الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجبالا أعرضت عنها وكانت
…
من سبيك اللّجين والإبريز
شرّفت حلّة الرّسالة لمّا
…
زنتها من حلاك بالتّطريز «1»
فهذا الشعر وأمثاله، يظهر أن الألفاظ وضعت إلى جانب بعضها، ليتم الوزن وتستقيم القافية، قبل أن تخبر وتؤثر.
فالألفاظ في المدح النبوي تتفاوت في صحتها وفصاحتها من شاعر إلى شاعر، فالشاعر المتمكن تأتي ألفاظه فصيحة صحيحة، والشاعر الذي يعاني ضعفا في ملكته الشعرية وثقافته اللغوية، يعوّض ما ينقصه بأخذ الألفاظ من هنا وهناك، ولا يجيد استخدامها، فتترك آثارا سلبية على شعره، وتبدو فيه الركاكة والضعف والثقل، ويبتعد فيما ينظمه عن اللغة الشعرية التي تتأتى من تالف الألفاظ وارتباطها بالمعنى، وتعبيرها عن تجربة الشاعر ومشاعره.
القسم الثالث- الصنعة الفنية:
منذ القديم بحث الشعراء العرب عن وسائل تزيد التعبير عمقا، وتزيد الأسلوب جمالا، لكنهم لم يتحدثوا عن هذه المسائل، ولم يجهدوا أنفسهم في البحث واصطناعها في شعرهم، فظلت تأتي عندهم عفو الخاطر، وتندرج في أقوالهم دون تعمّل وتكلف، إلى أن تنبّه الشعراء عليها فيما بعد، فأخذوا يكثرون من هذه الوسائل التعبيرية ليزيد أسلوبهم جمالا، حتى جاء ابن المعتز، فوضع فيها كتابا، فتح به للمؤلفين بابا جديدا من أبواب التأليف، يكررون فيه ما نصّ عليه ابن المعتز، ويزيدون ويشرحون.
أما الشعراء فمع تقدم الزمن أولعوا بفنون البديع الجديدة، وقصدوها قصدا، وتصنعوا إدراجها في شعرهم إلى أن أضحت زينة ينوء بها الشعر، وتثقل بها الكتابة، فأضحت من مميزات الأدب في العصر المملوكي.
(1) السيوطي: نظم العقيان ص 80.
وكانت فنون البديع التي أشار إليها ابن المعتز قليلة بسيطة، لكن الكتّاب الذين جاؤوا بعده، ظلوا يزيدون فيها حتى أضحت على درجة كبيرة من التعقيد، لا يتقنها أو يعرفها إلا المشتغل فيها المتمرس بها، وغلبت على ذوق المتأدبين من أهل العصر، فلا يجدون الجمال الأدبي إلا بها، ولا يعترفون بشاعر إن لم يكن متصنعا لها مكثرا منها، فصارت موضع فخر الشعراء وتفاضلهم، ومقياسا لشاعريتهم.
ولذلك حرص الشعراء على حشد أكبر قدر من فنون البديع في شعرهم، إلى أن أضحت بعض القصائد نظما لهذه الفنون، يتكلف الشاعر إدراجها في شعره، متجنّيا على المعنى وسلامة التعبير من أجلها، وانقلبت الوسيلة إلى غاية، وأضحى الشاعر ينظم القصيدة ليعرض فنون البديع فيها، ولا يأتي بفنون البديع لزيادة المعنى إيضاحا وعمقا، والأسلوب جمالا ورونقا، حتى جعلت مواهب هواة هذه الفنون موضع شك وتساؤل، وأفسدت الظن في مقدرتهم الشعرية، فكأنهم يعانون من فقر في الموهبة والثقافة، ويحتالون على جدبهم في الأصالة بهذه الزخارف البديعية، وهم على العكس من ذلك، فيهم أصحاب الملكات الشعرية الأصيلة، وأصحاب الثقافة الواسعة، الذين رزقوا مقدرة شعرية كبيرة، ولكنه ذوق العصر، ومجاراة السائد فيه.
ونحن لا نستطيع أن نطبق على شعر العصر المملوكي مقاييسنا الجمالية، وإن كنّا لا نستسيغ هذه المبالغة البديعية، فهذه الفنون كانت تعد منتهى البلاغة عندهم، وكانت غاية كل شاعر أن يتفرد باستخدام مميز لها.
وقد مال شعراء هذا العصر إلى المبالغة في اصطناع فنون البديع، ليس في الكثرة فقط، بل والدرجة أيضا، فلم يعد يؤثر فيهم التشبيه العادي أو الجناس البسيط أو الاستعارة البسيطة، فلا يهتزون إلا إذا كانت هذه الفنون على درجة كبيرة من التعقيد، وليس العمق، لأن الاستخدام الجيد لهذه الفنون، والذي يزيد المعنى عمقا، ويحسّن التعبير، لم يسلم إلا للفحول منهم، ولذلك عبّروا عن درجات التشبيه مثلا بالمرقص
والمطرب، فالمرقص عندهم هو التشبية الجديد الغريب الذي يبلغ تأثيره في قارئه أو سامعه إلى درجة يدعوه معها إلى الرقص، والمطرب هو التشبيه الذي يبعث في النفس نشوة الطرب، ولا يصل إلى درجة الأول، وإلى الرقص، أما التشبيه الذي لا يصل في تعقيده وغرابته إلى درجة هذين النوعين، فإنه لا يتعدى في نظرهم المسموع أو المتروك «1» .
وعلى الرغم من أن فنون البديع أكثر ما تستخدم في الغزل والوصف، إلا أن شعراء المدح النبوي في هذا العصر أكثروا من هذه الفنون في مدائحهم، وفي وهمهم أنهم يرصعونها بأفضل ما عندهم من محاسن تعبيرية تليق بفن المدائح النبوية، وليتمكنوا من نيل إعجاب الناس، ورضاهم عن هذه المدائح، ولا يستجلب ذلك إلا بفنون البديع.
وزيادة على ذلك فالصنعة البديعية أضحت من أدوات الشاعر في ذلك الوقت، فلا يستطيع نظم قصيدة في أي موضوع، دون أن يدرج فنون البديع في ثناياها، ولذلك حفلت قصائد المديح النبوي بفنون البديع، وثقلت بعضها بتعقيدها، إلى أن ربط المديح النبوي بالبديع، فظهرت البديعيات التي تجمع بين المدح النبوي وبين فنون البديع جميعها مع ذكر أسمائها والتمثيل لها.
ولهذا يعسر على الدارس أن يستقصي فنون البديع في المدائح النبوية كلها، ولا فائدة كبيرة ترجى من بيان المواضع التي استخدمت فيها جميع الأنواع البديعية التي عرفت في ذلك العصر، والتي عرفها البديعيون ومثّلوا لها، لأنها لم تكن منتشرة، وكان تداولها مقتصرا على أصحاب البديعيات أو البديعين الذين اخترعوا أمثلة لفنون بديعية مخترعة، هداهم إليها طول تفكيرهم بمذاهب الكلام وطرقه التعبيرية، وهي لا تزيد في بلاغة اللغة، بل تعقّدها، وتفقد المعبر بها البداهة والاسترسال وأصالة التعبير الذاتي.
(1) ابن سعيد: المرقص والمطلوب ص 7.