الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى متى أنت باللّذات مشغول
…
وأنت عن كلّ ما قدّمت مسؤول
في كلّ يوم ترجّي أن تتوب غدا
…
وعقد عزمك بالتّسويف محلول
فجرّد العزم إنّ الموت صارمه
…
مجرّد بيد الآمال مسلول
أنفقت عمرك في مال تحصّله
…
وما على غير إثم منك تحصيل
وصن مشيبك عن فعل تشان به
…
فكلّ ذي صبوة بالشّيب معذول «1»
فالمدائح النبوية تحفل بالوعظ والإرشاد، وهي تذكر الناس باليوم الآخر، وبعدالة السماء، ليكفّ الظالم عن ظلمه، والمسيء عن إساءته، وتحثه على إقامة شعائر الدين والاقتداء بسنّة رسول الله، لتنتفي مظاهر الخلل في المجتمع، وتتحقق العدالة في الدنيا، قبل أن تقتص منه عدالة الله تعالى في الآخرة.
ولا شك أن التنبيه على السلوك الخاطئ والدعوة إلى تصحيحه، التي تطالع الناس صباح مساء في قصائد المدح النبوي، قد كان لها أثر في نفوس الناس وسلوكهم، وخاصة حين قرنت هذه الدعوة بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإظهار ما كان عليه حاله.
الاعتقاد بالمدائح النبوية:
وقد شاع في ذلك العصر التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستنجاد به من الكروب التي عمّت الناس، وشاعت رؤيا النبي الكريم في المنام، وانشغل الفقهاء بهذه الرؤيا، وخاصة في أخذ الرائي بما يؤمر به في المنام.
وكان الناس على اعتقاد جازم بكرامة رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحدهم رأى النبي
(1) ديوان البوصيري ص 220.
الكريم في نومه، وشكا له ما به من شلل وكسح، فأمره النبي بالنهوض، فأصبح معافى «1» .
وآخر يصاب بالعمى، فيرى النبي في المنام، ويمسح عينيه، فيبصر بعد أن أقام مدة أعمى، وبعد أن فقئت عيناه، وسالتا، وورم دماغه ونتن «2» .
وثالث يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه، فيشق صدره، ويخرج منه علقة، يظنها الغش «3» .
إن الاعتقاد برؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وفي كل ما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم كان قويا في العصر المملوكي وكان الناس يتجهون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوسل عند كل ملمّة تكربهم، والمدائح النبوية حافلة بمثل هذا التوسل وهذا يعني تأثر الناس بالمدائح النبوية وبما تحويه، فعند «وقوع الطاعون كثر الزعم برؤية النبي صلى الله عليه وسلم» «4» . وكثر تشفعهم به ليرفع الله تعالى عنهم الوباء.
وقد مرت معنا أمثلة كثيرة على توسل مادحي النبي به، ليرتفع عنهم وباء الطاعون، وليرتد الغزاة الذين يريدون محو العروبة والإسلام.
لذلك نجد المدائح النبوية حافلة بالاستغاثة، معبرة عن اعتقاد أهل ذلك العصر في جدوى التوسل والاستغاثة، وقد عبر شاعر يدعى (أحمد بن عبد الرحمن الدهلوي) عن هذا الاعتقاد في قوله:
إذا ما أتتني أزمة مدلهمّة
…
تحيط بنفسي من جميع جوانبي
(1) السخاوي: الضوء اللامع 1/ 202.
(2)
المصدر نفسه 3/ 245.
(3)
المصدر نفسه 11/ 94.
(4)
ابن إياس: بدائع الزهور 3/ 286.
تطلّبت هل من ناصر أو مساعد
…
ألوذ به من خوف سوء العواقب
فلست أرى إلّا الحبيب محمّدا
…
رسول إله الخلق جمّ المناقب
ملاذ عباد الله ملجأ خوفهم
…
إذا جاء يوم فيه شيب الذّوائب «1»
ومن اعتقادهم بجدوى التوسل والتشفع جاء اعتقادهم بالمدائح النبوية كلها، وبتأثيرها على ناظمها وسامعها، فبالإضافة إلى كونها أدبا، غدت عندهم نوعا من أنواع النصوص الدينية التي تجلب تلاوتها المنافع، وغدا إنشادها ضربا من التعبد، فوصفت الباعونية المدح النبوي بقولها:«المدح النبوي شعار أهل الصلاح، وسيما أهل الفلاح، وهو ممّا يتنافس فيه المتنافسون، ويدأب فيه المخلصون، إذ هو من أعظم وسائل النجاح، وسبب لمضاعفة الأرباح» «2» .
فالباعونية تعد المدح النبوي دليل صلاح المشتغلين به، وهو وسيلة للنجاح والمغفرة في الدنيا والآخرة، كما يوضح المثال الذي جاءت به، وهو بردة البوصيري، فقالت عنها:«المشهورة في مجال التسمية بالبردة، لا بل هي الترياق المجرب لكشف الشدة، التي حكم لها بالسبق، والحق الحق أنها لا تلحق» «2» .
فهي تشير إلى اعتقاد الناس ببردة البوصيري، التي تشفي من الأمراض، وتفرّج الكروب، وهي تذهب إلى أن تأثير البردة ثابت ومجرب، وهذا عائد إلى قصة نظم.
البردة التي رواها البوصيري، فقد أخبر أن المرض أقعده، ولم يفلح معه دواء، فمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصيدته المشهورة، فرآه في المنام، وخلع عليه بردته، فنهض في الصباح، وقد عوفي من مرضه «3» .
(1) اليمني الشرواني: حديقة الأفراح ص 157.
(2)
ديوان الباعونية، ورقة 21.
(3)
ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 368.
ولذلك انتشرت هذه القصيدة انتشارا عظيما، وزاد اعتقاد الناس بمنافعها، فعندما علم الوزير بهاء الدين ابن حنا، وهو معاصر للبوصيري، بقصة البردة، «أخذها، وحلف ألّا يسمعها إلا قائما حافيا، مكشوف الرأس
…
ثم بعد ذلك أدرك سعد الدين الفارقي «1» الموقّع رمد، أشرف منه على العمى، فرأى في المنام قائلا يقول له: اذهب إلى الصاحب، وخذ البردة، واجعلها على عينيك، فتتعافى بإذن الله عز وجل، فأتى إلى الصاحب، وذكر منامه
…
فأخذها سعد الدين، ووضعها على عينيه، فعوفي» «2» .
ومع تقدم الزمن أخذ الاعتقاد بالبردة يشتد ويقوى، واحتفل بها المتصوفة أيما احتفال، «ولم يكتف بعض المسلمين بما اخترعوا من قصص حول البردة، بل وضعوا لقراءتها شروطا لم يوضع مثلها لقراءة القرآن، منها التوضؤ، واستقبال القبلة، والدقة في تصحيح ألفاظها وإعرابها، وأن يكون القارئ عالما بمعانيها» «3» .
لذلك شاعت وقرئت في جميع المناسبات، واتّخذت منها تمائم وتعاويذ، وعورضت كثيرا، ونسجت قصص أخرى مشابهة لقصة نظمها، فتعزز الاعتقاد بالمدح النبوي وأثره.
ومن القصص المشابهة لقصة نظم البردة، قصة نظم الحلي لبديعيته، إذ أراد- كما روى- أن يؤلّف «كتابا يحيط بجلّ أنواع البديع، فعرته علّة طالت مدّتها، واشتدت
(1) سعد الدين الفارقي: سعد الله بن مروان الكاتب البارع، كان بديع الكتابة معنى وخطا، توفي بدمشق سنة (691 هـ) ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 5/ 418.
(2)
ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 369.
(3)
ديوان البوصيري ص 29.
(4)
المصدر نفسه ص 30.
شدتها، فاتفق أنه رأى في منامه رسالة من النبي صلى الله عليه وسلم، يتقاضاه المدح، ويعده البرء من سقمه، فعدل عن تأليف ذلك الكتاب إلى نظم قصيدة تجمع أشتات البديع، وتتطرز بمدح محتده الرفيع» «1» .
ولهذا نجد أبا بكر بن القنائي «2» ، يغبط شعراء المدح النبوي بقوله:
هنيئا لمدّاح النّبيّ محمّد
…
وإن قصّروا عن واجب المدح والشّكر
لقد سعدوا دنيا وأخرى بمدحه
…
وفازوا وقد حازوا به أعظم الأجر «3»
فمادحوا النبي الكريم حازوا سعادة الدنيا والآخرة، أملوا سعادة الآخرة، لأنهم اعتقدوا اعتقادا جازما بأن مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم سيجلب لهم شفاعته، وهي جائزتهم على المدح، ومغفرة الله تعالى لهم، لأنهم أثنوا على حبيبه، وأحسوا بسعادة الدنيا، لأنهم مقتنعون بمنافع المدح النبوي، وبأثره في كشف الكرب وإزالة الهم، ولأنهم يشعرون بحلاوة الإيمان ونشوة التقوى، وراحة الطاعة، ولهذا وصف ابن عربشاه «4» المدح النبوي بقوله:
ولقد شكوت إلى طبيبي علّتي
…
ممّا اقترفت من الذّنوب الجانية
وصف الطّبيب شراب مدح المصطفى
…
فهو الشّفا فاشرب هنيئا وعافية «5»
لقد أضحى المدح النبوي دواء للخلاص من الذنوب، وإن كان التشبيه يشي بما كان
(1) ديوان الحلي: ص 685.
(2)
أبو بكر بن محمد بن شافع القنائي: فقيه أقام بمصر سنين يشتغل بالفقه والفرائض والحساب، ثم رجع إلى قنا، له نظم ونثر، توفي سنة (694 هـ) . الأدفوي: الطالع السعيد ص 378.
(3)
الأدفوي: الطالع السعيد ص 738.
(4)
ابن عربشاه: عبد الوهاب بن أحمد بن محمد، فقيه محدّث، كتب الخط الحسن، وناب في قضاء دمشق والقاهرة، عرف بنظمه لمسائل العلوم، له (شفاء الكليم مدح النبي الكريم) . السخاوي: الضوء اللامع 5/ 97.
(5)
السخاوي: الضوء اللامع 5/ 98.
سائدا، وهو الاعتقاد بقدرة المدائح النبوية على الشفاء من الأمراض، ويدل على ذلك قول أحمد بن عبد المعطي (من أهل القرن الثامن) :
أعظم بأمداح نبيّ الهدى
…
حبل اعتلاق وشفاء اعتلال «1»
فالمدح النبوي عندهم حبل اتصال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو وسيلة اتصال معه، وهو أيضا شفاء لعلل الجسم والنفس، وطريق إلى المغفرة، أو كما قال السيواسي «2» :
إذا ما كنت تهوى خفض عيش
…
وأن ترقى مدارج للكمال
فدع ذكر الحميّا والمحيّا
…
وآثار التّواصل والمطال
وكن حبسا على مدح المفدّى
…
رسول الله عين ذوي الكمال
فإنّ لديه ما يرجى ويهوى
…
جميل الذّكر مع جزل النّوال «3»
فالشاعر يرى أن المدح النبوي يميل بصاحبه إلى العيش الرغيد الهني، والرقي نحو الكمال، ويجعل ذكر صاحبه جميلا بين الناس، إضافة إلى النوال الجزيل الذي يناله من الله تعالى وهو المغفرة، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الشفاعة.
وقد رويت قصص كثيرة حول المغفرة لأصحاب المدائح النبوية، منها أنه بعد وفاة لسان الدين بن الخطيب «حكى غير واحد أنه رئي- رحمه الله بعد موته، فقيل: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بسبب بيتين، وهما:
يا مصطفى من قبل نشأة آدم
…
والكون لم تفتح له أغلاق
(1) المجموعة النبهانية: 3/ 340.
(2)
السيواسي: محمد بن عبد الواحد بن مسعود، يعرف بابن الهمام، محدث علامة، درّس وأفتى وأفاد، اشتهر أمره وعظم ذكره، توفي بالقاهرة سنة (861 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 8/ 129.
(3)
السخاوي: الضوء اللامع 8/ 132.
أيروم مخلوق ثناءك بعد ما
…
أثنى على أخلاقك الخلّاق» «1»
هذه المنامات أضفت على المدح النبوي قداسة عند الناس، وجعلتهم يعتقدون بكراماته، ويتعلقون بنظمه وسماعه وإنشاده وتدارسه، ويوقنون بالمغفرة جزاء ذلك.
فالنواجي قال في إحدى مدائحه النبوية:
وطوّقتني بالجود منك وبالنّدى
…
فطائر سعدي فيك بالمدح ساجع
وأرجو بفضل الله ربح بضاعتي
…
إذا كسدت يوم الحساب البضائع «2»
ولهذا حرص المقري على إدراج أكبر قدر من المدائح النبوية في كتابه (نفح الطيب)، وقال في ذلك:«فهذه عدة قصائد في مدحه صلى الله عليه وسلم، أرجو من الله- سبحانه- أن تكون مكفّارة لما ارتكبته على وجه الفخر والشهرة من الهزل واللغو» «3» .
وقال أيضا: «ولا بأس أن نعززها بمقطوعات تكون للتكفير زيادة، وحق لمن توسل بسيد الوجود صلى الله عليه وسلم ألاتضيع وسائله» «4» .
فالمقري يرى في إدراج المدائح النبوية في كتابه مكفّرا لزلاته، فكيف بمن ينظم هذه المدائح؟
ويعد البوصيري أكثر الشعراء تعبيرا عن هذا المفهوم لأثر المدائح النبوية، فلم تخل قصيدة من قصائده النبوية من الإشادة بالمدح النبوي وأثره، وبيان ما يحوزه ناظمه وسامعه من نعيم الدنيا والآخرة، فقد افتتح إحدى مدائحه النبوية بقوله:
بمدح المصطفى تحيا القلوب
…
وتغتفر الخطايا والذّنوب
(1) المقري: أزهار الرياض 1/ 319.
(2)
المجموعة النبهانية: 2/ 354.
(3)
المقري: نفح الطيب 7/ 505.
(4)
المصدر نفسه: 7/ 506.
وأرجو أن أعيش به سعيدا
…
وألقاه وليس عليّ حوب
يفرّج ذكره الكربات عنّا
…
إذا نزلت بساحتنا الكروب
مدائحه تزيد القلب شوقا
…
إليه كأنّها حليّ وطيب «1»
فما أجمل هذا المطلع، وما أحلى هذه الثقة المطلقة بالمدح النبوي، الذي يحيي القلوب الغافلة، التي أماتها حب الدنيا وبهرجها. لقد ارتاح البوصيري إلى المدح النبوي، الذي جعل حياته سعيدة، وأزاح كروبه، وجعله متيقنا من مغفرة الله لذنوبه، فهل يطمح الإنسان إلى أكثر من هذا؟
لقد وصل تأثير المدح النبوي عند الناس، والاعتقاد به، إلى جعل المدائح النبوية وسيلة لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقد قال السخاوي عن شاعر يدعى ابن العليف:
«بلغني أن له قصيدة نبوية، أودعها في ديوان له، مشتمل على قصائد غالبها صوفية، أولها:
هذا النّبي الذي في طيبة وقبا
…
له النّبوّة تاج والقرآن قبا
وقال: أنه ما قرأها أحد ليلة الجمعة عشر مرات إلا رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه» «2» .
وروى الوتري قصة رؤياه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد إتمام ديوانه (معدن الإضافات)، فقال: «لقد كنت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فراغي من تبييضها، وهي في يده صلى الله عليه وسلم، ومعه جماعة من أصحابه.. فكان يقول: انظروا بأي شيء مدحت، وما قيل فيّ، فعلمت أنها وقعت منه صلى الله عليه وسلم بموقع، فاستيقظت مسرورا بما أعطاني الله تعالى
…
وبعد ما يقارب ثلاث سنين، كنت أردد نظري فيها، وأزيدها ترقيقا وتنقيحا.. ثم رقدت باقي الليل فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول لي: إنّ الله قد شفّعني في أهلك وزوجك وخادمك
(1) ديوان البوصيري: ص 83.
(2)
السخاوي: الضوء اللامع 5/ 298.
وفي جميع أصحابك مشيرا إليّ بمسبحته، فاستيقظت وبي من الفرح والسرور ما لا يعلمه إلا الله تعالى» «1» .
فنظم المدح النبوي جعل الوتري يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ثلاث مرات، بعد فراغه من ديوانه، وبعد كل تنقيح أو زيادة يجريها عليه، أفلا تجعل هذه الروايات الناس يعتقدون بقصائد المدح النبوي، وبأثرها في المشتغلين بها، فيحرصون على المشاركة في فن المدح النبوي، ولو كانت هذه المشاركة سماعا، أو تشجيعا للقادرين على النظم والإنشاد؟
ومن هذه الروايات ما قيل عن ابن زقاعة بعد نظمه لمدحة نبوية: «وليلة فراغها قال في سره: يا سيدي يا رسول الله، قد مدحتك بقصيدة، وقد تمّت، وأريد منك خلعة، فلما كان في صبيحة تلك الليلة، أتاه رجل وأخبره أنه رآه في النوم في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينشدها، وخلع عند فراغه منها، عليه، فخلع الشيخ رحمه الله جبة كانت عليه، وألبسها للرجل المبشر» «2» .
ومن آثار المدائح النبوية على الناس في ذلك الوقت، أنفعالهم بها في مجالس الإنشاد على طريقة المتصوفة، فإنهم يستغرقون في ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتواجدون لسماع مدائحه تأثرا بالمعاني التي ترد فيها، وبطريقة إنشادها مثلما حصل لابن سيد الكل «3» ، الذي «حضر درس ابن بنت الأعز، فأنشد شخص قصيدة نبوية، فصرخ هو على العادة، وأنكر القاضي ذلك عليه، فقال: هذا شيء ما تذوقه أنت، وقام وترك الفقاهة والمدرسة» «4» .
(1) الوتري: معدن الإفاضات ص 3.
(2)
ديوان ابن زقاعة، ورقة 12.
(3)
ابن سيد الكل: الحسين بن علي بن أيوب الأسواني، ففيه متصوف درّس وأفتى، توفي سنة (739 هـ) . ابن حجر: الدرر الكامنة 2/ 60.
(4)
ابن حجر: الدرر الكامنة 2/ 60.
وإلى جانب الراحة التي يلاقيها المشتغلون بالمدائح النبوية، فإنهم يعتقدون جازمين بأثرها في حياتهم في الدنيا، وبفضلها على تجاوزهم لأزماتهم، وهي كذلك تبعدهم عن الحاجة إلى الناس وسؤالهم في المدح، إضافة إلى الثواب والأجر والمغفرة في الآخرة، وهذا ما عبر عنه النواجي في قوله:
وصنت عن الخليقة حرّ وجه
…
بهم ما زال في تعب وعتب
ليصفو بامتداح علاك عيشي
…
ومن جدوى يديك يطيب كسبي
وأنقل في الثّرى من ضيق لحد
…
لقصر في ذرا الجنّات رحب
فنيت فليس فيّ سوى لسان
…
بذكرك يا جميل الذّكر رطب «1»
وإذا كان هذا الشاعر قد وجد في المدح النبوي ما يقيه من ذل السؤال، ويوسع في رزقه، إضافة إلى الثواب والمغفرة، ولهذا تعلّق بالمدح النبوي، وأوقف عليه حياته، فإن شاعرا آخر، هو ابن أبي اليسر «2» وجد من بركة المدح النبوي ما دفع عنه ثقل دينه، فقال: «كان قد ركبني دين فوق عشرة آلاف درهم، وبقيت منه في قلق، فرأيت في النوم والدي، فشكوت إليه ثقل الدين، فقال: امدح النبي.. فقلت: قدري يعجز عن مدحه صلى الله عليه وسلم، فقال: امدحه يوفي الله عنك دينك، فعملت وأنا نائم، فقلت:
أجد المقال وجدّ في طول المدى
…
فعساك تظفر أو تنال المقصدا
هي حلبة للمدح ليس يجوزها
…
بالسّبق إلّا من أعين وأسعدا
قال: فانتبهت، فأتممت القصيدة، فوفّى الله عني ديني في تلك السنة» «3» .
فالاعتقاد بقدرة المدائح النبوية على تخليص الناس من كربهم كان قويا، يدل عليه هذا الانتشار الكبير لهذا الفن الشعري، فليس غريبا أن يعتقد مادح للنبي صلى الله عليه وسلم بأن سداد دينه جاء ببركة مدحه للنبي الكريم، فالشعور بالرضا هو ما يلازم مادحي رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1) المجموعة النبهانية 1/ 649.
(2)
ابن أبي اليسر: إسماعيل بن إبراهيم، تقي الدين مسند الشام. توفي سنة (672 هـ) . الصفدي: الوافي بالوفيات 9/ 73.
(3)
اليونيني: ذيل مرآة الزمان 3/ 44.