الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني الأسلوب
الأسلوب الشعري هو الطريقة التي يعبّر فيها الشاعر عن أفكاره ومعانيه، وبه يتفاوت الشعراء حين يتناولون موضوعا واحدا، وهو أساس تصنيف الشعراء وتمايزهم، وبه يعرف توجه الشاعر الفني، ومفهومه للشعر.
وقد ربط دارسو الأدب ونقدته بين الأسلوب والمضمون، فذهبوا إلى أن كل موضوع يناسبه شكل معين من أشكال التعبير الشعري، فالمدح يحتاج إلى الأسلوب الفخم والقصائد الرسمية الكاملة، التي يحتفل الشاعر لتشكيلها وصياغتها، والفخر يقرب من ذلك، أما الغزل والوصف، فإنهما يحتاجان إلى القصائد الرقيقة، التي يذهب فيها الشعراء كل مذهب، لكن شعراء المديح النبوي لم يتقيدوا بمثل هذا الربط بين الشكل والمضمون، فحفلت قصائدهم بالأشكال الشعرية المختلفة التي عرفها الشعر العربي.
وسنتعرض في هذا الفصل لشكل القصيدة الذي عرف في شعر المديح النبوي، والذي تدرج ما بين القصائد الكاملة التي يحرص الشاعر فيها على المقدمة المعروفة، والانتقال المعهود، والخاتمة التي يوضح فيها الشاعر غرضه من المديح، وما بين المقطوعات القصيرة التي يعبّر فيها الشاعر عن موقف محدد من الممدوح، وكذلك الأمر بين القصائد والأراجيز، إلى جانب الأشكال الشعرية الآخرى التي انتشرت في العصر المملوكي، مثل الموشح والمسمطات وغير ذلك من التصرف بالقصائد والإضافة إليها، والقيود المسبقة التي وضعها الشعراء لأنفسهم قبل نظم قصائدهم، كأن يحدد عدد أبياتها مسبقا، أو يتقيد في بداية كل بيت بحرف القافية، إلى جانب المعارضة التي اشتدت في هذا العصر، وخاصة في المديح النبوي.
وسنحاول تلمس أبرز ملامح الصياغة الشعرية التي اصطنعها شعراء المديح النبوي، والتي تراوحت ما بين الصياغة التقليدية ومحاولة مجاراة القدماء، والصياغة التي تميّز بها العصر، والتي تحفل بضروب الزخرف والصنعة البديعية، التي نحاول التعرف عليها وعلى أنواعها وكيفية استخدام الشعراء لها.
فالشعراء والأدباء العرب مالوا إلى التقييد والتقعيد في شكل الشعر، ومالوا إلى التقليد، ولم يحبذوا الجنوح إلى الخروج عمّا هو مألوف في طريقة نظم القصائد، وهو ما أسموه عمود الشعر، لذلك ظلت القصيدة العربية غنائية أو أقرب إلى الغنائية، وتلوّنت في هذا الإطار، ولم تخرج عنه إلا في ضروب شعرية ظهرت في هذا العصر، إلا أننا لا نحبّذها لأنها اتخذت اللهجة العامية للتعبير الشعري.
فالتطور في الصناعة الشعرية كان أوضح من التطور في المضمون، إلا أن عصرا من العصور لم يخلص لمذهب أدبي واحد، ولكن ربما انتشر أحد المذاهب أكثر من غيره.
ففي العصر المملوكي ظهر مذهب الصنعة البديعية على غيره، أو اشتد ليسم العصر بميسمه، لكن أدنى متابعة لشعر هذا العصر، تظهر أن ثلاثة اتجاهات رئيسية، كانت تشغل اهتمامات الشعراء، الاتجاه الأول هو الاتجاه التقليدي الذي حرص فيه الشعراء على متابعة القدماء والاقتداء بهم في شكل القصيدة وصياغتها، فأكثروا من المعارضة لتتم لهم هذه المتابعة، وتتحقق لهم هذه الرغبة.
والاتجاه الثاني هو الاتجاه البديعي السائد الذي حرص فيه الشعراء على اصطناع ضروب البديع، ووضعها في المقام الأول في العمل الشعري.
والاتجاه الثالث هو الاتجاه الشعبي، وأصحابه شعراء لم يتلقوا قدرا كافيا من الثقافة، أو أنهم نظموا شعرهم على هذا الوجه لافتتانهم به، أو طلبا للشهرة والانتشار وهو شعر ملحون.
وقد وصف الدارسون هذا العصر بالجمود والركود الأدبي، وافتقاد حوافز التجديد والإبداع، وانخفاض سوية الأدب، واستغراق الأدباء في تقليب الصناعة اللفظية والزخارف البديعية.
ونحن لا نستطيع أن نطلق حكما عاما على أدب عصر من العصور، وخاصة على أدب العصر المملوكي، الذي اتّسم بخصب الحركة الثقافية وتنوع إنتاجها، عصر الموسوعات والمؤلفات الكبيرة التي حفظت تراث الأمة. والمسألة لا تتعدى أسلوبا في التعبير يختلف بين عصر وعصر، وليست مسألة إبداع وابتكار، فشعراء ذلك العهد كانت لهم وجهة نظرهم التي تتحدد في طلب التميّز، وكان معيار التميّز في ذلك الوقت إتقان الصنعة، وبذل الجهد العقلي في الملاءمة بين عناصر متباعدة، وفي التلاعب بالألفاظ للدلالة على الثقافة والمقدرة، ولإدهاش المتلقين، فقد كانوا يظنون أنهم يطرفون حياة الناس بهذا الضرب من الشعر، وكان الناس يطلبون هذا الضرب من الشعر ويستحسنونه، لأنه يعبر عن حياتهم وما اعتادوه فيها.
وعند ما تابع شعراء العصر سابقيهم وجاروهم في أسلوبهم، لم يكونوا مفتونين جدا بالقديم، ولم يكونوا يقدسونه لقدمه، بل لظروف موضوعية جدّت في عصرهم، فقد أحس العرب «أن الأمم تريد أن تتخطفهم من حولهم، وأن من واجبهم أن يتجمعوا ضدها، وأن يحافظوا أقوى المحافظة على أمتهم، وكل ما يشخّصها ويمثّلها من شعر وغير شعر، ومن هنا مضوا يضمون شعر الأسلاف إلى صدورهم، لا تقديسا للقديم من أجل قدمه.. وإنما صدروا عن شعور عميق بوجوب استمرار العروبة وروحها العظيمة، وهو بذلك استمرار حي، لا يعني بحال التحجر والجمود، وإنما يعني الخصب والنماء» «1» .
(1) ضيف، شوقي: فصول في الشعر ونقده ص 180.
إلا أن الشعراء لم يحسنوا متابعة القدماء، ولم يستطيعوا اللّحاق بهم لأنهم داخلوا بين النهج القديم وصنعتهم، فجاءت المتابعة في معظمها مهجنة.
وربما كان من أسباب المظاهر السلبية التي وجدت في الشعر المملوكي، مثل الإغراق في الصنعة، وظهور فنون الشعر الملحونة، إعراض الحكام المماليك عن الشعر الفصيح البليغ، لقصور ملكاتهم عن إدراك مقاصد العربية الدقيقة، وأسرار بلاغتها، وميلهم إلى ما يستطيعون إدراكه واستساغته من فنون اللهجة السائدة، وهذا ما عبّر عنه شمس الدين الضفدع «1» :
قد طال فكري في قريضي الذي
…
من نفعه لست على طائل
أمّرني زيد فصرت امرأ
…
صاحب ديوان بلا حاصل «2»
ولهذا السبب وغيره من ظروف العصر عدل بعض الشعراء عن الشعر الجاد الذي يجهدون ليأتي عالي المستوى، إلى شعر التسلية الذي يفتقد الجدية في موضوعاته وأسلوبه، والذي يتلاعبون فيه بالمعاني والألفاظ، ويبحثون من خلاله عن النكتة الفنية.
ويضاف إلى ذلك قلّة المحترفين من الشعراء، فقلّما تفرغ الشاعر لفنه، وأوقف حياته علية، فأضحى الشعر بابا مفتوحا يلجه كل من يأنس في نفسه أدنى مقدرة على المشاركة فيه، فدخل فيه العلماء وعامة الشعب وأصحاب الحرف، ومن الطبيعي أن أكثر هؤلاء لم يرتفعوا إلى مستوى المحترفين، فأفسدوا صورة الشعر، حتى ضاق بهم الشعراء المجيدون ذرعا، فهاجموهم، وقال ابن الخياط فيهم «3» :
وفي متشاعري عصري أناس
…
أقلّ صفات شعرهم الجنون
يظنّون القريض قيام وزن
…
وقافية وما شاءت تكون «4»
(1) ابن حجر: الدرر الكامنة 2/ 302.
(2)
الضفدع: محمد بن يوسف بن عبد الله الدمشقي الخياط، شاعر مجيد، توفي (756 هـ) . ابن حجر: الدرر الكامنة 4/ 300.
(3)
ابن الخياط الدمشقي: أحمد بن الحسن بن محمد، أديب شاعر، له ديوان شعر، توفي سنة (735 هـ) .
(4)
ابن حجر: الدرر الكامنة 1/ 123.
فالناس في ذلك الوقت كانوا منشغلين بالشعر، يستسهلون نظمه، فكثر المتشاعرون والناظمون، ويظهر أن مفهومهم للشعر كان مختلا، إذ اكتفوا منه بالهيّن الهش، وتقاعسوا عن طلبه والتدرب عليه، وهذا ما أوضحه حازم القرطاجني حين قارن بين أهل زمانه وبين العرب القدماء في قوله:
«العرب القدماء كانت تتعلم الشعر، لا تجد شاعرا مجيدا منهم إلا وقد لزم شاعرا آخر المدة الطويلة، وتعلم منه قوانين النظم، واستفاد منه الدربة في أنحاء التصاريف البلاغية.. فإذا كان أهل ذلك الزمان قد احتاجوا إلى التعلم الطويل، فما ظنك بأهل هذا الزمان، بل أية نسبة بين الفريقين.
وأنت تجد الآن الحريص على أن يكون من أهل الأدب المتصرفين في صوغ قافية أو فقرة من أهل زماننا، وله القليل الغث منه بالكثير من الصعوبة، بأى وشمخ، وظن أنه سامى الفحول وشاركهم، رعونة منه وجهلا، من حيث ظن أن كل كلام موزون شعر» «1» .
أما المدائح النبوية، فكانت فنا متميّزا في الشعر المملوكي، حمل جميع المظاهر الشعرية التي كانت سائدة في ذلك العصر، أو التي ظهرت فيه، وحث الشعراء على الارتقاء في فنهم الشعري إلى أقصى درجة يستطيعون الوصول إليها، ليناسب قدر الممدوح عليه السلام، لكن قسما كبيرا من مادحي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تسعفهم الشاعرية الخصبة والموهبة الأصلية، فنظموا المدائح النبوية للفوز بالمجد الأدبي في الدنيا، وبالشفاعة في الآخرة، لذلك نجد تفاوتا كبيرا في الأسلوب بين شعراء المديح النبوي، كذلك شارك كثير من العلماء وغيرهم في هذا الفن بالطريقة التي يقدرون عليها ويحسنونها، فظهرت الموشحات المدحية، والزجل المدحي، وغير ذلك من فنون الشعر التي انتشرت في هذا العصر.
(1) حازم القرطاجني: منهاج البلغاء ص 27.
بيد أن معظم قصائد المدح النبوي جاءت قريبة من النمط العربي المعروف، وكانت أقرب إلى المحافظة، فشعراء المديح النبوي نظموا قصائدهم وعيونهم على غرر الشعر العربي في العصور التي سبقتهم، ولذلك نجد المبرزين في فن المدائح النبوية مثل الصرصري ينظمون مدائحهم النبوية على غرار القصائد القديمة في شكلها وصياغتها، فالصرصري لا يكاد يخرج عن النهج التقليدي في مدائحه النبوية، ويظهر استعدادا كبيرا لمتابعة الشعراء الذين سبقوه، ويبدو أنه أهّل نفسه لمثل هذا الشعر، فقيل «إنه كان يحفظ صحاح الجوهري بكاملها» «1» .
ويجاريه البوصيري في هذه الميزة، بالإضافة إلى أن كليهما يظهران معرفة واسعة بالشعر العربي القديم، وباللغة العربية وألفاظها، ويملكان موهبة شعرية فياضة، جعلتهما يخضعان الروايات والأحاديث للشعر وروائه.
ويلاحظ في المديح النبوي أيضا إطالة الشعراء لمدائحهم، فكثرت القصائد التي تتجاوز المئة والمئتين وتصل في بعض الأحيان إلى مئات الأبيات مثل نونية الصرصري التي وصلت إلى ثماني مئة وخمسين بيتا، بيد أن هذه القصائد الطويلة، لم يسلم معظمها للشاعرية، فاقتربت كثيرا من المنظومات التعليمية.
إلا أننا لو قارنا مجموع شعر المديح النبوي مع غيره من الفنون الشعرية في ذلك العصر، لوجدنا أن شعر المديح النبوي تميّز عن غيره بالقوة والجزالة وجودة السبك وحسن الأداء، والابتعاد عن الضعف الذي اتسع في بقية الفنون الآخرى.
والذي جعل شعراء المديح النبوي يميلون في مديحهم إلى الأشكال الشعرية الآخرى مثل الموشح أو الزجل أو تشطير القصائد وتخميسها وغير ذلك من التغييرات التي أجروها على القصيدة، هو مسايرة للاتساع في مجالس الذكر والإنشاد، والبحث عن الشكل الحافل بالإيقاع، ليتلاءم مع الإنشاد في هذه المجالس والاحتفالات الدينية.
(1) القنوشي: التاج المكلل ص 247.