الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا أخذ الشعور الديني ينمو ويشتد، ليتهيّأ الناس لصد الغزو الصليبي، فعمل الحكام على تغذية هذا الشعور بتقريب رجال الدين وتشجيعهم، ليتقرّبوا من العامة، فبنوا المساجد والمدارس والزوايا، وأحيوا الاحتفالات الدينية بأنفسهم.
وظهر أثر هذا الشعور الديني على مجمل نشاطات الحياة في الدولة المملوكية، والدول التي سبقتها، ووصل إلى الأسماء والكنى والألقاب، فكانت مضافة إلى الدين أو منسوبة إليه.
وهذا الشعور هو الذي هيّأ للأجناس المختلفة أن تحيا في مجتمع واحد، وأن تجاهد معا لدرء خطر الغزوات العاتية، وأن تواصل بناء الحضارة العربية الإسلامية وإثرائها.
مجادلة أهل الكتاب:
ظهر التوجه الديني في الأدب ظهورا كبيرا وعميقا، فكان ينشأ في سبيل الدين ويعكس المشاعر الدينية المتأججة، ويحمل آثار المناظرات والمجادلات التي كانت تحدث بين فرق المسلمين المختلفة من جهة، وبين المسلمين وأهل الكتاب من جهة أخرى، واشتدت هذه المناظرات خلال الحروب الصليبية إذ أخذ المسلمون يدافعون عن دينهم ونبيهم، ويثبتون له النبوة بدلائل مختلفة، فصنفوا في ذلك الكتب الكثيرة، واطلعوا على كتب النصارى واليهود، ليثبتوا ما يذهبون إليه، فشاع بينهم مثلا ما نسب إلى كعب الأحبار أنه قال:
(1) الديار بكري حسين: تاريخ الخميس ص 24.
وفي وصايا موسى عليه السلام لبني إسرائيل «سيأتيكم نبي من بني إخوتكم- أي أعمامكم فله صدّقوا ومنه فاسمعوا» «1» ومما ترجموا من الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال: «إذا جاء الفارقليط، فهو يشهد لي، وأنتم تشهدون لي أيضا لكينونتكم معي من أوّل أمري.
قوله الفارقليط، معناه الحكم السر، يعرف السر، والمراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم» «2»
وأورد السيوطي في كتابه (الخصائص الكبرى) فيضا من مثل هذه الروايات، أيّد المحقق بعضها، وردّ بعضها الآخر، ومما أيّده ما ذهب إليه السيوطي من أن الأناجيل اشتملت «لا سيما إنجيل برنابا على بشارات صريحة بالنبي صلى الله عليه وسلم» «3» .
ومن ذلك أيضا ما جاء في التوراة: «طلع الرب من سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبل فاران، ومعلوم أن بريّة فاران هي الحجاز «4» .
ومسألة الجدال بين المسلمين وأهل الكتاب قديمة العهد، وتعود إلى بداية العصر العباسي حين أخذ العرب المسلمون يترجمون كتب العلوم المختلفة، ويظهر أنّ جدالا قد وقع بين بعض رجال الدين المسلمين وأحبار النّصارى واليهود، وقد عكس هذا الجدال في كتاب (الدين والدولة في إثبات النبوة) حيث قال مؤلّفه (شهادات الحق، ومقاييس العبر متوافرة مجتمعة للنبي صلى الله عليه وسلم في عشرة معان، لم تجتمع إلّا للمسيح عليه السلام، منها.. ما كان عليه نسكه وعفته وصدقه ومحمود سنّته وشرائعه.. غلبته الأمم آية بيّنة بالضرورة والحجج التي لا تدفع.. الأنبياء عليهم السلام قد تنبّأت عليه قبل ظهوره بدهر طويل، ووصفت مبعثه وبلده ومسيرة وخضوع الأمم له، والملوك لأمته» «5» .
(1) الديار بكري حسين: تاريخ الخميس ص 25.
(2)
الديار بكري حسين: تاريخ الخميس ص 25.
(3)
السيوطي: الخصائص الكبرى ص 23.
(4)
المصدر نفسه ص 26.
(5)
الطبري، علي بن ربّن: كتاب الدين ص 16.
وقد ظهر هذا الجدال في الشعر، وخاصة عند البوصيري «1» الذي لم تخل نبوية له من مجادلة النصارى واليهود في عقائدهم، والمقارنة بينها وبين العقيدة الإسلامية ونظم ذلك في قصيدة طويلة، شرحها بنفسه، سمّاها (المخرج والمردود على النصارى واليهود) أبدى فيها معرفته الواسعة بالتوراة والإنجيل، ومطالعته لكتب النصارى واليهود، والتمعن فيها، ومنها قوله عمّا جاء فيهما من إشارات تدلّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تخبركم التوراة أن قد بشّرت
…
قدما بأحمد أم بإسماعيلا
طوبى لموسى حين بشّر باسمه
…
ولسامع من فضله ما قيلا
وجبال فاران الرّواسي إنّها
…
نالت على الدّنيا به التّفضيلا
إن يدعه الإنجيل فارقليطه
…
فلقد دعاه قبل ذلك إيلا
يأتي على اسم الله منه مبارك
…
ما كان موعد بعثه ممطولا
وكما شهدت له سيشهد لي إذا
…
صار العليم بما أتيت جهولا
والمنحمّنا لا تشكّوا إن أتى
…
لكم فليس مجيئه مجهولا «2»
ثم ينتقل ليثبت نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يعتقده المسلمون بعد ما أثبت ذلك بما جاء في التوراة والإنجيل ليخلص إلى أن تخرّصات أهل الكتاب حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست عائدة إلى أمور دينية وإنما إلى أمور سياسية وأحقاد قديمة، إذ استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتصر عليهم، ويظهر انحرافهم عن حقيقة الشريعة السماوية، فقال:
لم يجهلوه غير أنّ سيوفه
…
أبقت حقودا عندهم وذحولا
ما لي أجادل فيه كلّ أخي عمىّ
…
كيما أقيم على النّهار دليلا
(1) البوصيري: محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي، أشهر شعراء المديح النبوي، كان متصوفا وشاعرا منطلق اللسان في عمال الدولة، تولى الحسبة، وتوفي سنة (696 هـ)، ديوانه: ص 5.
(2)
ديوان البوصيري ص 182.