الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول نشأة المدح النبوي
القسم الأول: المديح والرثاء والمديح النبوي:
المدح فن عريق من فنون الشعر العربي، وأكثرها تناولا عند شعراء العربية، منذ عرف الشعر العربي على صورته المعروفة، فيه تبارى الشعراء وتفاضلوا، وفيه كان معاشهم.
وقد وقف المهتمون بالشعر العربي قديما وحديثا مواقف متباينة من فن المديح، فمنهم من أشاد به لأنه يؤثر في حياة العرب، وينشر الفضائل العربية ويحبّذها، وينهى عن النقائص الذميمة، ويدعو إلى اجتنابها. ومنهم من انتقد المديح وهاجمه، لأنه يجعل الشعر مرتبطا بأولي الأمر، ولا يلتفت إلى عامة الناس، ولأنه يجانب الصدق في أوصاف الممدوح، ويجافي الحقيقة في أعماله، ويضفي على الممدوح فضائل لا يستحقها.
والمدح وصف لأخلاق الممدوح، وإشادة بفضائله، وبيان لميزاته، وحمد لأفعاله، وقد ذهب به شعراء العربية كل مذهب للدواعي القوية التي تدفع إليه، فالشاعر المنقطع إلى الشعر، المتفرغ له لا يوجد أمامه سبيل للعيش إلا عطاء الموسرين، وهؤلاء لا يقدمونه إلى الشاعر لبراعته الفنية، ولكن جزاء مدحه لهم، فكان الشاعر مضطرا إلى مدح ذوي الجاه والسلطان وذوي المال والغنى.
ولا يقتصر إقدام الشاعر على مدح رجل أو قوم رغبة في المال، بل قد يمدح خوفا من بطش أو اتقاء لشر، أو يمدح لسبب سياسي، فعندما يميل إلى مذهب سياسي، يشيد برجاله، ويظهر حسن مذهبهم، وقد يمدح لسبب ديني، كما هو معروف في مدح آل
البيت ومدح بعض رؤساء المذاهب الدينية، وربما مدح لإعجابه بالممدوح فقط، دون أن يطمح من وراء مدحه إلى مال أو جزاء.
وهكذا تنوع المديح وتنوعت دواعيه، فأفرغ فيه الشعراء ما جادت به قرائحهم، وما جمعته عقولهم. وتلون بألوان مختلفة في كل عصر وفي كل بيئة، ووفق قدرات كل شاعر واستعداداته، ولم يكن تكرارا مملا على مر العصور، بالإضافة إلى أن قصيدة المدح كانت تجمّل بالغزل الرقيق، وبذكر الديار والأحبّة وبوصف الطبيعة، وبكثير من أحوال النفس الإنسانية في فرحها وترحها، وفي صفائها وتعقيدها، إلى جانب ما يودعها الشاعر من خلاصة تجاربه في الحياة، ونظرته إليها في قالب حكم ومواعظ.
وقد جرت العادة في الجاهلية أن يتوجه الشعراء إلى الرجال البارزين بالمدح والثناء، وخاصة إذا كان الممدوح من رجال قبيلة الشاعر، وكان المدح يدور حول القيم الجاهلية التي اعتز بها العربي من شجاعة وكرم وطيب المحتد، وشرب الخمر، والمقدرة على الغزو والسلب والسبي إلى غير ذلك من القيم التي اقتضتها البيئة الجاهلية، وعندما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم اتجهت إليه أنظار العرب في الجزيرة العربية، وانقسموا اتجاه رسالته السماوية ما بين مؤيد لها ومؤمن بها، ومتنكر لها كافر بها، فالجاحد لهدي النبي الأمين هاجمه وأظهر الخوف على القيم الجاهلية التي تحفظ امتيازاته، والمصدق المؤمن توجه بالمدح إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. ومن هنا نشأ المدح النبوي، وافترق عن غيره من المدح لأنه مرتبط بذات النبي المصطفى والنبي صلى الله عليه وسلم يختلف عن غيره من البشر.
فشخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم العظيمة، شغلت العرب وبهرتهم، فاتجه الشعراء إليه بالمدح كما فعل الأعشى وغيره من شعراء الجاهلية، وكما فعل الشعراء المسلمون الذين آمنوا بدعوته، وانضووا تحت رايته.
ومن ثم نشأ الجدل حول الشعر، والمدح منه خاصة، واختلف الناس في إباحة
الشعر وفي موقف الإسلام منه، وقد نقل عن الإمام الشافعي أنه قال:«إن إنشاء الشعر وإنشاده غير مذموم، والدليل عليه النص والمنقول» و «الشعر كلام حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، غير أنه كلام باق سائر، فذلك فضله على الكلام» «1» .
فالرسول صلى الله عليه وسلم سمع الشعراء، وأجازهم على مدحهم، فكانت الخنساء تقدم على رسول الله و «كان يستنشدها، ويعجبه شعرها، وكانت تنشده، وهو يقول: هيه يا خناس، ويومئ بيده صلى الله عليه وسلم» «2» .
وروي أن النبي الكريم «خرج علي كعب بن مالك «3» وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينشد، فلما رآه كأنه انقبض، فقال: ما كنتم فيه؟ فقال كعب: كنت أنشد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنشد، فأنشد» «4» .
فالنبي الأمين لم يكن يكره الشعر، ولم يكن يحارب المدح، لكنه كان يحارب فيه الكذب والتزيّد كما أوضح ذلك الأبشيهي في قوله:«أما قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم المادحين، فاحثوا في وجوههم التراب) . فقد قال العتبي «5» : هو المدح الباطل والكذب، وأما مدح الرجل بما فيه، فلا بأس به، وقد مدح أبو طالب والعباس وحسان وكعب وغيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما يبلغنا أنه حثا في وجه مادح ترابا وقد مدح هو صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم» «6» .
(1) العيد روسي: النور السافر ص 146 وكتاب الأمم للشافعي: 6/ 207.
(2)
العباسي: معاهد التنصيص 1/ 353.
(3)
كعب بن مالك بن عمرو الأنصاري: صحابي شاعر من شعراء النبي صلى الله عليه وسلم شهد أكثر الوقائع، له ديوان شعر مجموع. توفي نحو (50 هـ) . الصفدي: نكت الهميان ص 22.
(4)
الأصفهاني: الأغاني 16/ 232، وصحيح مسلم: 4/ 2297.
(5)
العتبي: محمد بن عبد الله بن عمرو الأموي، أديب كثير الأخبار، حسن الشعر، من أهل البصرة، له عدة تصانيف شعرية، توفي (228 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 2/ 65.
(6)
الأبشيهي: المستطرف 1/ 299 وصحيح مسلم، كتاب الشعر: 4/ 1766.
فموقف الإسلام من المديح مرتبط بالغاية من المديح وبصدقه، وليس بمبدأ المديح ذاته، ولذلك هجر الشعراء المسلمون من أغراض الشعر ومعانيه ما لا يتفق مع روح الإسلام وتعاليمه، وأبقوا على ما لا يتعارض مع الإسلام، وما يحث على الفضائل والعمل الصالح، ومن ذلك مدح الرسول الكريم وأصحابه.
وقد أبقى الإسلام على الكثير من القيم الجاهلية، ونمّاها، وأكسبها دلالات جديدة تغاير دلالاتها في الجاهلية، فلم تبق الشجاعة والاستبسال في القتال من أجل التباهي والتفاخر والسلب والنهب وإنما أصبحت من أجل رفع كلمة الله، والاستشهاد في سبيله. ولم يبق الكرم للتفاخر وإظهار المقدرة، وإنما أضحى لمساعدة الإخوة في الدين، وللتعبير عن التضامن الاجتماعي، وهكذا. فمديح النبي الكريم في حياته، كان حبا به وإعجابا بشمائله، ونصرة لرسالته، وإن أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم على مدحه، فإنه استن سنة في أمته. وظلت دوافع المديح النبوي هذه عند الشعراء بعد أن انتقل إلى جوار ربه، وزادت على ذلك، إذا ابتغى الشعراء الأجر والثواب عند الله تعالى، وطلبوا المغفرة والرحمة، وأرادوا أن يقدموا لعصورهم المثل الأعلى للإنسان الكامل، ليقتدوا به، ويتبعوا سنته الغراء، ولإصلاح أوضاع خاطئة في مجتمعاتهم، فظلت دوافع مديحهم له تختلف عن دوافع المديح لسائر الخلق، وخلص لهم الصدق وحرارة العاطفة التي يؤججها الإيمان والحب، ولا يشوبها الرياء وطلب النوال، وقد نصّ على ذلك شعراء المديح النبوي، فقال البرعي:
إذا مدح المدّاح أرباب عصرهم
…
مدحت الذي من نوره الكون يبهج
وإن ذكروا ليلى ولبنى فإنّني
…
بذكر الحبيب الطّيّب الذّكر ألهج
«1»
(1) ديوان البرعي: ص 212.
وأكد شعراء المديح النبوي أنهم لا يطلبون من مديحهم إلا وجه الله تعالى، وأن مديحهم هذا قد رفعهم إلى مكانة سامية، فقال الطرائفي «1» :
مديح رسول الله أشرف مدحة
…
إلّا أنّه الهادي الشّفيع المعظّم «2»
وقال أيضا:
علوت مقاما بامتداحي لسيّدي
…
وعلّقت آمالي بتلك المطامع «3»
وقد مدح الشعراء الرسول المختار بإظهار صفاته الكريمة وشمائله الطيبة، ومكانته السامية، وأفعاله الميمونة، وكان حيا بينهم، لكن مدحه صلى الله عليه وسلم لم ينقطع بموته، فظل الشعراء يمدحونه إلى يومنا هذا، وكأنه حي يسمع ويجزي، ولم يسم هذا المديح رثاء أو ما يشابه الرثاء.
والسبب في ذلك أن الأدباء خلطوا بين المديح والرثاء، فقالوا: إن الرثاء مدح للميت، ولم يفرق ابن رشيق بين المديح والرثاء إلا بالقرينة، فقال:«ليس بين الرثاء والمدح فرق، إلا أنه يخلط بالرثاء شيء يدل على أن المقصود به ميت، مثل- كان- أو- عدمنا به كيت وكيت- وما يشاكل هذا ليعلم أنه ميت» «4» .
وهذا الفهم للمديح والرثاء يعني أن الرثاء فرع من المديح، وأنه تطور عنه، لكنه لا يقدّم تفسيرا للحرقة واللوعة والحزن، أو البكاء والنحيب، ولا يقتضي التفجع وإظهار الأسى.
(1) الطرائفي: جمال الدين عبد الكريم بن ضرغام، من أدباء النصف الثاني من القرن التاسع الهجري، له ديوان (أبكار الأفكار في مدح النبي المختار) . سركيس: معجم المطبوعات العربية 7/ 1234.
(2)
الطرائفي: نفح الطيب في مدح الحبيب ص 50.
(3)
المصدر نفسه: ص 51.
(4)
ابن رشيق: العمدة 2/ 147.
وهناك فهم آخر للرثاء يذهب إلى أنه «تطور عن تعويذات كانت تقال للميت، وعلى قبره، حتى يطمئن في لحده، وبمر الزمن تطور الرثاء عندهم إلى تصوير حزنهم العميق إزاء ما أصابهم فيه الزمن في فقيدهم» «1» .
وإذا وجدنا ضربا من الرثاء يشيد بفضائل الميت وصفاته، فهو إما أن يكون وليد حزن ولوعة، تحيل الماضي إلى حقيقة ماثلة أمام عين الشاعر.. وإما أن يكون ذلك الرثاء سردا لصفات الفقيد فقط، دون أن يلمس جانب الحزن واللوعة في نفس الشاعر، وهو بذلك قد يقترب من المديح، ولكنه يبتعد عن أصالة الرثاء الحقيقي «2» .
وقد فصّل الدارسون في طبيعة الرثاء، وقسّموه إلى ثلاثة أقسام، هي الندب والتأبين والعزاء الذي هو الصبر، فالندب هو «بكاء الأهل والأقارب حين يعصف بهم الموت» «3» .
والشاعر ينظم قصائد يبثها لوعة قلبه وحرقته على موت بعض أهله، العزيزين على قلبه، وربما ندب الشاعر غير أهله. إذا كانوا ينزلون منه منزلة النفس والأهل، ومن ذلك ندب فاطمة- رضي الله عنها لأبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها:
اغبرّ آفاق السّماء وكوّرت
…
شمس النّهار وأظلم العصران «4»
وقول صفيّة بنت عبد المطلب عمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ندبه:
عين جودي بدمعة تسكاب
…
للنّبيّ المطهّر الأوّاب
واندبي المصطفى فعمّي وخصّي
…
بدموع غزيرة الأسراب
(1) السلطي، د. عبد الحفيظ: ديوان أمية بن أبي السلط ص 275.
(2)
المصدر نفسه: 258.
(3)
ضيف، شوقي: الرثاء ص 5.
(4)
ابن رشيق: العمدة 2/ 153.
عين من تندبين بعد نبيّ
…
خصّه الله ربّنا بكتاب «1»
أما التأبين فهو أدنى إلى الثناء منه إلى الحزن الخالص، وهو تصوير لخسارة الناس في كبير، «ومن هنا كان التأبين ضربا من التعاطف والتعاون الاجتماعي، فالشاعر فيه لا يعبّر عن حزنه هو، وإنما يعبّر عن حزن الجماعة، وما فقدته في هذا الفرد المهم من أفرادها، ولذلك يسجل فضائله ويلحّ في هذا التسجيل، وكأنه يريد أن يحفرها في ذاكرة التاريخ حفرا، حتى لا تنسى على مرّ الزمن» «2» ، ويقرب من هذا التحديد قول كعب بن زهير «3» في رثاء النبي الكريم:
فجعنا بخير النّاس حيّا وميتا
…
وأدناه من ربّ البريّة مقعدا
وأفظعهم فقدا على كلّ مسلم
…
وأعظمهم في النّاس كلّهم يدا
لقد ورثت أخلاقه المجد والتّقى
…
فلم تلقه إلّا رشيدا ومرشدا «4»
وهكذا يظهر لنا أن الشعر الذي يقال في ميت يسمى رثاء، لكنه في رسول الله صلى الله عليه وسلم مديح. وكأن في ذلك ما دلّ على أنه موصول الحياة، لأن شريعته لا زالت حيّة، ويمكن أن يكون ما يقال في الميت مدحا إذا كان ذلك بعد الموت بزمن طويل، أما إذا قيل عقب الموت فهو رثاء، وإن التقت المعاني، وتشابهت، وكذلك الأمر في مضمون الشعر الذي يقال في الميت، فإذا غلب عليه التفجّع والأسى والبكاء يظل رثاء، وإن تطاول به الزمن، أما إذا كان ثناء محضا وإشادة خالصة، وذكرا للفضائل، فإنه يقرب من المديح ويكون في رسول الله صلى الله عليه وسلم مديحا لا غير.
(1) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 329.
(2)
ضيف، شوقي: الرثاء ص 6.
(3)
كعب بن زهير بن أبي سلمى، شاعر مخضرم، أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه فجاءه مستأمنا، ومدحه بلاميته المشهورة (بانت سعاد) ، فعفا النبي صلى الله عليه وسلم عنه وخلع عليه بردته، توفي سنة 26 هـ. ابن سلام: طبقات الشعراء ص 67.
(4)
ديوان كعب بن زهير ص 198.
فأسس التفريق بين الرثاء والمديح هي الزمن، وهو المدة التي تفصل وقت قول الشعر عن وقت الوفاة، والمضمون، وهو البكاء والندب في الرثاء، والثناء والحمد في المديح، والممدوح، فرسول الله صلى الله عليه وسلم امتاز عن باقي البشر، فامتاز الشعر الذي قيل فيه بعد وفاته عن غيره من الشعر الذي قيل في سواه.
فالشعر الذي قاله الصحابة بعد وفاة الرسول الهادي رثاء له، وإن التقى في معانيه مع شعر قيل في زمن آخر، وهذا الشعر الذي نحن بصدد الحديث عنه هو مديح خالص.
والسبب في هذا التداخل هو أن الناس اعتادت على تعريف التقريظ أنه «مدح الرجل حيا، والتأبين مدحه ميتا» «1» .
فالتقى التقريظ والتأبين في أن كلا منهما مدح، ولذلك تشابه الأمر على بعض الأدباء، فلم يفرّقوا بين رثاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه، ومنهم النبهاني «2» حين صنع مجموعته، فإنه قال:«افتتحت هذه المجموعة بنظم الصحابة فيه صلى الله عليه وسلم وقسمته إلى قسمين، الأول: المراثي، والثاني المديح» «3» .
ومجموعته مقصورة على المدائح النبوية، ولذلك أدرج المراثي معها دون أن يفرق بينها أو ينبّه على ذلك.
وقد لاحظ محقق ديوان كعب بن مالك أن «المسلك الذي اتبعه كعب في رثائه هو
(1) ابن السيد البطليوسي: الاقتضاب في شرح أدب الكتاب ص 158.
(2)
النبهاني: يوسف بن إسماعيل بن يوسف، شاعر أديب من رجال القضاء، ولد في فلسطين، وتعلم بالأزهر، وعمل في تحرير جريدة الجوانب في الأستانة، وتنقل في أعمال القضاء ببلاد الشام له تصانيف كثيرة في الحديث والفقه والأدب منها (المجموعة النبهانية في المدائح النبوية) . وله دواوين خاصة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي سنة (1350 هـ) . الزركلي: الأعلام 8/ 218.
(3)
المجموعة النبهانية 3/ 32.
نقل ما كان يقوله في المديح من عالم الأحياء إلى عالم الأموات.. بالإضافة إلى ذلك، كان يظهر أثر فقد المرثي في الناس والمجتمع» «1» .
والدليل على مسلك كعب هذا قوله:
أيا عين فابكي بدمع ذرى
…
لخير البريّة والمصطفى
وبكّي الرّسول وحقّ البكا
…
عليه لدى الحرب عند اللّقا
على خير من حملت ناقة
…
وأتقى البريّة عند التّقى
على سيّد ماجد جحفل
…
وخير الأنام وخير اللها «2»
فهذه المعاني في مجملها معاني مديح، وقد رددّها شعراء المديح النبوي إلى يومنا هذا، ونلحظ هذا التوجه عند حسان بن ثابت أيضا في رثائه للرسول الكريم فهو يقول:
نبّ المساكين أنّ الخير فارقهم
…
مع النّبيّ تولّى عنهم سحرا
من ذا الذي عنده رحلي وراحلتي
…
ورزق أهلي إذا لم يؤنسوا المطرا
كان الضّياء وكان النّور نتبعه
…
بعد الإله وكان السّمع والبصرا «3»
هذا النوع من الرثاء الذي يجمع بين الحزن لوفاة الرسول الكريم وبين الإشادة بفضائله الكريمة وأخلاقه السامية، وبيان أثره في الإنسانية، هو الذي جعل مفهومي المديح والرثاء يتداخلان، لكن رثاء الرسول الكريم لم يكن كله على هذه الصورة، فإننا نجد مقطوعات كثيرة لأهله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اقتصرت على الرثاء الخالص، وصوّرت الحزن لوفاته، والبكاء عليه، ومن ذلك ما روي عن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه:
(1) ديوان كعب بن مالك ص 114.
(2)
المصدر نفسه: ص 173.
(3)
ديوان حسان بن ثابت ص 220.
لمّا رأيت نبيّنا متجندلا
…
ضاقت عليّ بعرضهنّ الدّور
وارتعت روعة مستهام واله
…
والعظم منيّ واهن مكسور
أعتيق ويحك إنّ حبّك قد ثوى
…
وبقيت منفردا وأنت حسير «1»
فرثاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته، شارك المديح في تكوين أساس لشعراء المدائح النبوية وعن هذا الأساس أخذوا الكثير من المعاني والأفكار، وعرفوا كيفية مخاطبة الرسول الكريم، أو الحديث عنه شعرا، كما استقوا كثيرا من الألفاظ والتعابير.
ووفق هذه المقاييس سار شعراء المديح النبوي، وتحرروا من إشكال الرثاء والمديح، ولم يعد يدور في خلدهم أنهم يرثون، أو أن مديحهم للرسول الكريم به ما يميزه، فهم اطمأنوا إلى أنهم يمدحون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة عند معرفتهم لبعض الأحاديث عن حياة الرسول الأمين وردّه السلام على من يسلم عليه «2» .
والغريب أننا لا نعدم رثاء للرسول الكريم بعد مضي مدة طويلة على وفاته، بل وبعد قرون طويلة، استدعى التأليف الرثاء، ففي كتاب (سلوة الكئيب في وفاة الحبيب) نجد قصيدة في رثاء النبي الكريم منها:
لله هذا الموت لم يبق ذا
…
تقوى لتقواه ولا ذا اجترام
ولو يحاشي أحدا في الورى
…
حاشى نبيّ الله خير الأنام
(1) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 320.
(2)
رويت عدة أحاديث مشكوك فيها حول حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره، منها «إن الله ملكا أعطاه سمع العباد، فليس من أحد يصلي عليّ إلا أبلغنيها» ، وأورد البيهقي في كتاب حياة الأنبياء:«إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلّون بين يدي الله عز وجل حتى ينفخ في الصور. ومنها: «أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبر بعد ثلاث» . السيوطي: اللآلي الموضوعة في الأحاديث الموضوعة: ص 147 و 148.