المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الخامس- في العصر الفاطمي والأيوبي: - المدائح النبوية حتى نهاية العصر الملوكي

[محمود سالم محمد]

فهرس الكتاب

- ‌المحتوى

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول بواعث ازدهار المديح النبوي وانتشاره

- ‌الفصل الأول الأسباب السياسية

- ‌الصراع الخارجي:

- ‌الصراع الداخلي:

- ‌الفصل الثاني الأسباب الاجتماعية

- ‌المظالم والكوارث:

- ‌المفاسد الاجتماعية:

- ‌الفصل الثالث الأسباب الدينية

- ‌مجادلة أهل الكتاب:

- ‌مخالفة الشريعة:

- ‌المظاهر الدينية:

- ‌الجدل المذهبي:

- ‌انتشار التصوف:

- ‌الرؤيا:

- ‌الفصل الأول نشأة المدح النبوي

- ‌القسم الأول: المديح والرثاء والمديح النبوي:

- ‌القسم الثاني- المدح النبوي في حياة الرسول:

- ‌القسم الثالث- في العصر الراشدي والأموي:

- ‌القسم الرابع- في العصر العباسي:

- ‌القسم الخامس- في العصر الفاطمي والأيوبي:

- ‌الفصل الثاني حدود المديح النبوي

- ‌القسم الأول- الشعر التقليدي:

- ‌القسم الثاني- مدح آل البيت:

- ‌القسم الثالث- الشعر الصوفي:

- ‌القسم الرابع- التشوق إلى المقدسات:

- ‌القسم الخامس- المولد النبوي:

- ‌الفصل الأول المضمون

- ‌القسم الأول- المدح بالقيم التقليدية:

- ‌القسم الثاني- المدح الديني:

- ‌محبته:

- ‌فضائله:

- ‌هديه:

- ‌السيرة:

- ‌المعجزات:

- ‌تفضيله:

- ‌الحقيقة المحمدية:

- ‌الرسول والبشرية:

- ‌التوسل به والصلاة عليه:

- ‌آثار النبي الكريم:

- ‌ذكر الآل والصحابة:

- ‌القسم الثالث- مواضيع أخرى:

- ‌الحديث عن المديح النبوي في قصائد المديح:

- ‌القسم الرابع- المعاني:

- ‌الفصل الثاني الأسلوب

- ‌القسم الأول- الشكل الشعري:

- ‌ذكر الأماكن:

- ‌الغزل:

- ‌الرحلة:

- ‌وصف الطبيعة:

- ‌الوعظ:

- ‌الدعاء:

- ‌المباشرة بالمدح:

- ‌الانتقال:

- ‌الرجز:

- ‌المقطوعات:

- ‌ضروب النظم:

- ‌الأشكال المتميزة:

- ‌القيود الشكلية:

- ‌ النظم

- ‌المعارضة:

- ‌الوزن والقافية:

- ‌القسم الثاني- الصياغة والأسلوب:

- ‌النظم:

- ‌التصنع:

- ‌الألفاظ:

- ‌القسم الثالث- الصنعة الفنية:

- ‌الصنعة الخيالية:

- ‌الصنعة اللفظية:

- ‌الفصل الأول أثر المدائح النبوية في المجتمع

- ‌القسم الأول- الأثر الاجتماعي:

- ‌النصح والإرشاد:

- ‌الاعتقاد بالمدائح النبوية:

- ‌الجدل العقائدي:

- ‌إظهار النزعة العربية:

- ‌القسم الثاني- الأثر التعليمي للمدائح النبوية:

- ‌القدوة والمثل:

- ‌المعرفة:

- ‌الفصل الثاني أثر المدائح النبوية في الثقافة

- ‌القسم الأول- أثر المدائح النبوية في الشعر:

- ‌أثره في الإبداع الشعري:

- ‌أثره في قصائد الشعر الآخرى:

- ‌الملاحم:

- ‌القسم الثاني- البديع:

- ‌القسم الثالث- التأليف:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌المصادر المخطوطة:

- ‌المصادر المطبوعة:

- ‌المراجع:

- ‌الفهرس التفصيلي (عام)

- ‌ حرف الألف

- ‌ حرف الباء

- ‌ حرف التاء

- ‌ حرف الثاء

- ‌ حرف الجيم

- ‌ حرف الحاء

- ‌ حرف الخاء

- ‌ حرف الدال

- ‌ حرف الذال

- ‌ حرف الراء

- ‌ حرف الزاء

- ‌ حرف السين

- ‌ حرف الشين

- ‌ حرف الصاد

- ‌ حرف الضاد

- ‌ حرف الطاء

- ‌ حرف الظاء

- ‌ حرف العين

- ‌ حرف الغين

- ‌ حرف الفاء

- ‌ حرف القاف

- ‌ حرف الكاف

- ‌ حرف اللام

- ‌ حرف الميم

- ‌ حرف النون

- ‌ حرف الهاء

- ‌ حرف الواو

- ‌ حرف الياء

الفصل: ‌القسم الخامس- في العصر الفاطمي والأيوبي:

وقد شهد العصر العباسي مراحل مختلفة من مراحل تطور المديح النبوي، وظهر فيه كثير من مفردات المدائح النبوية ولوازمها.

‌القسم الخامس- في العصر الفاطمي والأيوبي:

شهد هذا العصر اضطرابا كبيرا، إذ شكلت الدولة الفاطمية تحديا خطيرا للدولة العباسية، ونازعتها السيادة الدينية والسياسية على البلاد العربية الإسلامية، وانقسم الناس بين مؤيد لهذه الخلافة أو تلك، بالإضافة إلى انسلاخ قسم كبير من أجزاء الدولة الشرقية، وابتعادها عن العروبة شيئا فشيئا، وكثرة الدول المستقلة على أطراف الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه. ومن ثم بداية الغزو الأوروبي العاتي الذي استطاع أن يحتل باسم الدين مناطق كبيرة من الساحل الشامي وبرّه، وأن يستولي على مدينة القدس ويقطع طريق الحج، ويمضي في اعتداآته على العرب المسلمين، مهددا بالاستيلاء على المنطقة واستيطانها.

ومن بين هذه الفوضى الشاملة، والعجز المستشري في الدولة الإسلامية، برز الزنكيون ليقودوا حركة الجهاد الواسعة ضد الصليبيين، والتي آتت أكلها بطرد الصليبيين من الوطن العربي فيما بعد، واستطاعوا تقليل الخلافات بين الممالك العربية الإسلامية، وتوحيد مصر والشام، لتكونا دولة قوية تقف بالمرصاد لكل معتد خارجي.

وكان لهذه الأحداث العاصفة صدى في نفوس الناس، والشعراء منهم خاصة، فظهر في شعرهم أثرها واصطبغ بصبغتها، وخاصة ما عملت الدولة الفاطمية على نشره بين الناس، وما تركته حركة الجهاد في نفوسهم.

فالدولة الفاطمية التي نسب خلفاؤها أنفسهم إلى علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- وادعت أنها الدولة الإسلامية الشرعية في عصرها، عملت على نشر عقيدتها عن طريق دعاة نشيطين، انبثوا في أنحاء البلاد العربية الإسلامية، وأحاطت خلفاءها

ص: 106

بهالة من القداسة، فشارك الشعراء في عملية الدعاية هذه، وحمل شعرهم العقيدة الفاطمية، وما تذهب إليه في الخلفاء.

وقد أوسعت الحروب الصليبية بلاد الشام حرقا وقتلا وسلبا، وانتهكت الحرمات فيها باسم الدين، فكان لا بد من أن يدافع الشعراء عن دينهم، وعن صاحب هذا الدين، رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هاجمه الفرنج وانتقصوا قدره.

فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في الشعر الذي مدح به الخلفاء الفاطميون، لأنهم يرجعون بنسبهم إليه، وفي الشعر الذي قيل في الدفاع عن الدين الإسلامي ونبيّه، ففي هذا الشعر مدح مستفيض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى الشعر الذي خرج من بيئات المتصوفة، الذين اشتدت حركتهم واتسعت في هذا العصر، نتيجة للاضطرابات والحروب، فشعرهم ينبض بتمجيد الله تعالى وتسبيحه، وتعظيم مقدساته، لذلك كان للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نصيب من شعرهم.

أما ما مدح به الخلفاء الفاطميون، فإنه يظهر على جانب كبير من المبالغة والتطرف عند من لا يدين بشرعتهم، فهم رفعوا الخلفاء فوق مستوى البشر، ومدحوهم بما تمدح به الأنبياء، وأشركوهم في خصائص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد نقل عن مخطوط بعنوان (مجموعة أشعار إسماعيلية) شعر للخليفة الفاطمي العزيز بالله، يقول فيه:

أنا ابن رسول الله غير مدافع

تنقّلت في الأنوار من قبل آدم

لي الشّرف العالي الذي خضعت له

رقاب بني حوّاء من كلّ عالم «1»

فإذا كان الخليفة يقول عن نفسه هذا القول، ويدعي أنه وجد قبل آدم، فماذا يقول الشعراء؟.

(1) يشير إلى الآية الكريمة قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، وَلَوْ.

ص: 107

لقد ذهبوا إلى أن الخليفة الفاطمي زكّاه الله تعالى وبعثه ليقوم بأمر الناس، ولذلك يقول له ظافر الحداد «1» :

ومدحك في كتاب الله نصّ

وحسبك منه كاف أيّ كاف «2»

فظافر الحداد مدح الخليفة الفاطمي بما يمدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال فيه:

صلّى الإله عليك يا ابن رسوله

وهدى لطاعتك الورى لسبيله

فيك استقرّ الحقّ واتّضح الهدى

وأبان للثّقلين وجه دليله «3»

لكن الشعراء لم يكونوا جميعا منساقين لمثل هذه المبالغات، وظلوا يمدحون الخلفاء الفاطميين بانتسابهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابن حيوس «4» يمدح نقيب الطالبيين بقوله:

خصّ الإله محمّدا من بينكم

لا زال محروسا بأكرم آل

وبراكم من طينة مسكيّة

لمّا برى ذا الخلق من صلصال «5»

صحيح أن ابن حيوس رفع الهاشميين فوق الناس جميعا، حتى جعل طينتهم تختلف عن طينة باقي البشر، لكنه لم يجعل الممدوح بمرتبة النبي بل جعل انتساب الطالبيين إلى النبي الأمين محط الفخر والمدح.

والملاحظ أن الشعراء الفاطميين يجعلون للخلفاء وللطالبيين من الهاشميين صفة الهداية والشفاعة، فيتوسلون بهم إلى الله تعالى، ولم يصلوا على الرغم من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعرهم إلى إفراد مدحه في قصائد خاصة، واكتفوا بما يتيسر لهم أثناء

(1) ظافر الحداد: ظافر بن قاسم بن منصور الجذامي، شاعر من أهل الإسكندرية، كان حدادا، وله ديوان شعر، توفي سنة (529 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 4/ 91.

(2)

ديوان ظافر الحداد: ص 219.

(3)

المصدر نفسه: ص 254.

(4)

ابن حيوس: محمد بن سلطان بن محمد، شاعر الشام في عصره، كان أبوه من أمراء العرب، له ديوان شعر، توفي سنة (394 هـ) . ابن العماد الحنبلي شذرات الذهب 3/ 343.

(5)

ديوان ابن حيوس: ص 502.

ص: 108

مدح الفاطميين أو رثائهم، كما فعل طلائع بن رزيك «1» حين رثى العترة الطاهرة بقوله:

لا تبك للجيرة السّارين في الظّعن

ولا تعرّج على الأطلال والدّمن

وتب إلى الله واستشفع بخيرته

من خلقه، ذي الأيادي البيض والمنن

محمّد خاتم الرّسل الذي سبقت

به بشارة قسّ وابن ذي يزن

وأنذر النّطقاء الصّادقون بما

يكون من أمره والطّهر لم يكن

الكامل الوصف في حلم وفي كرم

والطّاهر الأصل من دان ومن درن

ظلّ الإله ومفتاح النّجاة وينبو

ع الحياة وغيث العارض الهتن

فاجعله ذخرك في الدّارين معتصما

له وبالمرتضى الهادي أبي الحسن «2»

وهذا مدح نبوي خالص شدّد فيه على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كماله، وأظهر ما يعتقده الفاطميون والمتصوفة في أن النبي الكريم هو أول المخلوقات، وأنه ينبوع الحياة وطلب التشفع به وبعلي بن أبي طالب، وهنا بدأ في رثاء آل البيت، فقد جعل مدح النبي الكريم من مقدمات قصيدته في رثاء علي وأولاده رضوان الله عليهم.

وهذا الأمر فعله المؤيد «3» داعي الدعاة، إذ جعل من مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة لمديح آل البيت، فقال:

(1) طلائع بن رزيك: وزير فاطمي، قدم فقيرا من العراق وترقى إلى أن ولي الوزارة، كان شجاعا حازما مدبرا أديبا شاعرا لا يترك غزو الفرنج في البر والبحر. توفي سنة (495 هـ) . ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/ 526.

(2)

ديوان طلائع بن رزيك: ص 146.

(3)

المؤيد في الدين داعي الدعاء: هبة الله بن موسى بن داود الشيرازي من زعماء الإسماعيلية وكتابها صار آمر الدعوة الفاطمية، كانت بينه وبين أبي العلاء المعري مراسلة، له عدة كتب منها المجالس المؤيدية والمرشد إلى الإسماعيلية وديوان شعر. المقريزي: السلوك 1/ 53.

ص: 109

وهذا رسول الله أفضل مرسل

وليس يطيق النّاعتون له نعتا

ومن هو خير الخلق أصلا ومحتدا

وأكرمهم نفسا وأطهرهم نبتا

أقام عمود الدّين والرّشد والهدى

وحتّ سنام الكفر بالحقّ فانحتّا

وأحمد بيت النّور، لا شكّ بابه

أبو حسن (والبيت من بابه يؤتّى)«1»

فالشعراء الفاطميون لم يفردوا مدح الرسول في قصائد خاصة، وجعلوا مدحهم له ممزوجا في قصائد مديح الفاطميين ورثائهم، ولوّنوا هذا المدح بعقائدهم، فظهرت في شعرهم صفات لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن متداولة قبل ذلك.

والظاهرة الدينية البارزة التي سادت في هذا العصر، وكان لها تأثير في المديح النبوي، هي ظاهرة اتساع التصوف، فالمتصوفة شكّلوا تصورا خاصا بهم للكون، كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكان متميز فيه، وبحثوا ماهية النبوة وعلاقتها بالولاية، فكان لهم في ذلك آراء شجاعة أثارت استهجان عامة الناس واستنكارهم، ومن هنا جاء ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما تركوه من مؤلفات في طريقتهم، وفيما نظموه من شعر في مذهبهم، وجاء ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم أيضا حين جاروا الشيعة في ادعاء وراثة النبي الأمين فهم يرون أنفسهم الفئة الوحيدة التي يحق لها وراثة نبي الله، وبنوا على ذلك نظاما هرميا رأسه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وقاعدته المريدون، وبينهما تتدرج مراتب رجال الصوفية. وقد نص ابن عربي «2» على مبدأ الوراثة هذا في قوله:

ورثت محمّدا فورثت كلّا

ولو غيرا ورثت ورثت جزآ «3»

(1) ديوان المؤيد داعي الدعاء ص: 263.

(2)

محيي الدين بن عربي: محمد بن علي بن محمد الحاتمي، رأس المتصوفة وشاعرهم، جال في البلاد واستقر في دمشق، له مؤلفات كثيرة في التصوف، توفي سنة (638 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 435.

(3)

ابن عربي/ الديوان الأكبر: ص 186.

ص: 110

إلا أن المتصوفة مزجوا ذكرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعقائدهم، وبرموزهم التي تستغلق على المطلع، والتي لا يعرف مدلولاتها إلا من تشبع بمبادئهم ورياضاتهم الروحية، فابن عربي يقول:

يا أهل يثرب لا مقام لعارف

ورث النّبيّ الهاشميّ محمّدا

عمّ المقامات الجسام عروجه

وبذاك أضحى في القيامة سيّدا

صلّى عليه الله من رحموته

ومن أجله الرّوح المطهّر أسجدا

لأبيه آدم والحقائق نوّم

عن قولنا وعن انشقاق قد هدى

فجوامع الكلم التي أسماؤهما

في آدم هي للمقرّب أحمدا «1»

ويتضح من شعر ابن عربي أنه يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم من منطلق عالم الصوفية الغيبي، فالمتصوفة لا يتحدثون عنه إلا ضمن عالم الغيب الذي بنوه لأنفسهم، لذلك يتضح من شعرهم جانب، ويغمض جانب، وهم يدورون داخل نطاق الحقيقة المحمدية، لا يخرجون عنها، وحين بذكر ابن عربي الرسول الأمين مادحا يذكره ضمن قصائد تتحدث عن طريقته، أو ضمن مقطوعات صغيرة، بدأها واضحا، ثم استغرق في إبهام لا يحسن تفسيره إلا المتصوفة أنفسهم، وكأنه يعطي السامع أو القارئ ما يدل على الموضوع، ويسير به شيئا فشيئا إلى عالمه الخاص، ومن ذلك قوله:

صلّى عليه الله من سيّد

لولاه لم نعلم ولم نهتد

قد قرن الله به ذكره

في كلّ يوم، فاعتبر ترشد

عشر خفيّات وعشر إذا

أعلن بالتّاذين في المسجد

فهذه عشرون مقرونة

بأفضل الذّكر إلى الموعد «2»

(1) ابن عربي: الديوان الأكبر ص 79.

(2)

المصدر نفسه: ص 24.

ص: 111

وهذه طريقة معظم المتصوفة في مدح الرسول الكريم، ولنر كيف نظم ابن عربي الحديث الشريف «أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر» «1» ، فقال على لسان النبي:

الله يعلم والدّلائل تشهد

أنّي إمام العالمين محمّد

لكن لنا وقت تراقب كونه

فإذا أتى فالسّلك فيه مهنّد «2»

إنهم لا يستطيعون أن يخرجوا عن عالمهم الغامض، الذي يشفّ أحيانا، فيزيد الشعر عذوبة ورقة وسموا، ويزيد فيستحيل الشعر إلى طلاسم ورموز، لا ندري لها فكاكا، وقد يتحدثون عن النبي الكريم فلا نعلم إلا بعد لأي، أو من سياق القصيدة.

لذلك لا نجد عند كبار المتصوفة مدحا خالصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم استغرقوا في عالمهم الغيبي وفي إظهار معتقدهم، وإذا خرجوا عن ذلك جاؤوا إلى قصائد الهيام والحب الإلهي برموز أشهرها الغزل المبطن، الذي ظاهره غزل في محبوبة، وباطنه غزل بالذات الإلهية وهيام بحبها وفناء فيها.

وفي قصائد الغزل والهيام عند المتصوفة، يلفت النظر موضوع أضحى فيما بعد من لوازم المدحة النبوية وهو التشوق إلى الأماكن المقدسة والتغزل بالكعبة والحنين إلى البقاع التي شهدت بعثة النبي الكريم ونزول الوحي، ولذلك قلما تخلو قصيدة لمتصوف من ذكر المقدسات، وكأنهم قد استعاضوا بها عن ذكر المقدمات الطللية، وذكر المنازل والرحلة في الشعر العربي.

فالتشوق إلى المقدسات الذي رأيناه عند الشريف الرضي، والذي كان حنينا إلى الحجاز، موطن آبائه وأجداده، والذي نظمه بعض الشعراء في حنينهم إلى قضاء فريضة الحج، وفي أثناء توجههم لأدائها، صار في هذا العصر فنا قائما بذاته، تنظم فيه القصائد

(1) صحيح مسلم ص 1382 ومسند الإمام أحمد: 1/ 161.

(2)

ابن عربي: الديوان الأكبر ص 23.

ص: 112

المستقلة، التي تذوب رقة وعذوبة، وتتقد شوقا وحنينا إلى البقاع التي رفع الله قدرها، وجعل زيارتها فرضا على كل مسلم، وفيها يفصح الشعراء عن مشاعرهم الدينية وعواطفهم السامية ويظهرون مقدرتهم الفنية، فلا توجد روايات وأحاديث، يضطرون إلى نظمها فيسيؤون إلى الرواء الشعري، ولا يوجد من يفرض عليهم هذا اللون من الشعر، ولا يتملّقون به أحدا، فجاء نظمهم لهذا الفن حرا، يضع فيه الشاعر كل ما أوتي من شفافية ومقدرة فنية، لذلك شارك فيه الشعراء على خلاف مذاهبهم ومشاربهم، وحتى الشعراء الفاطميون افتتحوا بعض قصائدهم في مدح الخلفاء بذكر المقدسات والتشوق إليها، مثل قول المؤيد داعي الدعاة في مطلع قصيدة:

هلمّ إلى الأرض المقدّسة التي

بساحتها سكّانها أمنوا الموتا

إلى علم الإيمان والقبلة التي

عليها بلا شكّ دللت ووجّهتا «1»

وللشاعر الأجلّ «2» قصيدة في مدح الخليفة الناصر، بدأها على النحو التالي:

حلفت بأعلام المحصّب من منى

وما ضمّ من نسك حجون وأبطح

وبالجمرات السّبع تلقي رماتها

بإلقائها الأوزار عنها وتطرح

وبالبدن تهدى كالهضاب توامكا

تقلّد من أرسانها وتوشّح

وقد أخذت منها الجنوب مصارعا

وأذعن للجزّار نحر ومذبح

وبالوفد ميلا في الرّجال كأنّما

سقاهم سلاف الرّاح ساق مصبّح

إذا قطعوا في طاعة الله صحصحا

بدا لهم فاستأنفوا السّير صحصح «3»

(1) ديوان المؤيد داعي الدعاة: ص 292.

(2)

الأجلّ: أسعد بن إبراهيم بن حسن النشابي، ولد باربل وانتقل إلى الشام، وولي كتابة الإنشاء لصاحب إربل، وأنفذه رسولا إلى الخليفة المستنصر، فخدم في بغداد، توفي سنة (656 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 1/ 165.

(3)

ديوان شعر الأجل: ص 81.

ص: 113

فالأجلّ لم يكتف في تقديمه لمدح الخليفة بذكر الأماكن المقدسة والقسم بها، بل جمع إليها بعض مناسك الحج، ووصف الراحلين إلى الحجاز، فأظهر ما هم عليه من تقوى وسرور لتجشمهم عناء السفر في طاعة الله وفوزهم بأمانيهم، وكأنه بدأ بذكر الديار المقدسة وثنى بذكر الرحلة إليها، ليلائم بين مقدمته هذه التي تناسب مقام الممدوح الديني، وبين مقدمات المديح التقليدية التي تبدأ بذكر الديار وتثني بذكر الرحلة.

إن انتشار ذكر الأماكن المقدسة وإظهار التشوق إليها، جعل شعراء ليس لهم أي توجه ديني يوردونه، وربما جاروا غيرهم من الشعراء المتصوفة، لظنهم أن تلك الطريقة في التعبير، تسترعي الانتباه أكثر من غيرها وتثير مشاعر الحنين عند المتلقين فيتمّ تجاوبهم العاطفي مع الشاعر.

ومما شجع على انتشار المديح النبوي، واكتماله في هذا العصر، ظهور الاحتفالات بمولد النبي الكريم وما تحتاجه هذه الاحتفالات من شعر ينشد فيها، يمجّد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب هذه الذكرى، وينبه على قدره السامي.

وكان الفاطميون يقيمون موالد متعددة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولعلي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين وغيرهم من آل البيت- رضوان الله عليهم-، وهذه الموالد ذكّرت الشعراء بما يجب عليهم اتجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقال إن أول من احتفل بالمولد النبوي هو مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل وصهر صلاح الدين الأيوبي الذي توفي سنة (630 هـ)«1» .

وفي هذه الأثناء انتشر الاحتفال بالمولد النبوي بين شرق البلاد العربية الإسلامية وغربها، وكان يحتفل به احتفالا صاخبا، يشارك فيه أصحاب الأمر وأعوانهم، والفقهاء والمتصوفة والوعاظ والقراء والمنشدون، وسيمر معنا عند الحديث عن المولد النبوي تفصيل هذه الاحتفالات وما ألّف في المولد وما نظم فيه.

(1) ابن الوردي: تتمة المختصر 2/ 235.

ص: 114

وكان للحروب الصليبية أثرها في ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا العصر، إذ إن الغزو الأوربي لمشرق الوطن العربي ومغربه كان باسم الدين، ويظهر أن الغزاة الذين اتخذوا الصليب شعارا لهم ولحملاتهم، انتقصوا من الإسلام ومن رسوله الكريم، مما دعا الشعراء إلى الدفاع عن الإسلام ونبيه، ومدحه، والإشادة بالقادة الذين يحرزون انتصارات على الصليبيين ومدحهم بأنهم نصروا الإسلام ونبيه، لذلك كثيرا ما نجد في مدائح القادة مثل قول ابن منير الطرابلسي «1» في مدح نور الدين الشهيد:

ألبست دين محمّد يا نوره

عزّا له فوق السّها أساد «2»

واستمرت في هذا العصر طريقة الشعراء في التمثّل بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدعوة إلى الاقتداء بسيرته الكريمة، والتأسّي بما جرى له، والمقارنة بين عمل حصل في هذا العصر وعمل حصل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمارة اليماني «3» يدعو الناس إلى الاعتبار برسول الله، والاقتداء بطريقته في التعامل مع المصائب، فيقول:

ومن أراد التأسّي في مصيبته

فللورى برسول الله معتبر «4»

ويكثر ابن حيوس من مثل هذه الأمثال والمقارنات، فيقول في التأسي:

لكم في رسول الله أعظم أسورة

فلا تظهر الشّكوى ولا يتعب الفكر «5»

(1) ابن منير الطرابلسي: أحمد بن منير بن أحمد، شاعر مشهور من أهل طرابلس الشام، سكن دمشق ومدح السلطان الملك العادل محمود زنكي، كان هجّاء، حبس على الهجاء ونفي إلى حلب توفي سنة (548 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 4/ 146.

(2)

ديوان ابن منير الطرابلسي: ص 262- أساد: جمع وسادة.

(3)

عمارة اليماني: عمارة بن علي بن زيدان الحكمي، مؤرخ شاعر فقيه، أتى إلى الفاطميين فأحسنوا إليه فأقام عندهم ومدحهم ورثاهم عند ما دالت دولتهم، قتله صلاح الدين. من تصانيفه (أرض اليمن وتاريخها) و (النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية) وديوان شعر. عمارة: النكت العصرية ص 5.

(4)

الصفدي: تمام المتون ص 302.

(5)

ديوان ابن حيوس: ص 243.

ص: 115

ويقول في ممدوحه، وفيما أحرزه من عزّ لبني جلدته:

بنيت للعجم المجد المبلّغهم

مجدا بناه رسول الله للعرب «1»

فكأن سيرة النبي الكريم وأحواله حضارة دائما في ذهن ابن حيوس وأمثاله، يلتقط منها ما يناسب موضوعه ليتمثل بها ويحتج لكلامه، وليس هناك أبلغ وأصدق من التمثل برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله.

وقد ظهرت في هذا العصر مدائح نبوية متكاملة، عدت بداية فن المدائح النبوية، وإن كنا نجد مدائح نبوية سابقة لهذا العصر، لكنها كانت قليلة ومتباعدة، ولم تشكل ظاهرة أدبية، ولكنها في هذا العصر، وخاصة في المرحلة الأيوبية، كثرت، وأضحى المديح النبوي فنا أدبيا مستقلا بذاته، يشارك فيه معظم الشعراء.

وقد تداخل العصر الأيوبي مع العصر المملوكي، لأن معظم الشعراء الذين نظموا في المديح النبوي عاشوا شطرا من حياتهم في دولة بني أيوب، وأمضوا الشطر الآخر في دولة المماليك، والظواهر الاجتماعية والأدبية لا تخضع في تقسيمها للتقسيم السياسي، وإن الأخذ في تقسيم عصور الأدب وتطوره حسب تعاقب الدول لا يهدف إلا لتسهيل الدراسة، ليس إلا. فإن أي تغير سياسي أو اجتماعي، لا يستجيب له الأدب إلا بعد مدة مناسبة من الزمن، فالأدباء يظلون على تقاليدهم الأدبية التي نشؤوا عليها، ويحتاج الجديد إلى وقت ليختمر في النفوس، وليتمثّله الأدباء ومن ثم ليرتد إلى خارج النفس على شكل إبداع أدبي.

ولذلك نجد البدايات في قصائد المديح النبوي قصائد معارضة لقصائد مدح فيها النبي الأمين في حياته تهيّبا من الإقدام على مثل هذا العمل الجليل، وخوفا من الوقوع في الخطأ وقلّة الانتباه، وللتدرب على كيفية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومخاطبته قبل

(1) ديوان ابن حيوس: ص 73.

ص: 116

أن يعبّر الشاعر تعبيرا ذاتيا محضا في الشكل والمضمون عما يكنه للرسول الكريم من مشاعر الحب والتقديس، ومن هذه القصائد قصيدة لابن الساعاتي «1» في معارضة قصيدة كعب بن زهير بدأها بقوله:

جدّ الغرام وزاد القال والقيل

وذو الصّبابة معذور ومعذول «2»

وقد مزج في مقدمة قصيدته بين الغزل وذكر ديار المحبوبة، ووصف الرحلة، دون أن يفرق بينها، ففارق كعبا في ذلك مثلما فارقه في طبيعة الغزل وفي الأسلوب الذي نحا فيه منحى الصنعة التي تفشت في أيامه، حتى إذا استنفذ المقدمة التي بثّ فيها لواعجه وحنينه، أظهر ما بنفسه من حزن، لأن له أعداء ينتقصون منه، فيرد عليهم قائلا:

يا حاسدا نال من فضلي بمنقصة

عليك نفسك إنّ الجهل مفضول

حسبي الثلاثة بالتّبريز شاهدة

البيد واللّيل والعيس المراسيل

وكيف أخمل في دنيا وآخرة

ومنطقي ورسول الله مأمول

وهكذا أنهى مقدمته بالرد على منتقصيه والفخر بنفسه، واتخذ هذا مدخلا إلى مديح النبي صلى الله عليه وسلم مدحا دينيا خالصا، لم يخلطه بالمعاني التقليدية التي درج الشعراء على مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، والتي حفلت بها قصيدة كعب التي يعارضها ابن الساعاتي، فقال:

هو البشير النّذير العدل شاهده

وللشّهادة تجريح وتعديل

لولاه لم تك شمس لا ولا قمر

ولا الفرات وجاراها ولا النّيل

(1) ابن الساعاتي: علي بن محمد بن رستم، شاعر مشهور، خرساني الأصل، ولد ونشأ في دمشق، وكان أبوه يعمل الساعات فيها، تعاني الخدمة ومدح الملوك، وسكن مصر، له ديوان شعر. ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 13.

(2)

ديوان ابن الساعاتي: ص 47.

ص: 117

ولم يجب آدم في حال دعوته

نعم ولم يك قابيل وهابيل

فسيّد الرّسل حقّا لا خفاء به

وشافع في جميع النّاس مقبول

بثّت نبوّته الأخبار إذ نطقت

فحدّثت عنه توارة وإنجيل

أضاء هديا وجنح الكفر معتكر

ووجه حقّ وسرّ الشّكّ مسدول

وقد أوجز ابن الساعاتي في مدحه القصير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما فصّله غيره في قصائد طوال، فبدأ بذكر صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم الدينية، ثم تحدث عن مكانته عند ربه سبحانه وتعالى بالحقيقة المحمدية، وذهب إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علّة الكون وسبب وجوده، وأنه سيد المرسلين والشافع في جميع الناس، وأن الكتب السماوية بشّرت بنبوته، وأنه هدى الناس ونقلهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور العلم والإيمان.

ولا يفوتنا أن نذكر هنا النحوي الذي أكثر من نظم الشعر، وهو ملك النّحاة الحسن ابن صافي «1» ، الذي ترك ديوانا من الشعر فيه عدة قصائد من المديح النبوي، يقول في إحداها مازجا بين القيم التقليدية في المدح والقيم الدينية.

لله أخلاق مطبوع على كرم

ومن به شرّف العلياء والكرم

أغرّ أبلج يسمو عن مساجلة

إذا تذوكرت الأخلاق والشيّم

يا من رأى الملأ الأعلى فراعهم

وعاد وهو على الكونين يحتكم

يا من له دانت الدّنيا وزخرفت الأخ

رى ومن بعلاه يفخر النّسم

علوت عن كلّ مدح يستفاض فما ال

جلال إلّا الذي تنّحوه والعظم

على علاك سلام الله متّصلا

ما شئته والصّلوات تبتسم «2»

(1) ملك النحاة: الحسن بن صافي بن عبد الله بن نزار، ولد وتعلم ببغداد، واستوطن دمشق، كان أنحى أهل طبقته، له مؤلفات كثيرة في النحو وديوان شعر، توفي سنة (568 هـ) ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/ 92.

(2)

صدقي، أحمد: تهذيب تاريخ ابن عساكر 4/ 167.

ص: 118

وإذا كنّا قد تحدثنا عن مسيرة فن المديح النبوي في المشرق العربي، فهذا لا يعني أن المغرب العربي كان لا يعرف هذا الفن، ولم ينظمه شعراؤه، بل ربما سبق المغاربة المشارقة إلى هذا الفن، لأننا نجد عندهم قصائد كاملة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، متقدمة زمنيا على ما نجده عند المشارقة، ولسنا هنا في معرض البحث عن أوّلية هذا الفن، ومن الذي بدأه، وفي أي قطر من الأقطار العربية الإسلامية ظهر بادئ ذي بدء، لأن هذا الأمر يظل تخمينا وعرضة للخطأ بسبب فقدان قسم كبير من الشعر العربي ودواوين الشعراء، وخاصة تلك التي ترجع إلى القرون الأولى من عمر الدولة العربية الإسلامية، ولا أظن أن فائدة كبيرة ترجى من معرفة أوّل من نظم المديح النبوي بعد عصر النبي الأمين، وفي أي مكان كان ظهور هذا الفن على الشكل الذي ساد بعد ذلك، وإنما نحاول ذلك تقريبا، من خلال استعراض التراث العربي في عصوره المتتابعة لنبيّن ملامح تطور هذا الفن إلى أن وصل إلى الدولة المملوكية.

فنجد مثلا لابن حبيب، عبد الملك السلمي «1» ، الذي توفي سنة (238 هـ) قصيدة يذكر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في معرض حديثه عن زيارته للمدينة المنورة، فيقول:

لله درّ عصابة صاحبتها

نحو المدينة تقطع الفلوات

حتى أتينا القبر قبر محمّد

خصّ الإله محمّدا بصلاة

خير البريّة والنّبيّ المصطفى

هادي الورى لطرائق الجنّات

لمّا وقفت بقربه لسلامه

جادت دموعي واكف العبرات

صلّى الإله على النّبيّ المصطفى

هادي البريّة كاشف الكربات «2»

(1) ابن حبيب: عبد الملك بن حبيب بن سليمان السّلمي القرطبي، عالم الأندلس وفقيهها في عصره، زار مصر، كان عالما بالتاريخ والأدب وفقه المالكية. توفي سنة (238 هـ) .

(2)

المقري: نفح الطيب 1/ 46.

ص: 119

والملاحظ أن في هذه القصيدة مدحا للنبي الكريم، فهو خير البرية وهاديها، وإن كان هذا المدح قد جاء في أثناء الإشادة بالمدينة المنورة ومعاهدها، وخاصة روضة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبره وحجرته، فالشاعر لم يقصد أن ينظم قصيدة في مدح النبي الكريم، لكن رؤيته لمعاهد المدينة المنورة أثارت عواطفه الدينية، فتحدث عنها شعرا، وكان لا بد له من أن يذكر ساكن هذه المعاهد ومشرفها عليه الصلاة والسلام.

وفي العصر الذي نستعرضه، نجد المديح النبوي منتشرا في المغرب العربي، وبأشكال مختلفة، منها القصائد العشرينيات التي يمدح بها الشاعر النبي الأمين، وتتألف كل قصيدة من عشرين بيتا، وعدد القصائد بعدد حروف الهجاء، مرتبة على ترتيبها، ومن هذه القصائد العشرينيات ديوان لأبي زيد الفزازي «1» ، روي عنه في المسجد الحرام سنة (624 هـ) .

وقد خمّس الديوان كاملا أبو بكر محمد بن المهيب المغربي. وعند تجريد إحدى قصائد الديوان من التخميس، جاءت على النحو التالي:

بيثرب نور للنّبوّة لا يخبو

تشارك في إدراكه الطّرف والقلب

بكلّ كتاب للنّبيّين نعته

وقد مرّ ما قال النبيّون والكتب

بشير نذير موثر متعطّف

له الدّيمة الهطلاء والعطن الرّحب

بواطنه نور ظواهره هدى

فلا هديه يخفى ولا نوره يخبو

بنى قبّة الإسلام فوق دعائم

من الخمس في أفيائها العجم والعرب «2»

(1) أبو زيد الفزازي: عبد الرحمن بن يخلفتن، ولد بقرطبة، ثم سكن تلمسان، كان عالما بالحديث، كاتبا شاعرا مجودا، غلب عليه شعر الزهد والتصوف، توفي سنة (637 هـ) . المقري: نفح الطيب 4/ 468.

(2)

أبو زيد الفزازي: ديوان الوسائل المتقبلة ص 8.

ص: 120

فالشاعر جمع في قصائده كل ما يقال في المديح النبوي، وذهب في مدح النبي الكريم مذاهب عدة من الحديث عن إرهاصات النبوة إلى ذكر أوصافه وفضائله الدينية والدنيوية مرورا ببيان أثره في الناس وموقعه بين الرسل الكرام. إن الاهتمام بالشكل الشعري والبحث عن التميز من خلاله يعني أن المديح النبوي عند الشاعر قد وصل إلى مرتبة متقدمة وأن سابقيه قد أفاضوا القول فيه ولذلك لجأ إلى الشكل لعلّه يجد فيه ما يظهره بين غيره من الشعراء، فالمضمون عنده قد انتهى إلى ما لا مزيد عليه.

ويظهر من قصائده أن القيود التي قيّد الشاعر نفسه بها قد كلّفته من الصنّعة شططا، وجعلته يقترب من النظم المجرد الذي يخلو من روح الشعر، فجاء مخمّس الديوان ليعطي لهذا الشعر شيئا من الحيوية مستفيدا من المعنى والوزن، مضيفا إلى المعنى مالديه من مشاعر وأفكار، أو ليكمل المعنى ويوضحه في الشعر الأصلي، ومن أمثلة ذلك تخميس القصيدة الهمزية الذي جاء على النحو التالي:

له رتبة فوق السّماكين قد سمت

وكفّ ندى تحكي السّحاب متى همت

وآي هدى بالأمر والنّهي أحكمت

إذا عدّدت للرّسل آي تقدّمت

فاي رسول الله أجلى وأضوأ

هو المصطفى المحبوب طبعا وقربة

تقدّس ذاتا ثمّ قبرا وتربة

أقول وأعنيه هوى ومحبّة

أحبّ رسول الله شوقا وحسبة

لعلّي غدا عن حوضه لا أحلأ «1»

وبدا أن صاحب التخميس يحاول في عمله أن يضيف معاني جديدة إلى معاني القصيدة الأصلية، وأن يوجه المعنى أحيانا وجهات أخرى غير التي وضعت لها في

(1) أبو زيد الفزازي: ديوان الوسائل المتقبلة ص 2.

ص: 121

القصيدة، فقد تمثّل معاني القصيدة ودمجها فيما يريد قوله، فظهرت وكأنها من إنتاج قريحته في مجملها، وقد أعطى التخميس للقصيدة حركة، وكسر رتابة الوزن وأسر القافية الواحدة، فصارت أقرب إلى الإنشاد في مجالس الذكر.

وفي هذا العصر ظهرت في المغرب، وفي وقت مبكر، قصيدة فريدة في بابها، هي القصيدة الشقراطيسية التي نظمها أبو محمد عبد الله بن زكريا الشقراطيسي «1» ، وهي قصيدة طويلة، نظم فيها الشاعر سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدأها بقوله:

الحمد لله منّا باعث الرّسل

هدى بأحمد منّا أحمد السبّل

خير البريّة من بدو ومن خضر

وأكرم الخلق من حاف ومنتعل

توراة موسى أتت عنه فصدّقها

إنجيل عيسى بحقّ غير مفتعل «2»

فالشاعر أضرب عن المقدمات، ودخل مباشرة في المديح، وأظهر منذ بداية القصيدة أنه يريد أن يقول ما يستطيع نظمه من سيرة الرسول الكريم، لذلك استحالت القصيدة إلى جمع للأخبار والروايات، وقسرها صاحبها على الدخول في قالب النظم، فظهر أثر ذلك واضحا منذ البداية.

وشرع في نظم المعجزات نظما خالصا، لم يتدخل فيه، ولم يضف عليها مشاعره، حتى إذا حشد من المعجزات ما ارتاح إلى وجوده في قصيدته، التفت إلى السيرة وأحداثها، فنظم منها ما شاء، وبعد أن نظم السيرة، واكتفى بما نظم، التفت إلى صاحب السيرة العطرة، فشرع في مدحه قائلا:

حجزت بالأمن أقطار الحجاز معا

وملت بالخوف عن خيف وعن ملل

(1) الشقراطيسي: عبد الله بن زكريا الشقراطيسي، نسبة إلى شقراطيسية من بلاد الجريد بتونس. النويري: نهاية الأرب 18/ 347.

(2)

النويري: نهاية الأرب 18/ 347.

ص: 122

وأصبح الدّين قد حفّت جوانبه

بعزّة النّصر واستعالى على الملل

تعرّقت منه أعراق العراق ولم

يترك من التّرك عظاما غير منتثل «1»

لم يبق للفرس ليث غير مفترس

ولا من الحبش حبش غير منجفل

وما أن يفرغ من الإشادة بما حققه رسول الله صلى الله عليه وسلم من انتصارات، وبما حققه المسلمون من فتوحات حتى يتوجه إلى الرسول الكريم متشفعا فيقول:

نحلتك الودّ عليّ إذ نحلتكه

أحبى بفضلك منه أفضل النّحل

ولولا هذه الخاتمة التي يظهر فيها الشاعر لما اختلفت القصيدة في شيء منها عن المتون العلمية، وعن المنظومات التعليمية، فليس للشعر في هذه القصيدة نصيب كبير، خاصة مع طغيان الصنعة الثقيلة عليها.

وقد اقتدى كثير من الشعراء، والعلماء منهم خاصة، بهذه القصيدة فأصبحت مدائحهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم منظومات تسرد سيرة الرسول الأمين ومعجزاته.

وهكذا يظهر لنا بوضوح أن فن المديح النبوي قد تكامل في هذا العصر، وانتشر في جميع الأقطار العربية، وتعددت مذاهبه وطريقة تناوله، وافتن الشعراء في شكل القصيدة وأسلوبها.

وقد بدأ هذا الفن على عهد الرسول الكريم، فمدحه الصحابة بقصائد أضحت مثالا يحتذى للشعراء فيما بعد، لكن المديح النبوي في حياة الرسول الأمين لا يدخل ضمن المدائح النبوية التي ضمّها هذا الفن، فهي قيلت في حياته، وهو موجود يسمع ويكافئ، فالعبرة في فن المديح النبوي أنه قيل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بزمن طويل، وهنا جاءت المفارقة في مديح الميت، وفي أسباب هذا المديح وأهدافه.

(1) منتثل: مستخرج.

ص: 123

وفي العصر الراشدي والأموي لا نقع على قصائد خاصة في المديح النبوي، وكان ذكر رسول الله يأتي في قصائد الفخر أو في معرض المقارنة، أو في قصائد التشيع، وخاصة عند الكميت بن زيد الأسدي.

وظل ذلك ساريا على الدور الأول من العصر العباسي، وزاد لحرص الخلفاء على صفتهم الدينية، وعلى ارتباطهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ظهرت مقطوعات خالصة للمدح النبوي، تبعتها قصائد كاملة، كانت في بدايتها معارضة لقصائد قيلت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد هذا العصر ظهور كثير من فنون القول التي أضحت بعد ذلك من أجزاء المدحة النبوية.

أما في العصر الفاطمي والأيوبي، فقد تكاملت المدحة النبوية، ووصلت إلى العصر المملوكي على جانب كبير من النضج الفني، حيث استقر هذا الفن وشاع شيوعا كبيرا، وظهرت فيه القمم، والدواوين المنفردة الكثيرة، والشعراء الذين وقفوا حياتهم وفنهم على النظم فيه، والتفت إليه النقاد، يحاولون وضع قواعد ثابتة له.

ص: 124