الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعلى البدر صفرة من خشوع
…
وعلى الشّمس حمرة من حياء «1»
وهكذا حفلت المدائح النبوية بذكر أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياة، ومستقبل البشرية، فأفاض شعراء المديح النبوي في الحديث عن هدايته للناس، وعن أثره في عقولهم ونفوسهم، وتجاوزوا بالفرح به والاستبشار ببعثه، البشر إلى الكون بسمائه وأرضه، وإلى الزمان والمكان، فتغنوا بهذه الماثر العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي اعترف له غير المؤمنين به، بأنه أول خلق الله تأثيرا في البشرية خلال تاريخ وجودها على هذه الأرض.
التوسل به والصلاة عليه:
إن التوسل بالنبي الكريم والتشفع به والصلاة عليه، من لوازم المدائح النبوية، التي لا تخلو منها قصيدة، فمهما كانت الأسباب الموضوعية التي تحدو بالشعراء إلى نظم المديح النبوي، تبقى الأسباب الذاتية هي المحرك الفعلي لهذا التوجه، أو تصبح الأسباب الموضوعية أسبابا ذاتية، والشاعر يريد من وراء مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره، الثواب على مدحه، والجائزة التي يطلبها مادح النبي، ليست من مثل الجوائز التي يطلبها الشعراء حين يمدحون الملوك والسادة، بل هو يريد من وراء مدحه أن يفرج الله كربه، ويديم نعمه عليه، ويغفر ذنوبه؛ لذلك حرص شعراء المدائح النبوية جميعهم على التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب المغفرة من الله تعالى جزاء على مدحهم لرسوله.
أما الصلاة على النبي في المدائح النبوية، فهي من ألصق ما يقال بموضوع المديح النبوي، فإذا كانت القصائد العادية تختتم بالصلاة على النبي، وإذا كانت تفتتح بها، وإذا كانت الكتب والرسائل تفتتح بالصلاة على النبي وتختتم، فماذا يكون حال المدائح النبوية؟
(1) المجموعة النبهانية: 1/ 145.
والله تعالى حث على الصلاة على نبيه، فصلّى عليه «1» ، والرسول الأمين نفسه حث على ذلك، لهذا حرص المسلمون على الصلاة والسلام عليه، واتخذت الصلاة على النبي في ذلك العصر وجوها شتى، وجعلها المتصوفة درجات وأنواعا، واتخذوها وسيلة لرؤيا النبي في نومهم، فكان لذلك صداه في المدائح النبوية، التي حفلت بالصلاة على النبي في ثناياها، وخاصة في خاتمتها.
ويظهر أن علماء الدين جعلوا التوسل بالنبي مسألة خلافية، أقره معظمهم، وأنكره بعضهم، فشغلوا به، وراح كل فريق يبحث عمّا يثبت رأيه، فذهب المؤيدون للتوسل بالنبي إلى أبعد الحدود في اندفاعهم لتأكيد هذه المسألة، فقال قائلهم:«لقد أثبت العلماء في مؤلفاتهم القيامة، التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل وجوده وبعد وجوده في الدنيا، وبعد موته مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة» «2» .
وأيّد الغزالي الرأي الذي يثبت الشفاعة والتوسل، ويدعو إلى التشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء جميعهم، بالإضافة إلى العلماء والصالحين، فقال في ذلك:«اعلم أنه إذا حقّ دخول النار على طوائف من المؤمنين، فإن الله تعالى بفضله يقبل فيهم شفاعة الأنبياء والصديقين، بل شفاعة العلماء والصالحين، وكل من له عند الله جاه وحسن معاملة، فإن له شفاعة في أهله وقرابته وأصدقائه ومعارفه» «3» .
وعلى هذا الرأي جمهور المسلمين الذين يجيزون التشفع برسول الله، عملا بقوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ «4» .
وأنه تعالى قد منح رسوله الكريم حق الشفاعة يوم القيامة.
(1) في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ....
(2)
اللفاني: كشف الكروب ص 10.
(3)
الغزالي: إحياء علوم الدين 16/ 54.
(4)
سورة المائدة: آية 35.
أما الفريق المنكر للتوسل، فهم الذين يرون رأي ابن تيمية، ولا يجيزون الاستغاثة والتوسل إلا بالله تعالى، لأن التوسل لون من ألوان العبادة التي لا يحل صرف شيء منها لغير الله، فالشفاعة لا تطلب إلا منه، فإن أحدا لا يشفع عنده إلا بإذنه، ولذلك يتوجه إلى الله بالدعاء لقبول شفاعة النبي في أي أمر من الأمور.
وأوضح ابن تيمية موقفه من التوسل في كتاب خاص، هو (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) ، بيّن فيه أحوال التوسل، ومتى يكون مقبولا، ومتى لا يصح، ومما جاء في كتابه قوله:«اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاها عند الله، لا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته، ولكن دعاء الأنبياء وشفاعتهم ليس بمنزلة الإيمان بهم وطاعتهم» «1» .
وقال: «التوسل يراد به ثلاثة أمور، أمران متفق عليهما بين المسلمين، أحدهما هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته، والثاني دعاؤه وشفاعته..
ومن أنكر التوسل به بأحد هذين المعنيين فهو كافر مرتد» «2» .
واستنكر ابن تيمية طريقة التوسل في قصائد المديح النبوي «3» .
وأوضح أنه «يحمل قول: أسألك بنبيك محمد، أي أسألك بإيماني به وبمحبته، وأتوسل إليك بإيماني به ومحبته، لكن العوام لا يقصدون إلى ذلك عند توسلهم» «4» .
وأضاف: «الدعاء بطلب الحوائج عند القبر لم يفعله أحد من السلف» «5» .
(1) ابن تيمية: قاعدة جليلة ص 7.
(2)
المصدر نفسه: ص 13.
(3)
المصدر نفسه: ص 19.
(4)
المصدر نفسه: ص 63.
(5)
المصدر نفسه: ص 71.
وذهب ابن تيمية إلى أن «أحاديث زيارة قبره كلها ضعيفة، لا يعتمد على شيء منها في الدين، ولهذا لم يرو أهل الصحاح والسنن شيئا منها، وإنما يرويها من يروي الضعاف» «1» .
ويظهر أن مسألة التوسل بالنبي، كانت مثارة قبل هذا العصر، ونجد صدى ذلك في رسائل إخوان الصفاء الذين جعلوا قضية التوسل مرتبطة بدرجة معرفة المؤمن بالله تعالى فقالوا في ذلك: «من الناس من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله، وبأئمتهم وأوصيائهم، أو بأولياء الله وعباده الصالحين، أو بملائكة الله المقربين، والتعظيم لهم، ومساجدهم ومشاهدهم، والاقتداء بهم وبأفعالهم، والعمل بوصاياهم وسننهم
…
فأما من يعرف الله حق معرفته، فهو لا يتوسل إليه بأحد غيره، وهذه مرتبة أهل المعارف الذين هم أولياء الله. وأما من قصر فهمه ومعرفته وحقيقته، فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بأنبيائه وأوصيائهم وعباده الصالحين» «2» .
وعلى الرغم من هذا الجدل، فإن شعراء المديح النبوي لم يتوقفوا عن التوسل بالنبي وطلب شفاعته، ليرفع عنهم البلاء، ولتتحقق حوائجهم في الدنيا، إلى جانب محو ذنوبهم في الآخرة، وهذا هو السبب الذاتي لتوجههم نحو المديح النبوي.
فالباعونية تصرح في تقديمها لإحدى مدائحها النبوية بغايتها من وراء مدحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقول:«ونويت بذلك وجه الله تعالى، والأعمال بالنيّات، والمسؤول من الرحمن أن يجعل جائزتي عليها وفور حظي وحظ ولدي وذريتي وأحباي فيه من فضله العظيم، وأن ينظمنا في سلك خواص حضرة هذا الحبيب» «3» .
(1) ابن تيمية: قاعدة جليلة ص 72.
(2)
رسائل إخوان الصفا: 4/ 21.
(3)
ديوان الباعونية، ورقة 16.
وقد عرف شعراء المديح النبوي الأحاديث التي شاعت حول التوسل وشفاعة النبي لأمته يوم القيامة، حين يعتذر باقي الأنبياء عن التصدي لهذه المهمة، فنظموها في قصائدهم، وعملوا بها «1» .
فالبوصيري اختتم إحدى مدائحه النبوية بطلب الشفاعة والغفران والصلاة على النبي، فقال:
رسول الله دعوة مستقيل
…
من التّقصير خاطره هيوب
دعاك لكلّ معضلة ألمّت
…
به ولكلّ نائبة تنوب
وللذّنب الذي ضاقت عليه
…
به الدّنيا وجائبها رحيب
لجود المصطفى مدّت يدانا
…
وما مدّت له أيد تخيب
شفاعته لنا ولكلّ عاص
…
بقدر ذنوبه منها ذنوب
صلاة الله ما سارت سحاب
…
عليه وما رسا وثوى عسيب «2»
والملاحظ أن البوصيري مثل غيره من شعراء المديح النبوي، يفتنّ في ذكر الصّلاة على النبي، ويربط دوامها أو عددها بمظهر من مظاهر الطبيعة، أو بعدد مما لا يحصى، للدلالة على دوامها وكثرتها، فهنا ربط دوامها بدوام سير السحاب، وهو لا ينقطع، وببقاء جبل عسيب في مكانه.
ونراه في قصيدة ثانية، يقيد الصلاة على النبي بدوام إشراق الشمس، ويشرك الصحابة الكرام في صلاته على النبي، فيقول:
(1) حديث الشفاعة مروي في فتح الباري بشرح البخاري لان حجر 9/ 226 وفي مسند ابن حنبل 1/ 161.
(2)
ديوان البوصيري ص 88- ذنوب: نصيب.
صلوات الله تترى عليه
…
وعليهم طيّبات عذابا
يفتح الله علينا بها من
…
جوده والفضل بابا فبابا
ما انتضى الشّرق من الصّبح سيفا
…
وفرى من جنح ليل إهابا «1»
وأشار البوصيري في صلاته على النبي إلى فضل هذه الصلاة، التي تفتح على من يقولها باب جود الله وفضله، ولذلك نجده في قصيدة أخرى، يتوجه إلى الله تعالى بالدعاء ليقبل شفاعة نبيه فيه، وليغفر له ذنوبه، ولكنه يعبر عن ذلك بضمير الجماعة، فهو يطلب المغفرة لجميع المسلمين، ويقول:
يا ربّ هبنا للنّبي وهب لنا
…
ما سوّلته نفوسنا تسويلا
واجعل لنا اللهمّ جاه محمد
…
فرطا تبلّغنا به المأمولا
واصرف به عنّا عذاب جهنّم
…
كرما وكفّ ضرامها المشعولا
واجعل صلاتك دائما منهلّة
…
لم تلف دون ضريحه تهليلا
ما هزّت القضب النّسيم ورجّعت
…
ورقاء في فنن الأراك هديلا «2»
ويصل الأمر بالبوصيري في هذا الباب إلى أن ينظم قصيدة خاصة في الصلاة على النبي والتشفع به، سماها (القصيدة المضرية في الصلاة على خير البرية) ، اقتصر فيها على الصلاة على النبي الأمين والرسل الكرام والصحابة الأخيار، وطلب المغفرة ورفع الكرب، وأتى فيها بصور متعددة من الأشياء التي لا تعد، ليدلل على كثرة الصلاة واستمرارها، وافتتحها بقوله:
(1) ديوان البوصيري: ص 82.
(2)
المصدر نفسه: ص 219.
يا ربّ صلّ على المختار من مضر
…
والأنبيا وجميع الرّسل ما ذكروا
وصلّ ربّ على الهادي وشيعته
…
وصحبه من لطيّ الدّين قد نشروا
أزكى صلاة وأنماها وأشرفها
…
يعطّر الكون ريّا نشرها العطر
عدّ الحصى والثّرى والرّمل يتبعها
…
نجم السّما ونبت الأرض والمدر
وما أحاط به العلم المحيط وما
…
جرى به القلم المأمون والقدر
لا غاية لا انتهاء يا عظيم لها
…
ولا لها أمد يقضى وينتظر
يا ربّ واغفر لتاليها وسامعها
…
والمرسلين جميعا أينما حضروا «1»
فالبوصيري لم يترك مدحة نبوية من مدائحه، دون أن يودعها التوسل بالنبي والتشفع به ليرتاح مما ينغّصه في الدنيا ومما يخشاه في الآخرة، وكان في معظم تشفعه ذاتيا، إلا أنه شمل جميع المسلمين في دعواته أحيانا وظل في حدود الدين والعبادة، ولم يطلب في توسله شيئا يتعلق بعصره، غير أنه افتّنّ في طريقة عرضه للصلاة على النبي الكريم.
في حين نجد الصرصري الذي عاصر البوصيري، والحروب الصليبية، وترقب غزو المغول، وقتل على أيديهم يتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم لنصرة العرب والمسلمين، وردّ المعتدين، ورفع الخلاف والفتن من الأمة، فربط بذلك بين المديح النبوي وبين عصره، وما يشغل الناس في أيامه، إلى جانب ما طلبه لنفسه من مغفرة ومعافاة وعافية، فقال في إحدى قصائده متوسلا بالنبي ليرفع عن أمته فتنة التتار، ويجبر كسرها:
سل جبر أمّتك الكسيرة إنّه
…
لم يبق في قوس التّجلّد منزع
(1) ديوان البوصيري: ص 272.
محقت طغاة التّرك أطراف القرى
…
فالمال نهب والمنازل بلقع
واشفع إلى الرّحمن في غفران ما
…
هذي عقوبته فأنت مشفّع «1»
وبدأ توسله بالنبي في إحدى قصائده بطلب الرحمة لنفسه ولعترته، ثم انتقل إلى أمته، فطلب لها الحيا والخير والأمن والسلامة، واختتم توسله بالصلاة على النبي، فقال:
واسأل لأمّتك الحيا غدقا فقد
…
فقد المزارع ماءها السّحاحا
والأمن والعيش الرّغيد ونضرة
…
كاماقهم ومعونة وصلاحا
واسأل إلهك أن يكون بقهره
…
لعدوّهم مستأصلا مجتاحا
صلّى عليك الله ما سرت الصّبا
…
وشدا حمام في الغصون وناحا «2»
ولا تقتصر استجارة الصرصري برسول الله صلى الله عليه وسلم على طلب النصرة للأمة، والغيث لأرضها، بل تتعدى ذلك إلى طلب الثبات على العقيدة، والتخلص من الفتن الدينية، والانحرافات في العقيدة، فقال في ختام مدحة نبوية:
فقل يا رسول الله أنت نصيرنا
…
على فتن في وقتنا تتقرّع «3»
ولا ينسى الصرصري نفسه في التوسل والاستغاثة، فهو مثل غيره من شعراء المدائح النبوية، يطلب المغفرة والفرج، والنجاة في الآخرة، فخصّ نفسه في طلب الغوث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليعينه على خطب شديد ألمّ به، وليسأل الله تعالى له المغفرة يوم القيامة، فقال:
(1) ديوان الصرصري: ورقة 57.
(2)
المصدر نفسه: ورقة 28.
(3)
المصدر نفسه: ورقة 62.
يا نبيّ الهدى عليك سلام
…
يبقى مني غضّا على الآناء
أنت جاري وعدّتي ونصيري
…
وعمادي في شدّتي ورخائي
فأعنّي على زمان فظيع الخط
…
ب في أهله شديد العناء
واسأل الله حين تعرض أعما
…
لي عليك الغفران لي يا رجائي «1»
وقد سجل شعراء المديح النبوي أمثلة كثيرة ومختلفة على التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الأزمات والكوارث، أو عند حصول حادثة غريبة لا يملكون لها تفسيرا، مثل ارتجاج الأرض، وظهور نار عظيمة في الحجاز، أدخلت الرعب إلى قلوب الناس، فضجوا بالدعاء إلى الله تعالى، ليكشف عنهم ضر هذه الظاهرة، متوسلين في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قول المشد «2» ابن قزل:
ولمّا نفى عنّي الكرى خبر التي
…
أضاءت بأحد ثم رضوى ويذبل
ولاح سناها من جبال قريظة
…
لسكّان تيما فاللّوى فالعقنقل
وأخبرت عنها في زمانك منظرا
…
بيوم عبوس قمطرير مطوّل
وأبدت من الآيات كلّ عجيبة
…
وزلزلت الأرضون أيّ تزلزل
طفى النّار نور من ضريحك ساطع
…
فعادت سلاما لا تضرّ بمصطل «3»
فشاعر المديح النبوي يحرص على التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم في مدحته، ويذكر سبب لجوئه إلى النبي الكريم، وهذا السبب يكون عاما حينا، يتعلق بالأمة كلها، ويكون خاصا
(1) اليونيني: ذيل مرآة الزمان ص 257.
(2)
المشد، سيف الدين: علي بن قزل، شاعر شامي، عمل مستشارا للدواوين، توفي سنة (655 هـ) . ابن حجة: خزانة الأدب ص 407.
(3)
ابن الوردي: تتمة المختصر 2/ 281.
حينا، يتعلق بالشاعر نفسه، فإما أن يكون لحاجة من حوائج الدنيا، وإما أن يكون طلبا للمغفرة والتكفير عما فرط منه، مثل قول ابن أرقم النميري «1» :
وكيف أخاف ذنوبا مضت
…
وأحمد في زلّتي يشفع «2»
فالشاعر طلب المغفرة، وأبدى شيئا من الارتياح، لتيّقنه من شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ولذلك نجد شاعرا آخر هو ابن يحيى الغرناطي «3» ، يتشفع بالنبي الأمين، وهو موقن بالقبول، لأنه يتشفع بمن توسّل به أبو البشر، فيقول:
جرمي عظيم يا عفوّ وإنّني
…
بمحمّد أرجو التّسامح فيه
فبه توسّل آدم من ذنبه
…
وقد اهتدى من يقتدي بأبيه «4»
ويظهر أن الشاب الظريف «5» قد استشعر عظم ذنبه، وتماديه في لهو الشباب، فنظم المدائح النبوية ليكفّر عن ذنبه، وليبدأ حياة جديدة من التقوى، لذلك نجده في آخر إحدى مدائحه النبوية التي وصلتنا، يتشفّع برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستجير به من ذنبه، فيقول:
لي من ذنوبي ذنب وافر فعسى
…
شفاعة منك تنجيني من اللهب
وقد دعوتك أرجو منك مكرمة
…
حاشاك حاشاك أن تدعى فلم تجب «6»
واقترب الشرف الأنصاري من الشاب الظريف في توجهه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) ابن أرقم النميري: محمد بن أحمد بن رضوان، توفي سنة (694 هـ) . السيوطي: بغية الوعاة ص 42.
(2)
السيوطي: بغية الوعاة ص 42.
(3)
ابن يحيى الغرناطي: محمد بن علي بن يحيى الشامي التاجر، توفي سنة (715 هـ) السيوطي: بغية الوعاة ص 192.
(4)
المصدر نفسه: ص 193.
(5)
الشاب الظريف: محمد بن سليمان بن علي التلمساني، شاعر رقيق له ديوان شعر، توفي شابا سنة (688 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 372.
(6)
ديوان الشاب الظريف: ص 57.
لطلب الشفاعة، والتوسل به للتخلص من الذنوب، وليحصل على الراحة النفسية، فطلب من الناس التشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال في إحدى مدائحه النبوية:
تشفّع به فهو نعم الشّفيع
…
وسله المنى فهو بحر السّخاء
فعطفا على من تناهت به ال
…
خطايا، وما عطفت لانتهاء
فأنت النّبيّ الوجيه الذي
…
حوى في الشّفاعة فضل الجزاء
فشرّفه الله مختاره
…
بخير صلاة وأزكى ثناء «1»
لقد مزج الشرف الأنصاري بين التشفع والمدح، وأدرج الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخفة ورشاقة، وجاء بها على هيئة المدح بذكر مواهب الله تعالى لنبيه الكريم، وكل مناه أن تتحقق له الشفاعة وتغفر ذنوبه، فهو ينظر في توسله إلى اليوم الآخر، في حين نجد شعراء آخرين، يتوسلون برسول الله صلى الله عليه وسلم طالبين الراحة في الدنيا والآخرة.
وأظهر شرف الدين القناوي «2» في مديحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعتقده في التوسل بالنبي، وطلب شفاعته، فقال:
على نايبات الدّهر أرجو محمّدا
…
يساري في اليسرى ويمناي في اليمنى
مناي من الدّنيا زيارة أحمد
…
وقصدي في الآخرى شفاعته الحسنى «3»
وأكثر الشعراء استجارة برسول الله صلى الله عليه وسلم وتوسلا من الذين مدحوه، هو البرعي الذي كان يعتقد اعتقادا جازما في أن مديحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم سيجلب له الشفاعة، ويحقق
(1) ديوان الشرف الأنصاري: ص 535.
(2)
شرف الدين القناوي: محمد بن أحمد بن إبراهيم، القاضي الفقيه، تولى الحكم والخطابة في قنا، وتوفي سنة (692 هـ) . الصفدي: الوافي بالوفيات 2/ 136.
(3)
ديوان الشرف الأنصاري: 3/ 137.
له حاجاته في الدنيا، ويثيبه الله تعالى عليه بالمغفرة والأجر يوم القيامة، فنراه في إحدى مدائحه النبوية يستجير برسول الله صلى الله عليه وسلم بحرارة وورع، ويقول:
يا سيّدي يا رسول الله خذ بيدي
…
في كلّ هول من الأهوال ألقاه
يا عدّتي يا نجاتي في الخطوب إذا
…
ضاق الخناق لخطب جلّ بلواه «1»
فالبرعي يخصص لنفسه قدرا كبيرا من المدحة النبوية، يناجي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلب منه ما يرفع الكرب عنه، ويستجير به من ذنوبه، ويطلب شفاعته، ليتخلص من أدران الحياة الدنيا، وليتخلص من ذنوبه، يوم يعرض على الحساب في الآخرة، وهذا دأب البرعي في كل قصائده النبوية، فميله إلى التصوف جعله ينحو منحى المناجاة والدعاء والتوسل في مدائحه النبوية، ويستشعر عظم ذنبه، ويتوسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لغفرانه، ويتسع في طلبه، فلا يقتصر على نفسه وعلى أهله فقط، بل ربما استجار برسول الله صلى الله عليه وسلم في مدائحه، ليحقق غرضا من أغراض الدنيا والآخرة لأحد معارفه، مثلما فعل في تخميس له، جعل الشطر الخامس لازمة للصلاة على النبي، فقال:
يا خير مبعوث لأكرم أمّة
…
أنت المؤمّل عند كلّ ملمّة
فاعطف على عبد الرّحيم برحمة
…
فغمام فضلك فيضه متسجّم
فبحقّه صلّوا عليه وسلّموا
وابن الوهيب سميّك أحمدا
…
وأغثه في الدّارين يا علم الهدى
واجمع بنيه ووالديه بكم غدا
…
فلأنت حصن للسّميّ وملزم «2»
فبحقّه صلّوا عليه وسلّموا
(1) ديوان البرعي: ص 51.
(2)
المصدر نفسه ص 55.
ولا يبعد ابن حجة «1» في توسله عن غيره من شعراء المديح النبوي، فيختتم مدائحه النبوية بطلب الشفاعة للخلاص من ذنوبه، ويفتنّ في عرض هذا المعنى، وفي الصلاة على النبي، فيقول في إحدى مدائحه النبوية:
عسى وقفة أو قعدة لابن حجّة
…
على بابكم يسعى بها وهو محرم
فقد جاء يشكو من ذنوب تعاظمت
…
وقدرك في يوم الشّفاعة أعظم
فيا وردنا الصّافي طيور قلوبنا
…
عليك إذا ما نابها الضّيم حوّم «2»
فالتوسل برسول الله، ذكره جميع شعراء المدائح النبوية، ولم تخل قصيدة نبوية من طلب شفاعة النبي الكريم، فأضحى التوسل والتشفع أحد أركان المدحة النبوية، ومن لوازمها، بل أخذ الشعراء يطلبون من الناس أن يتشفعوا برسول الله عند ما يحزمهم الكرب، وتضيق بهم الحياة، ويظهرون منافع التوسل، مثل قول السوفي «3» :
بجاه النّبيّ المصطفى أتوسّل
…
إلى الله فيما أبتغي وأؤمّل
وأقصد باب الهاشميّ محمّد
…
وفي كلّ حاجاتي عليه أعوّل
إذا مسّني ضيم أنوّه باسمه
…
فيدفع ذاك الضّيم عني وينقل «4»
ويلاحظ أن شعراء المديح النبوي أخذوا يدعون الناس إلى زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتوسل به، والاستغاثة من ذنوبهم، وكأنهم بذلك يريدون تعميم التوسل بالنبي، وأن
(1) ابن حجة: أبو بكر بن علي بن عبد الله، إمام أهل الأدب في عصره، شاعر منشئ له عدة مؤلفات، ت (837 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 11/ 53.
(2)
ابن حجة: خزانة الأدب ص 466.
(3)
السوفي: محمد بن محمد بن عبد الله، ولد بالمدينة وسافر إلى الشام وماردين، اشتغل بالعلم يسيرا، وله نظم، توفي سنة (885 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 9/ 115.
(4)
السخاوي: الضوء اللامع 7/ 251.
يقوم به الناس كلهم حسب مقدرتهم، فإذا كان الشعراء قادرين على تسجيل توسلهم بالنبي، فإن غيرهم يمكن أن يقوموا بذلك خلال زيارة قبر رسول الله، وطلب الشفاعة عنده، ومثال ذلك ما قاله ابن خطيب داريا «1» في مدحة نبوية:
يا من يروم النّجا في يوم محشره
…
كن يا أخيّ عن العصيان منعزلا
وأقصد حمى طيبة وانزل بساحتها
…
ما خاب من في حمى المختار قد نزلا «2»
وتردّد صدى هذه الدعوة في المديح النبوي، فعبّر شعراؤه عن شوقهم لزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن غرضهم من الزيارة، فإذا ما حرم الشاعر من زيارة قبر رسول الله لسبب من الأسباب، أرسل مدحته النبوية إلى الروضة الشريفة، تحمل توسله واستجارته بالنبي الأمين، مثلما فعل لسان الدين بن الخطيب حين قال:
فإن أحرم زيارته بجسمي
…
فلم أحرم زيارته بقلبي
فدونك يا رسول الله منّي
…
تحيّة مؤمن وهدى محبّ «3»
فالتوسل برسول الله وطلب شفاعته أخذ حيّزا مهمّا من المدحة النبوية، واحتفل له شعراء المديح النبوي وكأنهم جعلوه الغاية من نبوياتهم، وما يريدونه لأنفسهم من وراء مديحهم للنبي الكريم، فاقتصر بعض الشعراء في بعض قصائدهم النبوية على التشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب غوثه وعونه، والصلاة عليه، وسمي هذا النوع من المديح النبوي الوسيلة، التي انتشرت في وقت متأخر من العصر المملوكي، وخاصة عند المتصوفة، ومن ذلك وسيلة لأبي الحسين الأهدل «4» ، بدأها بقوله:
(1) ابن خطيب داريا: محمد بن أحمد بن سليمان الأنصاري الدمشقي أديب شاعر له تصانيف، توفي (810 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 6/ 310.
(2)
المجموعة النبهانية: 3/ 369.
(3)
المقري: أزهار الرياض 3/ 148.
(4)
الأهدل: الحسين بن الصديق، فقيه حذق علوما كثيرة، وجاور في مكة والمدينة، توفي سنة (903 هـ) . العيدروسي: النور السافر ص 26.
يا رسول الله عونا مدد
…
أنتم الوالد والعبد الولد
يا رسول الله ما لي عتد
…
غير حبّك ويا نعم العتد
يا رسول الله كن لي شافعا
…
أنت والله شفيع لا ترد
يا مليح الوجه يا خير الورى
…
أنت بعد الله نعم المعتمد
واسأل الرّحمن لي من فضله
…
العفو والغفران والرّزق الرّغد «1»
فالدعاء والتوسل هو أكثر مواطن المدحة النبوية دلالة على نفس الشاعر، وإظهارا لما يجيش فيها من عواطف وأحاسيس، وفيه يظهر الغرض الذاتي للشاعر من وراء مديحه النبوي.
ومثلما حرص شعراء المديح النبوي على التشفع برسول الله والاستجارة به والتوسل إلى الله بجاهه وحبه، لتحقيق سعادة الدنيا والآخرة، فإنهم جعلوا من الصلاة على النبي خاتمة لمدائحهم، لا يتخلون عنها، ويفتنون في عرضها، وفي تقليب معاني تكثيرها ودوامها، مثلما رأينا عند البوصيري، فالقيراطي اختتم إحدى مدائحه النبوية بقوله:
يا إمام الهدى عليك صلاة
…
وسلام في الصّبح ثمّ العشاء
ما صبا في أصائل قلب صبّ
…
ذكر الملتقى على الصّفراء «2»
ويقرب من هذه الصلاة الخاتمة للمدحة النبوية، ما اختتم به لسان الدين بن الخطيب «3» إحدى مدائحه النبوية بقوله:
(1) العيدروسي: النور السافر ص 28.
(2)
الباعونية: شرح الفتح المبين ص 465.
(3)
لسان الدين بن الخطيب: محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني الأندلسي، مؤرخ أديب وزير. ترك الأندلس إلى المغرب، وله مؤلفات كثيرة، توفي سنة (776 هـ) . الناصري، أحمد: الاستقصا 2/ 132.
عليك صلاة الله ما طيّب الفضا
…
عليك مطيل بالثّناء مطيب
وما اهتزّ قدّ للغصون مرنّح
…
وما افترّ ثغر للبروق شنيب «1»
وإذا ربط ابن الخطيب صلاته السابقة على النبي بهبوب الريح واهتزاز الأغصان ولمعان البرق، فإنه ربط في نبوية أخرى مدة صلاته على النّبي باستمرار طواف الحجيج حول الكعبة وكثرتهم، فربط المعنى الديني بالمعنى الديني، مغيّرا ما درج عليه شعراء المدائح النبوية من ربطه بالعدد، واستمرار مظاهر الطبيعة وتكرارها، فقال:
عليك سلام الله ما طاف طائف
…
بكعبتك العليا وما قام قائم
وأهدي صلاتي والسلام لأحمد
…
لعلّي به من كبّة النّار سالم «2»
وأجمل السيوطي «3» ما قصده مدّاح النبي صلى الله عليه وسلم من ربط الصلاة عليه بما يصعب حصره وحده للتعبير عن دوام الصلاة التي يدعون الله تعالى أن يمنحها لرسوله الأمين، فقال:
عليه مني صلاة ما لها عدد
…
تفصيل مجملها يربو على الدّيم «4»
وأضاف النواجي إلى مظاهر الطبيعة في الصلاة على النبي بعض الموافق النفسية، ودوام سير المسلمين إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، فجمع مظاهر الطبيعة ومظاهر العبادة وبعض مظاهر النفس الإنسانية، وربط ذلك كله بالصلاة على النبي فقال:
عليه صلاة الله ما لاح بارق
…
وما لعلع الحادي سحيرا لمكّة
(1) المقري: نفح الطيب 6/ 363.
(2)
المصدر نفسه: 3/ 148.
(3)
السيوطي: الحافظ المسند عبد الرحمن بن أبي بكر الخضيري، صاحب المؤلفات الكثيرة، عمل في الإفتاء والتدريس، وتوفي سنة (911 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 8/ 51.
(4)
النبهاني: شواهد الحق ص 221.
وما حنّ مشتاق وما أن عاشق
…
وما سار ركب طالبا أرض طيبة «1»
إلا أن التلوين المعنوي للصلاة على النبي في خاتمة المدحة النبوية، لم يكن مرتبطا دائما بأشياء خارجة عن الحيز الديني، للدلالة على الاتساع والاستمرار، وإنما أراد الشعراء بذلك الابتعاد عن التكرار، وإظهار مقدرتهم الفنية، بالإضافة إلى التعبير عن مشاعرهم السامية والصافية نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا أدلّ على تعلق شعراء المديح النبوي بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدائحهم من قول ابن العطار، الذي أظهر فيه قدر ذكر رسول الله، واحتفال المسلمين به:
فيا معشر الأحباب إنّ نبيّنا
…
إلى فوزنا راع وساع وخاطب
ألا فاذكروه كلّ حين وسلّموا
…
عليه بذاك الذّكر تسمو المراتب
وقوموا على أقدامكم عند ذكره
…
فذلك في شرع المحبّة واجب «2»
فالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وطلب شفاعته، والصلاة عليه، مما حرص شعراء المديح النبوي على ذكره في قصائدهم، وهو جزء هام من أجزاء المدحة النبوية، فهو يجلو مشاعر الشاعر، ويظهر مكنونات نفسه، وهمومه الذاتية والعامة، ويبيّن نظرة المسلمين إلى رسولهم الأمين، ودوافع مديحه الذي غدا من أهم الفنون الشعرية في العصر المملوكي.
(1) المجموعة النبهانية: 1/ 542.
(2)
المجموعة النبهانية: 1/ 442.