الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لكنّه أنهله كأسه
…
وهو حبيب الله خير الأنام
فماجت الأرض بمن فوقها
…
لموته وانهلّ صوب الغمام
لله موت المصطفى إنّه
…
رزء عظيم لا يضاهي العظام «1»
وبذلك نجد أن المديح النبوي، هو في بدايته قسم من المديح العام الذي عرف في أدبنا العربي، ولكنه انفرد عنه، لأنه مخصّص لسيد البشر، ولأن الممدوح يفترق عن عامة الناس، ولأن كل ما يرد في المدحة النبوية يلتزم نهجا خاصا في التأدب والسمو، لا نجده في المدائح الآخرى.
وافترق المديح النبوي عن الرثاء، بعد أن تطاول الزمن على وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد أن اتجه الشعراء نحو الإشادة بفضائله الكريمة وشمائله العطرة، وأفعاله المباركة، دون التعرّض للحزن والأسى، وهما من خصائص الرثاء، وبعد أن استقر في أذهان الشعراء تواصل حياة النبي المصطفى، اتسع نطاق المديح النبوي طلبا للمغفرة والرحمة، وتحقيقا لأهداف مختلفة أرادها الشعراء من وراء تسابقهم إلى المديح النبوي.
القسم الثاني- المدح النبوي في حياة الرسول:
حين بعث النبي الهادي واجه مقاومة شديدة من المشركين، الذين كفروا برسالته السمحة وخافوا على مكانتهم، ونمط معيشتهم، التي دعا الإسلام إلى تغييرها وإلى مساواة جميع الخلق تحت رايته، فتصدوا له منذ البداية، وخاضوا مع المسلمين صراعا طويلا استخدموا فيه جميع أسلحتهم إلى أن فلّت، وإلى أن كتب الله للإسلام النصر المبين. وكان الشعر من أمضى أسلحتهم، لما له من فاعلية وتأثير في مجتمعهم.
(1) ابن ناصر الدين الدمشقي سلوة الكئيب ورقة 236.
وقد أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصبر والمصابرة ومن الجلد والأخلاق الكريمة ما جعله محط أنظار العرب جميعا، الذين آمنوا برسالته، والذين لم يؤمنوا، ومنحه الله تعالى من مواهبه ما بهر نفوس القوم وأخذ بعقولهم، فلم يختلف إثنان على تقدمته والإشادة بشخصه الكريم، واتجهت إليه قرائح الشعراء، مادحة مثنية، ولم يتح لشعراء المشركين الانتقاص من أخلاقه وقدره، وكل ما فعلوه هو مهاجمة دعوته من منطلق الخوف على الامتيازات والمكانة، والتعصب الأعمى لباطلهم الموروث.
وكان الشعر يحتل في نفوس العرب محلا عظيما، وكان فنهم الأول، فهو عندهم أكثر من وسيلة إعلامية، إنه مستودع أفكارهم ومشاعرهم ومثلهم، فكان لا بد من أن يكون له في شأن الدعوة الإسلامية وجود وأثر.
بيد أن الإسلام أراد للشعر العربي غير ما كان عليه، أراده أداة للبناء لا للهدم وأراده منسجما مع المجتمع الجديد الذي يدعو إليه، فأشيع لذلك أن الإسلام حارب الشعر، ونفرّ الناس منه، وهذا لا يسلم عند التدقيق، فالإسلام استبعد من الشعر ما يثير الضغائن والمفاسد، وما يجانب الحق، وأراد للشعراء أن يحترموا أنفسهم وفنهم، وهذا ما يظهر من الآية الكريمة التي هاجمت الشعراء الذين يزينون الباطل، ويفسدون الذمم والعقول وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا.. «1» .
وهنالك أحاديث شريفة، تنتقص من الشعر الذي يحمل القيم الجاهلية ويدعو إليها، وقد مرّ معنا الحديث الذي يتعلق بالمادحين الكاذبين، وهنالك حديث آخر هو «لئن امتلاء جوف أحدكم قيحا، خير له من أن يمتلئ شعرا» «2» .
(1) سورة الشعراء، آية 224.
(2)
صحيح البخاري: 7/ 109، وصحيح مسلم: 4/ 1769.
إن موقف الإسلام من الشعر، ليس موقفا معاديا ومكرّها، إنه موقف التصحيح لمفهوم الشعر وأثره، والدليل على ذلك مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الشعر والشعراء، وهذا الشعر الذي مدح به، فقد كان يستنشد الصحابة الشعر، ويستعيد ما يستحسنه منه، ويبدي إعجابه ببعضه.
فقد كان عصر البعثة، عصر صراع بين القيم الإنسانية التي جاء بها الإسلام، وبين القيم الجاهلية الفاسدة، لكن الإسلام أبقى على كثير من القيم الجاهلية، وأعطاها مفهوما جديدا، ودلالات أعمق، لأنه يريد بناء مجتمع جديد، وأمة جديدة، تختفي منها القيم التي تفكك المجتمع أو تفسده، أو تنتقص من إنسانية الإنسان، وكان بناء العقيدة الجديدة في داخل النفس والمجتمع يقتضي أن يصحح الشعر الذي يؤثر في النفس والمجتمع.
ومما قيل عن الشعر في عصر البعثة، أنه ضعف ولان عما كان عليه في الجاهلية، لأنه التزم الصدق، فالشعر يعتمد على التخيّل الكاذب، فإذا دخل في باب الخير لان، وقد ظلت هذه الفكرة موضع أخذ ورد بين النقاد القدامى والمحدثين، فقد لاحظ المتتبعون للحركة الشعرية في عصر البعثة اضطراب الشعر وتردده بين مد وجزر، وإضراب بعض شعراء الجاهلية عن نظم الشعر في الإسلام، أو التقليل منه، واضطرار الشعراء إلى قول ما يتوافق مع الإسلام، وهذا ما جعل الشعر الذي وصل من عصر البعثة أقل من الشعر الجاهلي، وأقل من الشعر الأموي الذي عاد إلى الطبيعة الجاهلية، وخاصة إذا عرفنا أن الإسلام حرم الشعراء من دوافع الشعر التي تدفعهم إلى الإكثار والإجادة وعوّضهم بدوافع أسمى، لكن تمثّل القيم الجديدة والوضع الجديد يحتاج إلى زمن طويل، تقصّر عنه مدة البعثة الوجيزة، إضافة إلى أن المسلمين انشغلوا بحركة الجهاد ومقاومة المشركين، فلم يكن أمامهم متسع للوقوف طويلا عند الشعر وتجويده، وقد حرصوا في مدة إرساء الدعوة على الفعل أكثر من القول بالإضافة إلى وجود القرآن الكريم الذي أعجز العرب وألجمهم، وجعلهم مشدوهين أمام بلاغته، فاتجهوا إليه،
يتلونه ويحفظونه ويتملون بلاغته، ولا يجدون في أنفسهم المقدرة على مجاراته في البلاغة المعجزة والبيان المفحم، أو الانصراف إلى صنوف القول الآخرى.
وتظل مسألة ضعف الشعر مسألة نسبية، تختلف من متتبع لهذا الشعر إلى آخر ولكن الصحيح مما وصلنا لا يؤيد هذه النظرة إلى شعر عصر البعثة.
ومن هنا تأتي مسألة ثانية لا بد من الإشارة إليها، وهي وجود شك في شعر هذا العصر، نبّه عليه النقاد القدامى، وجعل منه النقاد المحدثون معركة نقدية كبيرة لها خطرها، وخاصة الدكتور طه حسين الذي أضاف الشعر الإسلامي إلى الشعر الجاهلي في الشك بصحته، فقال:«ولم تكن العواطف والمنافع الدينية أقل من العواطف والمنافع السياسية أثرا في تكلف الشعر ونحله» «1» .
وقال: «فكان هذا النحل في بعض أطواره يقصد به إلى إثبات صحّة النبوة وصدق النبي» «2» وأضاف قائلا: «والغرض من هذا النحل- فيما نرجح- إنما هو إرضاء حاجات العامة الذين يريدون المعجزة في كل شيء» «3» .
وقد شكك ابن هشام «4» مهذّب السيرة في بعض الشعر الذي ورد فيها، وأرجع ذلك إلى جهل ابن إسحاق «5» بالشعر، واعتذاره عن ذلك «6» ولهذا تحرّج كثير من الأدباء
(1) حسين طه: في الأدب الجاهلي ص 132.
(2)
المصدر نفسه: ص 133.
(3)
المصدر نفسه: ص 135.
(4)
ابن هشام: عبد الملك بن هشام البصري النحوي، صاحب المغازي ومهذب السيرة، كان أديبا أخباريا نسابه، سكن مصر وتوفي سنة 218 هـ، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب: 2/ 45.
(5)
ابن إسحاق: محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي صاحب السيرة، سمع الحديث وكان بحرا في العلم ذكيا حافظا أخباريا نسابة، واختلف العلماء في الثقة بحديثه وروايته، توفي سنة (151 هـ) ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب: 1/ 230.
(6)
قال ابن سلام في طبقات الشعراء (1/ 7) : «كان ممن أفسد الشعر وهجنه، وحمل كل غثاء منه، محمد بن إسحاق بن يسار.. وكان من علماء الناس بالسير.. وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، أتينا به، فأحمله» .
قديما وحديثا من الخوض فيه، وخاصة شعر الصحابة وآل البيت، «لأن الشك يحوم حوله، وأن الأحداث التاريخية وملابسات أخرى أتاحت للخرافة أن تنسج خيوطها حول الصحابة، فحيكت شتى الأساطير.. وقد عظم على الناس أن يكون لهم ذلك البلاء في سبيل الله، ولا يكون لهم في ذلك شعر، فلفّق المتأخرون أشعارا ونسبوها إليهم» «1» .
وأعطى طه حسين مثالا على الشعر المنحول، قصيدة الأعشى التي مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأعشى كان مشركا، ولذلك شك الباحثون في شعره الذي يحمل معاني دينية إسلامية لا يعرفها الجاهليون، وخاصة حين يصل الأمر إلى التعابير القرآنية، وهذا مادعا طه حسين إلى القول:«هذه الدالية التي تروى للأعشى في مدح النبي منحولة، نحلها قاص ضعيف الحظ من الشعر، رديء النظم، مهلهل اللفظ، قليل المهارة في النحل ويكفي أن تقرأ هذه القصيدة لترى أنها أسخف ما يضاف إلى الأعشى وأنها، ولا سيما المدح فيها، إلى المتون أقرب منها إلى الشعر الجيد» «2» .
والأعشى يقول في قصيدته:
نبيّ يرى ما لا ترون وذكره
…
أغار لعمري في البلاد وأنجدا
له صدقات ما تغبّ ونائل
…
وليس عطاء اليوم مانعه غدا
أجدّك لم تسمع وصاة محمّد
…
نبيّ الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التّقى
…
ولا قيت بعد الموت من قد تزوّدا
ندمت على أنّ لا تكون كمثله
…
وإنّك لم ترصد لما كان أرصدا «3»
(1) الجبوري: شعر المخضرمين ص 511.
(2)
حسين طه: من تاريخ الأدب العربي 1/ 241.
(3)
ديوان الأعشى الكبير: ص 17.
فالوعظ ظاهر في هذه الأبيات، وفيها دعوة إلى التقى والعمل الصالح، والتزوّد لليوم الآخر، وأين الأعشى الجاهلي، شاعر الخمر، الذي ردّته قريش- كما روي- عن الوصول إلى النبي الهادي وأغرته بالمال، وحذرته من أن الإسلام يحرّم الخمر، الذي يعيش الشاعر من أجله وفي أجوائه، أين هو من الوعظ والتذكير باليوم الآخر.
هذا التوجه الديني في قصيدة الأعشى هو الذي جعل ابن نباته «1» يلحق قصيدة الأعشى بالمدائح النبوية، ويسميها نبوية، فيقول عنه:«ومن محاسن شعره، قوله في القصيدة النبوية» «2» .
ومن أمثلة ذلك أيضا ما قيل عن شعر أبي طالب، ومدحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد نصّ ابن سلام «3» على أن أبا طالب كان: «شاعرا جيد الكلام، أبرع ما قال قصيدته التي مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم
…
وقد زيد فيها وطوّلت.. وسألني الأصمعي «4» عنها، فقلت صحيحة جيدة، قال: أتدري أين منتهاها؟ قلت: لا» «5» .
والقصيدة هي:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلّاك من آل هاشم
…
فهم عنده في نعمة وفواضل
(1) ابن نباتة: محمد بن محمد الجذامي الفارقي، شاعر عصره وأحد الكتاب المترسلين العلماء بالأدب، تولّى كتابة السر، له عدة كتب وديوان شعر. توفي سنة (768 هـ) . الدرر الكامنة: 4/ 216.
(2)
ابن نباته: سرح العيون ص 417.
(3)
ابن سلام: محمد بن عبد الله الجمحي، إمام أهل البصرة في الأدب، من مؤلفاته: طبقات فحول الشعراء. الحموي، ياقوت: معجم الأدباء 18/ 204.
(4)
الأصمعي: عبد الملك بن قريب بن علي الباهلي، راوية العرب وأحد أئمة العلم باللغة والشعر، اقتبس علوم البادية، وله مؤلفات كثيرة منها (الأضداد) و (الأصمعيات) توفي سنة (216) هـ ابن خلكان: وفيات الأعيان: 1/ 170.
(5)
ابن سلام: طبقات الفحول الشعراء ص 244.
وأصبح فينا أحمد في أرومة
…
تقصّر عنها سورة المتطاول
حليم رشيد عادل غير طائش
…
يوالي إليها ليس عنه بغافل «1»
لاحظ الأصمعي في القصيدة متسعا للتّزيّد والإضافة، فالقصيدة تدعو إلى التساؤل، وخاصة حول دواعي هذا المدح، وأبو طالب حينذاك سيد قومه، ولم يكن صلى الله عليه وسلم قد عرف قدره حق المعرفة بين الناس، ولذلك فسر ابن أبي الحديد «2» هذا الأمر بقوله:
ومما يزيد من ظلال الشك التي تحيط شعر ذلك العصر، الشعر الذي نسب إلى الجن والذي كثرت رواياته كثرة مفرطة، حتى ألّفت فيها رسالة (هو اتف الجن)، التي نقل مؤلفها عن المسعودي «4» قوله:«فأما الهواتف، فقد كانت كثرت في العرب، واتصلت بديارهم، وكان أكثرها أيام مولد النبي صلى الله عليه وسلم وفي أوّلية مبعثه، ومن حكم الهاتف أن يهتف بصوت مسموع وجسم غير مرئي» «5» .
وقد جمع المؤلف في رسالته هذه ما هتفت به الجن، أو نطقت به الكهان، مبشرة بمبعث رسول الله، وبدأه بقوله:
(1) الحماسة البصرية: ص 118.
(2)
ابن أبي الحديد: عبد الحميد بن هبة الله بن محمد، عالم بالأدب، قدم في الدواوين السلطانية، من تصانيفه (شرح نهج البلاغة) . توفي سنة (656 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 280.
(3)
ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 11/ 116.
(4)
المسعودي: علي بن الحسين بن علي، مؤرخ رحاله، أقام بمصر، من مؤلفاته (مروج الذهب) توفي سنة (346 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات: 3/ 12.
(5)
ابن سهل الخرائطي: رسالة هواتف الجن ص 134.
هذا كتاب هواتف الجنّان
…
وعجيب ما يحكى عن الكهّان
ممّا يبشرّ بالنّبيّ محمّد
…
ويدلّ منه بواضح البرهان «1»
ومن ذلك قصة سواد بن قارب ورئيّه الذي جاءه في النوم ثلاث مرات، يدعوه إلى الإسلام، ومما قاله له في المرّة الأولى:
فارحل إلى الصّفوة من هاشم
…
بين روابيها وأحجارها
وفي المرة الثانية:
فارحل إلى الصّفوة من هاشم
…
فليس قداماها كأذنابها
وفي المرة الثالثة:
فارحل إلى الصّفوة من هاشم
…
واسم بعينيك إلى رأسها
فلما وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إليه وقال: هات يا سواد بن قارب «2» ، فقال:
أتاني رئيّي بعد هدء ورقدة
…
ولم أك فيما قد بلوت بكاذب
وأشهد أنّ الله لا ربّ غيره
…
وأنّك مأمون على كلّ غائب
وأنّك أعلى المرسلين وسيلة
…
إلى الله يا بن الأكرمين الأطائب
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة
…
سواك بمغن عن سواد بن قارب
قال: ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فرحا شديدا «3» .
(1) ابن سهل الخرائطي: رسالة هواتف الجن ص 133.
(2)
سواد بن قارب الأزدي، كاهن شاعر في الجاهلية، صحابي في الإسلام، عاش إلى خلافة عمر ومات بالبصرة نحو (15 هـ) . ابن حجر: الإصابة 3/ 148.
(3)
الصفدي: الغيث المسجم 1/ 33.
ولم ينقطع الجن عن إخبار العرب عن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثته، ولم يقف عند دعوتهم إلى الإيمان به، بل ظل يعلمهم بأحواله أولا بأول، إلى أن توفاه الله تعالى، فإذا الهواتف تنعي إليهم الرسول الكريم، كما حدّث أبو ذؤيب «1» ، فقال: «بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل، فاستشعرت حزنا، وبتّ بأطول ليلة لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها، فظللت أقاسي طولها، حتى إذا قرب السحر أغفيت، فهتف بي هاتف، وهو يقول:
خطب أجلّ أناخ بالإسلام
…
بين النّخيل ومعقد الآطام
قبض النّبيّ محمّد فعيوننا
…
تذري الدّموع عليه بالتّسجام» «2»
وهكذا حام الشك قديما وحديثا حول كثير من شعر زمن البعثة، ومن الشعر المتعلق بالنبي الكريم وهذا ما يجعل الباحث حذرا في التعامل مع هذا الشعر، حتى لا يخرج بنتائج مبنية على شواهد مشكوك بنسبتها إلى أصحابها وعصرها، فلا ينكر الشعر جملة، ولا يأخذه على عواهنه، وله فيما وثقه الرواة، واطمأنت إليه نفسه مادة جيدة دالة، تعصمه من أن يضل في هذا الكم الشعري الكبير الذي حملته كتب السيرة والتاريخ.
فقصيدة من أشهر قصائد المديح النبوي وأوثقها، هي بردة كعب بن زهير، داخلها التزيد فلاحظ محقق شرحها (الزبدة) أن الشارح كان يشك في بعض أبيات البردة، و «أن شكه هذا جعله يهمل جزآ في ختام القصيدة المذكورة، وهو سبعة أبيات أضافها الشراح المتأخرون رغبة في التبرك والإكثار من الصلاة والسلام على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم» «3» .
(1) أبو ذؤيب الهذلي: خويلد بن حرّث، شاعر فحل مخضرم، شارك في الغزو والفتوح، وعاش إلى أيام عثمان، مات بمصر نحو (27 هـ) . بعد عودته من فتح أفريقيا، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة وفاته، فأدركه وهو مسجى، وشهد دفنه، له ديوان شعر الأصفهاني: الأغاني 6/ 264.
(2)
العباسي: معاهد التنصيص 2/ 165.
(3)
الغزي: الزبدة في شرح البردة ص 4.
والملاحظ على الشعر الذي مدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم غلبة القيم التقليدية عليه، وقد يكون ذلك راجعا إلى أن الشعراء لم يفقهوا الدين الجديد، ولم تدخل في روعهم مفاهيمه، لذلك لم يظهر في شعرهم التأثر القوي به، وكانت النّبوة جديدة عليهم، لا يعرفون كيف يخاطبون صاحبها، فكان مديحهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم مديحا تقليديا، وبالقيم الاجتماعية التي كانت سائدة في عصرهم، والتي يتمتع بها السيد في قومه، مثل الإشادة بالكرم في قول أحدهم:
حباها رسول الله إذ نزلت به
…
فأمكنها من نائل غير مفقد
فأضحت بروض الخضر وهي حثيثة
…
وقد أنجحت حاجاتها من محمّد «1»
فهذا الشاعر وأمثاله كانوا يمدحون النبي الكريم بالقيم التي كانت موضع فخر في الجاهلية، وكأنهم يمدحون ملكا أو سيدا، وليس نبيا مرسلا.
فمدّاح رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، كانوا في مديحهم يتبعون تقاليدهم الفنية الجاهلية، فظلوا يعبرون، بالطريقة التي ألفوها، والتي نتجت عن طبيعة مجتمعهم، وتكوينهم الفكري والخلقي والفني، ولذلك نجد أثر الدين ضئيلا، لكنه أخذ بالازدياد مع تقدم الوقت، فإذا بالشعراء يمدحون النبي الأمين بمعان دينية إسلامية إلى جانب القيم الاجتماعية التقليدية، ولم يكتفوا بذكر اسمه أو صفته فقط، مثل قول أبي عزّة الجمحي «2» :
ألا أبلغا عنّي النّبيّ محمّدا
…
بأنّك حقّ والمليك حميد
وأنت امرء تدعو إلى الرّشد والتّقى
…
عليك من الله الكريم شهيد
(1) المرزباني: من الضائع من معجم الشعراء 113.
(2)
أبو عزة الجمحي: كان شاعرا مملقا ذا عيال، أسر يوم بدر مشركا فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلقه على ألا يهاجم المسلمين بشعره، ثم أسر يوم أحد، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ابن سلام: طبقات الشعراء ص 253.
وأنت امرؤ بوئت فينا مباءة
…
لها درجات سهلة وصعود
فإنّك من حاربته لمحارب
…
شقي ومن سالمته لسعيد «1»
فالقيم الإسلامية أخذت تظهر في مخاطبة الرسول الكريم ومدحه، وخاصة عند الشعراء من الصحابة، الذين لم يقتصروا على ذكر صفاته الجليلة وأخلاقه العظيمة، بل تحدثوا عن هدايته، وأوردوا المعاني الدينية في مدحه، مثل قول عبد الله بن رواحة «2» :
خلّوا بني الكفّار عن سبيله
…
خلّوا فكلّ الخير في رسوله
قد أنزل الرّحمن في تنزيله
…
في صحف تتلى على رسوله
بأنّ خير القتل في سبيله
…
يا ربّ إنّي مؤمن بقيله
أعرف حقّ الله في قبوله «3»
حتى إذا تحدث عن الرسول الهادي مادحا، مزج القيم التقليدية بالقيم الدينية الجديدة في قوله:
تحمله النّاقة الأدماء معتجرا
…
بالبرد كالبدر جلّى ليلة الظّلم
وفي عطا فيه أو أثناء بردته
…
ما يعلم الله من دين ومن كرم «4»
ويتقدم عبد الله بن رواحة في مدحه للرسول الكريم، فيفصّل في المعاني الدينية، ويتحدث عن يوم القيامة وعن الشفاعة، ويذكر غيره من الأنبياء، في قوله:
(1) ابن سلام: طبقات فحول الشعراء 253.
(2)
عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري: صحابي من الأمراء والشعراء، شهد كثيرا من الغزوات، واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة في إحدى غزواته- استشهد في وقعة مؤتة سنة (8 هـ) .
(3)
ديوان عبد الله بن رواحة: 144.
(4)
المصدر نفسه: 138.
إنّي تفرّست فيك الخير أعرفه
…
والله يعلم أن ما خانني البصر
أنت النّبيّ ومن يحرم شفاعته
…
يوم الحساب فقد أزرى به القدر
فثبّت الله ما آتاك من حسن
…
تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا «1»
إن مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته جاء ما بين الإشادة بخصاله الكريمة، على عادة شعراء المدح آنذاك وبين الإشادة بهدايته ونبوّته، وكل شاعر مدحه حسب موقفه من الإسلام، فالشعراء الذين قصدوا الرسول الكريم مثل شعراء الرفود، ولم يكونوا يعرفون الكثير عن الإسلام والنبوة، ولكن تناهى إلى أسماعهم صفاته العظيمة وأعماله الميمونة، توجهوا إليه بالمدح على طريقتهم التي اعتادوها في مخاطبة ساداتهم، أما الشعراء المسلمون الذين صاحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتملّك الإيمان قلوبهم، وعرفوا مكانة الرسول الدينية، فإنهم مدحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا عنه في دينهم السامي، ولذلك نجد من مدحه بالقيم الاجتماعية التقليدية فقط، ونجد من مدحه بالقيم الدينية فقط، ونجد من مزج بينها، فشاعر مثل مالك بن عوف «2» اليربوعي سمع عن الرسول الكريم ومكانته وصفاته وأعماله، فمدحه بذلك وبكرمه، وذكر مقدرة الرسول العظيمة على التنبّؤ بالغيب، بدهشة وبساطة، وهذا يظهر أنه حين قال هذا الشعر لم يكن على دراية بالإسلام وموقع الرسول فيه:
ما إن رأيت ولا سمعت بواحد
…
في النّاس كلّهم بمثل محمّد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى
…
وإذا يشأ يخبرك عمّا في غد
ومنهم من وجد في النبي الكريم ما تحدثت عنه أخبار الأوائل والرسل السابقين عليهم السلام، وهذه أمور دينية محضة، مثل كليب بن أسد الحضرمي «3» الذي قال:
(1) ديوان عبد الله بن رواحة ص 144.
(2)
مالك بن عوف بن سعيد بن يربوع، صحابي، قاد هوازن لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم وشهد القادسية وفتح دمشق، كان شاعرا رفيع القدر في قومه، توفي نحو (20 هـ) . ابن حجر: الإصابة 6/ 31.
(3)
كليب بن أسد بن كليب الحضرمي، صحابي من شعراء حضرموت، مخضرم، مدح الرسول صلى الله عليه وسلم فمسح الرسول صلى الله عليه وسلم بيده وجهه، وكان ذلك من مفاخر ذريته. توفي نحو (43 هـ) . ابن حجر: الإصابة 5/ 312.
أنت النّبيّ الذي كنّا نخبّره
…
وبشّرتنا به الأخبار والرّسل «1»
ووصل الشعراء إلى الحديث الديني الخالص في مدحهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل إلى شعرهم أصول الدين ومفاهيمه، كما في قول الطّفيل بن عمرو بن طريف الدّوسي «2» :
ألا أبلغ لديك بني لؤيّ
…
على الشّنان والعضب المردّ
بأنّ الله ربّ النّاس فرد
…
تعالى جدّه عن كلّ ندّ
وأنّ محمّدا عبد رسول
…
دليل هدى وموضح كلّ رشد
وأنّ الله جلّله بهاء
…
وأعلى جدّه في كلّ جدّ «3»
وتحدث الشعراء أيضا عن فضل النبي على الناس، إذ حمل إليهم الهداية والنور والرحمة وأنقذهم مما كانوا فيه من ضلالة وجهالة، فقال جهيش بن أويس النخعي «4» :
ألا يا رسول الله أنت مصدّق
…
فبوركت مهديّا وبوركت هاديا
شرعت لنا دين الحنيفيّة بعد ما
…
عبدنا كأمثال الحمير طواغيا «5»
ومضى الصحابة الكرام، الذين آمنوا بربهم وبرسولهم، وجاهدوا في الله حقّ جهاده، ونصروا النبي الهادي بكل ما يملكون، في تسجيل ما يرونه في الرسول- النبي
(1) ابن حجر: الإصابة 3/ 306.
(2)
الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص الدوسي، صحابي أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أحد الأصنام فحرقه، شهد الفتح وقتل يوم اليمامة. ابن حجر: الإصابة 3/ 286.
(3)
ابن حجر: الإصابة 2/ 226.
(4)
جهيش أو جهيش بن أوس النخعي، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نفر من مذحج فأسلموا. ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم ولقومه. ابن حجر: الإصابة 1/ 266.
(5)
ابن حجر: الإصابة 1/ 255.
والإنسان-، فتحدثوا عن مكانته الدينية، ومنزلته عند الله تعالى، وقد سمعوا القرآن الكريم يمدحه ويشيد به. ومن ذلك قول العباس «1» بن مرداس:
نبيّ أتانا بعد عيسى بناطق
…
من الحقّ فيه الفصل منه كذلكا
أمين على الفرقان أوّل شافع
…
وآخر مبعوث يجيب الملائكا «2»
ووصل الأمر في التوجّه الديني عند مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديث عن الغيبيات، وعن كيفيّة خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأوّلية خلقه، وهو تصريح بالحقيقة المحمدية التي انتشرت عند مادحي الرسول الأعظم، وقد نسب هذا المدح إلى العباس- رضي الله عنه عمّ النبي الكريم، وهو ينحو فيه منحى رمزيا، لا نعهده عند شعراء تلك المرحلة، ولا المرحلة التي أعقبتها، فقد قيل: (كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمه العباس:
يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يفضض الله فاك، فأنشأ يقول:
من قبلها طبت في الظّلال وفي
…
مستودع حيث يخصف الورق
ثمّ هبطت البلاد لا بشر
…
أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السّفين وقد
…
ألجم نسرا وأهله الغرق
تنقّل من صالب إلى رحم
…
إذا مضى عالم بدا طبق
حتّى احتوى بيتك المهيمن من
…
خندف علياء تحتها النّطق «3»
إن هذه القطعة على جانب كبير من الأهمية، وتكون قد سبقت زمنها، لأن مثل
(1) العباس بن مرداس بن أبي عامر السلمي، شاعر فارس، أمه الخنساء الشاعرة له ديوان شعر مجموع توفي نحو (18 هـ) . ابن قتيبة: الشعر والشعراء ص 166.
(2)
الأصفهاني: الأغاني 14/ 305.
(3)
الصفدي: الغيث المسجم ص 275.
هذه الأفكار التي اعتقد بها المتصوفة وروّجوها، والتي شغلت المسلمين بفرقهم كافة، ظهرت إلى النور في وقت متأخر، بعد أن كثرت الفرق الدينية، وتلقحت أفكارها بأفكار غريبة عن الفكر العربي الإسلامي.
فالمعاني الدينية في مدح النبي الأمين اقتضتها صفة الممدوح، ومن غير المعقول أن يظل ما مدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم خالصا للمعاني التقليدية، وألا تشوبه القيم الدينية، وقد ظهر من الأمثلة السابقة أن تأثر الشعراء بالإسلام، وخاصة في مدح النبي الكريم، كان كبيرا جدا، وليس كما صوّره الباحثون وحتى الشعراء الذين هاجموا المسلمين أثناء الصراع بين المسلمين والمشركين، وأسلموا بعد فتح مكة، ومدحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تكفيرا عما فرط منهم، واعتذارا عما سبقت إليه ألسنتهم، ظهر في شعرهم التأثر بالإسلام لأن المدة كانت كافية ليعرف المسلمون وغيرهم الكثير عن الإسلام ونبيّه الكريم ومن ذلك قول عبد الله بن الزبعرى «1» :
يا رسول المليك إنّ لساني
…
راتق ما فتقت إذ أنا بور
آمن اللّحم والعظام لربّي
…
ثمّ قلبي الشّهيد أنت النّذير
إنّ ما جئتنا به حقّ صدق
…
ساطع نوره مضيء منير
أذهب الله ضلّة الجهل عنّا
…
وأتانا الرّخاء والميسور «2»
وهذا الأمر يظهر لدى الشعراء الذين اشتهروا في الجاهلية، وتكاملت عندهم التقاليد الفنية، وعرفوا القيم التي يمدحون بها أسياد قومهم، فإنهم مدحوا الرسول الكريم، وأشادوا بخصاله وفعاله على طريقتهم المعروفة، لكن ذلك لم يمنعهم من أن يكون مدحهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم متميزا عن مدح غيره وخاصة في النبوة فكان لا بد من أن
(1) عبد الله بن الزبعرى بن قيس السهمي القرشي، شاعر قريش في الجاهلية، كان شديدا على المسلمين إلى أن فتحت مكة، فهرب ثم عاد فأسلم واعتذر ومدح النبي صلى الله عليه وسلم، الأصفهاني: الأغاني 15/ 179.
(2)
شعر ابن الزبعرى ص 36.
يذكر هؤلاء الشعراء ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانة سامية لا تدانيها مكانة، وكان لا بد من أن يظهر تأثرهم بالإسلام، وأن تجري المعاني الدينية في شعرهم الموجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هؤلاء الشعراء كعب بن زهير، الذي أخذ عن أبيه أشهر شعراء الجاهلية فن الشعر، وكان قد قاله قبل البعثة، وبرع فيه، حتى إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تردّد في تصديقه، ثم جاءه معتذرا مادحا، فقال فيه:
أنبئت أنّ رسول الله أوعدني
…
والعفو عند رسول الله مأمول
إنّ الرّسول لسيف يستضاء به
…
مهنّد من سيوف الله مسلول «1»
أما حسان بن ثابت، فهو شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم نذر نفسه للدفاع عن الإسلام وعن النبي الأمين بشعره وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشجعه على ذلك. وشعره في الرسول المصطفى حافل بالمعاني الدينية، فهو قريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي خضم الدعوة وتطوراتها، فكان لا بد أن يتأثر بالإسلام في شعره على الرغم من أنه قضى شطرا كبيرا من عمره في الجاهلية، وكان شاعرا مشهورا فيها، فإذا ما مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم جنح في شعره نحو التقاليد الشعرية الثابتة في نفسه، والمترسبة في وعيه، انسياقا وراء ما جرت عليه العادة في المدح من ناحية، وليلائم بين ما كان يهاجم به المسلمون من شعر وبين ردّه عليه فلم يكن يغيظ المشركين ما يتمتع به الرسول الكريم من مكانه دينية- وهم ينكرونها- ولكن يوثر فيهم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم على أكمل ما يكون عليه السيد في قومه من خلق وعمل، ولذلك ظل مدحه للرسول صلى الله عليه وسلم على هيئته الأولى، لكنه حفل بالمعاني الدينية وخاصة حين نعلم أن وراء مدحه للرسول صلى الله عليه وسلم دافعا دينيا جعله يضفي على الرسول صلى الله عليه وسلم صفات تسمو به عن مستوى سائر الناس، ولم تكن غايته من المديح إلا إرضاء شعوره الديني، والتعبير عن إعجابه بشخص النبي العظيم صلى الله عليه وسلم لذلك نجد في شعره كثيرا من
(1) ديوان كعب بن زهير ص 9.
المعاني الدينية الإسلامية، التي تبرز الرسول صلى الله عليه وسلم على صورته الحقيقية، صورة النبي الكريم الذي أرسل لهداية النّاس، فاقتبس من صفاته ما يؤكد ذلك، وقال:
أعني الرّسول فإنّ الله فضّله
…
على البريّة بالتّقوى وبالجود
مبارك كضياء البدر صورته
…
ما قال كان قضاء غير مردود «1»
وإذا كان حسان قد مزج في شعره هذا بين القيم التقليدية التي عرفها مجتمعه، وأقرها الإسلام وهذّبها، وبين المعاني الدينية الجديدة التي جاء بها الإسلام، فإنه في شعر آخر، خلص في مدحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم للمفاهيم الدينية، وفصّل فيها، فذكر مكانة النبي صلى الله عليه وسلم الدينية، وصفاته وأثره في الناس، وتوجه إلى الله تعالى بالمناجاة والدعاء فقال:
أغرّ عليه للنّبوّة خاتم
…
من الله مشهود يلوح ويشهد
وضمّ الإله اسم النّبيّ إلى اسمه
…
إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد
وشقّ له من اسمه ليجلّه
…
فذو العرّش محمود وهذا محمّد
فأمسى سراجا مستنيرا وهاديا
…
يلوح كما لاح الصّقيل المهنّد
وأنذرنا نارا وبشّر جنّة
…
وعلّمنا الإسلام فالله نحمد «2»
إن هذا الشعر لا يمكن أن يوصف إلا بأنه شعر إسلامي خالص، فحسان يظهر أكثر من غيره تمثله للمفاهيم الإسلامية، إنه يظهر تأثره بالقرآن والتعبير القرآني، ويظهر أن مديحه للنبي الأمين كان من أجل فكر آمن به، وعقيدة التزم بمبادئها، لذلك جاء شعره هذا متأثرا- بقدر كبير- فيما جاء به الإسلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما يختلف به عن غيره من البشر.
(1) ديوان حسان بن ثابت ص 134.
(2)
ديوان حسان بن ثابت ص 134.
إن المديح النبوي على عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تنوع وتباينت دوافعه ومنطلقاته، فشعراء مدحوا الرسول الكريم، ولم يكونوا قد التقوه من قبل، ولم يعرفوا الكثير عن الإسلام، فمدحوه على طريقتهم المعروفة بينهم مدح سيد عظيم، ولم يتطرقوا إلى صفته الأولى، وهي الصفة الدينية والنبوة، ومثل هؤلاء الشعراء الذين سمعوا عنه صلى الله عليه وسلم فجاؤوا إليه يطلبون رفده، أو شعراء المسلمين الذين اتبعوا طريقتهم التقليدية في مدح العظماء، ليتلاءم مدحهم مع الشعر الذي يهاجم المسلمين والإسلام، ومع البيئة التي يودّون أن ينتشر شعرهم فيها، وهي الجزيرة العربية كلها، فلم يكونوا يريدون لشعرهم أن يبقى حبيسا في المدينة المنوّرة، ولا يتوجه لأهلها فقط، وإلّا لكان لمدحهم طابع آخر، هو الطابع الديني الإسلامي الذي برز عند الشعراء المسلمين، والذي اقتضته مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم الدينية، وصفاته وسلوكه وأعماله، فظهر في شعرهم الذي مدحوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثرهم بالإسلام ومفاهيمه، يمزجون بين المفاهيم الجديدة، وبين ما كانوا عليه من فن المديح، حتى إذا تشربت نفوسهم بتعاليم الإسلام الحنيف، واستقر في روعهم الإيمان به، وجدنا عندهم مديحا للنبي الكريم خالصا في توجهه الديني، وفي تأثره بالمعاني الدينية والتعبير القرآني.
وهذا التردد في الاستجابة للمفاهيم الدينية وإظهارها في الشعر الذي مدح به النبي الأمين أمر طبيعي، فكل غرض فني، وكل طريقة أداء أدبية جديدة، تحتاج إلى وقت مناسب لتنضج وتستقر وتظهر في صورة ثابتة معروفة، لأن الإبداع الفني يمر في ثلاث مراحل هي الانفعال النفسي بالتجربة الجديدة، ثم استبطان هذا الانفعال داخل النفس، وتفاعله مع مكوّناتها، وبعد ذلك ترتد هذه التجربة إلى خارج النفس على هيئة إبداع فني.
ولم تكن مدة البعثة كافية تماما لتتم هذه العملية في نفوس الشعراء جميعا.