الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الانتقال:
المدحة النبوية مثل غيرها من المدائح لا تقتصر في مضمونها على موضوع واحد، بل تتعدد فيها الأغراض والمواضيع، فينتقل الشاعر أثناءها من موضوع إلى آخر انتقالا حادا حينا، يشعر المتتبع بالافتعال والتصنع، وانتقالا رفيقا حينا آخر، يدل على مهارة الشاعر ومقدرته على ربط المواضيع، بعضها ببعض، وخاصة عند ما ينتقل الشاعر من مقدماته إلى غرضه الأساس (المديح) ، ويسمى هذا الانتقال عند البلاغيين المخلص أو حسن المخلص، إذ يجب على الشاعر أن يحترز من انقطاع الكلام، أو الحشو الذي لا طائل من ورائه، أو من اضطراب الكلام عند ذلك، فيشعر قارئ القصيدة أو سامعها بارتباك الشاعر عند انتقاله. والأمثلة على ذلك كثيرة، فجميع قصائد المديح النبوي تحوي على مثل هذا التخلص، يجيده الشاعر حينا، ويستعجل حبكه حينا آخر. ومن ذلك انتقال البوصيري إلى المديح بعد أن تحدث عن المعاصي فجعل ذلك مخلصا إلى مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ظلمت سنّة من أحيا الظّلام إلى
…
أن اشتكت قدماه الضّرّ من ورم «1»
والصرصري تحدث في مقدمة إحدى مدائحه عن الأماكن المقدسة، ودعا لها بالسّقيا، منتقلا بذلك إلى مدح النبي الكريم، فقال:
سحّت غمائم أنوار المزيد على
…
قبابه البيض سحّا دونه السّحب
فهي الشّفاء لأسقامي وساكنها
…
هو الحبيب الذي أبغي وأطّلب «2»
وعند ما يقدم الشاعر لمديحه النبوي بالغزل، فإن مهمة التخلص إلى المديح تصبح
(1) ديوان البوصيري: ص 240.
(2)
ديوان الصرصري: ورقة 8.
أصعب، وتتطلب مهارة وحنكة، فابن حجر قدّم لإحدى مدائحه النبوية بأبيات هي خليط من الغزل وعتاب النفس، أظهر فيها وجده وهيامه، وعذابه في الحب، فجعل خلاصه من آلام الحب وعذابه في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:
بيني وبينك في المحبّة نسبة
…
فاحفظ عهود تغزّل ونسيب
والله مالي من هواك تخلّص
…
إلّا بمدح المصطفى المحبوب «1»
وأظهر الشرف الأنصاري مقدرة ومهارة حين انتهى إلى وصف محاسن محبوبته في مقدمة مدحة نبوية، فجعل التعجب منها مخلصا إلى المدح النبوي، فقال:
غصن نقا حلّ عقد صبري
…
بلين خصر يكاد يعقد
فمن رأى ذلك الوشاح الص
…
صائم صلّى على محمّد «2»
فالصلاة على النبي تقال عادة عند رؤية شيء يحوز الإعجاب، فيدعو مشاهده لحفظه وصونه، ويصلّي على النبي. التقط الشاعر هذه العادة، وجعلها مخلصا له من وصف محاسن محبوبته إلى مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمظاهر القصيدة المدحية في الشعر العربي جميعها توفرت في شكل قصائد المدح النبوي، وهذا أمر طبيعي، لأن المدائح النبوية ليست من صنع شاعر واحد، وليست من إبداع قطر واحد، وليست من إنتاج زمن واحد، بل هي مما أبدعته قرائح شعراء لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، ومن الأقطار الإسلامية المختلفة، ومن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نهاية العصر المملوكي الذي ندرس المدائح النبوية فيه، واستمرت بعد ذلك إلى يومنا هذا، ولذلك كان لا بد من أن يتنوع شكل القصيدة المدحية، وأن تتمثل فيه جميع المظاهر والتطورات التي ألّمت بقصيدة المدح العربية.
(1) المجموعة النبهانية: 1/ 458.
(2)
ديوان الشرف الأنصاري: ص 147.