الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ففي هذه الصلوات والتوسلات التي ينظمها الشاعر وهو في غاية الانفعال والوجد، لا يستطيع أن يقف عند الشكل، ويقلّد سابقيه، أو يحدد خطواته، فموضوعها لا يسمح بأن يكون لها مقدمة وخاتمة، وانتقال بين المواضيع التي تحويها القصيدة، لأن الوسيلة لا تحوي إلا موضوعا واحدا، لذلك جاءت موحدة الشكل متميزة عن باقي المدائح النبوية.
القيود الشكلية:
ومن المسائل الهامة في الشكل الشعري عند شعراء المدائح النبوية، مسألة القيود التي يقيد بها الشاعر نفسه قبل نظم قصيدته، كأن يتقيد بعدد الأبيات سلفا، وينظم عددا من القصائد، يرتبها حسب تسلسل حروف الهجاء، ويبدأ كل بيت من القصيدة بحرف القافية، فيضيق على نفسه، ويحملها عسرا، فتفتقد إلى الرواء والرونق والنضارة والشاعرية، وتصبح شكلا هندسيا متقنا، يحسبه الشاعر بدقة، ويحرص على ألا يعتوره أي خلل.
ويتضح ذلك من تقديم الوتري لديوانه (معدن الإفاضات)، إذ قال:«مدحوه صلى الله عليه وسلم بقصائد على حروف الهجاء، وعزوها إلى المعشرات والعشرينيات، ولم يتعرضوا فيها للوتر، والله وتر يحب الوتر، فعملت هذه القصائد على واحد وعشرين بيتا» «1» .
فالوتري يوضح أن بعض شعراء المديح النبوي قد أولعوا بمثل هذه الأشكال الشعرية، وأنهم صنعوا قصائد على عدد حروف الهجاء، كل قصيدة تتألف من عشرة أبيات، وهي المعشرات، أو تتألف من عشرين بيتا، وهي العشرينيات، وأنه يريد أن يشارك في مثل هذا اللون من قصائد المديح النبوي، لكنه يريد زيادة بيت على القصائد
(1) الوتري: معدن الإفاضات ص 5.
العشرينيات وهو الوتر، ففعل ذلك ونظم قصائد بعدد حروف الهجاء، ورتبها الترتيب الأبجدي، وزاد على ذلك فبدأ كل بيت من قصائده بحرف القافية، فحصر نفسه بقيود شكلية لا تسمن ولا تغني، ولا تضيف شيئا بديعا إلى الشكل أو المعنى، وكل همّه وهمّ أمثاله من الشعراء، هو إثبات المقدرة على تكوين مثل هذه القصائد، التي جاءت عند الوتري على النحو التالي:
أصلّي صلاة تملأ الأرض والسّما
…
على من له أعلى العلا متبوّأ
أقيم مقاما لم يقم فيه مرسل
…
وأضحت له حجب الجلال توطّأ «1»
وقال على حرف الباء:
بنور رسول الله أشرقت الدّنا
…
ففي نوره كلّ يجيء ويذهب
براه جلال الحق للخلق رحمة
…
فكلّ الورى في برّه يتقلّب «2»
ويظل الشاعر ينتقل من قصيدة إلى قصيدة، يضع معانيه في قوالب دقيقة، رسمها في ذهنه مسبقا، لا يحيد عنها حتى ينهي حروف الهجاء نظما وترتيبا.
ومن الطريف في هذا الباب مدحة نبوية للكندي الدشناوي «3» ، بدأ كل بيت من أبياتها بحرف من حروف الهجاء مرتبة ترتيبا أبجديا، فقال:
أبيت سوى مدح خير الورى
…
فأصبح نظمي وثيق العرا
بروحي صفات تحلّي القريض
…
وتسكبه ذهبا أحمرا
(1) الوتري: معدن الإفاضات ص 6.
(2)
المصدر نفسه: ص 6.
(3)
الكندي الدشناوي: محمد بن أحمد بن عبد الرحمن، فقيه عالم فاضل، أديب شاعر، نظم فأحسن وكتب فأجاد، أفتى وحدث وأفاد، توفي سنة (722 هـ) . الأدفوي: الطالع السعيد ص 269.