الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحقيقة المحمدية:
إن ذكر معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم والاتساع في عرضها في المدائح النبوية، إلى جانب المفاضلة بين الأنبياء وتفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم جميعا، والجنوح في ذلك كله إلى الغيبيات، يقودنا إلى الحديث عن الحقيقة المحمدية التي أفاض مادحو الرسول في ذكرها وتفصيلها، فإليها يرجع قدر كبير من المعجزات، ومنها يستمد تفضيله على الأنبياء والخلق أجمعين.
والحقيقة المحمدية نظرية دينية، اختلف العلماء في مصدرها، فمنهم من أعادها إلى الدين الإسلامي واتجاهاته المتعددة ومنهم من ذهب بها وبأصولها إلى مؤثرات غريبة عن الإسلام، ترجع إلى المسيحية والفلسفات اليونانية، وخاصة الأفلطونية الحديثة.
إن ما يفهم من الحقيقة المحمدية التي فسّرت تفاسير شتى، وتلونت بألوان مختلفة، وصيغت صياغات كثيرة، غامضة في مجملها، أن الله تعالى بدأ خلق الوجود بخلق نور، هذا النور هو أفضل ما في الخلق. وهو النور المحمدي، أو هو النور الذي تجسّد فيما بعد بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ويذهب بعض أصحاب هذه النظرية إلى أن النور المحمدي كان يتجسد في أشخاص آخرين قبل أن ينتهي إلى تجسيده الحقيقي والأخير، وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الأشخاص هم أنبياء الله، فهم بذلك تجسيد لحقيقة واحدة، أو لنور واحد، هو النور المحمدي أو الحقيقة المحمدية.
وقد وضعت هذه النظرية في قالب آخر، لتحمل دلالة أخرى، وهي أن هذا النور أودع في صلب آدم- عليه الصلاة والسلام ولا زال ينتقل من صلب إلى صلب، ومن رحم إلى رحم، إلى أن أودع في صلب عبد الله بن عبد المطلب، ورحم آمنة بنت وهب،
والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بذلك يريدون الاقتراب من قيمة النسب التي حرص عليها العرب واعتزوا بها، وأعطوها عند النبي الكريم نوعا من القداسة.
إلا أن بعض من قالوا بالحقيقة المحمدية، غالوا أكثر من ذلك، فجعلوا النور المحمدي أول مخلوق، ثم جعلوا الوجود كله مخلوقا من هذا النور المحمدي، أو كما قال صاحب (تاريخ الخميس) في فاتحة كتابه:«الحمد لله الذي خلق نور نبيه قبل كل أوائل، ثم خلق منه كل شيء، من الأعالي والأسافل» «1» .
واشتقت من هذه النظرية فكرة تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسل الله وأنبيائه جميعهم، وجعله أصلهم وأبيهم، فهو وإن كان آخر الأنبياء في عالم الشهادة، لكنه أولهم في عالم الغيب، فالنبي المصطفى «أبو الأرواح، كما أن آدم أبو الأشباح.. فبعد ما خرج من الحجب تنفس بأنفاس، فخلق من أنفاسه أرواح الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء وسائر المؤمنين والملائكة» «2» .
وقد عبّر المتصوفة عن نظرية الحقيقة المحمدية بشكل آخر، حين صاغوا منها فكرة الإنسان الكامل، فقالوا:«المراد بالنبي صلى الله عليه وسلم والرسول، هو الإنسان الكامل الذي اختاره الله تعالى من جنسه، وقربه إليه واصطفاه بالوحي والرسالة..» «3» .
وقد تنبه الباحثون على أن نظرية الحقيقة المحمدية تلتقي بنظريات مماثلة في الأديان السماوية والفلسفات الأجنبية، أو أنها مأخوذة عن هذه الأديان أو الفلسفات «4» .
بيد أن هذا التقوّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمغالاة في الحديث عنه، والاستغراق في أمور غيبية لا يعلمها إلا الله، مجاراة لغير المسلمين، لم تمرّ دون معارضة، فكثير من
(1) الديار بكري، حسين: تاريخ الخميس ص 2.
(2)
المصدر نفسه: ص 19.
(3)
البغدادي، مصطفى: رسالة تنزيه الأنبياء ص 5.
(4)
انظر الحياة الروحية في الإسلام لمحمد مصطفى حلمي ص 53 وص 69.
علماء المسلمين، رفضوا هذه النظريات وحاربوها، وكثير منهم تهيّبوا من الخوض فيها، واستند الرافضون والمتهيبون في مواقفهم على الأصول الإسلامية من قرآن وحديث، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو أوّل من ردّ على أصحاب هذه النظريات في ذاته، فروي عنه صلى الله عليه وسلم:
«لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله» «1» .
فالنبي الكريم ألهمه الله تعالى في حديثه عن الغيب أو المستقبل أمورا شتى تحققت وستتحقق، ومن هذه الأمور انقسام أمته على نفسها في أمور عقيدتها، وفي النظرة إليه والحديث عنه، ولذلك شدّد في حديثه هذا وفي مجمل أحاديثه على عبوديته لله تعالى قبل كل شيء، فقد اختاره الله سبحانه ليحمل رسالة الهدى والحق، وليعيد العلاقة بين الخالق والمخلوق إلى حقيقتها، وهي علاقة عبودية للخالق، وليست علاقة بنوّة أو تفويض بالخلق، أو بالوساطة مع الخلق، إلى غير ذلك مما جاءت به الحقيقة المحمدية وتفاسيرها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت ما هو ثابت له، وهو العبودية والرسالة، وأسلم لله ما هو له لا لسواه ولا يشاركه فيه أحد، من القدرة والخلق، وغير ذلك من صفات الله المنفرد بها عن خلقه.
أخذ شعراء المدائح النبوية جميعهم بالحقيقة المحمدية، أخذ بدهية دينية لا تحتاج إلى النقاش، وذكروها في قصائدهم، ومدحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، بل جعلوها أقصى ما يمدح به، فقد استهوتهم نظرية الحقيقة المحمدية، لأنها تتجاوب مع تحليق الخيال، ومع المبالغة الشعرية، وقد مدّهم أصحاب السيرة والخصائص والدلائل بفيض من هذه الروايات الغيبية، التي تثير المخيلات، وتفسح المجال أمام القول الشعري، لكن هذه الروايات الغيبية، التي فرح بها الشعراء لها خطرها على العقيدة، أو كما قال محقق كتاب الخصائص الكبرى في مقدمته: «لا شيء أفسد للتاريخ والسّير من تلك الروايات المحلقة في سماء الخيال، والتي تنقل الحياة البشرية من عالم الواقع إلى جو الأساطير،
(1) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء 4/ 142.
وليست هناك حياة كانت على الأرض هي أغنى بواقعها المجرد من حياة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، فهي حياة تنطق كل حركة منها، ويشهد كل موقف من مواقفها بأنها حياة بلغت في السلوك البشري حد الإعجاز، وأن خصائصه ومعجزاته التي نطقت بها آيات الكتاب الكريم والسنن الصحيحة والآثار المعتبرة، لهي من الكثرة والوفرة بحيث لا تحتاج إلى تلك الزيادات التي يمجها الذوق السليم، وتعافها حياة الفطرة، والتي لا يشهد لها سند صحيح ولا نقل موثق» «1» .
فإذا ما التفتنا إلى المدائح النبوية، وجدناها حافلة بضروب مختلفة من صور نظرية الحقيقة المحمدية، وقلما تجاوز ذكرها شاعر من شعراء المديح النبوي، فابن عربي يعبّر عن نظريته في الحقيقة المحمدية شعرا، ويقول:
ويكون هذا السّيّد العلم الذي
…
جرّدته من دورة الخلفاء
وجعلته الأصل الكريم وآدم
…
ما بين طينة خلقه والماء
ونقلته حتى استدار زمانه
…
وعطفت آخره على الإبداء «2»
ونجد نظرة المتصوفة هذه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمنطلقة من الحقيقة المحمدية، في قول ابن زكريا الدروكي «3» من مدحة نبوية:
يا قطب دائرة الوجود بأسره
…
لولاك لم يكن الوجود المطلق
مذ كنت أوّله وكنت أخيره
…
في الخافقين لواء مجدك يخفق
كنت النّبيّ وآدم في طينة
…
ما كان يعلم أيّ خلق يخلق «4»
(1) السيوطي: الخصائص الكبرى ص 4.
(2)
ابن عربي: الفتوحات المكية 1/ 2.
(3)
الدروكي: محمد بن مصطفى بن زكريا، اشتغل بالعلم وتأدب، كان يعرف التركية والفارسية، تولى الحسبة بغزة، وأدب الملك الناصر قليلا، توفي سنة (713 هـ) . ابن حجر: الدرر الكامنة 4/ 259.
(4)
ابن حجر: الدرر الكامنة 4/ 295.
أما البوصيري، فإن ذكره للحقيقة المحمدية لم يكن واسعا، ولم يرد في مدائحه النبوية إلا ثلاث مرات، أوضحها في معرض مدح النبي الكريم وذكر معجزاته، والدلالة على قربه من ربه، ورسوخه في النبوة، قال:
كان سرّا في ضمير الغيب من
…
قبل أن يخلق كون أو يكونا
أسجد الله له أملاكه
…
يوم خرّوا لأبيه ساجدينا
ودعا آدم باسم المصطفى
…
دعوة قال لها الصّدق آمينا «1»
فالبوصيري شدد على قدم النور المحمدي، وعلى استمرار هذا النور في آباء رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بداية الخلق، وعلى عظم قدر هذا النور عند الله تعالى، ولم يعط تفصيلات أكثر لنظرية الحقيقة المحمدية.
وهذه المعاني وردت عند الصرصري، ولم يزد عليها شيئا غير التصريح بأن اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مكتوبا على العرش عند خلق آدم عليه الصلاة والسلام، فقال في إحدى مدائحه النبوية، وهو يعدّد خصائصه صلى الله عليه وسلم:
ورأى بعينيه على العرش اسمه
…
فدعا به حين استقلّ بذنبه «2»
فالصرصري يذكر رواية غيبية عن بداية الخلق، فيها كتب الله اسم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم على العرش، وتوسل آدم باسم النبي الكريم لينال مغفرة الله تعالى، وقدم نبوة رسول الله التي تتقدم على خلق آدم ووضع النور المحمدي في جبهة آدم، لينتقل بعد ذلك في آباء رسول الله الكرام حتى تجسّد بشخصه الكريم، وهذه كلها صور من صور الحقيقة المحمدية.
(1) ديوان البوصيري: ص 258.
(2)
ديوان الصرصري: ورقة 9.
ووضع الحلّي الحقيقة المحمدية في صورة جديدة، وعلى شكل شروط لحوادث تاريخية، لو اقترنت بخاصة من خصائص الرسول الكريم لما جرت على النحو الذي وقعت به، فقال:
لو أنّ جودك للطّوفان حين طمت
…
أمواجه ما نجا (نوح) من الغرق
لو أنّ عزمك في نار الخليل وقد
…
مسّته، لم ينج منها غير محترق
لو أنّ بأسك في موسى الكليم وقد
…
نوجي، لما خرّ يوم الطّور منصعق «1»
فالحلي، جعل الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- يتوسلون برسول الله ليكشف الله تعالى كربهم، وجعله السر في معجزاتهم. ومن هنا جاءت مقارنة الجعبري بين ما أعطي الأنبياء من فضائل، وبين فضائل النبي الكريم في قوله على لسان الخالق عز وجل:
إن كان آدم للخلائق أوّلا
…
ها أنت يا مختار أوّل خلقنا
أو كان إبراهيم أعطي خلّة
…
ها أنت يا مختار صرت حبيبنا
أو كان يوسف بالجمال منحته
…
ها أنت يا مختار أجمل خلقنا «2»
وحتى المغاربة الذين اتسم مدحهم النبوي بالاعتدال. وبعده عن التلوّن العقائدي، وصلت الحقيقة المحمدية إلى مدحهم الديني، فجعل ابن زمرّك «3» رسول الله صلى الله عليه وسلم علّة الوجود وسرّه، فقال:
وأنت لهذا الكون علّة كونه
…
ولو لاك ما امتاز الوجود بأكوان
(1) ديوان الصفي الحلي: ص 84.
(2)
ديوان الجعبري: ص 40.
(3)
ابن زمرّك: محمد بن يوسف، فقيه أديب، سعى في قتل لسان الدين بن الخطيب، وقتل بعد ذلك سنة (795 هـ) . المقري: نفخ الطيب 7/ 162.
ولولاك للأفلاك لم تجل نيّرا
…
ولا قلّدت لبّاتهن بشهبان «1»
فشعراء المديح النبوي لم يتركوا معنى من معاني الحقيقة المحمدية إلا ذكروه في قصائدهم، وخاصة العلماء منهم، الذين اقتربت مدائحهم من المنظومات العلمية، فهم أرادوا أن يذكروا فيها كل شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما وسعهم إلى ذلك سبيلا، أما الشعراء الذين نظموا المدح النبوي وسواه، فإنهم لم يطيلوا الوقوف عند الحقيقة المحمدية، واكتفى كل منهم بذكر جانب من جوانب الحقيقة المحمدية.
فالباعونية المتصوفة التي أغرمت بالفضائل والمعجزات، لم تزد في الحقيقة المحمدية على قولها:
محمّد المصطفى الهادي الذي وجدت
…
أنواره قبل خلق اللّوح والقلم «2»
أما ابن مليك الحموي، فإنه تابع غيره من شعراء المديح النبوي في ذكر الحقيقة المحمدية، ولم يضف شيئا إليهم، فقال في إحدى مدائحه النبوية:
لولاه ما كان لا شمس ولا قمر
…
ولا سماء ولا أرض ولا جبل
ولا بحار ولا ملك ولا ملك
…
ولا سماك ولا حوت ولا حمل «3»
فالحقيقة المحمدية، نظرية دينية انتشرت في العصر المملوكي وما قبله، لظروف موضوعية، دعت إلى ذيوعها، منها الصراع العقائدي مع أهل الكتاب، ومحاولة مجاراتهم في صفة السيد المسيح وطبيعته، ومنها انتشار التصوف الذي يميل مريدوه إلى الغيبيات والمعجزات، ويسعون إلى تشكيل عالم علوي لأرواحهم، يتوقون إليه، ويحتل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانا متميزا بين الخالق ومخلوقاته.
(1) المقري: نفخ الطيب 5/ 48.
(2)
ديوان الباعونية: ورقة 6.
(3)
ديوان ابن مليك الحموي: ص 23.