المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الثالث- الشعر الصوفي: - المدائح النبوية حتى نهاية العصر الملوكي

[محمود سالم محمد]

فهرس الكتاب

- ‌المحتوى

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول بواعث ازدهار المديح النبوي وانتشاره

- ‌الفصل الأول الأسباب السياسية

- ‌الصراع الخارجي:

- ‌الصراع الداخلي:

- ‌الفصل الثاني الأسباب الاجتماعية

- ‌المظالم والكوارث:

- ‌المفاسد الاجتماعية:

- ‌الفصل الثالث الأسباب الدينية

- ‌مجادلة أهل الكتاب:

- ‌مخالفة الشريعة:

- ‌المظاهر الدينية:

- ‌الجدل المذهبي:

- ‌انتشار التصوف:

- ‌الرؤيا:

- ‌الفصل الأول نشأة المدح النبوي

- ‌القسم الأول: المديح والرثاء والمديح النبوي:

- ‌القسم الثاني- المدح النبوي في حياة الرسول:

- ‌القسم الثالث- في العصر الراشدي والأموي:

- ‌القسم الرابع- في العصر العباسي:

- ‌القسم الخامس- في العصر الفاطمي والأيوبي:

- ‌الفصل الثاني حدود المديح النبوي

- ‌القسم الأول- الشعر التقليدي:

- ‌القسم الثاني- مدح آل البيت:

- ‌القسم الثالث- الشعر الصوفي:

- ‌القسم الرابع- التشوق إلى المقدسات:

- ‌القسم الخامس- المولد النبوي:

- ‌الفصل الأول المضمون

- ‌القسم الأول- المدح بالقيم التقليدية:

- ‌القسم الثاني- المدح الديني:

- ‌محبته:

- ‌فضائله:

- ‌هديه:

- ‌السيرة:

- ‌المعجزات:

- ‌تفضيله:

- ‌الحقيقة المحمدية:

- ‌الرسول والبشرية:

- ‌التوسل به والصلاة عليه:

- ‌آثار النبي الكريم:

- ‌ذكر الآل والصحابة:

- ‌القسم الثالث- مواضيع أخرى:

- ‌الحديث عن المديح النبوي في قصائد المديح:

- ‌القسم الرابع- المعاني:

- ‌الفصل الثاني الأسلوب

- ‌القسم الأول- الشكل الشعري:

- ‌ذكر الأماكن:

- ‌الغزل:

- ‌الرحلة:

- ‌وصف الطبيعة:

- ‌الوعظ:

- ‌الدعاء:

- ‌المباشرة بالمدح:

- ‌الانتقال:

- ‌الرجز:

- ‌المقطوعات:

- ‌ضروب النظم:

- ‌الأشكال المتميزة:

- ‌القيود الشكلية:

- ‌ النظم

- ‌المعارضة:

- ‌الوزن والقافية:

- ‌القسم الثاني- الصياغة والأسلوب:

- ‌النظم:

- ‌التصنع:

- ‌الألفاظ:

- ‌القسم الثالث- الصنعة الفنية:

- ‌الصنعة الخيالية:

- ‌الصنعة اللفظية:

- ‌الفصل الأول أثر المدائح النبوية في المجتمع

- ‌القسم الأول- الأثر الاجتماعي:

- ‌النصح والإرشاد:

- ‌الاعتقاد بالمدائح النبوية:

- ‌الجدل العقائدي:

- ‌إظهار النزعة العربية:

- ‌القسم الثاني- الأثر التعليمي للمدائح النبوية:

- ‌القدوة والمثل:

- ‌المعرفة:

- ‌الفصل الثاني أثر المدائح النبوية في الثقافة

- ‌القسم الأول- أثر المدائح النبوية في الشعر:

- ‌أثره في الإبداع الشعري:

- ‌أثره في قصائد الشعر الآخرى:

- ‌الملاحم:

- ‌القسم الثاني- البديع:

- ‌القسم الثالث- التأليف:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌المصادر المخطوطة:

- ‌المصادر المطبوعة:

- ‌المراجع:

- ‌الفهرس التفصيلي (عام)

- ‌ حرف الألف

- ‌ حرف الباء

- ‌ حرف التاء

- ‌ حرف الثاء

- ‌ حرف الجيم

- ‌ حرف الحاء

- ‌ حرف الخاء

- ‌ حرف الدال

- ‌ حرف الذال

- ‌ حرف الراء

- ‌ حرف الزاء

- ‌ حرف السين

- ‌ حرف الشين

- ‌ حرف الصاد

- ‌ حرف الضاد

- ‌ حرف الطاء

- ‌ حرف الظاء

- ‌ حرف العين

- ‌ حرف الغين

- ‌ حرف الفاء

- ‌ حرف القاف

- ‌ حرف الكاف

- ‌ حرف اللام

- ‌ حرف الميم

- ‌ حرف النون

- ‌ حرف الهاء

- ‌ حرف الواو

- ‌ حرف الياء

الفصل: ‌القسم الثالث- الشعر الصوفي:

القصيدة، ولا بأس في أن يرد المدح النبوي في قصائد مدح آل البيت، أو أن يرد مدح آل البيت في قصائد المدح النبوي.

والملاحظة الجديرة بالتوقف عندها، هي أن الشعراء الشيعة هم أقل فئات الشعراء مدحا للنبي في قصائد مستقلة، بل إن بعضهم مدح آل البيت دون أن يشير من قريب أو بعيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

‌القسم الثالث- الشعر الصوفي:

عرف العرب المسلمون التصوف منذ وقت مبكر، لكنه كان بسيطا نقيا مستمدا من سيرة الرسول الكريم وأحاديثه، ومن دعوة الإسلام إلى الإعراض عن زخارف الدنيا وبهرجها، وإلى إخلاص النية لله تعالى وتقواه في السر والعلن.

وقد اتخذ بعض المسلمين الصحابة قدوة لهم في معيشتهم وسلوكهم، فكان تصوفهم إسلاميا خالصا، لا تشوبه شائبة، يقتصدون في مأكلهم ومشربهم، ويعرضون عن مغريات الدنيا وملذاتها، ويتشددون في إظهار تقوى الله، وفي تطبيق تعاليم الإسلام، لا يخرجون عنها قيد أنملة.

بيد أن الفتوحات الإسلامية الواسعة، واختلاط العرب المسلمين بغيرهم من الشعوب ذات الحضارات المزدهرة، والأديان المختلفة، والفلسفات المتباينة، ترك أثره في مناحي الحياة في الدولة العربية الإسلامية وخاصة ما يتعلق منها بالفكر والثقافة، فدخلت آراء جديدة إلى فكر الفرق الإسلامية المتصارعة حول الخلافة وإلى فكر أولئك الذين نبذوا الصراع الدامي المحتدم، ونأوا بأنفسهم عنه، منقطعين إلى العبادة، وإلى التفكر بخلق الله وعظمته، وشاب زهدهم شيء من الأفكار التي انحدرت إليهم من المسيحية وأديان الفرس والهند وفلسفة اليونان «1» .

(1) فروخ، عمر: تاريخ الفكر العربي ص 473.

ص: 150

وظل تيار التصوف هذا يتنامي ويشتد مع مرور الزمن، وتتضح أبعاده، وتتشكل فلسفته الخاصة المعقدة ويتشعب إلى شعب كثيرة، وفرق متنوعة، أبقى بعضها على كثير من الأصل العربي الإسلامي، وتطرف بعضها، فجاء بأفكار جديدة على العرب وعلى روح الإسلام، مما جعل الناس ينظرون إليهم نظرتهم إلى الزنادقة الخارجين عن الإسلام، وجعل القائمين بالأمر يلاحقونهم، ويقتلون من يتشدد في مذهبه، ويرفض العدول عنه.

وقد اتسع تيار التصوف اتساعا كبيرا في المرحلة السابقة للدولة المملوكية، وظل على اتساعه طول العصر المملوكي كله لأسباب كثيرة، منها الغزو الخارجي الذي كاد أن يعصف بالمسلمين، واضطراب الأوضاع بسبب ذلك، واصطلاح ذلك كله مع الكوارث الطبيعية والأوبئة على العرب المسلمين، مما جعل كثيرا منهم ينصرفون إلى التصوف، ويتخذه قسم آخر طريقا للهرب من الواقع الأليم، وطلبا للأمان الروحي.

وكان للمتصوفة أثر كبير في الفكر والثقافة، وخاضوا معارك فكرية مع أهل السنة من ناحية، ومع الفلاسفة من ناحية ثانية، وأضحى كثير من أفكارهم وعباراتهم، وطريقتهم في التعبير من مستلزمات الأدباء، ومن الظواهر التي تتردد في أدب العصر المملوكي والعصر الذي سبقه.

ومع ذلك لم يتفق الباحثون- على الرغم من ثراء التراث الصوفي- على تحديد مذهبهم، وبيان طريقتهم، لأن المتصوفة أنفسهم لم يظهروا كل ما عندهم، وأحاطوا فكرهم بالغموض، وعبّروا عنه بالرموز، فلا يستطيع الولوج إلى عالمهم إلا كل من قطع شوطا كبيرا في اتباع طريقتهم. لذلك ظل الباحثون حائرين في فهم رموزهم، بل لم يتفقوا على معنى محدد للتصوف، فمنهم من ذهب إلى أنه مشتق من الصوف، وهو اللباس الخشن للزاهدين المعرضين عن نعيم الدنيا، ومنهم من ذهب إلى أنه مشتق من تسمية أهل الصفة من فقراء المسلمين، الذين كان الرسول الكريم يجمعهم ويرعاهم،

ص: 151

ومنهم من يقول: إنه مشتق من الصفاء، أساس عقيدتهم القائمة على الصفاء الروحي في علاقتهم مع خالقهم.

وحين رأى المتصوفة ما يتقوّل به الناس عليهم، انبرى بعضهم لتصحيح الفكرة الخاطئة عنهم، وأعادوا طريقتهم إلى أصولها الإسلامية، وأوضحوا أنها خلاصة العبادة المفروضة على المسلمين، وقالوا:«التصوف علم انقدح في قلوب الأولياء، حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة، وهو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة» «1» .

فهم يؤكدون أنهم يعملون بروح الشريعة لا ظاهرها، ولذلك لا يقدّر من لا يرى رأيهم ما يفعلونه، وقد لا يفهم ما يقولونه، فيفسره تفسيرا بعيدا عن المقصود منه، ولهذا أوضح كتّابهم أن «طريق القوم مشيّدة بالكتاب والسنة، وأنها مبنية على سلوك أخلاق الأنبياء والأصفياء، وبيان أنها لا تكون مذمومة إلا إن خالفت صريح القرآن أو السنة أو الإجماع لا غير» «2» .

لكن ذلك كله لم يذهب الشكوك عن المتصوفة، وظل الفقهاء المتشددون يهاجمونهم، وينظرون إليهم بريبة، بسبب تصرفاتهم، وبسبب ما ينسبونه لأنفسهم من كرامات، مما جعل إحدى فرقهم وهي الملاماتية، تدعو إلى ستر كرامات الأولياء، وهذه الفرقة قامت طريقتها على لوم النفس وإساءة الظن بها لكشف خباياها، ولذلك داوى أتباعها ميل النفس إلى المعاصي بالإعراض عنها، وتأديبها بمخالفتها. وقد فرقت هذه الفرقة بين كرامة الولي ومعجزة النبي حتى لا يساء الظن بالمتصوفة، وذهبت إلى أن «الرسل مضطرون إلى الظهور بمعجزاتهم، لكي تتأيد بها دعواهم، ويتيسر بها سبيلهم إلى تبليغ رسالاتهم، أما الأولياء، فليسوا في حاجة إلى هذا التأييد.. ولهذا كان ظهور النبي بالمعجزة كمالا وظهور الولي بالكرامة نقصا» «3» .

(1) الشعراني: لواقح الأنوار 1/ 5.

(2)

المصدر نفسه: 1/ 4.

(3)

عفيفي، أبو العلاء: الملاماتية والصوفية ص 64.

ص: 152

وقد اختلفت مناحي انتقادات الناس للصوفية، فمنهم من انتقدهم في عقيدتهم، وعاب عليهم اتخاذ عقائد تباين الإسلام، أو تبدو غريبة عنه، مثل قولهم بالحلول ووحدة الوجود وغير ذلك من معتقداتهم ولذلك قال فيهم الطاهر الجزري «1» وهو من مدّاح البويهيين:

أرى جيل التّصوّف شرّ جيل

فقل لهم وأهون بالحلول

أقال الله حين عشقتموه

كلوا أكل البهائم وارقصوا لي «2»

فإلى جانب ما أخذه عليهم في عقيدتهم، هاجم طريقتهم في الحياة، فانتقد إقبالهم على الولائم وإفراطهم في الأكل، ورقصهم في مجالس الذكر، والذي اتّخذ وسيلة للتعبير عن انفعالاتهم الروحية، وطريقا للصفاء والاستغراق في الوجد.

ومثل ذلك ما قاله فيهم يعقوب بن صابر المنجنيقي «3» ، الذي ساءه لباسهم القصير وميلهم إلى شرب العصير:

قد لبسوا الصّوف لترك الصّفا

مشايخ العصر لشرب العصير

وقصّروا للعشق أثوابهم

شرّ طويل تحت ذيل قصير «4»

ويظهر أن طريقة المتصوفة في لبسهم وعاداتهم في الطعام والشراب، وانحراف بعضهم عن جادة الصواب تحت ستار التصوف، قد نبّهت الناس إلى ما ينطوي عليه التصوف، إذا ابتعد عن جوهره، من مخاطر على العقيدة والمجتمع، وخاصة حين يتخذ

(1) الطاهر الجزري: سدّاد بن إبراهيم، شاعر مدح المهلبي وزير معز الدولة، ومدح عضد الدولة، توفي حوالي (400 هـ)، ابن شاكر: فوات الوفيات 2/ 163.

(2)

الصفدي: الوافي بالوفيات 15/ 124.

(3)

المنجنيقي: يعقوب بن صابر بن بركات: شاعر كان متفوقا في صناعة المنجنيق، مغرى بالسلاح وصناعته، وألّف في ذلك، توفي ببغداد سنة (626 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 120.

(4)

ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 4/ 120.

ص: 153

التصوف للحصول على الرزق دون عمل، وللتكاسل عن الكسب، والتواكل، لهذا نجد ابن تيمية ينظم على لسان المتصوفة أبياتا، يسخر فيها من تواكلهم ومجالس ذكرهم، فيقول:

والله ما فقرنا اختيارا

وإنّما فقرنا اضطرار

جماعة كلّنا كسالى

وأكلنا ماله عيار

تسمع منّا إذا اجتمعنا

حقيقة كلّها فشار «1»

وتهكم جوبان القواس «2» من كلام الصوفية وأفكارهم حول الحلول ووحدة الوجود، فقال على لسان أحدهم:

متّ في عشقي ومعشوقي أنا

ففؤادي من فراقي في عنا

غبت عنّي فمتى أجمعني

أنا من وجدي منّي في فنا

أيّها السّامع تدري ما الذي

قلت والله ولا أدري أنا «3»

وللصوفية أدب كثير، وشعر غزير، عبروا به عن أفكارهم ومشاعرهم، وأظهروا فيه وجدهم وانفعالاتهم، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر في أدبهم، لأن له مكانة سامية في معتقدهم، فهم يصفونه بالقطب الأكبر لهم، ويذهبون إلى أن أولياءهم هم خلفاؤه، وحملة سنته، لهذا يحمدون الله الذي «أتبع الأنبياء عليهم السلام بالأولياء، يخلفونهم في سننهم، ويحملون أمتهم على طريقتهم وسمتهم» «4» .

(1) ابن شاكر: فوات الوفيات 1/ 80.

(2)

جوبان القواس: جوبان بن مسعود بن سعد الله الدنيسري، شاعر كان نادرة في الذكاء، له نظم جيد ولم يكن يعرف النحو، توفي في دمشق سنة (680 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 1/ 303.

(3)

ابن شاكر: فوات الوفيات 1/ 305.

(4)

السلمي: طبقات الصوفية ص 1.

ص: 154

لذلك ورد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعرهم، ومدحه بعضهم في قصائد تصوفهم، أو في قصائد خاصة، ومن هنا جاء التداخل بين الشعر الصوفي وشعر المديح النبوي.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن طريقة المتصوفة في شعرهم، وفي غزلهم الرمزي قد انتقلت إلى قصائد المديح النبوي، وقد أكثروا في مطالع قصائدهم من الحنين إلى الأماكن المقدسة، وذكر المعاهد الحجازية وانتقل هذا الأمر أيضا إلى المدائح النبوية.

فالعلاقة بين شعر التصوف والمديح النبوي علاقة وثيقة، وخاصة حين ينظم المتصوفة قصائد المديح النبوي ويطبعونها بطابعهم، لكن الفيصل بين المديح النبوي والشعر الصوفي، هو أن الشعر الصوفي الذي ذكر فيه الرسول الكريم لم يكن يقصد به مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الموضوع فرض على الشاعر ذكره، ولذلك لا يعد هذا الشعر من المدائح النبوية، وكذلك إذا نظم شاعر قصيدة في مدح النبي وتطرق في قصيدته إلى بعض عقائد المتصوفة، أو اتخذ طريقتهم في التعبير، فإن هذا الشعر هو من المدائح النبوية، وإن عد من الشعر الصوفي على وجه من الوجوه.

وقد اتخذ المتصوفة من الغزل والخمر وسيلة للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم، واتخذوهما رمزا لعواطفهم ومواجدهم، ولذلك انتقل هذا الغزل الرمزي إلى شعر المديح النبوي، ويبدو أن أوائل المتصوفة كانوا يعبرون عن مشاعرهم بأبيات غزلية يحفظونها، يبقونها كما هي، أو يغيّرون فيها لتلائم ما يريدون إيصاله إلى سامعيهم، وأخذ من جاء بعدهم ينظم على غرار هذه الأبيات، إلى أن ثبتت طريقة للتعبير عن الوجد الإلهي عند المتصوفة، وكذلك الأمر في شعر الخمر.

ومن هذا الغزل الرمزي، والحنين إلى المقدسات، قول الفائز ابن شاهنشاه بن أيوب الذي ترك الإمارة وصار صوفيا:

إذا نفحت ريح المحصّب من نجد

طربت لمسراها بما هاج من وجدي

ص: 155

فيالك من ريح إذا هبّ نفحها

يزيد الذي في القلب من شدّة الوقد

تخبّر أخبار الغرام عن الحمى

وتسنده نقلا عن البارق النّجدي

لها أسانيد المحبّة شاهد

صحيح بما يرويه في الحبّ عن هند «1»

فنحن نرى حبا ونرى وجدا، ونرى شوقا، ولكنّا لا نعرف لمن هذا الحب وهذا الشوق، وبمن هذا الوجد وقد اصطلح القوم على أن مثل هذا الشعر، هو مواجد إلهية، وحنين إلى الصفاء الإلهي، وإلا فبماذا نفسر قول ابن بهادر القرشي «2» ، الذي يطفح بالعاطفة الجياشة والحنين المتوقد:

رأي عقلي ولبّي فيه حارا

فأضرم في صميم القلب نارا

وخلّاني أبيت اللّيل ملقى

على الأعتاب أحسبه نهارا

فيا لله من وجد تولّى

على قلبي فأعدمه القرارا

ومن حبّ تقادم فيه عهدي

فأورثني عناء وانكسارا

ألا يا لائمي دعني فإنّي

رأيت الموت حجّا واعتمارا «3»

ويظهر من ختام الأبيات أن غزل الشاعر وحنينه ليس موجها إلى حبيبة بعينها، وليس بقصد به إنسانة يعرفها الشاعر ويحبها، وإنما هو غزل غير متعين، ربما كان في الكعبة المشرفة، كما انتشر بعد ذلك بين الشعراء.

ويبدو أن طريقة المتصوفة هذه في غزلهم، كانت تواجه شكوكا واستهجانا

(1) ابن الفوطي: تلخيص مجمع الآداب 3/ 28.

(2)

ابن بهادر: محمد بن محمد بن محمد، مؤرخ من فضلاء الشافعية، له كتاب (فتوح النصر في تاريخ ملوك مصر)، توفي سنة (877 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 9/ 209.

(3)

ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة 14/ 126.

ص: 156

عند الناس، وهذا ما حفز ابن عربي إلى شرح ديوانه (تراجم الأشواق) ، ليظهر الأسرار الإلهية التي أودعها غزله، حتى لا يساء فهمه، أو كما قال:«وشرحت ما نظمته بمكة المشرفة من الأبيات الغزلية في حال اعتماري في رجب وشعبان ورمضان، أشير بها إلى معارف ربانية وأنوار إلهية وأسرار روحانية وعلوم عقلية وتنبيهات شرعية، وجعلت العبارة عن ذلك بلسان الغزل والتشبيب لتعشق النفوس بهذه العبارات، فتتوفر الدواعي على الإصغاء إليها» «1» .

فابن عربي يرى أن استخدام الغزل في حمل أفكار المتصوفة ومشاعرهم، هو فقط لجلب انتباه الناس، وحثهم على مطالعته، لأن الغزل يستميل القلوب، وهذه هي الحجة التي سوغ فيها النقاد القدامى وجود الغزل في مقدمات قصائد المديح، وقد فعل ابن عربي ما وعد به، فأورد قصائده الغزلية، ثم شرحها شرحا مغايرا لظاهر ألفاظها، فحوّل معانيها من الغزل إلى التصوف على نحو لم يعهد من قبل، فكانت قصائده ذات عالمين، عالم غزلي ظاهري، وعالم صوفي باطني، وقد أوضح هذا الأمر بقصيدة قال فيها:

كلّما أذكره من طلل

أو ربوع أو مغان كلّما

وكذا إن قلت أنجد لي

قدر في شعرنا أو أتهما

وكذا السّحب إن قلت بكت

وكذا الدّهر إذا ما ابتسما

أو أنادي بحداة يمّموا

بانة الحاجر أو ورق الحمى

أو بدور في خدور أفلت

أو شموس أو نبات أنجما

أو بروق أو رعود أو نقا

أو جبال أو تلال أو رما

(1) ابن عربي: ترجمان الأشواق ص 10.

ص: 157

أو خليل أو رحيل أو ربى

أو رياض أو غياض أو حمى

أو نساء كاعبات نهّد

طالعات كشموس أو دمى

كلّما أذكره ممّا جرى

ذكره أو مثله أن يفهما

منه أسرار وأنوار جلت

أو علت جاء بها ربّ السّما

فاصرف الخاطر عن ظاهرها

واطلب الباطن حتّى تعلما «1»

وعلى هذا النحو سار شعر المتصوفة في رمزية، يتفاوت فيها الشعراء، منها ما يظهر للمطلع عند إمعان النظر فيها، ومنها ما لا يظهر إلا للراسخين في العلم، وقليل هم، وعلى هذا النهج كان ذكرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه، فلا تتضح معاني المديح إلا بصعوبة، ويلفها الغموض، ويحجبها الرمز، وتجنح في معظمها إلى الغيبيات، مثل قول ابن عربي:

دثّروني زمّلوني قول من

خصّه الرّحمن بالعلم الحسن

حين جلّى الرّوح بالأفق له

وهو في غار حراء قد سجن

نفسه فيه لأمر جاءه

في غيابات الفؤاد المستكن

لتجلّ قام في خاطره

صورة مجموعة من كلّ فن

كلّما أحضره في خلدي

حنّ قلبي لتجلّيه وأنّ

فلذا يقلقني سهده

ولذا أزهد في دندن دن «2»

والملاحظ أن قصيدة ابن عربي هذه في رسول الله صلى الله عليه وسلم استغرقت الحديث عن لحظة

(1) ابن عربي: ترجمان الأشواق ص 10.

(2)

ابن عربي: الفتوحات الملكية 3/ 46.

ص: 158

البعثة، ونزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأول مرة، ووصف ما جرى له من وراء ذلك، وهذا هو الجانب الذي اهتم به المتصوفة، جانب الوحي، وعالم الغيب، واتصال العالم المحسوس به، وهم الذين قامت طريقتهم على إيجاد هذه العلاقة وإقامتها بين العالمين.

وقد حفلت القصيدة بالرموز الصوفية التي يحار فيها المتلقي مثل (سينية صادية، دندن دن) وهي تعبير عن الأسرار الإلهية التي حرص الصوفية على إخفائها عن غيرهم وعن المبتدئين منهم ولذلك نجد ابن عربي يقول عن نفسه:

إنّي خصصت بسّر ليس يعلمه

إلّا أنا والذي في الشّرع نتبعه

هو النّبيّ رسول الله خير فتى

بالله نتبعه فيما يشّرعه «1»

ويصل ابن عربي في قوله في رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحد الذي لا مزيد بعده، فهو يذهب إلى أن الناس تعجز عن إدراك صفاته، لأنه نسيج وحده، ويشي كلامه بأن له شيئا من الصفات الإلهية، فيقول:

اليثربيّ الذي لا نعت يضبطه

ولا مقام ولا حال يعيّنه

مرخى العنان على الإطلاق نشأته

قامت فلا أحد منّا يبيّنه

من قال إنّ له نعتا فليس له

علم به عند ما يبدو مكوّنه

فعلمنا إن علمناه يشير به

وجهلنا هو في علمي يزيّنه «2»

وأكثر ما تعلق به المتصوفة من معجزات الرسول الكريم، ومن سيرته، هو الإسراء والمعراج، فإن هذه المعجزة التي انتقل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه وعاد، والتي

(1) ابن عربي: الفتوحات المكية 4/ 153.

(2)

المصدر نفسه: 4/ 80.

ص: 159

تمثّل أرقى اتصال بين عالمنا المادي والعالم الروحي، أو بين الأرض والسماء، هو ما يجعله المتصوفة نصب أعينهم، في مسعاهم الحثيث ليعرجوا بأرواحهم إلى السماء، وليفنوا في خالقهم، لذلك حرص شعراء المتصوفة على ذكر هذه المعجزة بالإشارة حينا، وبالتفصيل حينا آخر، لأن الحديث عنها يعبر عن طموحاتهم، ويحمل آراءهم، ويتيح لهم الخوض في الغيبيات كما يحلو لهم، وبالقدر الذي يشبع رغبتهم في الانطلاق إلى العالم النوراني البعيد عن مادية الأرض وأسر الجسد، وفي ذلك يقول ابن عربي:

ألم تر أنّ الله أسرى بعبده

من الحرم الأدنى إلى المسجد الأقصى

إلى أن علا السّبع السّماوات قاصدا

إلى بيته المعمور بالملأ الأعلى

إلى السّدرة العليا وكرسيّه الأحمى

إلى عرشه الأسنى إلى المستوى الأزهى

فكان تدلّيه على الأمر إذ دنا

من الله قربا قاب قوسين أو أدنى

وشال حجاب العلم عن عين قلبه

وأوحى إليه في الغيوب الذي أوحى «1»

ومن القضايا المتعلقة برسول الله صلى الله عليه وسلم في أدب الصوفية وكتبهم، قضية العلاقة بين النبوّة والولاية، والمفاضلة بينهما، فقد أخذ على المتصوفة تفضيلهم الولي على النبيّ، وهذا ما أحرجهم، لذلك تصدوا لشرح هذه القضية وبيان مذهبهم في ذلك، فقال ابن عربي «هذه مسائل لا يعلمها إلا الأكابر من عباد الله، الذين هم في زمانهم بمنزلة الأنبياء زمن النبوة، وهي النبوة العامة، فإن النبوة انقطعت بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم» «2» فابن عربي يذهب إلى أن كلامهم في مسألة النبوة، ووصف كبارهم بالأنبياء، لا يفهمه على حقيقته إلا الأكابر من عباد الله، وهؤلاءهم أقطاب الصوفية وكبارهم، وإلا فإن الناس سيفهمون كلام الصوفية فهما خاطئا.

(1) ابن عربي: الفتوحات المكية 3/ 381.

(2)

المصدر نفسه: 2/ 3.

ص: 160

وعاد ليفرق بين النبوة والولاية، وخاصة فيما يتعلق بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم فقال:

«ولهذا مقامه من حيث هو عالم أتمّ من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع.. فإذا سمعت أحدا من أهل الله يقول أو ينقل إليك عنه أنه قال: الولاية أعلى من النبوة.. أو يقول: إن الوليّ فوق النبي والرسول، فإنه يعني بذلك في شخص واحد هو أن الرسول عليه السلام، من حيث هو ولي، أتمّ من حيث هو نبي رسول» «1» .

وقد نظم رأيه في هذه المسألة شعرا، لكنه زاد هذه المسألة غموضا، ولم يبيّن ما يقصده بمقام النبوة حين قال:

بين الولاية والرّسالة برزخ

فيه النّبوّة حكمها لا يجهل

لكنّها قسمان إن حقّقتها

قسم بتشريع وذاك الأوّل

عند الجميع وثمّ قسم آخر

ما فيه تشريع وذاك الأنزل «2»

أما ابن الفارض «3» ، فلم يكن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده على هذه الدرجة من الوضوح، ولم يكن مدحه له ظاهرا متعينا، مما حدا بالباحثين إلى تخمين ذلك تخمينا، فسلطان العاشقين تدرج في عشقه ووجده من الأولياء والصالحين والصحابة وغيرهم من شيوخ التصوف، في قصيدته اليائية التي افتتحها بالغزل والتشوق للمقدسات فقال:

سائق الأظعان يطوي البيد طي

منعما عرّج على كثبان طي

كان لي قلب بجرعاء الحمى

ضاع منّي هل له ردّ علي «4»

(1) ابن عربي: فصوص الحكم ص 135.

(2)

ابن عربي: الفتوحات المكية 2/ 252.

(3)

ابن الفارض: عمر بن علي بن مرشد الحموي، حجة أهل الوحدة وحامل لواء الشعر، سلطان المحبين والعشاق زاهد قانع ورع، جاور بمكة زمنا، وظهرت له كرامات عجيبة، فأمّه جميع الناس للزيارة والتبرك، له ديوان شعر مشهور، توفي سنة (632 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 149.

(4)

ديوان ابن الفارض: ص 3.

ص: 161

ثم تطور حبه وارتقى، فأضحى موضوعه ذات النبي الكريم، وذلك في قصيدته التي يقول فيها:

وجاء بأسرار الجميع مفيضها

علينا ختما على حين فترة

فعالمنا منهم نبيّ ومن دعا

إلى الحقّ منّا قام بالرّسليّة

وعارفنا في وقتنا الأحمديّ من

أولي العزم منهم آخذ بالعزيمة

وما كان منهم معجزا صار بعدهم

كرامة صدّيق له أو خليفة «1»

فهو يرى الرسول حاملا للأسرار الإلهية أو ما يسميها ابن عربي جميع العلوم، وهو الذي أفاضها على أتباعه، ويتحدث ابن الفارض هنا عن المتصوفة الذين جعلوا من أنفسهم خلفاء للرسول الكريم، أخذوا عنه الأسرار الإلهية، ولذلك أضحى عالم المتصوفة نبيّا ورسولا في زمانه، تظهر على يديه الكرامات، مثلما كانت تظهر المعجزات على أيدي الأنبياء. وهذا ما تحدث عنه ابن عربي في التفريق بين الولاية والنبوة، ولم يتجاوز ابن الفارض في ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به هنا، لكنه أكثر من ذكر الأماكن المقدسة والمعاهد الحجازية، في مقدمات قصائده، وهذه المقدمات أضحت من لوازم قصيدة المدح النبوي.

وقد عارض شعراء المديح النبوي قصائد ابن الفارض، وحولوها من الوجد الصوفي إلى المديح النبوي، وخاصة قصيدتاه المشهورتان، التائية واليائية.

وما عدا ذلك استغرق ابن الفارض في مواجده الصوفية، والعشق الإلهي، حتى سمي بسلطان العاشقين.

ويظهر لنا أن المتصوفة وصلوا إلى مدح النبي الكريم على طريقتهم، وأفردوا له

(1) ديوان ابن الفارض: ص 54.

ص: 162

قصائد خاصة، وهذا ما جعل الدكتور زكي مبارك يقطع بأن المتصوفة «ابتدعوا فن المدائح النبوية» «1» .

وأن «المدائح النبوية من فنون الشعر التي أذاعها التصوف» «2» .

ولم يظهر لي ما ذهب إليه الدكتور زكي مبارك، فالمدائح النبوية ظهرت في زمن متقدم على هذا الشعر، وخاصة في المغرب العربي، وأما ما ظهر عند المتصوفة من مدح نبوي، فهو لا يزيد عما ظهر عند الشعراء من الشيعة أو السنة على حد سواء، وإذا أفرد المتصوفة المديح النبوي في قصائد خاصة، فإن مدحهم هذا من المديح النبوي العام، يفترق عن باقي شعر التصوف الذي ذكر فيه النبي الكريم ضمن موضوعات كثيرة، كما هو الأمر في قصائد ابن الفارض وابن عربي وأضرابهما من المتصوفة.

والقضية الهامة التي يحسن الوقوف عندها في شعر التصوف، والتي تتعلق بالمدائح النبوية هي قضية الحقيقة المحمدية، التي قال بها شعراء المدائح النبوية جميعهم، والتي اختلف الباحثون فيمن أتى بها أول مرة. فمنهم من قال إن المتصوفة هم الذين ابتدعوها، ومنهم من قال إن الشيعة هم الذين أدخلوها إلى الفكر العربي، ومنهم من ذهب إلى أن أهل السنة هم الذين قالوا بالحقيقة المحمدية، وأخذها الشيعة والمتصوفة عنهم.

والحقيقة المحمدية، أو نظرية تنقل النور المحمدي، أو قدم الوجود المحمدي، هي القول بأن النور المحمدي موجود قبل هذا الوجود، وأنه تجسد في شخص آدم، وظل ينتقل من نبي إلى نبي حتى ظهر في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، والصوفية يذهبون إلى أن هذا النور لا زال ينتقل من قطب إلى قطب، وسوف يظل كذلك إلى يوم الدين.

وقد عبّر الدسوقي عن اعتقاد الصوفية في الحقيقة المحمدية، وانتقالها إلى الأقطاب في قوله:

(1) مبارك، زكي: التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق 1/ 88.

(2)

مبارك، زكي: المدائح النبوية في الأدب العربي ص 17.

ص: 163

نعم نشأتي في الحبّ من قبل آدم

وسرّي في الأكوان من قبل نشأتي

أنا كنت في العلياء مع نور أحمد

على الدرة البيضاء أو في خلوّتي

أنا كنت في رؤيا الذّبيح فداؤه

بلطف عنايات وعين حقيقة

أنا كنت مع عيسى على المهد ناطقا

وأعطيت داودا حلاوة نغمة

أنا كنت مع نوح بما شهد الورى

بحارا وطوفانا على كفّ قدرة

أنا ذلك القطب المبارك أمره

فإنّ مدار الكلّ من حول ذروتي «1»

وقد شغلت نظرية الحقيقة المحمدية حيزا كبيرا من تفكير ابن عربي، لأنه يؤكد على مبدأ وراثة الأقطاب للأنبياء، وهذا يعلي من شأن الصوفية، وكبارهم على وجه الخصوص، ويجعل المريدين يمتثلون لكل ما يأتي به القطب. ففي معرض حديثه عن خزائن الجود والكرم، قال:«هي الأسماء الإلهية المتجلية في الموجودات على اختلاف أنواعها، فمحمد صلى الله عليه وسلم يمد المخلوقات بها، لأنه هو وحده المظهر الكامل لها جميعها، وبذلك استحق اسم عبد الله، والله اسم جامع لجميع الأسماء الإلهية. ولأن محمدا أو حقيقة محمد واسطة الخلق، وحلقة الاتصال بين الذات الإلهية والمظاهر الكونية، فهو بمثابة العقل الأول في الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، وبمثابة المسيح في الفلسفة المسيحية، وبمثابة المطاع في فلسفة الغزالي» «2» .

وأوضح ابن عربي رأيه في الحقيقة المحمدية من طريق آخر، هو طريق الاصطفاء الإلهي للرسول الكريم، فهو خيار من خيار من خيار، فقال: «واصطفى واحدا من خلقه، هو منهم وليس منهم، هو المهيمن على جميع الخلائق، جعله عمدا أقام عليه قبة

(1) الشعراني: لواقح الأنوار 1/ 244.

(2)

ابن عربي: فصوص الحكم 2/ 5.

ص: 164

الوجود، جعله أعلى المظاهر وأسناها، صح له المقام تعيينا وتعريفا، فعلمه قبل وجود طينة البشر، وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم» «1» .

وهنا يشير ابن عربي إلى الحديث الشريف الذي نظمه شعراء المديح النبوي، وهو «إني عبد الله في أم الكتاب وإن آدم لمنجدل في طينته» «2» .

وقد سبق الحلاج هؤلاء المتصوفة إلى القول بالحقيقة المحمدية في كتابه (الطواسين) ، حين جعل نور النبي محمد صلى الله عليه وسلم أساس أنوار الأنبياء، وجعل وجوده أقدم من القدم، وقبل أن يخلق الكون، فقال:«أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور وأظهر، وأقدم من القدم، سوى نور صاحب الكرم، همّته سبقت الهمم، وجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم» «3» .

وقال أيضا: «كان مشهورا قبل الحوادث والكوائن والأكوان، ولم يزل مذكورا قبل القبل، وبعد البعد، والجوهر والألوان» «4» .

لاقت الحقيقة المحمدية قبولا عند معظم شعراء المديح النبوي، المنتمين إلى اتجاهات دينية مختلفة، فتسابقوا إلى إيضاحها، وصبّها في قوالب شعرية معبرة، يزيدون عليها ما يلائم مذهب كل منهم، ويقفون في نسبها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حينا، ويجاوزونه إلى علي بن أبي طالب حينا آخر، ويصلون بها إلى الخلفاء والأقطاب في أحيان كثيرة، وكلهم يطلب القداسة لما يذهب إليه، ويدعم قوله بروايات غيبية وأحاديث شريفة، وجعلوا من الحقيقة المحمدية أقصى ما يمدحون به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1) ابن عربي: الفتوحات المكية 2/ 73.

(2)

مسند الإمام أحمد: 4/ 127- 128. وفي سنن ابن ماجه (ما أصابني شيء منها إلا وهو مكتوب علي وآدم في طينته) وقد ضعّف المحقق سند الحديث- كتاب الطب، حديث- 45- وحكم ابن عراق الكناني بوضعه في كتابه تنزيه الشريعة: 1/ 341.

(3)

الحلاج: كتاب الطواسين ص 11.

(4)

المصدر نفسه: ص 12.

ص: 165

واتخذوها ردا وموازاة لما يذهب إليه النصارى في المسيح، حين احتدم الجدال بين المسلمين وأهل الكتاب إبّان الحروب الصليبية، وذهبوا في تلوينها وتغييرها كل مذهب، لكنهم جميعا حافظوا على جوهرها القائم على قدم النور المحمدي الذي خلق قبل خلق الكون، والذي فاضت عنه المخلوقات جميعها، فأضحى بذلك علّة الكون، كما يقول ابن الفارض على لسان النبي الكريم:

ولولاي لم يوجد وجود ولم يكن

شهود ولم تعهد عهود بذمّة

فلا حيّ إلّا عن حياتي حياته

وطوع مرادي كلّ نفس مريدة «1»

ومدح ابن عربي الرسول الكريم بصفات كثيرة، منها المكانة السامية، وإصلاح الزمان، ونفاذ إرادته لكنه بدأ مدحه بالحقيقة المحمدية:

ألا بأبي من كان ملكا وسيّدا

وآدم بين الماء والطّين واقف

فذاك الرّسول الأبطحيّ محمّد

له في العلا مجد تليد وطارف «2»

وقد يذكر الشعراء المتصوفون الحقيقة المحمدية، ويدّعون وراثتها، وكأنهم بذلك يمدحون أنفسهم، بعد أن مدحوا صاحبها، وكما كان آل البيت يمدحون بالانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الخلفاء يحرصون على أية نسبة إليه، مهما كانت بعيدة، ولو كان تشابها في الاسم، أو تشبها بالعمل، فإن المتصوفة مدحوا أنفسهم، أو افتخروا بالانتساب إلى الرسول الكريم ووراثة علمه عن طريق الحقيقة المحمدية الخالدة، التي وجدت قبل خلق الكون، وستستمر إلى يوم القيامة، فأمّنوا بذلك إشادة لأنفسهم، وأضفوا عليها شيئا من القداسة، جعلت الناس تقدرهم، والسلاطين يتصاغرون أمامهم، فلا عجب أن يدعي ابن عربي أنه ولد الأنبياء فيقول:

(1) ديوان ابن الفارض: ص 55.

(2)

ابن عربي: الفتوحات المكية 2/ 143.

ص: 166

أقول لآدم أصل الجسوم

كما أصل الرّسالة شرع نوح

وأنّ محمّدا أصل شريف

عزيز في الوجود لكلّ روح

أنا ولد لآباء كرام

فنوري في الإضاءة مثل يوح

فبرّ الوالدين عليّ فرض

فيا نفسي على التّفريط نوحي

أنا بن محمّد وأنا بن نوح

كما أني ابن آدم في الصّحيح

فيا من يفهم الألغاز هذا

لشأن رموزنا بالعلم نوحي «1»

فابن عربي يذهب إلى أن روح رسول الله صلى الله عليه وسلم أصل أرواحنا، فهو أول الآباء روحا، وآدم أول الآباء جسما، ونوح أول رسول أرسل، ومن كان قبله إنما كان نبيا.

وهو قد ورث هؤلاء جميعا على وجه من الوجوه، وحتى لا يؤخذ كلامه مأخذا خاطئا، ويفهم على نحو يسيء رأي الناس في عقيدته، توارى خلف الرمز، وقال لسامعه أو قارئه، إن ما يقوله رموز يصعب فهمها.

وهكذا انتشر مدح رسول الله بالحقيقة المحمدية، فأضحت من لوازم المديح النبوي، يقولها الشعراء على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، وتقع على ألسنة الكتاب في خطب كتبهم، وخاصة المتصوفة منهم، مثل خطبة كتاب إيقاظ الهمم، فعند ما وصل المؤلف إلى الصلاة على النبي قال:

«والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد، منبع العلوم والأنوار، ومعدن المعارف والأسرار» «2» .

وقد حفلت قصائد المتصوفة في مدح النبي الكريم بألفاظهم وتعابيرهم، فوصفهم

(1) ابن عربي: الفتوحات المكية 3/ 50- يوح: الشمس.

(2)

ابن عجيبة الحسيني: إيقاظ الهمم ص 3.

ص: 167

للرسول يختلف عن وصف غيرهم له، فهو الغوث والقطب ومفيض العلوم ومنبع الأسرار، وغير ذلك من اصطلاحاتهم.

وأكثر ما يتضح الاتجاه الصوفي في المديح النبوي عند ابن زقاعة «1» ، فديوانه حافل بالقصائد الصوفية، ومنها قصائد في مدح رسول الله على طريقتهم، ففي إحداها نجد مقدمة طويلة في ذكر الأماكن المقدسة، ثم يصل إلى مدح النبي الكريم، فيقول:

أحمد الماجد الكريم المفدّى

صاحب المكرمات والمعجزات

قلت لمّا رأيته في منامي

يا رفيع العماد والدّرجات

يا طراز الجمال يا حلّة المج

د وتاج العلا وكهف العناة

أنت عين الزّمان يا صاحب ال

وقت وغوث الأنام في المعضلات

أنت سرّ الوجود يا كعبة الوج

د وأمانا للخائفين والخائفات «2»

وتظهر قصائده ما يمكن أن يقوله صوفي من مواجد وغيبيات ورموز، وغزل وخمر، وتوسل، بالإضافة إلى مدح النبي الكريم على النحو الذي رأيناه، يضيف إليه أحيانا ما تواضع عليه شعراء المديح النبوي من معاني التفضيل والهداية، وذكر المعجزات، وبعض القيم التقليدية.

ومن الشعراء المتصوفة الذين مدحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الجعبري «3» ، الذي أظهر في قصائده الشوق والوجد، وأضفى على النبي الكريم كل الصفات التي مدحه بها الشعراء

(1) ابن زقاعة: إبراهيم بن بهادر القرشي، تعانى الخياطة، ثم طلب العلم وتصوف، وقال الشعر، توفي (810 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 1/ 130.

(2)

ديوان ابن زقاعة، ورقة 3.

(3)

الجعبري: إبراهيم بن عمر بن إبراهيم، عالم بالقراآت من فقهاء الشافعية، له نظم ونثر، استقر ببلد الخليل في فلسطين، له كتب كثيرة معظمها مختصرات. ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 412.

ص: 168

على اختلاف مذاهبهم، فهو يتشوّق إلى روح رسول الله صلى الله عليه وسلم، مظهرا حبه ووجده به، فيقول:

فإن متّ من وجدي غراما بحبّكم

فقولوا قتيل، مات وهو متيّم

فموتي حياتي في هوى ساكن الحشا

مليح الجمال صلّوا عليه وسلّموا «1»

ويقترب الجعبري من الحقيقة المحمدية، حين يجعل الرسل جميعا، يطلبون شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويتوسلون به، وهذا يعني أنه موجود قبلهم، وأنهم يعرفون قدره ومكانته عند الله تعالى، فيقول:

فادم لمّا أن توسّل باسمه

تقبّل منه ربّه كلّ دعوة

ونوح من الطّوفان نجّاه ربّه

بدعوته من كلّ هول وكربة

ونجّى إبراهيم لمّا دعا ربّه

وأخمدت النّيران من بعد قوّة

وموسى وعيسى بالنّبيّ توسّلا

وعمّ البرايا فضل خير البريّة «2»

والملاحظ أن الشاعر المتصوف يمهد لقصيدته في مدح النبي بما يمهد لقصائده في الوجد والعشق الإلهي، ويضفي على الرسول الكريم الصفات التي كان يستخدمها في قصائد التصوف للإشارة إلى الذات الإلهية حينا، وللإشادة بكبار المتصوفة حينا آخر، منطلقا من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول المتصوفة وقطبهم. وهذا ما نراه في نبوية صوفية لعلي وفا «3» قال فيها:

(1) ديوان الجعبري: ص 21.

(2)

المصدر نفسه: ص 29.

(3)

علي وفا: علي بن محمد بن محمد القرشي، نشأ في أسرة متصوفة، اشتغل بالأدب والوعظ، وكثر أتباعه، له عدة تصانيف منها ديوان شعر وموشحات، توفي سنة (807 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 6/ 21.

ص: 169

قطب النّهى غوث العوالم كلّها

أعلى عليّ ساد أحمد من حمد

روح الوجود حياة من هو واجد

لولاه ما تمّ الوجود لمن وجد

عيسى وآدم والصّدور جميعهم

هم أعين هو نورها لمّا ورد

لو أبصر الشّيطان طلعة نوره

في وجه آدم كان أوّل من سجد «1»

فالحقيقة المحمدية ظاهرة في الأبيات والنبي هو سبب الوجود وهو نور الأنبياء وهداهم، وهو القطب أو غوث العوالم كلها، وهذه كلها معان صوفية لا يني الشعراء المتصوفة يذكرونها في شعرهم. والشاعر هنا يستغرق في عالمه الصوفي، فلا يظهر لنا الفصل بين عالمه المتخيل وبين حقيقة ما يتحدث عنه، لأن الألفاظ عند المتصوفة تستحيل إلى رموز قد تشفّ وقد تستغلق، فلا يفكّها إلا من اتّبع طريقتهم وسار شوطا كبيرا في مدارجهم ورياضتهم الروحية. نصل من ذلك كله إلى أن الشعر الصوفي، تيار قائم بذاته، يعبر عن أحوال المتصوفة وتطلعاتهم وعقائدهم ومواجدهم. وقد جاء ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشعر، لأنه شعر ديني، فلا بد من أن يذكر صاحب الدين فيه، ولأن بعض المتصوفة تطلعوا إلى مقام النبوة، ولأن من معتقدهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القطب الأول للصوفية، وهم ورثته، لكن هذا الذكر ظل متفاوتا ما بين الإشارة الغامضة إلى المديح الصريح، وهذا الذكر لا يدخل الشعر الصوفي ضمن المدائح النبوية، لأنه لم ينظم أصلا من أجل مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعند ظهور المدائح النبوية، شارك المتصوفة في هذا الفن الجليل مشاركة واسعة فاعلة، وأثّروا فيه تأثيرا كبيرا، فكانت مقدماتهم الغزلية، وحنينهم إلى المعاهد المقدسة، من الأشياء التي حافظت عليها المدحة النبوية، بالإضافة إلى كثير من أفكارهم واصطلاحاتهم وعباراتهم التي أضحت شائعة متداولة في الشعر العربي عامة، وشعر

(1) المجموعة النبهانية: 2/ 55.

ص: 170