المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الرابع- في العصر العباسي: - المدائح النبوية حتى نهاية العصر الملوكي

[محمود سالم محمد]

فهرس الكتاب

- ‌المحتوى

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول بواعث ازدهار المديح النبوي وانتشاره

- ‌الفصل الأول الأسباب السياسية

- ‌الصراع الخارجي:

- ‌الصراع الداخلي:

- ‌الفصل الثاني الأسباب الاجتماعية

- ‌المظالم والكوارث:

- ‌المفاسد الاجتماعية:

- ‌الفصل الثالث الأسباب الدينية

- ‌مجادلة أهل الكتاب:

- ‌مخالفة الشريعة:

- ‌المظاهر الدينية:

- ‌الجدل المذهبي:

- ‌انتشار التصوف:

- ‌الرؤيا:

- ‌الفصل الأول نشأة المدح النبوي

- ‌القسم الأول: المديح والرثاء والمديح النبوي:

- ‌القسم الثاني- المدح النبوي في حياة الرسول:

- ‌القسم الثالث- في العصر الراشدي والأموي:

- ‌القسم الرابع- في العصر العباسي:

- ‌القسم الخامس- في العصر الفاطمي والأيوبي:

- ‌الفصل الثاني حدود المديح النبوي

- ‌القسم الأول- الشعر التقليدي:

- ‌القسم الثاني- مدح آل البيت:

- ‌القسم الثالث- الشعر الصوفي:

- ‌القسم الرابع- التشوق إلى المقدسات:

- ‌القسم الخامس- المولد النبوي:

- ‌الفصل الأول المضمون

- ‌القسم الأول- المدح بالقيم التقليدية:

- ‌القسم الثاني- المدح الديني:

- ‌محبته:

- ‌فضائله:

- ‌هديه:

- ‌السيرة:

- ‌المعجزات:

- ‌تفضيله:

- ‌الحقيقة المحمدية:

- ‌الرسول والبشرية:

- ‌التوسل به والصلاة عليه:

- ‌آثار النبي الكريم:

- ‌ذكر الآل والصحابة:

- ‌القسم الثالث- مواضيع أخرى:

- ‌الحديث عن المديح النبوي في قصائد المديح:

- ‌القسم الرابع- المعاني:

- ‌الفصل الثاني الأسلوب

- ‌القسم الأول- الشكل الشعري:

- ‌ذكر الأماكن:

- ‌الغزل:

- ‌الرحلة:

- ‌وصف الطبيعة:

- ‌الوعظ:

- ‌الدعاء:

- ‌المباشرة بالمدح:

- ‌الانتقال:

- ‌الرجز:

- ‌المقطوعات:

- ‌ضروب النظم:

- ‌الأشكال المتميزة:

- ‌القيود الشكلية:

- ‌ النظم

- ‌المعارضة:

- ‌الوزن والقافية:

- ‌القسم الثاني- الصياغة والأسلوب:

- ‌النظم:

- ‌التصنع:

- ‌الألفاظ:

- ‌القسم الثالث- الصنعة الفنية:

- ‌الصنعة الخيالية:

- ‌الصنعة اللفظية:

- ‌الفصل الأول أثر المدائح النبوية في المجتمع

- ‌القسم الأول- الأثر الاجتماعي:

- ‌النصح والإرشاد:

- ‌الاعتقاد بالمدائح النبوية:

- ‌الجدل العقائدي:

- ‌إظهار النزعة العربية:

- ‌القسم الثاني- الأثر التعليمي للمدائح النبوية:

- ‌القدوة والمثل:

- ‌المعرفة:

- ‌الفصل الثاني أثر المدائح النبوية في الثقافة

- ‌القسم الأول- أثر المدائح النبوية في الشعر:

- ‌أثره في الإبداع الشعري:

- ‌أثره في قصائد الشعر الآخرى:

- ‌الملاحم:

- ‌القسم الثاني- البديع:

- ‌القسم الثالث- التأليف:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌المصادر المخطوطة:

- ‌المصادر المطبوعة:

- ‌المراجع:

- ‌الفهرس التفصيلي (عام)

- ‌ حرف الألف

- ‌ حرف الباء

- ‌ حرف التاء

- ‌ حرف الثاء

- ‌ حرف الجيم

- ‌ حرف الحاء

- ‌ حرف الخاء

- ‌ حرف الدال

- ‌ حرف الذال

- ‌ حرف الراء

- ‌ حرف الزاء

- ‌ حرف السين

- ‌ حرف الشين

- ‌ حرف الصاد

- ‌ حرف الضاد

- ‌ حرف الطاء

- ‌ حرف الظاء

- ‌ حرف العين

- ‌ حرف الغين

- ‌ حرف الفاء

- ‌ حرف القاف

- ‌ حرف الكاف

- ‌ حرف اللام

- ‌ حرف الميم

- ‌ حرف النون

- ‌ حرف الهاء

- ‌ حرف الواو

- ‌ حرف الياء

الفصل: ‌القسم الرابع- في العصر العباسي:

وبورك قبر أنت فيه وبوركت

به، وله أهل بذلك، يثرب

لقد غيبّوا برّا وحزما ونائلا

عشيّة واراه الصّفيح المنصّب

فقال: «وهذا شعر يصلح في عامة الناس» «1» .

ثم عاد وفصّل كلامه في موضع آخر، فقال:«فلو كان لم يمدحه عليه السلام إلا بهذه الأشعار التي لا تصلح في عامة العرب، لما كان ذلك بالمحمود، فكيف مع الذي حكينا قبل هذا» «2» .

ومع وجود هذه الانتقادات البسيطة، التي لا تتجاوز طريقة أداء المعاني، فإن الكميت أعطى للمديح النبوي دفعة كبيرة في عصر توقّف أو كاد هذا اللون من الشعر، واستطاع أيضا أن يتسع في معاني المديح النبوي.

ففي هذا العصر لم نجد قصائد خاصة في المديح النبوي، وكان المديح النبوي- في الغالب- مديحا غير مباشر، يأتي في أثناء قصائد التشيع، أو قصائد الفخر أو عند المقارنة، ولولا وجود الكميت، لما بقي من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعر العصر إلا ظلال قليلة، تكاد تكون انقطاعا لما كان عليه المديح النبوي في عصر البعثة النبوية.

‌القسم الرابع- في العصر العباسي:

أفاد العباسيون من الحركات المناوئة للأمويين، ومن الثورات المتواصلة عليهم، فوصلوا إلى السلطة في الدولة العربية الإسلامية، وبنوا حكمهم على أسس دينية وسياسية ووفق ما يلائم نظرات الفرق المختلفة إلى الخلافة، فقد قاد العلويون حركة المقاومة ضد الأمويين على أساس أنهم أحق الناس بالخلافة، لكنهم لم ينجحوا في

(1) الجاحظ: البيان والتبيين 2/ 240.

(2)

الجاحظ: الحيوان 5/ 171.

ص: 87

حركتهم، فاستغل العباسيون ذلك، ووصلوا إلى الخلافة، وأظهروا أنهم أعادوا الحق إلى أصحابه الهاشميين، فسكت أبناء عمومتهم العلويون على ذلك في بادئ الأمر، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن أبناء عمومتهم العباسيين يتنكرون لهم، فجددوا ثوراتهم للوصول إلى الخلافة.

ولما كانت الخلافة في جوهرها خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تولي أمور المسلمين، كان لا بد من أن يذكر الرسول الأمين في كل حديث عن الخلافة، وخاصة أن المختصمين حول الخلافة، ادعى كل منهم وراثته للنبي الكريم بطريق أو باخر.

وكانت مسألة وراثة الخلافة قد ظهرت في وقت مبكر، لكن الحديث عنها اشتد في زمن بني العباس، الذين رأوا أنهم أحق الناس بوراثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه عند ما توفي صلى الله عليه وسلم كان عمه العباس على قيد الحياة، وهو الذي يستحق وراثته، في حين أن العلويين يذهبون إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلّف ابنته فاطمة، فهي التي ترثه، ويرثها من بعدها أولادها.

وقد صال شعراء بني العباس وجالوا في الانتصار لا دعاآتهم، ومن ذلك قول ابن هرمة «1» :

تراث محمّد لكم وكنتم

أصول الحقّ إذ نفي الأصول «2»

وقال مروان بن أبي السمط «3» موضحا مسألة وراثة الخلافة:

(1) ابن هرمة: إبراهيم بن علي بن سلمة القرشي شاعر غزل من سكان المدينة، مدح الوليد بن يزيد والمنصور العباسي، وانقطع إلى الطالبيين توفي سنة (176 هـ) . الأصفهاني: الأغاني 4/ 367.

(2)

تاريخ الطبري: 7/ 562.

(3)

مروان بن أبي السّمط: مروان بن يحيى بن مروان بن سليمان بن أبي حفصة، وال من الشعراء، كنيته أبو السمط، ويلقب غبار العسكر لبيت قاله، ويعرف بمروان الأصغر تمييزا له عن جده، سلك سبيل الطعن على آل علي بن أبي طالب، حسنت حاله مع المتوكل، ونادمه، فقلده اليمامة والبحرين توفي سنة (240 هـ) . ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/ 90.

ص: 88

لكم تراث محمّد

وبعدلكم تنفى الظّلامه

يرجو التّراث بنو البنا

ت ومالهم فيها قلامه

والصّهر ليس بوارث

والبنت لا ترث الإمامه «1»

وظل الشعراء يتقربون إلى بني العباس بهذه النغمة، لأن وراثة النبي الكريم تعطيهم مكانة سامية، وتعطي حكمهم شرعية، ظل الناس يعتقدون بها حتى نهاية الدولة المملوكية، وعلى الرغم من أن خلفاء بني العباس أصبحوا في الدور الثاني من دولتهم لا حول لهم ولا قوة، ولا يملكون من أمرهم شيئا، إلا أن جميع الذين تسلطوا على الخلافة لم يجرؤوا على إزالتها إلا بعد وقت طويل، وعلى يد بني عثمان الأتراك.

فهذه العلاقة بين الخليفة والنبي الأمين. والتي هي علاقة قربى وإرث، جعلت ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم محتما في مدح الخلفاء، الحريصين على إضفاء الصبغة الدينية على أنفسهم خاصة، لذلك مدح الخلفاء وغيرهم من الهاشميين بالانتساب إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أو باتباع سنّته، أو بالتسمي باسمه.

ومن ذلك قول مروان بن أبي حفصة «2» :

أحيا أمير المؤمنين محمّد

سنن النّبيّ حرامها وحلالها

ملك تفرّع نبعة من هاشم

مدّ الإله على الأنام ظلالها «3»

(1) تاريخ الطبري: 9/ 231.

(2)

مروان بن أبي حفصة: مروان بن سليمان بن يحيى، شاعر عالي الطبقة من موالي بني أمية أدرك دولة بني العباس ومدح المهدي والرشيد ومعن بن زائدة فجمع ثروة كبيرة كان يتقرب لبني العباس بهجاء العلوية توفي سنة (182 هـ) . ابن قتيبة: الشعر والشعراء ص 481.

(3)

أمالي المرتضى: 3/ 291.

ص: 89

ومما مدح به خلفاء بني العباس في انتسابهم للرسول الأمين لبس بردته، كما قال علي بن المنجم «1» في المعتز:

بدا لابسا برد النّبيّ محمّد

بأحسن ممّا أقبل البدر طالعا

سميّ النّبيّ وابن وارثه الذي

به استشفعوا أكرم بذلك شافعا «2»

ولم يقتصر الفخر بالانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني العباس، وهم قد أكّدوا هذه المسألة لدواعي سياسية لا تخفى على أحد بل شاركهم بذلك العلويون، وهم أول من أوضح هذا الانتساب وقالوا به، وأقاموا مطالبهم السياسية، ومذهبهم الديني على قرابتهم من الرسول الكريم، وهم أول من افتخر بذلك، وتابعوا فخرهم هذا في كل العصور، فهذا أحد الطالبيين يفخر على غيره من الهاشميين بقوله:

هل كان يرتحل البراق أبوكم

أو كان جبريل عليه ينزل

أم من يقول الله إذ يختاره

للوحي قم يا أيّها المتزمّل

يبدا المؤذّن في الآذان بذكره

من بعد ذكر الله ثمّ يهلّل «3»

وديوان الشريف الرضي «4» حافل بمثل هذا الفخر بالانتساب إلى النبي الأمين وآل بيته الكرام، فهو يقول:

(1) ابن المنجم: علي بن هارون بن علي بن يحيى، راوية للشعر من ندماء الخلفاء، له عدة كتب منها (الرد على الخليل في العروض) توفي سنة (352 هـ) . الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 12/ 119.

(2)

الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 15/ 173.

(3)

المرزباني: معجم الشعراء ص 139.

(4)

الشريف الرضي: محمد بن الحسين بن موسى الحسيني، أشعر الطالبين، انتهت إليه نقابة الأشراف في حياة والده، له ديوان شعر. ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 3/ 182.

ص: 90

جدّي النّبيّ وأمّي بنته وأبي

وصيّه وجدودي خيرة الأمم «1»

وقد مدح العلويون بهذه النسبة، وهذه الصّلة مع النبي الكريم مثلما مدح العباسيون، فقال السلامي «2» في مدح الشريف الرضي:

الموسوي النّاصري أبوة

وخؤولة علويّة الأنساب

في حيث أرّثت النّبوة نارها

فخبا لنور الحقّ كلّ شهاب «3»

وظل العلويون والمتشيعون لهم يفخرون بالانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لم يمدحوا الرسول الكريم بقصائد مستقلة، وكل ما قالوه من إشادة به صلى الله عليه وسلم جاء في قصائد التشيع، التي تشيد باله، وقد أوجب هذا الموضوع ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفخر بالانتساب إليه، دون أن يكون الهدف من إنشاء الشعر مدحه.

ولو تابعوا ما وصل إليه الكميت أيام بني أمية، لوجدنا المديح النبوي في وقت مبكر، لكنهم لم يصلوا في مدح النبي الكريم في أثناء قصائدهم إلى القدر الذي وصل إليه الكميت.

وقد ورد ذكر النبي الأمين في شعر هذا العصر الذي يتحدث عن العقيدة، فعند ما ينظم الشاعر تسبيحا لله تعالى وتعظيما، يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل قول الحسن بن مظفر النيسابوري «4» :

(1) ديوان الشريف الرضي: 2/ 819.

(2)

السلامي: محمد بن عبد الله بن محمد المخزومي القرشي من أشهر أهل العراق في عصره، اتصل بالصاحب ابن عباد، فأكرمه، له ديوان شعر. الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 2/ 335.

(3)

الثعالبي: يتيمة الدهر 4/ 414.

(4)

الحسن بن مظفر النيسابوري: أديب نبيل، شاعر مصنف، كان مؤدب أهل خوارزم في عصره وشاعرهم ومقدمهم توفي سنة (442 هـ) . الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 9/ 191.

ص: 91

سبحان من ليس في السّماء ولا

في الأرض ندّله وأشباه

أحاط بالعالمين مقتدرا

أشهد ألاإله إلّا هو

وخاتم المرسلين سيّدنا

أحمد ربّ السّماء سمّاه

أشرقت الأرض بعد بعثته

وحصحص الحقّ من محيّاه «1»

وعند ما يريد الشاعر أن يؤكّد اعتقاده في ذات الله تعالى، ويردّ على المشبهة، لا يجد تأكيدا أكبر من القسم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما فعله أبو حامد الشهرزوري «2» ، قاضي حلب، حين قال في التنزيه:

أقسمت بالمبعوث من هاشم

والشّافع المقبول يوم الجدال

ما ربّنا جسم ولا صورة

موّصوفة بالميل والاعتدال «3»

ونجد مدحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشعراء عن الحج، فقد كان الشوق يأخذ بألباب الناس وقلوبهم إلى رؤية الأماكن المقدسة التي عظمها الله تعالى والتي شهدت بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهاده، ونزول الوحي عليه، وأخذ التعبير عن هذا الشوق يزداد شيئا فشيئا إلى أن أضحى غرضا فنيا قائما بذاته، وأصبح من مستلزمات المدحة النبوية.

وكان الشاعر إذا أزمع الحج عبر عن شوقه إلى الديار المقدسة، وإلى زيارة قبر النبي الشريف، كما فعل ابن عبدوس الدهان «4» بقوله:

(1) الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 9/ 192.

(2)

أبو حامد الشهرزوري: محمد بن محمد بن عبد الله، قاضي الموصل ومن بيت مشهور فيها بالفضل والرياسة ولي قضاء حلب، وله شعر جيد وترسل حسن. توفي سنة (586 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 4/ 287.

(3)

العماد الأصفهاني: الخريدة، قسم شعراء الشام 2/ 335.

(4)

ابن عبدوس الدهان: إسماعيل بن محمد، تقدم في الأدب وبرع في علم اللغة، اختص بالأمير أبي الفضل الميكالي ومدحه بشعر غزير ثم زهد. الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 7/ 40.

ص: 92

أتيتك راجلا ووددت أنّي

ملكت سواد عيني أمتطيه

ومالي لا أسير على الماقي

إلى قبر رسول الله فيه «1»

وحين يصل الشاعر إلى الأماكن المقدسة يشعر بالارتياح، وعند ما يزور ضريح النبي الكريم ويركن إلى السكينة والاطمئنان، فتكون حاله حال أبي الخطاب الجبلي «2» في قوله:

رويدك قد أصبحت جارا لأحمد

وحسب امرء أن يستجير بجاره

لأفضل من يغشى على بعد داره

وأكرم من يعشى إلى ضوء ناره «3»

لكننا لا نعدم في هذا العصر مدحا خالصا للنبي الكريم لا يشاركه فيه موضوع آخر، فالشاعر الذي لا يمدح خليفة، أو لا ينحاز إلى الشيعة، أو لا يرى رأي فرقة معينة، ولا يتحدث عن الحج أو عن العقيدة، وأراد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذكره له يكون خالصا للمديح، فمهيار الديلمي «4» بعد إسلامه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:

أمثل محمّد المصطفى

إذا الحكم ولّيتموه لبيبا

بعدل مكان يكون القسيم

وفصل مكان يكون الخطيبا

وثبت إذا الأصل خان الفروع

وفضل إذا النّقص عاب الحسيبا

وصدق بإقرار أعدائه

إذا نافق الأولياء الكذوبا

(1) الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 7/ 41.

(2)

أبو خطاب الجبلي: محمد بن علي بن محمد، الشاعر، له معرفة بالعربية، مدحه أبو العلاء المعري، كان مفرطا في القصر، رافضيا، توفي سنة (439 هـ) . الصفدي: الوافي الوفيات 4/ 124.

(3)

الصفدي: الوافي بالوفيات 4/ 125.

(4)

مهيار الديلمي: مهيار بن مرزويه، شاعر كبير مجيد، كان مجوسيا فأسلم على يد الشريف الرضى وتشيّع. توفي سنة (428 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 3/ 242.

ص: 93

أبان لنا الله نهج السّبيل

ببعثته وأرانا الغيوبا «1»

فمهيار مدح النبي الأمين وفضّله على العالمين، وأنكر أن يكون له شبيه في الفضائل التقليدية، وزاد على ذلك بالإشارة إلى أثره في البشرية، وهدايتها إلى سواء السبيل، وهذه الهداية هي التي أكدها أبو العلاء المعري حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحا، فقال:

دعاكم إلى خير الأمور محمّد

وليس العوالي في القنا كالسّوافل

حداكم تعظيم من خلق الضّحى

وشهب الدّجى من طالعات وآفل

وألزمكم ما ليس يعجز حمله

أخا الضّعف من فرض له ونوافل

وحثّ على تطهير جسم وملبس

وعاقب في قذف النّساء الغوافل

وحرّم خمرا خلت ألباب شربها

من الطيش ألباب النّعام الجوافل

فصلّى عليه الله ماذرّ شارق

وما فتّ مسكا ذكره في المحافل «2»

وإذا زاد المعري الصلاة على النبي في قطعته هذه، فإن ابن الدهان أظهر رغبته في السعي لزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما كانت الصعاب. زيادة على تأكيده معنى الهداية في قوله:

أيا خير مبعوث إلى خير أمّة

نصحت وبلّغت الرّسالة والوحيّا

فلو كان في الإمكان سعي بمقلتي

إليك رسول الله أفنيتها سعيا «3»

(1) ديوان مهيار الديلمي: 1/ ص 13.

(2)

المعري: اللزوميات ص 192.

(3)

الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 7/ 41.

ص: 94

ونجد في هذا العصر مقطعات تذهب هذا المذهب، وتعدّ من مصادر المدائح النبوية التي كثرت بعد ذلك واستوى خلقها، ومن ذلك مقطوعة يأخذ صاحبها بمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاصة الشرف الإنساني، وأنه أفضل خلق الله، فيقول:

للعرب الفضل على النّاس

وخيرها أولاد إلياس

والنّضر منظور إلى فضله

ثم قريش عزّها راسي

والسّادة الغرّ بنو هاشم

خيارها في الجود والياس

والمصطفى خير بني هاشم

وخير مبعوث إلى النّاس

أحمد ذو النّور الذي ضاق عن

وصف علاه كلّ قرطاس

فلم يزل يدعو إلى ربّه

في لطف لان به القاسي

حتّى غدا الشّيطان ذا رنّة

من دولة الشّرك على ياس

صلّى عليه الله أعداد ما

أوجد من نفس وأنفاس

وأصبح الدّين رفيع الذّرا

ثابت أركان وتأساس «1»

ويتضح من هذا الشعر أن الشاعر ينظم الحديث النبوي «أنا خيار من خيار من خيار» «2» وهذا المعنى انتشر بين مدّاح النبي الكريم، وقلما تخلو منه قصيدة نبوية، ثم أشار إلى ما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجله، وقيامه برسالته على أكمل وجه حين نقل النّاس من ظلام الجهالة إلى نور الهداية.

ص: 95

ومن الظواهر التي برزت في هذا العصر، تنامي حركة التصوف وتشعبها، وتطرف بعض المتصوفة، الذين أضافوا إلى حركة التصوف الإسلامية ما أخذوه عن الفلسفات الأجنبية المتباينة والأديان المختلفة. وقد تفاعلت حركة التصوف مع المذاهب الدينية الإسلامية، فأخذت عنها وأعطتها، وصاغت لنفسها طريقة للعبادة ونظريات دينية مختلفة حول الكون وعلاقته مع الخالق، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصيب من نظريات المتصوفة الذين قالوا بالحقيقة المحمدية التي أضحت لازمة في قصائد المديح النبوي، وتحدثوا عن النبي الكريم حديثا لم يكن المسلمون قد تداولوه من قبل، أغرقوا فيه بالغيبيات ورفعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق مراتب الخلق جميعا، وجعلوه مبدأ الوجود كله، والسابق إلى الوجود، وفي ذلك يقول الحلاج «1» :«أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور وأظهر، وأقدم من القدم، سوى نور صاحب الكرم، همّته سبقت الهمم، وجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، لأنه كان قبل الأمم» «2» .

وقد أغنت حركة التصوف المديح النبوي، وحلّقت بمدّاح النبي الأمين في عوالم غيبية بعيدة، وخاصة في المرحلة الثانية التي اتسع فيها التصوف، ليصل تأثيره إلى معظم المثقفين وليصبح من نسيج ثقافة كل متعلم، ويخالط معتقد عامة الناس.

وكثر في العصر العباسي التمثل بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعر، وخاصة عند الشعراء الذين يطلبون المثل ويلّحون عليه في شعرهم، فإنهم لم يجدوا في كل منحى من مناحي الحياة أعظم من شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ضربوا به المثل حين أرادوا تقرير

(1) الحلاج: الحسين بن منصور الحلاج، فيلسوف زاهد، عدّ من الملحدين، فارسي الأصل، دخل بغداد وتجول في البلاد يدعوا إلى طريقته سرا، يظهر التشيع للملوك والتصوف للعامة، قال بمذهب الحلول، وعند ما اكتشف أمره قتل، له عدة كتب منها:(الطواسين) و (قرآن القرآن والفرقان) اختلف في عقيدته الباحثون، توفي سنة (309 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 2/ 253.

(2)

الحلاج: كتاب الطواسين ص 11.

ص: 96

معنى من المعاني، وتأكيد ما يذهبون إليه من وجهات نظر متباينة إزاء قضية من القضايا، فإذا ما أراد الشاعر أن يحتج لرأيه في مسألة خلل النظام الاجتماعي الذي يكرّم الناس لنسبهم لا لذواتهم، لا يجد حجة أفضل من الإشارة إلى أن النبي الكريم شرفت به آباؤه، ولم يشرف بهم، وهذا ما ذهب إليه ابن الرومي حين قال:

فكم أب قد علا بابن ذرا شرف

كما علا برسول الله عدنان «1»

وقال أبو تمام:

وكذلك قد ساد النّبيّ محمّد

كلّ الأنام وكان آخر مرسل «2»

وحين أراد أبو تمام أن يعتذر عن نفسه أو عن ممدوحه عند ما ركن إلى منافقين، يظهرون له الحب، ويضمرون الكراهية، ويعملون على إيذائه، ولم يستطع اكتشاف أمرهم، لم يجد ما يحتج به إلا ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم مع المنافقين، فقال:

هذا النّبيّ وكان صفوة ربّه

من بين باد في الأنام وقار

قد خصّ من أهل النّفّاق عصابة

وهم أشدّ أذى من الكفّار

حتّى استضاء بشعلة السّور التي

رفعت له سجفا عن الأسرار «3»

وأكثر ما تمثل به من أحوال النبي الكريم، التعزي عند فقد عزيز على النفس، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم «من أصابته مصيبة، فليذكر مصيبته بي» «4» .

(1) الثعالبي: التمثيل والمحاضرة ص 21.

(2)

ديوان أبي تمام: ص 152.

(3)

الراغب الأصفهاني: محاضرات الأدباء 2/ 230.

(4)

ابن ناصر الدين الدمشقي: سلوة الكئيب، ورقة 52.

ص: 97

فأخذ الشعراء هذا المعنى، واستخدموه عند التعزية، وعند التفكّر في المصائب، ومن ذلك قول ديك الجن «1» :

تأمّل إذا الأحزان فيك تكاثفت

أعاش رسول الله أم ضمّه قبّر «2»

إن العصر العباسي عصر طويل نسبيا، ولم تسر فيه الأمور رتيبة متشابهة، ولم تكن الظروف متماثلة، ولذلك كان لا بد من اختلاف الظواهر الأدبية وتطورها، وليس دمج الحقب العباسية في عصر واحد إلا لتسهيل الدراسة، فخصائص الأدب في صدر العصر العباسي تختلف عنها في نهايته، إذ إن القسم الثاني من زمن الدولة العباسية شهد سيطرة العناصر الأعجمية على الخلافة، وانقسام الدولة إلى ممالك لا تدين للخلافة العباسية إلا بالولاء الإسمي فقط، ولكن هذا لا يعني أن الحركة الثقافية قد انقسمت إلى حركات متباينة، ولا يعني أن الأدب العربي في هذا العصر قد اختلف بين دولة وأخرى، لأن الثقافة والأدب ظلّا على تواصلهما وتفاعلهما، وإن تلون الأدب بألوان خافتة، تظهر أثر القطر الذي كتب فيه، فقد بقي تطور الأدب العربي على خط واحد تقريبا في جميع الأقطار العربية الإسلامية وبقيت الظواهر الأدبية العامة مشتركة بينها، فلا يظهر فن أدبي في هذا القطر، حتى ينتشر بسرعة كبيرة في الأقطار العربية الإسلامية الآخرى، ولا تشيع طريقة فنية في قطر حتى يتلقفها الأدباء في بقية الأقطار، حتى يصعب على الباحث أن يقرر أوّلية هذا الفن أو ذاك، وهذه الطريقة أو تلك، ومن هذه الفنون فن المدائح النبوية، الذي يصعب معرفة أين ظهر متكاملا أول مرة، أفي مشرق الوطن العربي الإسلامي أم في مغربه، هذا إذا استثنينا عصر البعثة النبوية، وإني هنا سأتحدث عن

(1) ديك الجن: عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام الكلبي، شاعر مجيد فيه مجون، أصله من سلمية قرب حماه، لم يفارق بلاد الشام ولم ينتجع بشعره، له ديوان شعر، مولده ووفاته بحمص سنة (235 هـ) . ابن خلكان: وفيات الأعيان 3/ 184.

(2)

الراغب الأصفهاني: محاضرات الأدباء 2/ 230.

ص: 98

المدائح النبوية في العصر العباسي في المشرق، وسأتحدث عنها في المغرب فيما بعد، ولن يكون حديثي مفصلا، وسأكتفي بالإشارة إلى أهم القضايا المتعلقة بالمديح النبوي إلى أن وصل إلى العصر المملوكي.

ظهرت في الدور الثاني من العصر العباسي قصائد عدة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدأها الشعراء بمعارضة قصائد قيلت في مدح النبي الكريم في أثناء حياته، وخاصة قصيدة كعب بن زهير (البردة) ، ومن الذين عارضوا هذه القصيدة في هذا الدور، الشاعر العربي الأبيوردي «1» في قصيدة مطلعها:

خاض الدّجى ورواق اللّيل مسدول

برق كما اهتزّ ماضي الحد مصقول «2»

ويبدو أن الشعراء كانوا متهيبين من مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم لا يدرون كيف يخاطبونه، وما هي معاني المديح التي تليق به، ولا يدرون كيف يبنون قصائد مديحه، خوفا من الخطأ والإساءة من حيث لا يدرون ولا يقصدون، فوجدوا أن أسلم طريقة لذلك هي معارضة قصائد مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، ورضي عنها وكافأ عليها، ولهذا نجد الأبيوردي يبدأ قصيدته مثلما بدأها كعب بوصف الرحلة، وعلى طريقة كعب، لكنه لم يتابع كعبا بيتا بيتا، ولم يجاره في المطلع، ولم يتسع اتساعه في وصف الرحلة والغزل، فبعد أن شام البرق في مطلع قصيدته، وصف رحلته ببضعة أبيات، انتقل بعدها إلى الغزل ليتركه قائلا:

صدّت ووقّرني شيبي فما أربي

صهباء صرف ولا غيداء عطبول

وحال دون نسيبي بالدّمى مدح

تحبيرها برضا الرّحمن موصول

(1) الأبيوردي: محمد بن أحمد بن محمد القرشي الأموي، شاعر عالي الطبقة، مؤرخ عالم بالأدب، ولد في أبيورد بخراسان وكان يفخر بعروبته ويعتز بها، له كتاب (تاريخ أبيورد) و (المختلف والمؤتلف في الأنساب) مات مسموما سنة (507 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 4/ 18.

(2)

ديوان الأبيوردي: 1/ 97- رواق الليل: ظلمته.

ص: 99

أزيرها قرشيّا في أسرّته

نور ومن راحتيه الخير مأمول

تحكي شمائله في طيبها زهرا

يفوح، والرّوض مرهوم ومشمول «1»

هو الذي نعش الله العباد به

ضخم الدّسيعة متبوع ومسؤول

وهكذا مضى الشاعر في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم جامعا بين القيم التقليدية التي سار عليها القوم في المدح، ومتخذا من كعب بن زهير قدوة له في ذلك، وبين المفاهيم الدينية التي ينفرد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سائر الناس، ثم أكدأنه سيظل على سنته، وأنه سينصر دين الله تعالى بكل ما أوتي من قوة، فقال:

يا خاتم الرّسل إن لم تخش بادرتي

على أعاديك، غالتني إذا غول

والنّصر باليد منّي واللّسان معا

ومن لوى عنك جيدا فهو مخذول

وساعدي- وهو لا يلوي به خور

على القنا في اتّباع الحقّ- مفتول

وكأن في نفس الشاعر شيئا مما يرى حوله، وقد اصطرع المسلمون فيما بينهم، واختلفوا في أمر عقيدتهم، وانقسموا إلى أحزاب وملل، وحاد قسم منهم عن الحق، فهو يعاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهاد إلى أن يعود الحق إلى مكانه.

وقد أجاد الأبيوردي معارضة كعب، فأخذ روح القصيدة، ولم يتبع جزئياتها، فجاءت أصيلة مبدعة، تعبر عن نفسه، وتوضح مكنوناتها، ربط فيها بين حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما يستشعره اتجاه ما يجري في عصره، وإن ظلت في أسلوبها وصياغتها تضارع قصيدة كعب، وترتد إلى عصرها.

وكان في مدحه للنبي الكريم متحفظا، فترسم معاني كعب التقليدية، وذكر فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، وهدايته لهم، بعد أن كانوا في غيهم يعمهون.

(1) مرهوم: أصابته الرهمة، وهي المطرة الساكنة.

ص: 100

وعارض الزمخشري «1» قصيدة كعب أيضا وابتدأ مثل الأربيوردي بذكر البرق الذي يذكي الشوق، وتوقف عند أطلال المحبوبة، لكنه لم يتسع في وقوفه وغزله، واكتفى منهما بجلاء مشاعره الدينية التي يكنّها للأماكن المقدّسة، وانتقل بعدها إلى شيء من الحكمة الممزوجة بتوجهه الديني، فهو من المعتزلة الذين يعلون شأن العقل، ويطلبون إعماله في العقيدة لذلك نراه يقول في مقدمة قصيدته:

والفعل أرضاه عند الله أعرفه

وما تناكره الألباب مرذول

والحقّ فالحقّ ما جاء الرّسول به

سيف على هام أهل الشّرك مسلول

الفضل فضل نبيّ من بني مضر

إليه أفضل خلق الله مفضول

محمّد إن تصف أدنى خصائصه

فيا لها قصّة في شرحها طول «2»

لقد جعل الزمخشري من الحديث المقتضب عن العقيدة مدخلا إلى مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فمزج مزجا موفقا بين القيم التقليدية وبين القيم الدينية، وبعد أن أكّد أن الرسول فوق جميع البشر، وأنه لا يحاط بأدنى خصائصه، عاد ليؤكد نبوته صلى الله عليه وسلم ويأتي بشيء يسير من سيرته، وكأنه بذلك يردّ على من أخذ عليه اعتزاله، وأن المعتزلة يشكّون بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

هو الذي إن يخالج في نبوّته

ريب فما القول بالتّوحيد مقبول

هو الذي وعد الرّحمن ناصره

نصرا عزيزا ووعد الله مفعول

ملك الأكاسرة الممنوع غادره

والتّاج منعقر والعرش مفلول

(1) الزمخشري: محمود بن عمر بن أحمد الخوارزمي، جار الله، من أئمة العلم بالدين والتفسير واللغة والأدب، جاور بمكة وتنقل في البلاد، كان معتزليا، له كتب عدة منها «الكشاف» في تفسير القرآن «وأساس البلاغة» ، (توفي سنة 538 هـ) . ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/ 168.

(2)

المجموعة النبهانية 3/ 33.

ص: 101

ثم ينتقل بعد ذلك ليشيد بالصحابة رضوان الله عليهم، وبشجاعتهم ونصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفرّق بينهم أو يخصّ أحدهم بالفضل، وكأنه بذلك يقرر حقيقة من حقائق مذهبه، ويرد على الذين يفرّقون بين الصحابة الكرام في الفضل والتقدمة، فهو يحبهم جميعا، ويفرح لذكرهم، لذلك يقول:

حفّته أشياع صدق كاللّيوث بهم

دم الذين استضاموا الدّين مطلول

إذا جرى ذكرهم رفّ القلوب له

كما يرفّ الخزامى وهو مطلول

وفي ختام قصيدته يظهر الزمخشري ما بنفسه، فيستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكدا أنه لم يخرج عن الدين ولم يقرب حراما، وأن قومه المعتزلة ما زالوا على تقواهم واتباع الحق بخلاف الفرق المضلله التي تناوئهم، فقال:

يا خاتم الرّسل إنّ الطّول منك على

راجي الشّفاعة يوم الحشر مأمول

وطّاء أعقاب قوم ما لهم عمل

في نصرة الدّين والإسلام مجهول

لهم ضمائر للتّفكير قارعة

وألسن كلّها بالذّكر مشغول

موحّدون إلها أنت صفوته

مصدّقوك فلا غالتهم غول

إن زال عن رمي أغراض الهدى فرق

تلهو مضلّلة قالت لهم زولوا

فقوس قومي بالتّقوى موتّرة

وسهمهم باتّباع الحقّ منصول

وواضح من القصيدة أن الزمخشري تسلل بذكاء داخل المديح النبوي، ليدافع عن نفسه وعن مذهبه، وأنه اختار المديح النبوي ليعبر من خلاله عن مذهبه وآرائه، وليزيد في تأكيد ارتباطه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقراره بنبوته، وأن ما يذهب إليه المعتزلة من تعظيم شأن العقل وإعماله في العقيدة، لا يبعدهم عن الإسلام الصحيح، وعن مبادئه ومفاهيمه، لذلك لم يبق من معارضته لقصيدة كعب غير هيكل القصيدة، ووزنها

ص: 102

وقافيتها، أما المضمون، فإنه مغاير لما عند كعب، ولم يلتقيا إلا في مدح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كلّ على طريقته ووفق ما سمحت به ظروفه.

وبذلك تقدم الزمخشري بالمدحة النبوية إلى الأمام حين ربط بينها وبين العصر، وحين جعل منها وسيلة لرفع ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنبيه على قدر سنّته الغراء من ناحية، ولنشر ما يعتقده من آراء وأفكار من ناحية ثانية، وما كانت المعارضة إلا توطينا لنفسه على المديح النبوي، وللإفادة من وزن القصيدة وبعض ألفاظها وشهرتها.

ويطالعنا في هذا العصر (البلوي)«1» مؤلف كتاب (ألف با) بقصيدة نبوية، أضرب فيها عن المقدمات، وباشر المدح، وقد أوضح في التقديم لها أن المديح النبوي قد ازداد على عهده، وأن ذلك حرّك في نفسه دواعي مجاراة مدّاح النبي، فنظم قصيدته هذه، وبيّن في بداية القصيدة أنه نظمها طلبا للأجر والثواب، لذلك فهي خالصة للمديح النبوي والتشفع بالنبي الأمين، لا يخالطها شيء آخر، بدأها قائلا:

قد قلت قولا أبتغي أجره

من ملك رحمته تطلب

في القرشيّ الهاشميّ الذي

يقصّر في مدحه المطنب

محمّد المنتخب المصطفى

من مثله أو منه من يقرب

أرسله الله لنا رحمة

والكفر في ظلمته يحطب

فجمع الله به شملنا

بعد شتات أمره معطب

وأصبح النّاس به إخوة

أبوهم الإسلام نعم الأب

(1) البلوي: يوسف بن محمد الأندلسي، عالم باللغة والأدب، تولى الخطابة بمالقة وزار مصر، كان أحد الزهاد المشهورين، بنى مسجدا بيده، ولم تفته غزوة في البر ولا في البحر، له كتاب (ألف با) . القنوشي: التاج المكلل 1/ 4 وكتابه ألف با 1/ 18.

ص: 103

ذاك أبو القاسم ماذا عسى

يحصي لساني أو يدي تكتب

والبحر لو كان مدادا وما

في الأرض أقلام بها يكتب «1»

لم نبلغ العشر ولا عشره

من وصفه هيهات لا تعجبوا «2»

وبعد أن مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفضيله على الناس أجمعين، وذكر فضله على أمته، إذ هداها إلى سواء السبيل ووحدها، أكد أنه لا يستطيع أن يفي الرسول الأمين حقه، واستعار المعنى القرآني للتعبير عن هذا الموقف الذي تكرر عند مدّاح رسول الله صلى الله عليه وسلم كافة، ثم انتقل إلى وصف اليوم الآخر، ومكانة النبي الكريم فيه، وشفاعته لأمته، فقال:

فهو حبيب الله وهو الذي

في جاهه تطمع يا مذنب

وصاحب الحوض الرّواء الذي

أمّته منه غدا تشرب

ويميل بعض الميل إلى نظم الأحاديث والروايات عن موقف الرسل الكرام يوم القيامة، وتهيّبهم من الشفاعة للناس وتصدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لهذه الشفاعة، فيقول:

كلّ رسول منهم قائل

نفسي نفسي عنقها يطلب

وهو ينادي أمّتي أمّتي

ربّي مالي غيرهم مطلب

هذا إلى أشياء لم أحصها

يعجز عنها اللّقن المسهب

فمن يقل ما شاء فيه يقل

حقّا وما أحسبه يكذب

(1) يشير إلى الآية الكريمة قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [سورة الكهف: 18/ 109] .

(2)

البلوي: كتاب ألف با ص 457 ج 1.

ص: 104

وقد انتشر نظم الروايات والأحاديث في المدائح النبوية، حتى جار على الشعر فيما بعد، وكذلك إباحة أن يقول الشعراء ما يشاؤون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن كل ما يقولونه حق، فهذه المسألة أدخلت المديح النبوي في خضم الصراع العقائدي، وجعلت بعضهم يوغل في الغيبيات معتمدا على الأحاديث الضعيفة، والروايات المشكوك فيها، فذهب ذلك برونق المدحة النبوية وأخرجها في كثير من الأحيان من دائرة الشعر إلى دائرة النظم العلمي.

أما شاعرنا فإن تباشير النظم عنده خفيفة لينة، لم تجر على الشعر، وقد اختتم قصيدته بالدعاء فقال:

كلّ لساني وانتهت طاقتي

ولم أصل بعض الذي أرغب

فملت عن مدحته للدّعا

عسى دعائي عنه لا يحجب

فليس مثلي مادحا مثله

لا لا ولا العير الذي يركب

صلّى عليه الله من سيّد

ما تطلع الشّمس وما تغرب

وبذلك نرى أن المديح النبوي في العصر العباسي، بدأ من ذكر النبي الكريم في مدح الخلفاء، وإيجاد علاقة تربطهم به، ومن فخر العلويين بانتسابهم إليه صلى الله عليه وسلم، وظهر شيء من المديح النبوي في قصائد العقيدة، وفي حديث الشعراء عن الحج، ومع تقدم الزمن ظهرت مقطوعات خاصة خالصة لمدح النبي الأمين، إلى جانب ما تمثّل به الشعراء من أحواله- عليه السلام. وجاء التصوف وتطوره ليعطي لشعراء المدائح النبوية آفاقا غيبية رحبة، يحلّقون فيها، ثم وجدنا قصائد كاملة، نظمت في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانت في البداية معارضة لقصائد قيلت في الرسول على عهده، أقبل عليها وخلع على قائليها، لكن الشعراء سرعان ما نظموا مدائح نبوية خالصة، نظرت إلى كل ما تقدم، بيد أنها كانت مما سمحت به قرائح الشعراء أنفسهم.

ص: 105