الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعين القريحة أنّى ونت
…
وتبرز ألفاظها جوهرا «1»
ويظل على هذا النهج في نظمه لقصيدته حتى يستنفذ حروف الهجاء، وكأنه بذلك حاز قصب السبق في الإبداع الشعري.
وهذه الطريقة في
النظم
شاعت في المديح النبوي، وهي أحد ألوان الشكل الشعري للمدائح النبوية، ومن مظاهر الصنعة في الشكل الشعري، التي كانت تعد آنذاك ممّا يدل على مهارة الشاعر ومقدرته، وهي لم تضف جديدا إلى شكل القصيدة العربية، بل جمدته بهذه القيود التي لا مسوّغ لها في المعنى أو في الصنعة الشعرية.
النظم:
ومن المظاهر البارزة في شكل المدحة النبوية الشعري، أو التي أثّرت في الشكل، النظم، فبعض شعراء المديح النبوي أرادوا في قصائدهم أن يجمعوا كل ما قيل في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت قصائدهم تاريخا أو سيرة أو ما شابه ذلك، فابتعدت عن الشاعرية، واقتربت من المنظومات التعليمية، لذلك اختل فيها الشكل الشعري الذي عهدناه في قصائد المدح العربية وفي معظم المدائح النبوية.
والمدائح النبوية التي نحا فيها أصحابها منحى النظم كثيرة، وقلما يخلو ديوان شاعر مكثر في المديح النبوي من قصيدة استبد بها النظم، مثل القصيدة الشقراطيسية التي سبق الحديث عنها ومثل همزية البوصيري التي بدأها بقوله:
كيف ترقى رقيّك الأنبياء
…
يا سماء ما طاولتها سماء «2»
فهو يظهر من المقدمة سعيه في قصيدته إلى إثبات فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرّده في
(1) الأدفوي: الطالع السعيد ص 490.
(2)
ديوان البوصيري: ص 49.
معجزاته، فأخذ ينظم أحاديثها، والروايات الغيبية الكثيرة حولها، متعرّضا للسيرة، ناظما أبرز أحداثها، في أكثر من أربع مئة بيت، لا نتبين خلالها أي انتقال، أو أي جزء من أجزاء القصيدة، فلا مقدمات ولا انتقال، بل نظم حتى ينتهي إلى الخاتمة، التي يطلب فيها الشفاعة. وبذلك لا يتضح لنا الشكل الشعري للمدحة النبوية، ولا نجد فيها موضوعات مستقلة، بل هي منظومة تقرب من المنظومات التعليمية، التي لا يهتم فيها ناظمها بالشكل الشعري، وكل همّه أن يضع مادته في القالب الشعري لغرض في نفسه، وهو إثبات المقدرة والبراعة، أو تقرير علم من العلوم ليتمكّن الطلبة من استظهاره وحفظه.
وهذا ما أبداه الصرصري أيضا في بعض مدائحه النبوية، وهو الذي عرف مثل البوصيري بشاعريته الفياضة وبمقدرته على تقليب معاني المديح النبوي، وغزارة شعره في هذا الباب. ويبدو أنه أراد ألّا يخلو ديوان مدحه النبوي من مثل هذا اللون من المدح النبوي، الذي صنعه بعض الشعراء ونالوا به شهرة واستحسانا حسب ذوق أدباء ذلك الزمان، فنظم قصيدة أربت على ثماني مئة وخمسين بيتا، وهو عدد لم نعهده في القصائد العربية من قبل.
وقد حاول في هذه القصيدة أن يجمع كل ما قيل في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يوضح مذهبه الديني، وبعض العقائد التي تباين موقف المسلمين منها، فأرّخ في هذه القصيدة وروى، وجادل ومدح، وسبّح وتوسل، دون أن يعير الشكل الشعري والتعبير الشعري الاهتمام الكافي إلا في مواضع قليلة، وكان يبدو عليه الحرص على أن ينظم الأحاديث والروايات في أوزان شعرية، ولو بدت نافرة مستعصية على الاندراج في السياق الشعري والخضوع للتعبير الشعري، فبدأها بقوله:
أصبحت أنظم مدح أكرم مرسل
…
لهجا به في رايق الأوزان
حبّرت فيه قصيدة أودعتها
…
من مسند الأخبار حسن معاني
في وصفه من بدء تشريفاته
…
حتى الختام بحسن نظم معاني «1»
فالصرصري أوضح في بداية قصيدته بعد التسبيح والحمد، أنه نظم مدحا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه اتخذ هذا المدح معونة له لينال ما يريده، وأنه أودع في قصيدته أخبارا مسندة تبدأ منذ وجود النبي وحتى وفاته، أي أنه نظم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تبدأ في نظره منذ بداية الخلق.
ومضى الصرصري في سرد وقائع السيرة منذ بدء الخليقة وفق نظرية الحقيقة المحمدية، وبيّن كيف تنقل نور النبي في جباه آبائه، وكيف كان سر معجزات الأنبياء، ليصل إلى إرهاصات النبوة والمولد والنشأة والبعثة ووقائع الدعوة حتى الوفاة، معرّجا خلال ذلك على دلائل النبوة والمعجزات، متوقفا عند الدقائق والجزئيات، معتمدا على الأحاديث والروايات، وكأنه ينظم قصة أو سيرة نظما مجرّدا، لا نجد فيها ملامح الشعر إلا في مواطن قليلة، ولمحات بسيطة، وهو دائما يذكر الأحاديث والروايات بنصها بعد تقطيعها عروضيا، من مثل قوله:
ولقد أتى عنه حديث مسند
…
سأسوق معناه لذي نشدان «2»
ولم يكتف الصرصري بذلك، بل عرّج على بعض قضايا المديح النبوي، مثل موقف رسول الله من الشعر، فقال:
واستنشد الأشعار مستمعا لها
…
مستحسنا من غير ما نكران «3»
وأبى الصرصري إلّا أن يدرج في قصيدته بعض القضايا الخلافية، ويدلي بدلوه في النقاش حولها، مثل زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليه، فقال:
(1) ديوان الصرصري: ورقة 96.
(2)
المصدر نفسه: ورقة 105.
(3)
المصدر نفسه: ورقة 107.
من زاره وكأنّما قد زاره
…
حيّا زيارة صحة وعيان
وبقبره الملك الكريم موكّل
…
ليبلّغ التّسليم للبعدان
لكن إذا ما المرء قام تجاهه
…
ردّ السّلام على القريب الدّاني
وهو الطري بقبره ما للبلى
…
والحادثات عليه من سلطان «1»
فهذه القصيدة منذ بدايتها وحتى نهايتها نظم للأحاديث والروايات، استقصى فيها الصرصري السيرة النبوية، والقضايا المتعلقة بالحديث النبوي، وبعض القضايا الدينية التي أثير الجدال حولها في أيامه، فلم يحتفل كعادته لمقدمتها أو خاتمتها، ولم يظهر لها أجزاء متباينة كما هو الحال في القصيدة المدحية المعروفة ولذلك بهت الشكل الشعري للقصيدة، لأن اهتمامه لم يكن منصبا على الشكل والأسلوب الشعري، وإنما على استقصاء كل ما قيل عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن مدحه، فظهر أثر النظم الذي جار على الشاعرية في القصيدة.
ومثل ذلك لامية ابن جابر التي نظم فيها أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، وإن قدّم لها ببيتين واختتمها ببضعة أبيات، فالمنظومات التعليمية تبدأ عادة بحمد الله تعالى وتختتم بالصلاة على نبيه، فجاءت على النحو التالي:
نبيّ هدى مولى شفيع مشفّع
…
رؤوف رحيم سله ما شئت يبذل
سما لمقام ليس يسمو إليه من
…
سواه فقيل اقبل عطاي وأقبل
وقال له جبريل هذه نهايتي
…
تقدّم فإني لا أجاوز منزلي «2»
فهذه أمثلة لشعراء كبراء من شعراء المديح النبوي، تظهر تأثير النظم على الشكل
(1) ديوان الصرصري: ورقة 113.
(2)
المجموعة النبهانية 3/ 351.