الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تستعرض سيرة رسول الله، وتظهر مواقف العظمة والعبرة فيها، فمنهم من جعل الحديث عن السيرة في قصائد خاصة، ومنهم من عرض أجزاء منها في ثنايا مدائحهم النبوية، فاستوفوا السيرة بكل تفاصيلها، يأخذ كل منهم جانبا منها، وفق المعنى الذي يريد إبرازه في قصيدته، وكأنهم نثروا كتب السيرة في قصائدهم.
واختلف الشعراء في طريقة عرضهم للسيرة، فمنهم من اقتطع منها مواقف محددة ذات دلالة، وأدمجها في قصيدته لتكمل المعاني وتؤكدها، وأظهر مشاعره نحو هذه المواقف، ومنهم من أخذ في نظم السيرة النبوية الكريمة نظما موضوعيا، مبتدئا من المولد، منتهيا بالوفاة، مارّا بأبرز الأحداث والمواقف في حياة رسول الله دون أن يشرح أو يعقّب أو يستخلص العبرة والمثل ومواطن العظمة والاقتداء، فاقتربت المدائح النبوية بذلك من المنظومات التعليمية.
المعجزات:
إلا أن سرد السيرة في المدائح النبوية اختلط بذكر المعجزات التي ظهرت مع مولده صلى الله عليه وسلم وبعثته ودعوته، وقد اتسع شعراء المديح النبوي في ذكر هذه المعجزات اتساعا كبيرا، بسبب شيوع الحديث عن هذه المعجزات والتأليف فيها، وبسبب الجدل الديني مع أهل الكتاب، وغذّى هذا التوجه نحو الإفراط في نسب المعجزات إلى رسول الله، سيادة الاتجاه الصوفي، الذي يميل أصحابه إلى الخوارق والكرامات، وادّعائها وقد يكون في نسبتها إلى رسول الله ما يسوّغ لهم نسبتها إلى أنفسهم، ويعطيهم مصداقية لما يدعون.
ويظهر أن نسبة الكثير من المعجزات إلى النبي الكريم كانت محل أخذ ورد بين علماء الدين، فمنهم من أنكر قسما كبيرا منها، وعدّها من المنحول، ومن صنع
القصّاصين الذين تزيّدوا في أمور الدين ليرضوا خيال العامة، وليزيدوا من الترغيب والترهيب. ومنهم من قبل هذه المعجزات جميعها، وحرص على نسبتها إلى رسول الله لأن مكانة رسول الله عند ربه، وعلو قدره، تتيح له أن تظهر المعجزات المختلفة على يديه.
وقد حفلت كتب السيرة عامة، والمتأخّرة منها خاصة، بالمعجزات المختلفة التي لا تعلي قدر رسول الله، ولا تزيد من كرامته، فمقامه السامي ليس بحاجة إلى مثل هذه المعجزات ليعرفه الناس، وليتسع بها المؤلفون والمادحون اتساعا كبيرا، فقيل في ذلك:
«كان له عليه الصلاة والسلام كرامات ومعجزات في حياته وقبل مولده، وبعد موته» «1» .
فمن المعجزات التي أطنب المؤلفون في ذكرها، واتسع المادحون في نظمها، المعجزات التي ظهرت عند مولد النبي، ومنها «احتباس الشياطين ورجمها، وانشقاق إيوان كسرى، وخمود نار فارس، وغيض بحيرة ساوة، وسجود الكعبة نحو مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وتساقط الأصنام» «2» .
أخذ البوصيري هذه المعجزات ونظمها، فقال:
يوم تفرّس فيه الفرس أنّهم
…
قد أنذروا بحلول البؤس والنّقم
وبات إيوان كسرى وهو منصدع
…
كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم
والنّار خامدة الأنفاس من أسف
…
عليه والنّهر ساهي العين من سدم
وساء ساوة أن غاضت بحيرتها
…
وردّ واردها بالغيظ حين ظمي «3»
(1) السهيلي: الروض الأنف 2/ 374.
(2)
الديار بكري، حسين: تاريخ الخميس ص 200.
(3)
ديوان البوصيري: ص 242.
أما الشهاب محمود، فقد صرّح بأن هذه الظواهر التي رافقت مولده صلى الله عليه وسلم هي معجزات له، فقال:
وخمود بيّت النّار من آياتك ال
…
لاتي تردّ الطّرف عنك كليلا
وكذاك في الإيوان أعظم معجز
…
بهر العقول وحيّر المعقولا «1»
ولم تقتصر معجزات المولد على الظواهر التي حدثت يوم المولد أو قبيله، مبشرة بمولد رسول الإنسانية بل ظهرت المعجزات في حمله ومولده صلى الله عليه وسلم، الذي اختلف في ذلك عن غيره من البشر، فقيل في هذا: «ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم معذورا مسرورا..
وكانت أمه تحدّث أنها لم تجد حين حملت به ما تجد الحوامل من ثقل ولا وحم ولا غير ذلك، ولمّا وضعته صلى الله عليه وسلم وقع على الأرض، مقبوضة أصابع يديه، مشيرا بالسبابة كالمسبّح بها» «2» وقد نظم بهاء الدين السبكي «3» هذه الرواية، فقال:
وآمنة لم تلق في حملك الأذى
…
وقد أمنت من كلّ ضيم وشدّة
وقد أبصرت نورا أضاء لها به
…
معاهد بصرى كلّها وتجلّت
ولدت سعيدا رافع الرّأس واضعا
…
يديك لتعظيم الإله وحرمة «4»
وحاول البوصيري في ذكره لمعجزات المولد أن يحرك رتابة الرواية، فقال:
يوم نالت بوضعه ابنة وهب
…
من فخار ما لم تنله النّساء
رافعا رأسه وفي ذلك الرّف
…
ع إلى كلّ سؤدد إيماء
رامقا طرفه السّماء ومرمى
…
عين من شأنه العلوّ العلاء «5»
(1) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 9.
(2)
السهيلي: الروض الآنف 1/ 105.
(3)
بهاء الدين السبكي، أحمد بن علي بن عبد الكافي، اشتغل بالعلم ومهر، وولي القضاء، توفي سنة (773 هـ) . شذرات الذهب: 6/ 226.
(4)
المجموعة النبهانية: 1/ 521.
(5)
ديوان البوصيري: ص 51.
ومضى شعراء المديح النبوي في تتبعهم للسيرة، يعرضون ما أدرج في كتبها من معجزات، فبعد أن ولد رسول الله ونما، أرسل إلى البادية للرضاع، وليشب قوي البنية، وأثناء ذلك ظهرت له عدة معجزات، نظمها البوصيري في قوله:
وبدت في رضاعه معجزات
…
ليس فيها عن العيون خفاء
إذ أبته ليتمه مرضعات
…
قلن ما في اليتيم عنّا غناء
فأتته من آل سعد فتاة
…
قد أبتها لفقرها الرّضعاء
أخصب العيش عندها بعد محل
…
إذ غدا للنّبيّ منها غذاء
وإذا أحاطت به ملائكة الل
…
له فظنّت بأنّهم قرناء
شقّ عن قلبه وأخرج منه
…
مضغة عند غسله سوداء
ختمته يمنى الأمين وقد أو
…
دع ما لم تذع له أنباء «1»
ومعجزة انشقاق الصدر، كلف بها مدّاح النبي، فرددوها في قصائدهم، واختلفوا في عدد المرات التي شق فيها صدره الشريف، فقال الصرصري:
وأبثّ بعض المعجزات فنظمها
…
درّ ثمين بالمسامع يلقط
شرح الملائك صدره في أربع
…
يا حبّذا ما ضمّ منه المخيط
وكذاك في عشر وفي معراجه
…
نقل الثّلاثة حافظ لا يغلط «2»
وقد حرص شعراء المديح النبوي على ذكر كل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من معجزات وكرامات، لا يتركون منها كبيرة ولا صغيرة، يتتبعون كتب السيرة
(1) ديوان البوصيري: ص 51.
(2)
ديوان الصرصري: ورقة 55.
والخصائص، وينظمون ما يرد فيها، ولو كانت أحاديث المعجزات ضعيفة متروكة، مثل حديث إحياء الله تعالى لأبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤمنا به، الذي أعاده السيوطي إلى أهل العلم والحديث، فقال: «ويرون أن ضعف إسناده في هذا المقام مغتفر، وأن إيراد ما ضعف من الفضائل والمناقب معتبر، وقد خرّجت الأئمة في أبواب المناقب ما هو أشد ضعفا من هذا، وتسامحوا فيها بإيراد ما لم يصل إلى رتبته ولا حاذى، ووجّهوه بأنواع من التوجيه، وارتضوه لما فيه من التبرئة والتزيين.
وقد قال الحافظ شمس الدين ابن ناصر الدين الدمشقي «1» في حديث إحياء والدي رسول الله:
حبا الله النّبيّ مزيد فضل
…
على فضل وكان به رؤوفا
فأحيى أمّه وكذا أباه
…
لإيمان به فضلا لطيفا
فسلّم فالقديم بذا قدير
…
وإن كان الحديث به ضعيفا «2»
لقد حفل كتاب الخصائص الكبرى، بمثل هذه الكرامات والمعجزات، التي وصلت إلى السيوطي، فاستقصاها في كتابه، وهذا ما حمل محقق الكتاب على تتبع روايات المعجزات وأحاديثها، وتفنيدها، فأقرّ بعضها، وأنكر بعضها الآخر، فقال مثلا:
«انشقاق القمر صحيح» «3» .
وقال: «معجزاته صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام، أحاديث كثيرة وصحيحة» «4» .
(1) ابن ناصر الدين الدمشقي: محمد بن علي بن منصور، فقيه أديب قاض، حدّث ودرّس، وولي قضاء مصر، كان بارعا في الفقه، صلبا في الحكم، متواضعا ليّن الجانب، توفي سنة (786 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 6/ 293.
(2)
مقامات السيوطي: ص 87.
(3)
السيوطي: الخصائص الكبرى 1/ 312.
(4)
المصدر نفسه: 2/ 227.
أما ما أنكره، فمنه حديث نطق الذئب، حيث قال:«لماذا انفردت الذئاب وحدها بإرسال وافدها.. الحديث وأشباهه، تشبه أن تكون من أسمار الرعاة» «1» .
وذهب هذا المذهب في نظرته إلى روايات إحياء الموتى وكلامهم، وقال إنها موضوعة «2» .
وشكّك أيضا بأحاديث حياته صلى الله عليه وسلم في قبره «3» .
وقد قال الدكتور زكي مبارك عن مثل هذه الأخبار: «بعض أخبار المعجزات يحتاج إلى تحقيق.. فهي مسائل يحتاج عرضها إلى مخاطرة، وهي مخشية الضر قبل أن تكون مرجوة النفع» «4» .
ويبدو أن مثل هذه الأحاديث والروايات كانت موضع جدال بين علماء الدين، وهذا ما ذكره السيوطي في مقاماته، وذكره الشاعر ابن ناصر الدين الدمشقي، وقبل فيه الأحاديث الضعيفة إذا كانت تتعلق بقدرة الله عز وجل وحباء رسوله بالمعجزات، فقدرة الله لا حد لها، وكرمه على عباده لا حد له، وكأن هذه القدرة الكلية، وهذا الكرم المتناهي، يغفران التزيّد والتقوّل في الدين، أو كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى مثل هذه الأحاديث، ليزيد تقدير المؤمنين له، أو ليزيد عدد المؤمنين برسالته.
ويظهر أن معظم شعراء المديح النبوي لم يلتفتوا إلى هذا الجدل حول معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوها جميعها، وأدرجوها في مدائحهم النبوية، وربما كان ميل الشعراء إلى المبالغة، قد وجد ضالته في مثل هذه الأحاديث، فالقاضي المحدث
(1) السيوطي: الخصائص الكبرى 2/ 270.
(2)
المصدر نفسه: 2/ 281.
(3)
المصدر نفسه 3/ 304.
(4)
د. مبارك زكي: المدائح النبوية في الأدب العربي ص 190.
بهاء الدين السبكي، يصرح في إحدى مدائحه النبوية، بأنه سيعرض فيها بعض المعجزات على كثرتها، وعجز الناس عن حصرها، فيقول:
له المعجزات الغرّ لاحت خوارقا
…
وباهر آيات عن الحصر جلّت
ولكن سنأتي من بدائع حسنها
…
بنزر يسير وقعة بعد وقعة «1»
وقد تفاوت شعراء المديح النبوي في القدر الذي يذكرونه من هذه المعجزات، فمنهم من اقتصر على معجزة واحدة، ومنهم من انتخب منها الأصح والأثبت، ومنهم من ذكر منها ما وسعه إلى ذلك سبيلا، فابن حجر انتخب بعض هذه المعجزات، وضمّنها مدحته النبوية، فقال:
ذي المعجزات فكلّ ذي بصر غدا
…
لصوابها بالعين ذا تصويب
وانشقّ بدر التّمّ معجزة له
…
وبه أتاه النّصر قبل مغيب
نطق الجماد بكفّه وبه جرى
…
ماء كما ينصبّ من أنبوب «2»
وخصّص بعض شعراء المديح النبوي جلّ قصائدهم لذكر المعجزات، وكأنهم بلغوا بذلك في المدح النبوي منتهاه، لأن المعجزات في نظرهم أهم جانب في شخصية الإنسان، وهي دليل القوة الخارقة، والقرب من الله تعالى.
فصار ذكر المعجزات سمة عامة في المدائح النبوية، يحاول الشاعر أن يحشد أكبر قدر من المعجزات في قصيدته، ولا يتوقف عندها ليستخلص العبر، أو ليظهر عواطفه اتجاهها، وإنما يمضي في سردها سردا مجردا، بل إن بعض القصائد أوقفت على إيراد
(1) المجموعة النبهانية: 1/ 519.
(2)
المصدر نفسه: 1/ 460.
المعجزات، وكأن همّ أصحابها هو أن ينظموا فيها كل ما ذكرته كتب السيرة والخصائص، مثل القصيدة الشقراطيسية التي مرّت معنا.
أما البوصيري، فإنه لا يسرد المعجزات سردا، بل ينثرها في قصيدته، ويظهر ما يراه فيها، ومشاعره نحو صاحبها، وربما أوردها في باب المقارنة بين معاملة أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وبين تعاطف الطبيعة معه، مظهرا المعجز في ذلك، وقد يورد بعض هذه المعجزات للدلالة على مكانة رسول الله، وإثباتا لنبوته، وخاصة عند ما يجادل أهل الكتاب، فبعد إحدى هذه المجادلات، قال:
عجبا لهم لم ينكرون نبوّة
…
ثبتت ولم ينفخ بادم روح
أعجبت أن غدت الغمامة آية
…
لمحمّد يغدو بها ويروح
أو أن أتت سرح إليه مطيعة
…
فكأنّما أتت الرّياض سروح «1»
ولمنبع الماء المعين براحة
…
راح الحصى وله بها تسبيح
وبأن يرى الأعمى وتنقلب العصا
…
سيفا ويحيا الميت وهو طريح
وبأن يفيض له ويعذب منهل
…
قد كان مرّا ماؤه المنزوح
يا برد أكباد أصاب عطاشها
…
ماء بريق محمّد مجدوح «2»
والبوصيري يدافع عن هذه المعجزات وصحتها، لأن العقل يتوافق فيها مع النص، فيقول:
وكم أتت عن رسول الله بيّنة
…
في فضلها وافق المنقول معقول
(1) سروح: دواب سارحة.
(2)
ديوان البوصيري: ص 104.
نور فليس له ظلّ يرى وله
…
من الغمامة أنّى سار تظليل
ولا يرى في الثّرى أثر لأخمصه
…
إذا مشى وله في الصّخر توحيل «1»
ويدعو في قصيدة أخرى إلى التصديق بمعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول:
صدّق بما حدّثت عنه ففي الورى
…
بالغيب عنه مصدّق ومكذّب
فاطرب لتسبيح الحصى في كفّه
…
فمن السّماع لذكره ما يطرب
والجذع حنّ له وبات كمغرم
…
قلق بفقد حبيبه يتكرّب
واهتزّ من فرح (ثبير) تحته
…
ومن الجبال مسبّح ومؤوّب
وشفى جميع المؤلمات بريقه
…
يا طيب ما يرقي به ويطيّب «2»
فالبوصيري متفرّد في تحريك عرضه للمعجزات، عن طريق التمثيل والتشبيه والتعقيب وإظهار مشاعره، ونادرا ما نجد شاعرا يجاريه في هذه المقدرة. وظل الشعراء يذكرون المعجزات، فلا يخرجون عن تعدادها، ونظمها وراء بعضها، وكأن الشاعر يقرر علما من العلوم.
وأكبر معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم، ومع ذلك فإن بعض شعراء المديح النبوي، لم يتسعوا في ذكرها اتساعهم في ذكر غيرها، لكن بعضهم بسط القول فيها، مثل البوصيري الذي أسهب في الحديث عنها وعرض مزايا القرآن الكريم ووجوه إعجازه.
فتحدث في بردته عن آيات القرآن الكريم وفضلها وخلودها وأثرها في الناس، فقال:
(1) ديوان البوصيري: ص 224.
(2)
المصدر نفسه: ص 90.
آيات حقّ من الرّحمن محدثة
…
قديمة، صفة الموصوف بالقدم
دامت لدينا ففاقت كلّ معجزة
…
من النّبيّين إذ جاءت ولم تدم
ردّت بلاغتها دعوى معارضها
…
ردّ الغيوريد الجاني عن الحرم
قرّت بها عين قاريها فقلت له
…
لقد ظفرت بحبل الله فاعتصم
إن تتلها خيفة من حرّ نار لظى
…
أطفأت نار لظى من وردها الشّبم «1»
والمعجزة التي ذكرها مدّاح النبي جميعا، وأفاضوا في الحديث عنها، هي معجزة الإسراء والمعراج، والتي ألّفت فيها كتب خاصة، وتحدثت عنها كتب السيرة والخصائص والدلائل، فعكس شعراء المدائح النبوية هذا الاهتمام، وخاصة أصحاب التوجه الصوفي منهم، لأنها تمثّل الاتصال المباشر بين الأرض والسماء، والمتصوفة يريدون من وراء طريقتهم إقامة صلة لهم بالسماء، والحادثة المقدسة مناسبة للتوسع في الحديث عن الغيبيات التي كلف بها المتصوفة، لذلك اختلفت روايات الإسراء والمعراج، وتباينت آراء الفقهاء في طريقة حدوثها، فقال السيوطي عن هذا التباين: «اختلف في المعراج والإسراء، هل كانا في ليلة واحدة أم لا؟ وأيّهما كان قبل الآخر؟ وهل كان في اليقظة أم في المنام، أو بعضه في اليقظة وبعضه في المنام؟ وهل كان مرّة أو مرتين أو مرات؟
فذهب الجمهور من المفسرين والمحدّثين والفقهاء والمتكلمين إلى أنهما وقعا في ليلة واحدة، في اليقظة، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة» «2» .
ولذلك يقول ابن حجر «3» في إحدى مدائحه النبوية:
سرى للمسجد الأقصى بليل
…
من البيت الحرام إلى السّماء
(1) ديوان البوصيري: ص 244.
(2)
السيوطي: الآية الكبرى ص 30.
(3)
ابن حجر: أحمد بن علي بن محمد العسقلاني، عالم عصره وحافظ الحديث فيه، له مصنفات جليلة في الحديث والتاريخ منها (فتح الباري بشرح البخاري) . توفي سنة (852 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 2/ 36.
رفيق الرّوح بالجسم ارتقى في
…
طباق حفّ فيها بالهناء
علا ودنا وجاز إلى مقام
…
كريم خصّ فيه بالاصطفاء
ولم ير ربّه جهرا سواه
…
لسرّ فيه جلّ عن امتراء «1»
والبيت الأخير يشير إلى خلاف آخر بين العلماء حول رؤية رسول الله لربه عيانا، فرجّحه بعضهم، ومنهم ابن حجر، والسيوطي في كتابه (الآية الكبرى)«2» .
وتباين شعراء المديح النبوي في طريقة تناولهم لمعجزة الإسراء والمعراج، وفي اتساعهم في الحديث عنها، فالبوصيري عرض لهذه المعجزة في همزيته فقال:
فصف اللّيلة التي كان للمخ
…
تار فيها على البراق استواء
وترقّى به إلى قاب قوسي
…
ن وتلك السّيادة القعساء
رتب تسقط الأمانيّ حسرى
…
دونها ما وراءهنّ وراء «3»
وهو يشدّد على مكانة الرسول الكريم عند ربه، والتي لا يدانيه فيها أحد، ولولا هذه المكانة ما قرّ به الله هذا القرب، وما عرّج به إلى ملكوته، ويرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسرائه ومعراجه أضحى في مرتبة سامية متفرّدة.
وأشار في قصيدة أخرى إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كشف عنه الحجاب أثناء إسرائه ومعراجه، وحاز العلوم الإلهية كلها، وهذا ما يشغل المتصوفة من حادثة الإسراء والمعراج، وما يسعون إليه في طريقتهم، ولذلك جعلوا رسول الله صاحب مذهبهم ورأس طريقتهم، فقال:
(1) المجموعة النبهانية: 1/ 168.
(2)
السيوطي: الآية الكبرى ص 45.
(3)
ديوان البوصيري: ص 54.
كشف الغطاء له وقد أسري به
…
فعلومه لا شيء عنها يغرب
ولقاب قوسين انتهى فمحلّه
…
من قاب قوسين المحلّ الأقرب
فات العبارة والإشارة فضله
…
فعليك منه بما يقال ويكتب «1»
وعاد البوصيري إلى التأكيد على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسري به وعرّج بجمسه وروحه، وليس بروحه فقط، مؤيدا بذلك وجهة النظر السائدة، والتي رجّحها كثير من العلماء على الرأي الذي يقول إنه أسري به وعرّج بروحه فقط، فقال:
أسرى الإله بجسمه فكأنّه
…
بطل على متن البراق مشيح
ودنا فلا يد آمل ممتدّة
…
طمعا ولا طرف إليه طموح
حتى إذا أوحى إليه الله ما
…
أوحى وحان إلى الرّجوع جنوح
عاد البراق به وثوب أديمه
…
ليلا بماء حيائه منضوح «2»
فمعجزة الإسراء والمعراج معجزة مشتركة بين المدائح النبوية، قلّما نجد شاعرا ينظم مدحة نبوية، ولا يذكر هذه المعجزة، فمنهم من أسهب في الحديث عنها، ومنهم من اقتصر على الإشارة إليها إشارة عابرة في ذكره معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن تعلق الشعراء بالمعجزات في المديح النبوي، لم يجاره إلا إظهار مشاعرهم الدينية، فجميع مدّاح النبي الكريم ذكروا معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتسعوا في الحديث عنها، ولم يتركوا مظهرا من مظاهر إعجازه صلى الله عليه وسلم إلّا أشاروا إليه في قصائدهم، وكأنهم بلغوا الغاية في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنهم يريدون تعريف الناس بها، وخاصة أولئك الذين لا يتصلون بالكتاب، ولا يجيدون قراءته، أو أنهم يريدون تحريك نوازع الإيمان
(1) ديوان البوصيري: ص 90.
(2)
المصدر نفسه: ص 105، مشيح: جاد في الأمور، منضوح: مرشوش.