الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصنعة الخيالية:
ولو أتينا إلى الخيال في المدح النبوي، لوجدناه متّسعا، حلّق فيه شعراء المدائح النبوية إلى آفاق رحبة، وسبحوا في عالم الملكوت، وخاصة أصحاب الميول الصوفية منهم، الذين رحلوا بأرواحهم إلى عالم الغيب والشهادة، فجسدوه برموزهم وإشاراتهم التي تستغلق على من لم يسر في طريقتهم، وتذوق مواجدهم، ومثال ذلك قول العفيف التلمساني في حديثه عن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس إلى الهدى:
نادى قريشا خصوصا والأنام به
…
يعني عموما فصمّوا في مناديه
ما أقبح الشّكل في مرآة أعينكم
…
إذ كلّكم شخصه فيها يلاقيه
تا لله لو صدقت منكم عزائمكم
…
عن كلّ قصد صحيحات دواعيه
إذا لشاهدتم بي حقائقكم
…
ما يدرك الميّت المعنى فيحييه
فصار ما كان قبحا في نواظركم
…
حسنا يدين بدين العشق واليه «1»
وكذلك الأمر في الحديث عن اليوم الآخر، إذ اعتمد الشعراء على ما جاء في القرآن الكريم والحديث الشريف من وصف ليوم القيامة، ولما سيجري به، إضافة إلى الروايات الغيبية التي حملت بعض شعراء المدح النبوي إلى التحليق بخيالهم إلى مشاهد ذلك اليوم العظيم وتخيّله، مثل قول البرعي:
وللمرء يوم ينقضي فيه عمره
…
وموت وقبر ضيّق فيه يولج
ويلقى نكيرا في السّؤال ومنكرا
…
يسومان بالتّنكيل من يتلجلج
ولا بدّ من طول الحساب وعرضه
…
وهول مقام حرّه يتوهّج
(1) ديوان العفيف التلسماني، ورقة 214.
وديّان يوم الدّين يبرز عرشه
…
ويحكم بين الخلق والحقّ أبلج
فطائفة في جنّة الخلد خلّدت
…
وطائفة في النّار تصلى فتنضج «1»
هذه المشاهد، والتي هي من مضمون المدحة النبوية، أطلقت لشعراء المدائح النبوية الخيال، فاتسعوا في فنون التشبيه والاستعارة، واستحضروا مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومواقعه، وبعثوا الحياة فيها، مثل قول الشهاب محمود في مدحة نبوية:
وكأنّي بين هاتيك الرّبا
…
أنظر الأملاك والصّحب الكراما
وأرى في المسجد الهادي ومن
…
خلفه أصحابه الغرّ قياما «2»
فالشاعر عندما وصل إلى المعاهد النبوية المشرّفة، حلّق بخياله إلى الزمن الذي كانت تشهد فيه حركة الصحابة الكرام والملائكة الأبرار، وكان فيه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرا بنوره، يحيط به أصحابه.
وأفاض شعراء المديح النبوي في التشبيه والتخيل في قصائدهم، يوضحون من خلاله معانيهم، ويزيدونها عمقا وتأثيرا، ومنهم البوصيري الذي بدا مغرما بالتشبيه والتمثيل في مدائحه النبوية، ومن ذلك قوله:
واقطع حبال الأماني التي اتّصلت
…
فإنّما حبلها بالزّور موصول
فإنّ أرواحنا مثل النّجوم لها
…
من المنيّة تسيير وترحيل
فلو ترى كلّ عضو من كماتهم
…
مفصّلا وهو مكفوف ومشكول
كأحرف أشكلت خطا فأكثرها
…
بالطّعن والضّرب منقوط ومشكول
(1) ديوان البرعي ص 211.
(2)
الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 28.
وكلّ بيت حكى بيت العروض له
…
بالبيض والسّمر تقطيع وتفصيل
وداخلت بالرّدى أجزاءه علل
…
غدا المرفّل منها وهو مجزول
كأنّهم في محاريب ملائكة
…
وفي حروب أعاديهم رآبيل «1»
فهنا نرى مدى احتفال البوصيري بالتشبيه، في البيت الأول شبّه تواصل الأماني بحبل، والحبل مربوط بالزور، ليدل على استمرار هذه الأماني وتتابعها دون انقطاع، وهذه الأماني هي التي تجعل الإنسان في غفلة عن الطاعة، لذلك يطلب الشاعر من الغافل أن يقطع حبل الأماني، وأن يتوقف عن تعلقه بزخارف الدنيا. وهذا التشبيه أعطى المعنى وضوحا وقوة، وقرّبه إلى ذهن السامع، حين شبه المعقول بالمحسوس.
وفي البيت الثاني شبه الأرواح بالنجوم، ليعرف المتلقي من حركة النجوم وغيابها كيف تتحرك الأرواح وترحل وزاد في طرافة الصورة وجمالها أن النجوم تلمع وتخفق في فضاء رحب، وتكتنفها الأسرار في سيرها وظهورها واختفائها، لا يعلم حركتها غير مدبر الكون وخالق الأرواح، والتي هي من أمر الله تعالى.
وفي الأبيات الثلاثة التالية، وصف البوصيري معارك المسلمين، وما حل بالمشركين بعدها، فقد قطعت أوصالهم وتبعثرت، وتخرمت بيوتهم المنون، فشبه ذلك كله بالكتابة الغامضة المحتاجة إلى إعجام، فرفع غموضها بالتنقيط والشكل، وهنا نقلنا إلى مصطلحات الكتابة، مستعينا بها على تكوين صورة فنية، يوضع خلالها الحال التي كانت عليها جثث المشركين في أرض المعركة، ولكن كيف يفهم الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة هذه الصورة، وكيف يتخيلها؟
البوصيري يريد مجاراة أهل عصره، وإظهار مقدرته على إطرافهم، ولذلك حين يتابع ليظهر أثر هذه المعارك على بيوتات قريش، يربط بين البيت وهو العائلة هنا وبين
(1) ديوان البوصيري ص 220.
بيت الشعر، فيصف ما حل بعائلات المشركين عن طريق ما يحل ببيت الشعر عند تقطيعه وإظهار تفاعيله، وعند ما تلحقه العلل العروضية، مستعينا على ذلك بمصطلحات العروض التي تظل معرفتها حكرا على طائفة من الناس، وبذلك يحرم البوصيري وغيره من الشعراء كثيرا من الناس من فهم صورهم وإدراكها وتخيّلها، لأنها قيدت بعلم من العلوم لا يعرفه جميع الناس.
حتى إذا وصل البوصيري إلى البيت الأخير من هذه القطعة، الذي يصف فيه المسلمين، عاد إلى التشبيه العادي والمقابلة، فالمسلمون في المساجد أتقياء ورعون لطفاء، لينو الجانب، مثل الملائكة التي تتصف بالشفافية والروحانية، ولكنهم في ساحة المعركة يتحولون إلى أسود تفتك بأعدائها، وللسامع أن يتخيل هذه الصورة التي تنقسم إلى مشهدين، مشهد يصف المسلمين في سلمهم، ومشهد يصفهم في حربهم، ولا شك أن الصور التي بناها البوصيري في هذه القصيدة زادت المعنى وعمقته، وأضفت عليه ظلالا عاطفية تثير مشاعر المتلقي وتؤثر فيه، لكنه قلّل هذا التأثير حين بنى صوره على مصطلحات العلوم التي لا يدرك مغزاها إلا قلة.
وهذه سنة البوصيري في صوره جميعها، يعتمد التشبيه ويفصّل فيه، ويمثّل لمعانيه، مثل قوله في بردته:
والنّفس كالطّفل إن تهمله شبّ على
…
حبّ الرّضاع وإن تفطمه ينفطم
كالزّهر في ترف والبدر في شرف
…
والبحر في كرم والدّهر في همم
كأنّما اللّؤلؤ المكنون في صدف
…
من معدني منطق منه ومبتسم
دعني ووصفي آيات له ظهرت
…
ظهور نار القرى ليلا على علم
فالدّرّ يزداد حسنا وهو منتظم
…
وليس ينقص قدرا غير منتظم «1»
(1) ديوان البوصيري: ص 239.
لقد أجاد البوصيري في وصفه للنفس التي تطلب المزيد من الملذات إذا تركها المرء على هواها، لكنه إن راض نفسه، وكفّها عن شهواتها، عادت إلى القناعة، لا تأخذ من الملذات إلا ما حلّله الله، ولكي يوصل البوصيري هذا المعنى إلى الناس، شبه النفس بالطفل الذي يعتاد الرضاع، فإذا لم يفطم استمر على هذه العادة، وكل الناس يعرفون هذه الحقيقة ويعايشونها، ولذلك يسهل عليهم إدراك الصورة، وفهم المعنى الذي أراده البوصيري، وتخيل حقيقة النفس الإنسانية، فجاء التشبيه هنا ليغني عن الشرح والتفصيل، وينجي من الإسهاب والتطويل الذي لا يليق بالشعر.
لكن البوصيري عند ما انتقل إلى مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفه وذكر معجزاته، أخذ يرصف التشابيه رصفا، قارنا بين المادي والمعنوي، ليجسد المعاني التي يريدها بالمحسوسات التي يراها الناس ويعرفونها، وهي تشابيه معروفة في شعرنا العربي، حتى وإن عكس التشبيه للمبالغة، حين عزا اللؤلؤ المكنون إلى منطق رسول الله صلى الله عليه وسلم وثغره، بيد أنه أجاد حين مثّل لوصف آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: إن آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرة واضحة لا تحتاج إلى وصف وبيان، ولكنه ينظمها في شعره لتزداد حسنا في أذن السامع، وإن كان سماعها في غير النظم لا يقلّل من قدرها، مثل الدر الذي يزداد حسنا حين ينظم في عقد، لكن بقاءه منثورا لا يقلل من قيمته.
وصور البوصيري ليست صورا بسيطة مبتذلة، وليست في غاية التعقيد، فهو يبذل جهدا في بنائها، لتؤدي ما بنفسه من أفكار ومشاعر، ولا يتكلف رسمها إلا نادرا حين يجعل أحد أركان صورته من مصطلحات العلوم ليجاري بذلك ذوق أهل عصره من المتأدبين والشعراء، مثل وصفه للطلل بقوله:
نسخت آياته أيدي البلى
…
فأرت عينيّ منه الصّاد شيئا «1»
(1) ديوان البوصيري: ص 257.
إنه يريد أن يقول: إن الطلل كان بيتا معمورا مثل شكل حرف الصاد الذي يتمثّل به للبيت المعمور، لكن أيدي البلى حولته إلى خراب، فأضحى شكله مثل شكل حرف الشين، الذي يتمثل به للييت الخرب، فكم من الناس يعلم هذه الحقيقة؟ وهل ضاقت الدنيا عن مثل يمثّل به لشكل الطلل، فلا يجد غير الكتابة وشكل الحروف؟
أظن أنه أراد تقليب تشبيه القدماء لآثار الديار بالكتابة التي انمحت معالمها، لكنه تقليب متكلف لم يرق إلى إبداع القدماء وفق ظروفهم.
إلا أن للبوصيري صورا رائعة إلى جانب ما تقدم، منها تشبيهه لحال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع باقي الأنبياء، وأنه أصل نبوّتهم، وهذا تجسيد لفكرة الحقيقة المحمدية، في قوله:
إنّما مثّلوا صفاتك للنّا
…
س كما مثّل النّجوم الماء «1»
ووصفه لبني هاشم، أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه إبداع، حين جعلهم دوحة أنبتت أغصانها علما ودينا، وأفنان الدوحة عادة تنبت الثمار والأزهار، فخلط في صورته بين المادي والمعنوي بتنسيق موفق حين قال:
واصطفى محتده من دوحة
…
أنبتت أفنانها علما ودينا «2»
وأبدع في وصف شجاعة المسلمين وغضبهم لدين الله، حين جعل الموت يغضب لغضبهم، فقال:
يغضب الموت إذا ما غضبوا
…
وإذا ما غضبوا هم يغفرونا «3»
فالبوصيري معتدل في صوره، لا يجنح إلى التعقيد، ولا يشتط في بنائها على
(1) ديوان البوصيري: ص 49.
(2)
المصدر نفسه: ص 259.
(3)
الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 119.
مصطلحات العلوم، لكنه يجيد التشبيه، ويحلق فيه، مقتنصا العلاقات بين المعنويات والمحسوسات بدقة وذكاء، فحرّك بذلك أسلوبه، ومنحه شحنة عاطفية إضافية.
ومن صور أهل العصر المعبرة التي تحمل آثار الصنعة، تشبيه للشهاب محمود، يصف فيه المسلمين في جهادهم، فيقول:
وكساهم حلل النّصر التي
…
نبذت تلك الأعادي بالعرا «1»
فللنصر حلل كساها الله المسلمين، فظل المشركون في العراء، عاطلين من هذه الحلل، وفي كلمة عراء تورية، فهي نقيض الكسوة التي تحلّى بها المسلمون، وهو الفضاء الذي تركت فيه جثث المشركين المهزومين، فما أحلى حلل النصر التي كساها الله المسلمين، وما أرفع عزّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلى مجده في صورة الشرف الأنصاري التي رسمها في قوله:
هناك العزّ مرفوع السّواري
…
وثمّ المجد منصوب الأواخي «2»
فالعز بيت مرتفع والمجد خيمة منصوبة، وهذه الصورة تقليب لتشبيه القدماء وكناياتهم، فقد كانوا يكنون عن السيادة والعز بارتفاع بيت الممدوح، لكن الشرف الأنصاري جسّد العز، وجعل المجد مرئيا، فتقدم في هذا التشبيه خطوة إلى الأمام.
وإذا أردنا استعراض التشبيه في المدائح النبوية، لعزّ علينا ذلك، ولملأنا صفحات كثيرة، وخاصة من التشابيه العادية التي تميل إلى الصنعة، والتي تظهر آثار ذوق أهل العصر، مثل وصف ابن حجر لمحاسن محبوبته المزعومة في مقدمة إحدى مدائحه النبوية بقوله:
(1) الشهاب محمود: أهنى المنائح ص 119.
(2)
ديوان الشرف الأنصاري ص 142.
وأهيّف خطرت كالغصن قامته
…
فكلّ قلب إليه من هواه هفا
كالسّهم مقلته والقوس حاجبه
…
ومهجتي لهما قد أصبحت هدفا «1»
ولنا أن نتخيل المحبوبة التي ترمي مهجة محبّها بالسهام من عينيها، فقد نقلنا ابن حجر من الغزل ورقته إلى الحرب وقسوتها.
وحاول بعض الشعراء الإغراب في تشابيههم، بتصور أمور لا وجود لها، ربط فيها المادي بالمعنوي، وأقيمت علاقة بعيدة بينهما، مثل قول الباعوني «2» في مقدمة مدحة نبوية، مفسرا سبب سهده:
نومي بماء قراح السّهد مغسول
…
فكيف يحصل لي من طيفكم سول «3»
فالشاعر جعل النوم شيئا يغسل، وبماذا يغسل؟ يغسل بماء قراح السهد، فهذا الماء يسبب قراح السهد والسهد لا يقرح، وإنما العين هي التي تتقرح، وكأنه شبّه العين بالسهد، أو أنه أراد بالسهد العين التي يصيبها السهد، فخلط بين الأشياء، طلبا للإغراب والإدهاش، ولتحصيل المرقص والمطرب من التشابيه.
ومن التشابيه التي وردت في المدائح النبوية وحملت الطابع المملوكي الخالص، تشبيه الزمردي «4» للحديث عن رسول الله بقول:
كأنّه سكّر يحلو مكررّه
…
وكم حديث إذا كرّرت مملول «5»
(1) ابن حجر: رفع الإصر، المقدمة ص ك.
(2)
الباعوني: محمد بن يوسف بن أحمد الدمشقي، كان قاضيا معاصرا للسخاوي، فلم يثبت وفاته. السخاوي: الضوء اللامع 10/ 89.
(3)
المجموعة النبهانية 3/ 154.
(4)
الزمردي، ابن الصائغ: محمد بن عبد الرحمن بن علي، أديب عالم، ولي قضاء العسكر وإفتاء دار العدل، ودرّس بالجامع الطولوني، له عدة كتب في الفقه والأدب، توفي سنة (776 هـ) . ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب 6/ 248.
(5)
المصدر نفسه 3/ 114.
فالسكر المكرر من موجودات البيئة المملوكية، والأشياء التي أكثر الشعراء المماليك ذكرها والتشبيه بها في شعرهم.
إلا أن اللون البديعي الذي ساد في شعر هذا العصر هو التوراة، والذي يكاد يكون جديدا في الشعر العربي، فقد أكثر منها الشعراء كثرة مفرطة، وعدوها دليل الفطنة والذكاء، واقتنصوها مما يخطر على البال أو لا يخطر، طلبا للإغراب والإطراف، وصارت التوراة غرضا بذاتها، يكدّ فيها الشعراء أذهانهم، ويفتنّون في عرضها، وجعلها بعضهم مذهبا فنيا لهم.
والتوراة حين تستخدم استخداما موفقا، وتوضع في صياغة جميلة، فإنها تكون بديعة ومؤثرة، تدل على ذكاء وتفكير عميقين، وخاصة إذا رزق صانعها موهبة شعرية أصيلة، ووضعها في ألفاظ مواتية، فحينئذ تندرج في الشعر اندراجا خفيا لطيفا، لا يرى فيها تصنع مفتعل، ولا تصدم الذوق بتكلفها، أما إذا جاءت على غير هذا النسق، فإنها تصبح عالة ينوء بها الشعر.
وهي تمثّل الاتجاه الرمزي في الشعر العربي، أو الصنعة الفنية فيه، مثلما هو الأمر في شعر المتصوفة وألفاظهم.
ومن أمثلة التوراة في شعر المديح النبوي قول محي الدين بن عبد الظاهر، مشيرا إلى هدفه من معارضة لامية كعب بن زهير:
لقد قال كعب في النّبيّ قصيدة
…
وقلنا عسى في مدحه نتشارك
فإن شملتنا بالجوائز رحمة
…
كرحمة كعب فهو كعب مبارك «1»
فالتورية هنا في قوله (كعب مبارك) ، وهو وصف لما يتفاءل به، فكلمة كعب في
(1) الصفدي: الغيث المسجم 1/ 275.
هذين البيتين لها معنيان، معنى قريب هو اسم كعب بن زهير مادح الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحب قصيدة (البردة) وهو الذي يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، ومعنى بعيد هو المقصود بالعبارة المشهورة (كعب مبارك) ، وهو ما سعى الشاعر إلى إيصاله في توريته.
ومن ذلك أيضا قول القيراطي في مدحة نبوية:
واكتبا في صحف الدّيار سطورا
…
من حروف ليست حروف هجاء
كم علونا المعلّى بهن حروفا
…
حبّذا هن أحرف استعلاء
صاح طف للإله سبعا ببيت
…
رمي الفيل فيه بالدّهياء
واكحل العين عند مسعاك بالمي
…
ل ففيه شفاء داء العماء «1»
والتوراة في البيت الثاني تكمن في كلمة (أحرف استعلاء) ، فقد كان يتحدث عن الرحلة والديار، وشبهها بالكتابة، فعند ما ذكر حروف الاستعلاء، ظن أنها من حروف الهجاء، وهو المعنى القريب، والمعنى البعيد الذي يقصده الشاعر هو الرواحل التي تسمى حروفا أيضا.
وفي البيت الثالث، ورّى الشاعر بكلمة دهياء، فالذي يخطر للمتلقي أنه اسم مكان أو صفة له، وهو يريد الداهية، وكذلك الأمر في البيت الذي يليه، فالميل اسم مكان أو وحدة قياس وهو الأداة التي تكحل بها العين، فتوجه معنى البيت وألفاظه توحي بأنه يقصد أداة الكحل، ولكن المعنى الذي يريده من الكلمة هو اسم المكان.
ومن التوراة في المديح النبوي قول النواجي في التشوق للمقدسات:
وسرت نسمة الغوير فقل ما
…
شئت في فضل ليلة الإسراء «2»
فالتورية في قوله (ليلة الإسراء) ، لأن المشهور من هذا التعبير هو الدلالة على الليلة التي أسري فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهذا هو المعنى القريب، وهو يقصد الليلة التي سرى فيها نسيم الغوير، وهو المعنى البعيد الذي يريده.
(1) المجموعة النبهانية 1/ 137.
(2)
المصدر نفسه 1/ 156.