
علّام أسرار الغيوب ومن له
…
خلق الزّمان ودارت الأفلاك «2»
«روى الخوارزمي بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله تعالى من قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف سنة، فلما خلق الله آدم سلك ذلك النور في صلبه، ولم يزل الله تعالى ينقله من صلب إلى صلب حتى أقره في صلب عبد المطلب، ثم أخرجه من صلب عبد المطلب، وقسمه قسمين، قسما في صلب عبد الله، وقسما في صلب أبي طالب، فعليّ منّي وأنا منه» «3» . وهذا الحديث ورد في كتب الأحاديث الموضوعة «4» .
فإلى هذا الحد أوصل غلاة الشيعة عليّا، وأحاطوا آله بهالة من القداسة، وخاطبوهم كما تخاطب الأنبياء، حتى إذا قامت الدولة الفاطمية، التي جعل خلفاؤها من أنفسهم أصحاب الحق الذين وصلوا إليه، وتبنّوا كل ما قيل عنهم منذ عهد الرسول
(1) ابن أبي الحديد: القصائد السبع العلويات ص 43.
(2)
المصدر نفسه: ص 52.
(3)
المصدر نفسه: ص 69.
(4)
السيوطي: اللآلي المصنوعة 1/ 166.
صلّى الله عليه وسلّم إلى عهدهم، وزادوا عليهم ببناء فلسفة تعطيهم القداسة المطلقة والعصمة، ولذلك يقول ابن أبي حصينة المعري «1» في مدح المستنصر الفاطمي:
لولا بنو الزّهراء ما عرف التّقى
…
فينا ولا تبع الهدى الأقوام
يا آل أحمد ثبّتت أقدامكم
…
وتزلزلت بعداكم الأقدام
لستم وغيركم سواء، أنتم
…
للدّين أرواح وهم أجسام
يا آل طه حبّكم وولاؤكم
…
فرض وإن عذل اللّحاة ولاموا «2»
وقد أفرط الشعراء الفاطميون في مدح خلفائهم، وجاوزوا بذلك الحد، وخلعوا عليهم صفات النبوة وأشركوهم فيما ذهبوا إليه من سبق الرسول الكريم بالخلق على كل الخلائق، وجعله علة الكون، ومصدر فيض الموجودات، وبدؤوا ذلك بتشبيههم بالنبي صلى الله عليه وسلم في جلالته وهيبته، مثل قول الأجلّ في مدح المستنصر:
جلالة هيبة هذا المقام
…
تحيّر عالم علم الكلام
كأنّ المناجي به قائما
…
يناجي النّبي عليه السلام «3»
وثنّوا بإشراك آل البيت للرسول صلى الله عليه وسلم بالشفاعة، فتوسّلوا بحبهم للخلاص من الذنوب والعذاب، وفي ذلك يقول الأجلّ:
معشر حبّهم وطاعتهم حص
…
ن لنا من عذاب نار السّعير
مدحهم في المعاد ذخري إذا أف
…
لست من كلّ مقتنى مذخور «4»
(1) ابن أبي حصينة: الحسن بن عبد الله بن أحمد، شاعر من الأمراء، ولد ونشأ في معرة النعمان، وانقطع إلى دولة بني مرداس في حلب، فأوفدوه إلى الخليفة الفاطمي، فمدحه فمنحه الخليفة لقب الإمارة، له ديوان شعر توفي (457 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 1/ 332.
(2)
الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 10/ 91.
(3)
ابن شاكر: فوات الوفيات 1/ 165.
(4)
ديوان شعر الأجل ص 166.
وبعد ذلك لم نعد نجد فرقا بين ما مدح به المادحون رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما مدح به شعراء الفاطميين خلفاءهم، فالمؤيد داعي الدعاة يمدح المستنصر بقصيدة، لولا القرينة لظننا أنه يمدح النبي الكريم بقوله:
تزيّن مدح المادحين بذكره
…
فعنه تبدّت مدحة وثناء
إذا ما لواء الحمد زيّن أهله
…
فأنت لمحمود اللّواء لواء
تباهي بك الأرض السّماء حقيقة
…
فأنت لمن فوق السّماء سماء «1»
ثم دخل شعراء الفاطميين في غلوهم المستمد من العقيدة الفاطمية، وهذا الغلو هو ما قال به المتصوفة في النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، الذين يقولون بالحقيقة المحمدية، فالفاطميون هم أول من تجلى الله بهم واستجار بهم الأنبياء، وخدمتهم الملائكة، وفي ذلك يقول داعي الدعاة:
هم الألى بهم تجلّى ربّنا
…
لخلقه سبحانه عز وجل «2»
ويظهر من شعر الفاطميين تأكيد على بيان مذهبهم، وجوانب عقيدتهم، فكان التفاتهم إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلم قليلا، ولولا ادعاء الفاطميين بالانتساب إليه ووراثته لما وجدنا عندهم هذه الالتفاتة العجلى، وحتى عند ما عادوا إلى الوراء، وتحدثوا عن علي ابن أبي طالب وفضائله وخلافته للرسول الكريم لم يزيدوا على ما ذكروه شيئا. فطلائع ابن رزيك الذي سرد في قصيدة له بعض أخبار علي، لم يزد في ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم على ما جاء به غيره، فقال:
بال رسول الله ناجيت خالقي
…
بصدق فينجي من نوب النّوائب
وبوّاني منه أمانا موسّعا
…
وقد كنت أخشى أن تسدّ مذاهبي
(1) ديوان المؤيد داعي الدعاة ص 236.
(2)
المصدر نفسه: ص 212.
فمنهم إمام الحقّ حيدرة الذي
…
أبان غموض المشكلات الغرايب
عليه ترى الإجماع لا شكّ واقعا
…
ولم تره بعد النّبيّ لصاحب
وزوّجه الرّحمن بالطّهر فاطما
…
وقد ردّ عنها راغما كلّ خاطب «1»
ويتأكد من ذلك كله أن شعراء الفاطميين قد أخذوا بالعقيدة الفاطمية، ولم يلتفتوا إلى ما سواها، فأفرغوا قدراتهم في جلائها، ومدح الخلفاء الفاطميين وآل البيت، وكان من الطبيعي أن يمدحوا مدار فخرهم وعلة تفضيلهم، وهو الرسول العظيم، لكنهم لم يفعلوا، وظل الأمر عندهم يرد عرضا دون قصد إليه. ويؤكد هذا الاتجاه طلائع بن رزيك الذي وصل إلى مرحلة نظم الروايات والأحاديث التي تؤكد وصية النبي لعلي بن أبي طالب، لكنه لم يخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدح ما خص به عليّا، فقال في إحدى قصائده:
ويوم (خمّ) وقد قال النّبيّ له
…
بين الحضور وشالت عضده يده
من كنت مولى له هذا يكون له
…
مولى، أتاني به أمر يؤكّده
من كان يخذ له فالله يخذله
…
أو كان يعضده فالله يعضده
نادى بأعلى العلا جبريل ممتدحا
…
هذا الوصيّ وهذا الطّهر أحمده
وفي الفرات حديث إذ طغى فأتى
…
كلّ إليه لخوف الهلك يقصده
قالوا: أجرنا، فقام المرتضى فرحا
…
بالفضل والله بالإفضال مفرده
وقال للماء غض طوعا فبان لهم
…
حصباؤه حين وافاه يهدّده «2»
(1) ديوان طلائع بن رزيك: ص 53.
(2)
المصدر نفسه: ص 73.
ويظهر أنه أراد بسرد هذه الروايات أن يثبت ما لعليّ من كرامة ومعجزات تشابه معجزات الأنبياء، ويؤكد وصول علي إلى مرتبة الأنبياء حين يجعل قصده مثل الحج، وحين يجعله علة قبول العبادات والطاعات، في قوله:
فلولا أنت لم تقبل صلاتي
…
ولولا أنت لم يقبل صيامي
عسى أسقى بكأسك يوم حشري
…
ويبرد حين أشربها أوامي «1»
فأين ذكر رسول الله في هذا الشعر؟ لا نجده، لأن شعراء الفاطميين كدّوا أذهانهم للإحاطة بعقائدهم وغيبياتهم التي جعلت من الخلفاء تجسيدا للسر الإلهي أو للجوهر الفرد، كما قال عمارة اليمني حين ردّ على أحد الشعراء الذي ذمّ الدولة الفاطمية:
والجوهر الفرد نور ليس يعرفه
…
من البريّة إلّا كلّ من عرفا
لولا تجسّمه فيهم لكان على
…
ضعف البصائر للأبصار مختطفا «2»
لذلك أظهر الشعراء عجزهم عن الإحاطة بفضائل الفاطميين، وهذا المعنى تناقله شعراء المدائح النبوية الذين وجدوا أنفسهم مقصرين في كل ما يقولونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا عمارة اليمني يخاطب العاضد قائلا
لا يبلغ البلغاء وصف مناقب
…
أثنى على إحسانها التّنزيل
شيم لكم غرّ أتى بمديحها ال
…
فرقان والتّوراة والإنجيل
سير نسخناها من السّور التي
…
ما شانها نسخ ولا تبديل «3»
ولم يكتف عمارة بقوله إن القرآن مدح الفاطميين، بل زاد على ذلك ورود مدحهم
(1) ديوان طلائع بن رزيك: ص 132.
(2)
اليمني عمارة: النكت العصرية ص 292.
(3)
المصدر نفسه: ص 306.
في التوراة والإنجيل، وهذا ما يذهب إليه المؤلفون في دلائل النبوة، وفي أن الكتب السماوية بشّرت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما ردّده شعراء المدائح النبوية بعد ذلك.
لكن هذا التوجه لم يكن عند الشعراء الفاطميين جميعا، فكان بعضهم يؤكد في مدحه على التوجه السياسي والديني، ويشير إلى علاقتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، من مثل قول ظافر الحداد في الآمر:
لأنت وارث ملك الأرض قاطبة
…
ومدّعيه سواك الغاصب العادي
وسوف تكمل ما استوجبت حوزته
…
بمنزل الوحي لا أخبار آحاد
بجند نصرك فرسان ملائكة
…
لا ما يرى النّاس من خيل وأجناد
بها أمدّ أباك الله في أحد
…
وفي حنين وبدر أيّ إمداد
فأنت للخلق روح ظاهر وبه
…
يحيا ولو لاك أضحى رمّ أجساد «1»
ويوضح هذا التوجه ابن سناء الملك «2» حين طلب الشفاعة من الخليفة الفاطمي، لكنه جعله واسطة بينه وبين صاحب الشفاعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا ابن النّبيّ عسى في البعث تبعث لي
…
من عند جدّك عتقا لي من النّار «3»
وقد تأثر الشعراء الذين لا يتشيّعون بهذا التوجّه في مدح آل البيت، وظلوا يذكرونهم بعد القضاء على الدولة الفاطمية، مثل قول البوصيري فيهم:
(1) ديوان ظافر الحداد: ص 112.
(2)
ابن سناء الملك: هبة الله بن جعفر، أديب مشهور كتب في ديوان الإنشاء وكان بارع الترسل والنظم، له كتاب (دار الطراز في الموشحات) وديوان شعر. توفي سنة (608 هـ) .
(3)
ديوان ابن سناء الملك ص: 510.
فقل لبني الزّهراء والقول قربة
…
يكلّ لسان فيهم أو قصائد
أحبّكم قلبي فأصبح منطقي
…
يجادل عنكم حسبة ويجالد
وهل حبّكم للنّاس إلّا عقيدة
…
على أسّها في الله تبنى القواعد
وإنّ اعتقادا خاليا من محبّة
…
وودّ لكم آل النّبيّ لفاسد «1»
وظل ذكر آل البيت في الشعر المملوكي سائرا، ومدحهم موجودا في المدائح النبوية وسواها، وخاصة حين يقصد الشاعر أحد الهاشميين مادحا، فإنه لا يجد مدحا لهم أكثر من انتسابهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وربما أضاف إلى ذلك ما تسرّب إليه من شعراء الدولة الفاطمية، أو ما كان يمدح به الهاشميون قبل عصره، فالجزار «2» الشاعر المملوكي مثلا، يقول في مدح الشريف تقي الدين بن ثعلب:
ليت شعري أيقظة أم مناما
…
نظرت مقلتاي هذا المقاما
وقفتني ببيت من كانت الأم
…
لاك قدما لبيته خدّاما
ببني جعفر ابن عمّ رسول الل
…
له أرجو من الخطوب اعتصاما
طالما جاءهم من الله جبري
…
ل فأهدى تحيّة وسلاما «3»
واستمر الاحتفال بيوم عاشوراء يجدد ذكرى أليمة لكل المسلمين، وليس للشيعة منهم فقط، فكان هذا اليوم يعيد إلى أذهان الناس استشهاد الحسين- رضي الله عنه وقتله مع آل بيته شر قتله، وهذا أمر مستنكر من المسلمين جميعا، بل إن قتل أي مسلم
(1) ديوان البوصيري: ص 108.
(2)
الجزار: يحيى بن عبد العظيم. شاعر وقته، كان في بداية أمره جزارا، وله مصنفات توفي سنة (679 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 4/ 277.
(3)
ابن سعيد: المغرب في حلى المغرب: ص 328.
فاضل أمر يستنكره المسلمون، فكيف بقتل الحسين، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة التي نقلتها كتب التاريخ، لذلك نجد الشعراء أمثال أبي الحسين الجزار يسارعون إلى التعبير عما يثيره هذا اليوم في النفس، فهو يقول:
ويعود عاشوراء يذكّرني
…
رزء الحسين فليت لم يعد
أمّا وقد قتل الحسين به
…
فأبو الحسين أحقّ بالكمد «1»
ويقول أحد شعراء دمشق في هذا اليوم، وقد وقع به مطر غزير:
يوم عاشوراء جادت بالحيا
…
سحب تهطل بالدّمع الهمول
عجبا حتى السّماوات بكت
…
رزء مولاي الحسين ابن البتول «2»
وإذا نظرنا إلى شعراء المديح النبوي، وجدنا أنهم لم ينسوا ذكر آل البيت في أشعارهم، يشركونهم في المديح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هذا المدح لم يكن مقصودا لذاته، وإنما يستدعيه مدح الرسول الكريم واستذكار سيرته أو عند ما يصلون على النبي.
فإن الصلاة عليه مقرونة بالصلاة على آله، ولهذا نجد البوصيري أشهر مدّاح النبي يقول في إحدى نبوياته:
ريحانتاه على زهر الرّبا زهتا
…
فما لقلبي وذكر البان والأثل
ريحانتاه من الزّهراء فاطمة
…
خير النّساء ومن صنو الإمام علي
إذا امتدحت نسيبا من سلالته
…
فهو النّسيب لمدحي سيّد الرّسل «3»
ولا نعدم عند شعراء المديح النبوي قصائد خاصة يفردونها لمدح آل البيت، فإن
(1) الصفدي: تمام المتون ص 207.
(2)
ابن شاكر: فوات الوفيات 1/ 70.
(3)
ديوان البوصيري: ص 233.
محبة آل البيت في القلوب، والتعاطف معهم على أشده، لأنهم على فضلهم ومكانتهم، لم يقيض لهم أن يصلوا إلى حقهم، وظلوا زمنا طويلا عرضة للإضطهاد، فلم يبق لهم في عهد المماليك حول ولا قوة، فهل أقل من مدحهم والإشادة بهم، يقوله شاعر لإنصافهم، ويخفي وراء مدحهم نزعته العربية، فلا يعترضه معترض، ولا يأخذه الأتراك بقوله؟
ومن هؤلاء الشعراء الذين مدحوا آل البيت شاعر يدعي الأسنائي «1» ، نظم في مدحهم قصيدة اشتهرت في عصره، يقول فيها:
يا أهيل الحيّ من نجد عسى
…
تجبروا قلب أسير من جراح
فهو لاح لأولي آل العبا
…
معدن الإحسان طرّا والسّماح
آل طه لو شرحنا فضلهم
…
رجعت منّا صدور في انشراح
جدّكم أشرف من داس الثّرى
…
في مقام وغدو ورواح
وأبوكم بعده خير الورى
…
فارس الفرسان في يوم الكفاح «2»
وأشهر من تشيع من شعراء المديح النبوي في العصر المملوكي هو صفي الدين الحلي، الذي نظم عدة قصائد في مدح علي بن أبي طالب وآل البيت، واعتمد في تفضيل علي على ما جاء من أحاديث وروايات تنص على تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم له فقال فيه:
فو الله ما اختار الإله محمّدا
…
حبيبا، وبين العالمين له مثل
(1) الأسنائي: حسن بن منصور بن محمد، نشأ رئيسا فاضلا كاملا، ورفض العمل عند السلاطين رمي بالتشيع وتوفي سنة (706 هـ) . ابن حجر الدرر الكامنة: 2/ 46.
(2)
الأدفوي: الطالع السعيد ص 212.
كذلك ما اختار النّبيّ لنفسه
…
عليّا وصيّا، وهو لا بنته بعل
وصيّره دون الأنام أخا له
…
وصنوا، وفيهم من له دونه فضل
وشاهد عقل المرء حسن اختياره
…
فما حال من يختاره الله والرّسل «1»
وقد يشتد في مدحه، فيمدحه مثلما يمدح الأنبياء، ولولا أنه ذكر سابقا أن عليّا يأتي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لظننا أنه يمدح النبي في قصيدته التي جارى فيها المدائح النبوية والتي قال فيها:
جمعت في صفاتك الأضداد
…
فلهذا عزّت لك الأنداد
زاهد، حاكم، عليم، شجاع
…
ناسك، فاتك، فقير، جواد
شيم، ما جمعن في بشر قطّ
…
ولا حاز مثّلهن العباد
فلهذا تعمّقت فيك أقوام
…
بأقوالهم، فزانوا وزادوا
وغلت في صفات فضلك (ياسين)
…
و (صاد) وآل سين وصاد
ظهرت منك للورى معجزات
…
فأقرّت بفضلك الحسّاد
جلّ معناك أن يحيط به الشّع
…
ر وتحصي صفاته النّقاد
ذاك مدح الإله فيكم فإن فه
…
ت بمدح فذاك قول معاد «2»
وأوضح شاعر من القرن التاسع أسباب تعلق الناس بال البيت، فذهب إلى أن حبهم فرض من الله وأن الصلاة عليهم إتمام للصلاة، فقال:
يا أهل بيت رسول الله حبّكم
…
فرض من الله في القرآن أنزله
(1) ديوان صفي الدين الحلي: ص 89.
(2)
المصدر نفسه: ص 88.
كفاكم من عظيم القدر أنّكم
…
من لم يصلّ عليكم لا صلاة له «1»
أما الشعراء المغاربة، فإن ذكرهم لآل البيت، لا يتعدى ما قالوه في غيرهم من الصحابة، ونادرا ما يخصون آل البيت بحديث خاص في شعرهم، ومعظم ذكرهم لآل البيت يأتي في قصائد المديح النبوي، أو في القصائد التي يتشوقون فيها إلى الأماكن المقدسة، أو في الشعر الذي ينظمونه عند الوصول إلى المشاهد الحجازية، فحين وصل أحدهم إلى الحجاز، وزار معاهده، وقف على قبر حمزة سيد الشهداء- رضي الله عنه فقال:
يا سيّد الشّهداء بعد محمّد
…
ورضيع ذي المجد المرفّع أحمد
يا بن الأعزّة من خلاصة هاشم
…
سرح المعالي والكرام المجّد
يا من لعظم مصابه خصّ الأسى
…
قلب الرّسول وعمّ كلّ موحّد
جئناك يا عمّ الرّسول وصنوه
…
قصد الزّيارة فاحتفل بالقصّد
واسأل إلهك في اغتفار ذنوبنا
…
شيم المزور قيامه بالعوّد «2»
وحين يذكرون عليا، فإنهم يذكرونه ضمن الصحابة الكرام، ويشيدون بفضائله، مثلما يشيدون بفضائلهم، ولا ينسون صلته بالرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الصلة بالرسول الكريم هي مدار التفاضل بين المسلمين.
ويظهر مما تقدم أن مدح آل البيت قديم، بدأ منذ كان رسول الله حيا، فكان يضاف مدحهم إلى مدحه، ثم استقل بعد ذلك، حيث انقسم المسلمون حول الخلافة، وتشيع قسم منهم لعلي بن أبي طالب وأبنائه من بعده.
(1) السخاوي: الضوء اللامع 7/ 151.
(2)
المقري: نفح الطيب 2/ 661.
وقد توجه إليهم الشعراء بالمدح والإشادة، يدافعون عن حقهم في الخلافة، ويظهرون صفاتهم ومزاياهم ويذكرون قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحين يتعرضون لهذه الصلة مع الرسول الكريم، فإنهم يخصونه بشيء من المدح، لكن هذا المدح لم يكن مقصودا لذاته عند شعراء الشيعة، ولم تكن القصائد مبنية عليه، لذلك لا يعد مديح آل البيت من المديح النبوي، وإن التقى معه في ذكر النبي الكريم، فالأصل أن تكون القصيدة منظومة من أجل مديح النبي، وإن ذكر فيها آل البيت ومدحوا، أما إذا كانت في مدح آل البيت واستدعى الموضوع مدح الرسول الكريم، فإنها لا تكون من المديح النبوي.
ولا شك في أن مديح آل البيت قد أثّر في المديح النبوي أو تأثر به، فشعراء الشيعة، والفاطميون منهم خاصة، أضفوا على آل البيت من الصفات العالية ما يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبنوا قصائدهم على غرار قصائد المديح النبوي، واستخدموا معاني المديح النبوي، ولولا القرائن التي تظهر المقصود بالمديح، لظن قارئ تلك القصائد أنها مدائح نبوية خالصة.
ويظهر أن كثيرا من مبالغات مدّاح النبي، واستغراقاتهم في الغيبيات، جاءتهم من شعراء الشيعة، ومن مجاراتهم فيما قالوه في علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- وفي الخلفاء الفاطميين، فإنهم وجدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بتلك الصفات من علي بن أبي طالب.
ولذلك أضحت قصائد الشيعة في مدح أئمتهم أحد المؤثرات في قصائد المديح النبوي من حيث الشكل والمضمون على حد سواء.
إن هذا التداخل بين المدح النبوي ومدح آل البيت، هو الذي دفع بعض الباحثين إلى إدراج مدح آل البيت ضمن المدح النبوي، أو إلى جعله لونا من ألوانه، لكن إمعان النظر في قصائد مدح آل البيت يظهر الفرق بين الفنين الشعريين، وإن تشابها في نواح عدة، فالفصل بينهما يعتمد على المقصود من المدح، وعلى الموضوع الذي تبنى عليه