الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني حدود المديح النبوي
القسم الأول- الشعر التقليدي:
قلنا إن الشعر الذي مدح به الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، لا يعد من المديح النبوي الذي ندرسه، هو مديح نبوي لأنه قيل في النبي وأثاب عليه، لكنه لم يكن يقصد به أن يكون فنا شعريا مستقلا، وإنما مدح به الرسول قبل أن يتضح في أذهان معظم الشعراء مفهوم النبوة، فبقي مدحهم له في جله- مدحا تقليديا يقارب ما يمدح به سادة القوم وعظاماؤهم، فكان مدار المدح هو القيم التي تواضع الناس على تعظيمها وتقديرها في الجاهلية، والتي استمرت في الإسلام بمفاهيم جديدة ومنطلقات اجتماعية إنسانية، فجاء معظم هذا المدح يصحّ أن يقال في غير النبي، ولم يميّزه عن باقي الناس كما هو في الحقيقة.
ومن ناحية ثانية فإن الشعر الذي مدح به النبي في زمن البعثة، وإن تطرق للمعاني الدينية، وتوجه إلى الرسول لكونه نبيا، فهو يفترق عن باقي المديح النبوي، لأنه قيل قبل أن ينتقل الرسول الكريم إلى جوار ربه، فلم تتم له المفارقة بين المديح والرثاء، وكانت دواعيه حية حاضرة، تختلف عن دواعي المديح النبوي الذي جاء بعد ذلك، والذي قصد به الشعراء النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بقرون عدة، والذي أضحى فنا أدبيا قائما بذاته، له أصوله وقواعده.
ويمكن أن يلحق بهذا الضرب من المديح النبوي شعر الشعراء الذين مدحو النبي بعد وفاته، والذين لم يتجاوزوا في مدحه ما تواضع عليه الناس في مدح السادة والقادة، فكانت جل معانيهم مما يقال في أي إنسان، وليست مما يختص به سيد الناس وهاديهم.
ولذلك كان لا بد من تميّز هذا اللون من المديح النبوي، والإشارة إليه، لنخلص بعد ذلك إلى المفهوم السائد في العصر المملوكي للمدحة النبوية، والذي جعلها تتميز عن غيرها من قصائد المديح.
لقد مرّ معنا عند الحديث عن الشعر الذي مدح به الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته أمثلة كثيرة تذهب في مدح الرسول مذهبا تقليديا، لا نجد فيها أثر للدين الجديد، أو نجد أثرا باهتا لا يتعدى المفردات التي علقت بأذهان الشعراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما جاء به القرآن الكريم، وظل النهج الجاهلي هو السائد في أساليب الشعراء ومعانيهم، لأنهم ظلوا على تقاليدهم الفنية الجاهلية، ولم يسعفهم الوقت لتتم داخل نفوسهم عملية التغيير والانفعال بالوضع الجديد الذي خلقه الإسلام، لذلك لا نجد عندهم قصائد كثيرة توازي في سويتها الفنية ما كان عندهم قبل البعثة، فقد أدخلت عملية التغيير الارتباك والحيرة إلى نفوسهم فهم لا يدرون كيف يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لهم عهد بمخاطبة الأنبياء، وليس بين أيديهم تراث من ذلك القبيل.
وإذا كان لشعراء زمن البعثة ما يسوّغ لهم التقليدية في مدح رسول الله، فإن من جاء بعدهم، وعاش الإسلام منذ الصغر، وتشبّع بمبادئه، لا يوجد ما يسوّغ لهم التأكيد على القيم التقليدية في مدح الرسول الكريم، ففي العصر المملوكي الذي ذهب فيه الشعراء بالمدح النبوي كل مذهب، لم تختف القيم التقليدية من المدحة النبوية، وظل الشعراء يرددون في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يمدحه به الشعراء المخضرمون في حياته، وقد خلطوا القيم التقليدية بالمفاهيم الدينية التي تشعبت على عهدهم وفق مذهب الشاعر الديني، وكانت نسبة المعاني التقليدية تقل وتكثر حسب ثقافة الشاعر وموقعه ومذهبه الديني، وتتفاوت من قصيدة إلى أخرى، تطغى القيم التقليدية أحيانا، فيستحيل المدح في معظمه تقليديا، لا يتعدى القيم الحياتية الدنيوية التي يمدح بها الشعراء السادة والعظماء، وتختفي أحيانا أخرى، فتكون الصبغة الدينية هي التي تصبغ المدحة كلها.
لذلك لا نعجب إن وجدنا مدحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل قول الشهاب محمود «1» :
زان عبد الله لا بل هاشما
…
بل قريشا كلّها بل مضرا
فلذا إن ذكروا الفخر به
…
لم يطق غيرهم أن يفخرا «2»
فجعل الرسول الأمين مبعث فخر للهاشميين والقرشيين ومضر كلها، وإذا صح ذلك لهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث للناس كافّة، ويحق لكل مؤمن به أن يفخر به وباتباع هديه وسنته.
وحين يمزج الشاعر بين القيم التقليدية في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيم الدينية، فإنه يوازن بينها ويخضعها جميعا لغرض المديح، ويرقى بها إلى مقام الممدوح السامي، فلم تعد القيم التقليدية التي اصطلح الناس على المدح بها تحمل الدلالات نفسها حين يمدح بها شخص آخر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن بعض الشعراء لم يستشعروا هذا الأمر، وكأنهم يؤدّون ما يجب اتجاه سيد البشر حين يحشدون الصفات حشدا، وحين يبالغون في المعاني التقليدية. والشعراء من قبلهم وصلوا في المبالغة إلى ما لا مزيد بعده في مدح ممدوحيهم.
والعجب كله من شعراء عرفوا بالتصوف، فكانت قصائدهم نفحات روحية، واستغراقا وجدانيا في حب الله- عز وجل وفي الهيام برسوله ومقدساته، ثم يأتون بعد ذلك في مدح الرسول بمثل ما مدحه به البرعي في قوله:
مهذّب قرشيّ الأصل يشرف عن
…
حام وسام وعن روم وأتراك
(1) الشهاب محمود بن سلمان بن فهد الحلبي: كان شيخ صناعة الإنشاء في عصره، وشاعرا مكثرا، له ديوان في المدائح النبوية وكتاب «حسن التوسل إلى صناعة الترسل» ، توفي سنة (725 هـ) . ابن حجر: الدرر الكامنة 5/ 92.
(2)
الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 118.
جلالة ملئت جودا ومرحمة
…
من ماجد لدم الطّاغين سفّاك
غضبان تحت ظلال السّمر ممتلئا
…
بأسا وعند عبوس الدّهر ضحّاك
أغنى وأقنى وأحيا دين أمّته
…
بصولة بثّها في كلّ معراك
والحرب قامت على ساق به وسمت
…
إذ قام منتقما من كلّ أفّاك
فاتوا فأدركهم بالسّيف منتصرا
…
فما يفيقون من فوت وإدراك «1»
وحتى حين يمدح بعض الشعراء الرسول بمعان دينية، فإنهم يتبعون أسلوبا تقليديا، لا يوحي بمقصد الشاعر، فعبد الله بن أسعد اليافعي «2» ، مدح الرسول بقصيدة طلب فيها شفاعته لكنه عبر عن هذا الطلب بطريقة القوم في طلب العطاء، فقال:
ألا يا رسول الله يا أكرم الورى
…
ومن جوده خير النّوال ينيل
ومن كفّه سيحون منها وجيحن
…
ودجلة تجري والفرات ونيل
مدحتك أرجو منك ما أنت أهله
…
وأنت الذي في المكرمات أصيل
فيا خير ممدوح أثب شرّ مادح
…
عطا مانح منه الجزاء جزيل «3»
إن مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقيم التقليدية لم ينقطع حتى يومنا هذا، فالشعراء لا زالوا يستحضرون سيرة الرسول الأمين ووصفه، فيشيدون بمناقبه ويثنون على خصاله الحميدة، ويفخرون بأفعاله المباركة، إلا أن هذا المدح ينطلق من منطلق ديني وإن كان التعبير عنه تعبيرا تقليديا، وخاصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكّد على بشريته وإنسانيته، وضرب
(1) ديوان البرعي: ص 95.
(2)
عبد الله بن أسعد اليافعي: مؤرّخ متصوّف من شافعية اليمن. من كتبه (مرآة الجنان)، توفي سنة (768 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 6/ 210.
(3)
ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 11/ 93.