الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتشمل مشاعر الارتياح والسرور المشتغلين بها، فابن حجر يرى مدحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم مذهبا للحزن، ومجدّدا للأمل والرجاء، فيقول:
فإن أحزن فمدحك لي سروري
…
وإن أقنط فحمدك لي رجائي «1»
من كل ذلك يتبين لنا كيف اعتقد الناس بتأثير المدائح النبوية في حياتهم، وأنها تخلصهم من كربهم، وتتيح لهم راحة نفسية كبيرة، وتوسع أملهم بالمغفرة والثواب.
الجدل العقائدي:
بيد أن المدائح النبوية أثارت نقاشا حادا بين المسلمين حول مضمونها، وجواز التوسل بالنبي الكريم وطلب شفاعته فيها، ففريق من المسلمين ممّن يرون رأي ابن تيمية كانوا ينكرون الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجيزون التشفع والتوسّل إلا بالله تعالى، وباقي جمهور المسلمين كانوا يجيزون التشفع والاستغاثة بالنبي الكريم، وكل فريق له حججه وبراهينه، التي يدعم بها رأيه.
ويظهر أن المدائح النبوية مثلما كانت موضع مدارسة واستظهار وإنشاد في مجالس، كانت موضع جدال ونقاش في مجالس أخرى، وكان النقاش ينصب على الاستغاثة والتوسل فيها، وعلى بعض الروايات الغيبية التي تتحدث عن مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم السامية، مثل الحقيقة المحمدية وعلاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنبياء، التي وردت في المدائح النبوية.
فقد روى أحدهم أنه وقع بينه وبين شخص من الجامع الأزهر «مجادلة في قول صاحب البردة رحمه الله تعالى: فرأيت النبي.. جالسا عند منبر الجامع الأزهر..» «2» .
فهذا يدل على أن مضمون المدائح النبوية كان موضع أخذ ورد بين علماء المسلمين،
(1) المجموعة النبهانية: 1/ 169.
(2)
الشعراني: لواقح الأنوار ص 100.
ففي سنة (784 هـ) ، عمل علي بن إيبك الصفدي قصيدة لامية على وزن بانت سعاد، وعرضها على العلماء، فقرّ ظوه، وانتقده أحدهم، فاختلف العلماء في ذلك، إلى أن وصلت إلى السلطان، فكتب مرسوما طويلا، منه:
«بلغنا أن علي بن إيبك «1» مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة، وأن علي بن العز «2» اعترض عليه، وأنكر أمورا منها التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، والقدح في عصمته وغير ذلك، وأن العلماء بالديار المصرية، خصوصا أهل مذهبه من الحنفية، أنكروا ذلك، فيتقدم بطلبه وطلب القضاة والعلماء من أهل المذهب، ويعمل ما يقتضيه الشرع من تعزير وغيره» «3» .
لقد وصل الجدل حول المدائح النبوية إلى السلطان الذي كتب فيه مرسوما للبتّ في هذه المسألة، ووصل الأمر إلى سجن بعض من أنكروا ما جاء في المدائح النبوية، فقد «أحضر ابن العز لمجلس القضاة، فوجد من خطه قوله: حسبي إليه، هذا لا يقال إلا لله، وقوله: اشفع لي، قال: لا تطلب منه الشفاعة، ومنها توسلت بك، فقال: لا يتوسل به، وقوله: المعصوم من الزلل، قال: إلا من زلّة العتاب، وقوله: يا خير خلق الله، الراجح تفضيل الملائكة إلى غير ذلك، فسئل فاعترف، ثم قال: رجعت عن ذلك، وأنا أعتقد غير ما قلت أولا» «4» .
فهذا العالم أبدى رأيه في هذه المسألة، لكنه خاف، وعاد عن رأيه، ولا ندري إن كان قد اقتنع بالرأي الآخر، أم أنه تراجع خشية البطش به. ويظهر أن القضاة لم يقتنعوا برجوع ابن العز عن رأيه في التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم، «فعقدت له عدة مجالس غيره،
(1) علاء الدين التقصباوي: علي بن إيبك بن عبد الله، شاعر مدح الأكابر وطارح الأدباء، كان أديبا ماهرا بارعا بليغا، توفي سنة (801 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 5/ 194.
(2)
صدر الدين علي بن العز الدمشقي، من الأدباء والعلماء، كان يدرّس في مدارس دمشق، وتولّى عدة وظائف، ثم صرف عنها وسجن سنة (784 هـ) . ابن حجر: إنباء الغمر ص 302.
(3)
ابن حجر: إنباء الغمر ص 302.
(4)
المصدر نفسه ص 303.
قال في أحدها، جوابا على سؤال حول ما أراد بما كتب: ما أردت إلا تعظيم جانب النبي صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره، أنه لا يعطى فوق حقه، فسجن وعزل من وظائفه» «1» .
وقد وجد أصحاب المذاهب الإسلامية في المدائح النبوية مناسبة لعرض آرائهم والجدل حولها، مثل رد ابن الزملكاني على من ينكر على شعراء المدح النبوي التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستغاثة به، في قوله:
يا صاحب الجاه عند الله خالقه
…
ما ردّ جاهك إلّا كلّ أفّاك
أنت الوجيه على رغم العدا أبدا
…
أنت الشّفيع لفتّاك ونسّاك
يا فرقة الزّيغ لا لقيت صالحة
…
ولا سقى الله يوما قلب مرضاك
ولا حظيت بجاه المصطفى أبدا
…
ومن أعانك في الدّنيا ووالاك «2»
وأكثر الصرصري من الإشارة إلى البدع التي كانت تحصل في أيامه، في مدائحه النبوية، فلا توجد مناسبة أفضل لعرض الآراء الدينية، والرد على ما يخالف رأي الشاعر من قصائد المدح النبوي، فهو يقول في إحدى نبوياته:
أشكو إلى الله العظيم فتنة
…
ظلماء كاللّيل إذا اللّيل سجا
أبرأ من كلّ هوى وفتنة
…
إليك يا من بهداه يقتدى
وأحمد الله إليك أنّني
…
أومن بالله الذي شاد العلا «3»
لكن الشاعر لم يصرح بحقيقة هذه الفتنة التي يتبرأ منها ومن كل هوى، ويحمد الله على إيمانه، بيد أنه أشار إلى بعض ظواهر الخروج على الشريعة في قوله:
(1) ابن حجر: إنباء الغمر ص 304.
(2)
ابن شاكر: فوات الوفيات 4/ 10.
(3)
المجموعة النبهانية 1/ 292.
لم أكن أرتجي لأكثر أهل الوق
…
ت خيرا لجهلهم والتّعامي
فرّطوا في الصّلاة حتّى أضاعوا
…
وقتها والزّكاة في كلّ عام
وفشا فيهم الفسوق وشرب ال
…
خمر بعد الزّنا وكسب الحرام «1»
لقد آلم الصرصري ما يراه حوله من انحرافات في العقيدة، فاغتنم فرصة مدحه لسيد الخلق لكي يفند هذه الانحرافات، ويظهر شطط أصحابها، ويدعو إلى القضاء عليها، ويعرض عقيدته وما يراه الحق والصحيح في العقيدة الإسلامية، فقال في مدحة نبوية:
وعقيدتي الإيمان قول طيّب
…
مع صالح الأعمال في الآناء
بك استقرّ الفضل يا خير الورى
…
للأمّة المرحومة الضّعفاء
فضلت على كلّ القرون وخيرها
…
من كان من أصحابك النّجباء
ولأهل بيتك رتبة لا ترتقى
…
في الفضل إذ طهروا من الأقذاء
والأولياء الأربعون ونذّر ال
…
أبدال من أتباعك الشّهداء
ولهم كرامات بها كالمعجز الن
…
نبويّ، إيماني بغير مراء «2»
فلولا شيوع المدائح النبوية وانتشارها لما أودعها بعض الشّعراء آراءهم الدينية، ليقنعوا الناس بها، وليردوا عن أنفسهم انتقاد غيرهم، ويدعوا لمذهبهم، فهم يعرفون أثر المدائح النبوية في الناس، وانفعالهم بها، وتصديقهم لما يرد فيها من آراء، جنبا إلى جنب مع ما يقال في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأضاف هذا الأمر إلى آثار المدح النبوي أثرا جديدا، هو تعريف الناس بالمذاهب
(1) ديوان الصرصري: ورقة 91.
(2)
المصدر نفسه: ورقة 7.
الدينية المختلفة في عصرهم، وأصول هذه المذاهب بالطريقة التي يمدح بها كل شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما يضمّن مدائحه النبوية من آراء فرقته.
وكذلك الأمر مع جدال أهل الكتاب، فالشعراء وجدوا في المدح النبوي فرصة لمقارعة الغزاة من أهل الكتاب، ورد حججهم، وتسفيه آرائهم، والدفاع عن الإسلام ونبيه الكريم، فهم يعرفون أن ردّهم هذا سيصل إلى الناس في مدائحهم النبوية التي انتشرت انتشارا عظيما، وسينفعل الناس بذلك، ويعرفون كذب افتراآت أعدائهم، وما بذله شعراء المدائح من جهد في الذب عن الإسلام والمسلمين، ومن ذلك قول البوصيري
ما بال من غضب الإله عليهم
…
حادوا عن الحقّ المبين ونكّبوا
عبدوا وموسى فيهم العجل الذي
…
ذبحوا به ذبح العجول وعذّبوا
وصبوا إلى الأوثان بعد وفاته
…
والرّسل من أسف عليهم تندب «1»
وقد أفلح شعراء المدائح النبوية في ردّهم على من انتقص الإسلام من أهل الكتاب، وقدّموا للناس ما يستطيعون أن يردوا به على هؤلاء، وبصّروهم بحقيقة ادعاآتهم، وأطلعوهم على معتقداتهم، وبثوا في الناس الحماسة للجهاد والتضحية، وخاصة حين عرضوا في مدائحهم النبوية لوحات رائعة لبطولة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشجاعته وصبره على قتال أعداء الله، واستماتته في إعلاء كلمة الحق، مع صحابة باعوا أنفسهم لله عز وجل فنصروا النبي صلى الله عليه وسلم بكل سبل النصرة، وتهافتوا على الاستشهاد في سبيل الله، فلماذا لا يقوم العرب المسلمون بمثل ما قام به أجدادهم، فيدفعون عن أنفسهم وبلادهم عدوان الطغاة من الفرنجة والمغول؟
فالشهاب محمود عرض في مدحة نبوية صورة رائعة لبطولة المسلمين وتضحياتهم وانتصاراتهم، وأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كله، فقال:
(1) ديوان البوصيري ص 93.
ولولاه ما بيعت وخالقها اشترى
…
نفوس حماة الدّين بين المعارك
ولا عفّرت في طاعة الله في الوغى
…
وجوه كرام تحت وقع السّنابك
ولا أشرقت والنّصر تجلى نصاله
…
حوالي العوالي في الخطوب الحوالك «1»
ولا شك أن قصائد المدح النبوي كانت ذات أثر كبير في تحريض الناس، وحفز هممهم للجهاد، مثلما كانت ذات أثر في الجدل الديني بين المسلمين، وبينهم وبين أهل الكتاب، وكانت كذلك دعوة جادة إلى الإصلاح الاجتماعي في عرضها للمعاني الإسلامية السامية، ولصور من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، وتأكيدها مفهوم المساواة والعدالة في الإسلام، وقد أكّد الشهاب محمود هذه المعاني حين وصف المسلمين أثناء حجهم، فقال في إحدى مدائحه النبوية:
كأنّهم في البعث لا فرق فيهم
…
يرى بين مملوك هناك ومالك
ولا بين باد جاء يسعى وعاكف
…
ولا بين أرباب الغنى والصّعالك
تساووا به في قصدهم وتفاضلوا
…
بإخلاصهم لا بالغنى والممالك. «2»
هذه المساواة وهذه العدالة التي أقرّها الإسلام بين البشر، تذكّر أهل العصر بما يجب أن يكون في ظل حكم المماليك، ولذلك عرّض الشرف الأنصاري بملوك عصره، حين مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
زحزحت عن طرق المظالم عادلا
…
فينا، ومن للعدل إن لم تعدل
وقرنت بالشّرس اللّيان فأتربت
…
كفّ المحقّ وخاب سعي المبطل
تلك النّبوّة لا سيادة مالك
…
أمر الأنام بمشرب أو مأكل «3»
(1) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 84.
(2)
المصدر نفسه ص 73.
(3)
ديوان الشرف الأنصاري ص 562.