الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخّر، وأنقص وزاد، واستبدل شيئا بشيء، وهناك من اكتفى بنظم المقطوعات الصغيرة في المدح، دون أن يأخذ مدحه النبوي شكل القصيدة الرسمي، ومنهم من مال إلى التشطير والتخميس والتسديس، وغير ذلك من الأشكال الشعرية التي تقوم على تلوين شكل القصيدة المعروف، وهناك من استخدم الموشحات في المدح النبوي، ومنهم من فتن بقيود الشكل المتصوّرة سلفا، ووصل المدح النبوي إلى أشكال التعبير الشعبي، والنظم الملحون، بالإضافة إلى تفرّد بعض المدائح النبوية بفضل مضمونها، أو بسبب النظم والمعارضة، وكل ذلك التنوع ناتج عن سيرورة المديح النبوي وانتشاره، وانفعال الناس جميعا به، وحرصهم على المشاركة في نظمه، كل حسب مقدرته واستعداداته وميوله النفسية.
الوزن والقافية:
إن المدائح النبوية تنوعت في وزنها تنوع أوزان الشعر العربي وأشكال نظمه، فبحور الشعر العربي المعروفة استخدمها شعراء المدائح النبوية بأشكالها وتنوعاتها، إضافة إلى الموشح والفنون الشعرية المحدثة بأوزانها الجديدة، لكن تعبيرها الملحون جعلنا نبعدها عن بحثنا هذا.
وقد أشار النقاد العرب إلى هناك ارتباطا بين وزن القصيدة وموضوعها، فقصائد المدح تحتاج إلى وزن طويل كثير التفاعيل، يسمح بالإسهاب والإطناب، والذهاب في القول كل مذهب، غير أن هذا الأمر لم يكن مطردا في المدح النبوي، فمادحو النبي الكريم استخدموا الأوزان الرشيقة الخفيفة مثل استخدامهم للأوزان الطويلة.
والوزن أو الموسيقا أو الإيقاع، هو أهم مميزات الشعر، ومعيار تفرده عن غيره من فنون القول، واللغة في الأساس أصوات موسيقية، تخرج بنغمات مختلفة، وحين تتجمع الكلمات في العبارة تكتسب جرسا موسيقيا زيادة على ما كانت عليه الكلمة من
اجتماع أصواتها أو حروفها، وخاصة عند تشابه الكلمات في الوزن والإيقاع أو تجانس فقرتين في عدد الكلمات ووزنها، أو في تجانس الكلمتين الأخيرتين من كل فقرة.
فمبعث الجمال في موسيقا الشعر، يرجع إلى الانسجام الذي يدرك بالسمع، وهذا يؤثر في السامع، فيجتمع تأثير المعنى والصورة مع تأثير الإيقاع الموسيقي في الشعر، فيكون للشعر الوقع المميز في النفس، وهذا يكون على أشده إذا كان الموضوع تهفو إليه النفس، ويحرك مكامن الارتياح فيها، مثل الموضوع الديني ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي تهفو إليه الأفئدة، وترتاح لذكره القلوب، لذلك كان إنشاد هذا الشعر في مجالس الذكر موقّعا، مشحونا بطاقة موسيقية كبيرة، وربما صاحبته الآلات الموسيقية حين يفتقر إلى الإيقاع الظاهر، ولهذا كان لا بد للشعراء الذين ينظمون هذا الفن الشعري من أن يوجهوا عنايتهم إلى الإيقاع في شعرهم، فكانت أشهر قصائد المدح النبوي هي التي تملك إلى جانب التصرف الجيد في المعاني، طاقات إيقاعية ظاهرة، لا تتأتى من الوزن الشعري الخارجي فقط، وإنما من الإيقاع الداخلي المعتمد على حسن اختيار الألفاظ وترتيبها، وانسجام عناصر القصيدة جميعها، مثل بردة البوصيري وبعض قصائده الآخرى.
وقد حازت الموسيقا في شعر هذا العصر على اهتمام الشعراء، فنوّعوا في طريقة أداء القصائد، وأكثروا من التقطيع والجناس، ليزيدوا من الإيقاع، وعمدوا إلى التخميس والتسبيع وغير ذلك، ليمنحوا قصائدهم طاقة موسيقية زائدة، تلائم الإنشاد والغناء في مجالس ذكرهم، ومحافل أعيادهم.
وأظهر شعراء المدائح النبوية هذا الاهتمام، وأبدوا معرفتهم بالوزن الشعري والعروض، فاستخدموا مصطلحات العروض في تعبيرهم- كما مرّ معنا- ومثل قول النواجي:
واها لتقطيع قلب ظلّ يسبح في
…
عروض بحر جفاء ما له سبب «1»
(1) المجموعة النبهانية: 1/ 262.
وقوله:
كأنّه بيت شعر في عروض جفا
…
مقطّع عملت فيه التّفاعيل «1»
وقول ابن ظهيرة القرشي «2» :
بسيط حبّي فيهم وافر وكذا
…
سريع دمعي على الخدّين مطلول
وكامل الوجد لا ينفكّ في رمل
…
طويله لمديد القطع مشكول «3»
والأمثلة على ذلك كثيرة، تبيّن استظهار شعراء المدائح النبوية لعلم العروض، ودراستهم له، ومعرفتهم بأسراره ومصطلحاته، فلم يعد الشعر يقال على السليقة، وإنما تدرس العلوم التي تحكم مكوّناته، من لغة ونحو وعروض وبلاغة، ولذلك نظم العلماء الشعر، ومن لم يؤت موهبة شعرية، لأنه درس العروض، واستطاع إقامة أوزانه، ولهذا قيل آنذاك في هؤلاء الذين يكتفون في نظمهم بعنصر الوزن فقط:
إن كنت لا تدري سوى الوزن وحده
…
فقل أنت وزّان وما أنت شاعر «4»
إن استخدام شعراء المدح النبوي للأوزان الشعرية المعروفة لم يخرج عمّا تواضع عليه شعراء العرب، إلا أنهم كانوا يتفاوتون في إظهار إيقاع الأوزان الشعرية وطاقاتها الموسيقية، بسبب أسلوب كل شاعر ومقدرته الفنية، فبعض الشعراء كانوا ينظمون الأحاديث والروايات، فلا يكاد الوزن يستبين، لولا التشطير والقافية، مثل بعض مقاطع البوصيري التي ينظم فيها السيرة، أو يجادل في مسألة دينية، ومنها قوله في همزيته:
يا لأمر أتاه بعد هشام
…
زمعة إنّه الفتى الأتّاء
(1) المجموعة النبهانية: 3/ 147.
(2)
ابن ظهيرة القرشي: محمد بن عبد الله بن ظهيرة المخزومي المكي، فقيه محدث مشارك في فنون العلم، انتهت إليه رياسة الشافعية ببلده، ولقّب عالم الحجاز، توفي سنة (817 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 8/ 92.
(3)
المصدر نفسه: 3/ 139.
(4)
ابن حجة: خزانة الأدب ص 348.
وزهير والمطعم بن عديّ
…
وأبو البختريّ من حيث شاؤوا
نقضوا مبرم الصّحيفة إذ شد
…
دت عليهم من العدا الأنداء
أذكرتنا بأكلها أكل منا
…
ة سليمان الأرضة الخرساء «1»
وقد يأتي البطء في الأسلوب، وضعف الإيقاع الشعري من طول اشتغال الشاعر بالنثر والعلوم الآخرى، مثل الشهاب محمود الكاتب المشهور، والذي نظم ديوانا في المدح النبوي، فظل أثر اشتغاله بالكتابة ظاهرا في شعره، وخاصة حين يميل إلى النظم، ومن ذلك قوله في مقدمة مدحة نبوية:
كلّ يوم تنوي الرّحيل مرارا
…
ثم تغدو تلفّق الأعذارا
وتديم الأسى وأنت الذي فر
…
رطت حتى صار اللّقاء ادكارا
وتوالي البكاء والدّمع لا يد
…
ني إذا ما قعدت منك المزارا
ثم لا ضعف إذا حثّك الشّو
…
ق إلى القرب شامك الأقطارا
ودخول في السّنّ كدّر في عي
…
نك إدراكه الأمور الكبارا «2»
فالنثرية تخيم على هذا الشعر، وتقلل من حدة إيقاعه.
ويزيد هذا الميل إلى النثرية في قصيدة لشاعر من القرن التاسع يدعى (الحكيم الرشيدي الأسلمي) قيل إنها من بحر (السلسلة) ، يكاد الوزن فيها لا يستبين، ومنها قوله:
يا سعد لك السّعد إن مررت على البان
…
عرّج فضيا البدر في المنازل قد بان
(1) ديوان البوصيري: ص 55، الأنداء: جمع نادي.
(2)
الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 96.
قل صبّ من الصّبّ مدمع وإذا ما
…
أقبلت على الحيّ حيّ دارا وسكّان
دار جمع الله شملها بنبيّ
…
من خير نزار ومن معدّ وعدنان «1»
وبحر السلسلة من «بحور الشعر المولّدة التي استحدثت في العصر العباسي، حينما أحكمت أواصر الصلة بين العرب والفرس، واطلعوا على آدابهم وشعرهم، ولبحر السلسلة وزنان:
الأول: تن مستفعلن مستفعلن
والثاني: فعلن فعلاتن مستفعلن فعلاتن» «2» .
فهذا البحر الذي يندر استخدامه، والذي يلائم الحديث والروايات على ضعف في إيقاعه الموسيقي، اختاره الشاعر ليأخذ حريته في بسط القول في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يعد جديدا نوعا ما، مثلما عدّ الأدباء قول ابن الوردي المضمّن شطرا من قصيدة للبهاء زهير:
يا ألطف مرسل كريم
…
(ما ألطف هذه الشّمائل)
من يسمع لفظها تراه
…
كالغصن مع النّسيم مائل
من بحر جديد اخترعه البهاء زهير، وزنه (فعلن متفاعلن فعولن) ، إلا أن الصفدي أرجعه إلى البحر الوافر، وقال:«دخل فيه العقص، وهو اجتماع الخرم والنقص، فيخلفه مفعول بتحريك اللام، فيصبح وزنه (مفعول مفاعلن فعولن) » «3» .
فشعراء المدح النبوي الذين حرصوا على ذكر الروايات والمعجزات، والمحافظة
(1) المجموعة النبهانية: 4/ 217.
(2)
ابن الحنبلي: در الحبب، حاشية ص 1/ 116.
(3)
الخفاجي: نسيم الرياض 1/ 130، والصفدي: الغيث المسجم 1/ 56.
على ألفاظها، جاءت قصائدهم خافتة الجرس، بطيئة الإيقاع، باهتتة الموسيقا، وكذلك قصائد الشعراء العلماء الذين لم يعانوا النظم طويلا، ولم يمتلكوا موهبة شعرية كبيرة، وطال اشتغالهم في علومهم، فقصائدهم تميل إلى النثرية وأدى قصرهم للروايات على الدخول ضمن الشكل الشعري إلى الإخلال بائتلاف المعنى مع الوزن، الذي يقتضي أن «تأتي المعاني في الشعر على صحتها، لا يضطر الشاعر الوزن إلى قلبها عن وجهها، ولا خروجها عن صحتها» «1» .
لكن شعراء المدح النبوي لم يكونوا جميعا على مثل هذه الحال، فكان كثير منهم أصحاب مواهب كبيرة أصيلة، وكانوا يذهبون في شعرهم مذاهب الشعراء الذين سبقوهم، فنظموا الأراجيز، والقصائد ذات البحور القصيرة الرشيقة، مثل قول الصرصري من مشطور الرجز:
الحمد لله على الجسيم
من فضله المختصّ والعميم
أرشدنا للمنهج القويم
بعبده ذي المنظر الوسيم
محمّد ذي الخلق العظيم
عليه منه أفضل التّسليم «2»
فالإيقاع واضح، والوزن ظاهر، والموسيقا بارزة، تشد السامع وتجعله يترنّم بالقصيدة.
(1) ابن أبي الإصبع: تحرير التحبير: ص 223.
(2)
ديوان الصرصري: ورقة 94.
ومثل هذا قصيدة أخرى للصرصري، تسيل عذوبة، وتطفح بالموسيقا الشعرية التي تتأتى من الوزن وعلاقة الألفاظ واختيارها، بدأها بقوله:
أغراه بنجد لوّمه
…
فبدا ما كان يكتمه
لو لاقى منه معنّفه
…
ما لاقى أصبح يرحمه
أنّى يلحق صبّ قلق
…
مشغوف القلب متيّمه
إنّ المغرى بهوى طلل
…
لقتيل مطلول دمه «1»
والقصيدة كلها على هذا النحو من رشاقة اللفظ وخفة الوزن وعذوبة القافية الملائمة للإنشاد، تزيد السامع نشوة على نشوة المعنى، يجتمع فيها الفن الشعري الأخّاذ والمعاني القريبة من النفس، والتي تثير شجونها ومكامن الانفعال فيها.
وللصرصري مدائح أخرى مماثلة، تجمع خفة الوزن وعذوبة اللفظ ورشاقته، ويظهر أن الصرصري وجد في الأوزان الخفيفة ما يلبي حاجة الإيقاع الداخلي في نفسه، وما يلائم مجالس الإنشاد، مثلما وجد في البحور الطويلة ما يعبّر عن أفكاره، ويتسع للمعلومات الكثيرة التي أودعها مدائحه النبوي، ومن المرجح أن الإنشاد ومجالسه قد جعل شعراء المدح النبوي يجنحون في قصائدهم نحو أشكال تلبي حاجة المنشدين، وتفي بما تتطلبه هذه المجالس، لذلك أخذوا ينظمون قصائدهم على الأوزان الخفيفة، ويقطّعون أبياتها تقطيعات إيقاعية، يسهل معها إنشادها بمصاحبة الآلات الإيقاعية.
ومن هذه القصائد قصيدة للبوصيري، يقول فيها:
الصّبح بدا من طلعته
…
واللّيل دجا من وفرته
فاق الرّسلا فضلا وعلا
…
أهدى السّبلا لدلالته
(1) المجموعة النبهانية: 4/ 53.
كنز الكرم مولى النّعم
…
هادي الأمم لشريعته
نال الشّرفا والله عفا
…
عمّا سلفا من أمّته «1»
فلم يكتف البوصيري بالوزن فقط، وإنما زاد على ذلك، فقطع كل شطر إلى جزئين، وجعل للبيت قافية داخلية بالإضافة إلى القافية العامة التي تنظم الأبيات، فجعلها مموسقة موقعة، وكأنه وضع في ذهنه كيف ستنشد، أو أنه وضعها لتلبي حاجة مجالس الإنشاد.
وقد اقتربت قصيدة البوصيري من التشريع الذي عرف في ذلك العصر، وهو أن «يا بني الشاعر بيته على وزنين من أوزان القريض وقافيتين، فإذا أسقط من أجزاء البيت جزآ أو جزأين، صار ذلك البيت من وزن آخر غير الأول» .
ومثّل ابن حجة لهذا الضرب من الشعر من بديعيته وبديعيات غيره، فقال مثل قولي في البديعية:
طاب اللّقا لذّ تشريع الشّعور لنا
…
على النّقا فنعمنا في ظلالهم
فأخذ منه:
طاب اللقا على النقا
…
وهو من منهوك الرجز «2»
فالتشريع يحتاج إلى جهد ذهني كبير، وإلى موازنة وملاءمة، وتصنّع شديد ليستقيم للشاعر الوزن الذي يمكن استخراج وزن آخر منه، وبقافية جديدة، وهذا ما لم يفعله الشعراء واكتفوا بالتقطيع الداخلي مثلما فعل البوصيري، وفعل ابن الموصلي في مدحته النبوية التي يقول فيها:
(1) ديوان البوصيري: ص 275.
(2)
ابن حجة: خزانة الأدب ص 119.
لولاه ما طلعت شمس ولا غربت
…
كلّا ولا دحيت أرض ولا سطحت
ولا السّماء سحّت ولا الجبال رست
…
ولا البحار طمت ولا الصّبا نفحت
ولا الحياة حلت ولا الغيوث همت
…
ولا الجنان زهت ولا لظى لفحت «1»
وإذا لم يتسن للشاعر نظم قصيدة لها خصائص القصائد السابقة، جاء إلى قصيدة قديمة فزاد عليها، وهذه الزيادة تقوي جرسها الموسيقي، وتهيئها لمجالس الذكر ومنشدي المدائح، وتتأتى هذه الزيادة بالتخميس أو التسبيع أو غير ذلك من التغييرات التي أجراها الشعراء على القصائد النبوية المشهورة وعندما وجدوا ما تحدثه هذه الإضافات من إقبال على مثل هذه القصائد، نظموا قصائدهم على هذه الأشكال، ومن التخاميس، تخميس على قصيدة للفزاري، جاء فيه:
هو المصطفى المحبوب طبعا وقربة
…
تقدّس ذاتا ثم قبرا وتربة
أقول وأعنيه هوى ومحبّة
…
أحبّ رسول الله شوقا وحسبة
لعلّي غدا عن حوضه لا أحّلأ «2»
ومن التسديس قول ابن العطار:
صلّوا بأجمعكم على شمس الهدى
…
صلّوا على بدر يزين المشهدا
صلّوا عليه فمن رآه تشهّدا
…
صلّوا عليه به الرّشاد تمهّدا
أرضى النّزيل وبيّن التنزيلا
…
صلّوا بكرة وأصيلا «3»
(1) الصفدي: الوافي بالوفيات 1/ 267.
(2)
الفزازي: ديوان الوسائل المتقبلة ص 6.
(3)
المقري: نفح الطيب 7/ 487.
ويستطيع القارئ أن يلحظ بسهولة أن هذه الأشكال الشعرية، وإن كانت كل قصيدة منها على وزن واحد فإنها تحمل طاقة موسيقية أكثر من القصيدة العادية، وهذا ناتج عن التقطيعات الداخلية، وعن تنوع القوافي داخل القصيدة الواحدة بتكرار منسجم، يشعر السامع بترتيب إيقاعي معين، يدخل البهجة إلى نفسه.
ومن التنويع في وزن المدائح النبوية، الموشح الذي وجد ليلحن وينشد بمصاحبة الآلات الموسيقية، وهو يلائم مجالس الإنشاد والاحتفالات الدينية، التي أصبح من لوازمها قيام المنشدين بالترنم بقصائد دينية ومدائح نبوية، لذلك كان لا بد للوشاحين من أن يجعلوا المدح النبوي أحد موضوعات موشحاتهم، لأن المدح النبوي انتشر انتشارا عظيما، وشارك به كل من آنس في نفسه مقدرة على النظم، وفق ميوله وإمكاناته.
ومن موشحات المديح النبوي موشح لابن الملحمي الواعظ، قال فيه:
وترى الأعين تجري بانفساح
…
دمعها الدّفّاق
زائدات فوق أمواه البطاح
…
تبلغ الأعناق
أرتجي ربّي ويكفين الرّجا
…
فهو الغفّار
والنّبيّ المصطفى بدر الدّجا
…
أحمد المختار
مرشد الخلق إلى سبل النّجاح
…
طاهر الأعراق
ذا النّدى بحر العطايا والسّماح
…
طيّب الأخلاق «1»
فالميل إلى الإنشاد والموسيقا، جعل شعراء ذلك العصر يفتشون عن تنويع في الأوزان، يناسب احتياجاتهم ولذلك نشأت لديهم فنون شعرية ملحونة، مثل الزجل والمواليا، ولكل منها وزن معروف خاص به، أو عدة أوزان ولها قواف متعددة، «فمنها
(1) ابن شاكر فوات الوفيات: 4/ 112.
ما يكون له وزن واحد وقافية واحدة، وهو الكان وكان، ومنها ما يكون له وزن واحد وأربع قواف، وهو المواليا، ومنها ما يكون له وزنان وثلاث قواف، وهو القوما، ومنها ما يكون له عدة أوزان وعدة قواف، وهو الزجل» «1» .
ومن يقرأ هذه الفنون في أيامنا هذه لا يستطيع أن يقيم وزنها، ولا يستطيع قراءتها على الوجه الذي وضعت فيه، فإن هذه الفنون وضعت لتلحن، أو وضعت على مقياس ألحان معروفة، فلولا الموسيقا لما فهمت، ولما عرف المقصود منها، ولما ظهرت لها أية مسحة من جمال، ولا ستغربنا كيف أغرم أهل ذلك العصر بمثل هذه الفنون.
وقد استخدم أهل العصر المملوكي هذه الفنون أو بعضها في المديح النبوي، مثل الششتري الذي اقتصر ديوانه على الأزجال العامية والموشحات التي تميل إلى العامية، وكلها في التصوف ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك لابن زقاعة زجل ملحون في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل مضمونه مثل مضمون المدحة النبوية، ووفق تسلسل المواضيع فيها «2» .
وكانوا يسمون ما تضمّن مدحا نبويا من هذه الفنون مكفرا، لأنهم كانوا يعارضون به ما قيل في الغزل أو الخمر، يكفرون به ما أثموا بغزلهم وذكرهم للخمر.
فالمديح النبوي نظم وفق جميع الأشكال الشعرية التي كانت معروفة في العصر المملوكي، ولم تقتصر على شكل معين، ولم تقتصر على وزن واحد، فأوزان الشعر العربي المعروفة نظمت بها المدائح النبوية، وكذلك الموشح والفنون الملحونة، وحاول شعراء المدائح النبوية الإفادة من كل عناصر الإيقاع والموسيقا في اللغة وأوزانها، ليفوا بحاجة المنشدين ومجالس الذكر.
(1) الحلي: العاطل الحالي ص 2.
(2)
ديوان ابن زقاعة، ورقة 26.
ولم يكن التنويع الذي حاول شعراء المدائح النبوية إجراءه على قصائد المديح النبوي في الوزن فقط، بل بالقافية أيضا، التي تمنح الشعر العربي جرسا موسيقيا إضافيا، ولذلك وجدنا قسما من الحركة الإيقاعية الذي تولد في المخمسات وغيرها، يرجع إلى تنوع القوافي وترتيبها على نحو معين، وألزم بعض شعراء المدائح النبوية أنفسهم بنظم قصائد رتبوا قوافيها ترتيبا هجائيا كما مر معنا، ونظموا قصائد بعدد حروف الهجاء جعلوا كل قصيدة على حرف منها، وتكلّفوا لذلك، وكدّوا أذهانهم في تحصيل القوافي وملاءمتها لمقاصدهم، فألزموا أنفسهم بما لا يلزم، وهو لزوم يختلف عن اللزوم المعروف في قوافي الشعر العربي، والذي لم تخل منه قصائد المدح النبوي، مثل قول الشرف الأنصاري في مدحة نبوية، مظهرا فيها لونا من اللزوم:
قف بنجد وهضابه
…
وابغ رضوان غضابه
وانشدن لي فيه قلبا
…
غال صبري بانقضابه
حلّه جمر الغضا مذ
…
حلّ جيران الغضابه «1»
فالالتزام نوع من أنواع تلوين القوافي، يظهر فيها الشاعر مقدرته، وسعة معرفته باللغة، وهو من فنون الصنعة والتصنع التي يدلّ بها الشاعر على أقرانه، ويتكلف لإتمام قوافيه، كما نلاحظ في مقطوعة الشرف الأنصاري التي جاءت القافية فيها غامضة في البيت الأول وملفقة في البيت الثالث، ولا يوجد ما يلزمه بأن يفعل ذلك.
ومن لزوم ما لا يلزم قول الصفي الحلي:
بكم يهتدي يا نبيّ الهدى
…
ولي إلى حبّكم ينتسب
به يكسب الأجر في بعثه
…
ويخلص من هول ما يكتسب
(1) ديوان الشرف الأنصاري: ص 84.
وقد أمّ نحوك مستشفعا
…
إلى الله ممّا إليه نسب
سل الله يجعل له مخرجا
…
ويرزقه من حيث لا يحتسب «1»
واللزوم لا يجمّل القافية، إن لم يكن يسيء إليها، فجمال القافية في أن تكون عفوية معبرة، متمّمة للمعنى متمكّنة، وقد رأينا في الأمثلة الكثيرة التي مرّت معنا عددا من القصائد، يعود جمال تعبيرها إلى قوافيها، ورأينا القصائد المتكلفة، تأتي بعض قوافيها لإقامة الوزن، واتساق قوافي القصيدة، ليس أكثر، فلا تتم معنى ولا تحسن وقع الصياغة في النفس، وخاصة عندما يختار الشاعر قافية صعبة، يعسر عليه الإطالة فيها، لذلك يستعين بالمعجم ليأتي بألفاظ قلّ استخدامها، فبدت غريبة، عسيرة الفهم، مثل قول الصرصري:
لمن المطايا في رباها تنفخ
…
كالفلك تعلو في السّراب وترسخ
حملت على الأكوار كلّ مشمّر
…
للمجد عن طلب العلا لا يربخ
يا سيّد البشر الكريم نجاره
…
يا من بنسبته سما متشولخ «2»
ومثل هذه القوافي كثيرة في المدح النبوي، لأن بعض الشعراء نظموا مدائح نبوية على حروف الهجاء جميعها كما أسلفنا، ولذلك اضطروا إلى البحث المضني عن القوافي التي تفي بحاجتهم، وتكلفوا إثباتها.
ومن هؤلاء ابن دريهم الثعلبي «3» ، الذي نظم قصيدة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤلفة من ثلاثين بيتا، تقرأ على حروف المعجم كلها، وهو يظن أنه بذلك قد صنع ثلاثين
(1) ديوان الحلي: ص 86.
(2)
ديوان الصرصري: ورقة 28.
(3)
ابن دريهم الثعلبي: علي بن محمد بن عبد العزيز الموصلي، كان تاجرا عالما، درس في الجامع الأموي، وعمل في ديوان الأسرى، بعث رسولا إلى الحبشة، فمات في قوص سنة (762 هـ) ، له نظم وسط، كثير التعسف والتكلف. ابن حجر: الدرر الكامنة 3/ 106.
قصيدة في قصيدة واحدة، وليتمّ له ذلك، وليتغلب على مشكلة الوزن والقافية، حاول الاحتيال لذلك، والاجتهاد في إخراج كلمات القافية على ما جوّزه علماء العروض، فأتت القصيدة في غاية التكلف والتصنع، بدأها بقوله:
إذا لم أزر قبر النّبيّ محمّد
…
وأسعى على رأسي فإني مرجأ- معنّاه- أعتب- معنّت
نبيّ له فضل على كلّ مرسل
…
وآياته في الكون تتلى وتنشأ- وبشراه- تطرب- تنعت
رقى في السّماوات والعلا فتشرّفت
…
به ودنا من قاب قوسين ينبّأ- قرباه- اقترب- يثبت «1»
ويمضي هكذا في قصيدته حتى ينهي أبياته الثلاثين، وبعد نهاية كل بيت يثبت ثلاثين قافية بديلة، وكأن القافية هي تحصيل حاصل، يمكن أن يأتي الشاعر بأية كلمة لها وزن مناسب وتنتهي بحرف القافية، ويثبتها، أما ارتباط القافية بمجمل كلمات البيت، وبالمعنى والصياغة والتعبير الشعري، فإنه أمر لا يعتد به.
وهذه نتيجة الاتجاه نحو الصنعة المتكلفة، والشكلية الطاغية التي طبعت شعر بعض من شاركوا في نظم المدح النبوي.
إلا أن هذه الشكلية في قوافي قصائد المدح النبوي، على الرغم من وجودها الظاهر، لم تطغ على المدح النبوي كله، فظل القسم الأكبر من المدائح النبوية طبيعيا في قوافيه، وبعضها وصل إلى حدّ الروعة في الخفة والطلاوة، والانسجام مع عناصر القصيدة كلها، مثل قصيدة البوصيري التي مطلعها:
الصّبح بدا من طلعته
…
واللّيل دجا من وفرته «2»
ومثل قول الشهاب محمود:
(1) ابن دريهم الثعلبي: قصيدة في مدح الرسول، ورقة 2.
(2)
ديوان البوصيري: ص 275.
وكيف تخاف النّفس من دونها الرّدى
…
وذاك النّبيّ الهاشميّ خفيرها
محمّد المبعوث للخلق رحمة
…
نبيّ الهدى هادي الورى ونذيرها
وشافعها في الحشر عند إلهها
…
ومنقذها من ناره ومجيرها «1»
ولا تفوتنا الإشارة إلى أن شعراء المدح النبوي تابع بعضهم بعضا في قوافي قصائد المديح النبوي التي عورضت كثيرا، فقوافي قصيدة كعب بن زهير ترددت طويلا في قصائد المدح النبوي، وكذلك قوافي بردة البوصيري، وقوافي يائية ابن الفارض، فالمعارضة جعلت الشعراء يرددون قوافي بعينها، لا يحيدون عنها، وهذا ما أوقع بعضهم في الجمود، وخاصة بعد أن نشأت البديعيات التي التزم ناظموها قافية الميم المكسورة وهي القافية التي بنى عليها البوصيري قصيدته، وكذلك التزموا بوزن قصيدته، وهو البحر البسيط، حتى أضحى هذا الوزن وهذه القافية من ثوابت البديعيات التي لا يغادرها ناظموها، فارتبطت بالمدح النبوي عامة.
فالمدائح النبوية ارتبطت بأوزان الشعر العربي المعروفة، والتي انطلقت بعد ذلك إلى تشكيلات وزنية مختلفة، وإلى الأوزان التي عرفها أهل العصر، لم تتحجّر أوزانها إلا في البديعيات.
أما قوافيها، فإن الشكلية فيها كانت أكبر، تمثلت في لزوم ما لا يلزم، وفي نحت القوافي وتكلفها عند نظم القصائد على حروف الهجاء، وفي البديعيات أيضا.
وبعيدا عن هذه الشكلية، حلّق بعض شعراء المديح النبوي في أوزان قصائدهم وإيقاعاتها وموسيقاها وقوافيها، فتكامل شكلها الفني، واتحد مع موضوعها السامي، لتكون من غرر قصائد هذا العصر، ومن غرر قصائد الشعر العربي، التي استمر الناس في إنشادها واستذكارها، والانفعال بها.
(1) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 17.