المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الثاني- البديع: - المدائح النبوية حتى نهاية العصر الملوكي

[محمود سالم محمد]

فهرس الكتاب

- ‌المحتوى

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول بواعث ازدهار المديح النبوي وانتشاره

- ‌الفصل الأول الأسباب السياسية

- ‌الصراع الخارجي:

- ‌الصراع الداخلي:

- ‌الفصل الثاني الأسباب الاجتماعية

- ‌المظالم والكوارث:

- ‌المفاسد الاجتماعية:

- ‌الفصل الثالث الأسباب الدينية

- ‌مجادلة أهل الكتاب:

- ‌مخالفة الشريعة:

- ‌المظاهر الدينية:

- ‌الجدل المذهبي:

- ‌انتشار التصوف:

- ‌الرؤيا:

- ‌الفصل الأول نشأة المدح النبوي

- ‌القسم الأول: المديح والرثاء والمديح النبوي:

- ‌القسم الثاني- المدح النبوي في حياة الرسول:

- ‌القسم الثالث- في العصر الراشدي والأموي:

- ‌القسم الرابع- في العصر العباسي:

- ‌القسم الخامس- في العصر الفاطمي والأيوبي:

- ‌الفصل الثاني حدود المديح النبوي

- ‌القسم الأول- الشعر التقليدي:

- ‌القسم الثاني- مدح آل البيت:

- ‌القسم الثالث- الشعر الصوفي:

- ‌القسم الرابع- التشوق إلى المقدسات:

- ‌القسم الخامس- المولد النبوي:

- ‌الفصل الأول المضمون

- ‌القسم الأول- المدح بالقيم التقليدية:

- ‌القسم الثاني- المدح الديني:

- ‌محبته:

- ‌فضائله:

- ‌هديه:

- ‌السيرة:

- ‌المعجزات:

- ‌تفضيله:

- ‌الحقيقة المحمدية:

- ‌الرسول والبشرية:

- ‌التوسل به والصلاة عليه:

- ‌آثار النبي الكريم:

- ‌ذكر الآل والصحابة:

- ‌القسم الثالث- مواضيع أخرى:

- ‌الحديث عن المديح النبوي في قصائد المديح:

- ‌القسم الرابع- المعاني:

- ‌الفصل الثاني الأسلوب

- ‌القسم الأول- الشكل الشعري:

- ‌ذكر الأماكن:

- ‌الغزل:

- ‌الرحلة:

- ‌وصف الطبيعة:

- ‌الوعظ:

- ‌الدعاء:

- ‌المباشرة بالمدح:

- ‌الانتقال:

- ‌الرجز:

- ‌المقطوعات:

- ‌ضروب النظم:

- ‌الأشكال المتميزة:

- ‌القيود الشكلية:

- ‌ النظم

- ‌المعارضة:

- ‌الوزن والقافية:

- ‌القسم الثاني- الصياغة والأسلوب:

- ‌النظم:

- ‌التصنع:

- ‌الألفاظ:

- ‌القسم الثالث- الصنعة الفنية:

- ‌الصنعة الخيالية:

- ‌الصنعة اللفظية:

- ‌الفصل الأول أثر المدائح النبوية في المجتمع

- ‌القسم الأول- الأثر الاجتماعي:

- ‌النصح والإرشاد:

- ‌الاعتقاد بالمدائح النبوية:

- ‌الجدل العقائدي:

- ‌إظهار النزعة العربية:

- ‌القسم الثاني- الأثر التعليمي للمدائح النبوية:

- ‌القدوة والمثل:

- ‌المعرفة:

- ‌الفصل الثاني أثر المدائح النبوية في الثقافة

- ‌القسم الأول- أثر المدائح النبوية في الشعر:

- ‌أثره في الإبداع الشعري:

- ‌أثره في قصائد الشعر الآخرى:

- ‌الملاحم:

- ‌القسم الثاني- البديع:

- ‌القسم الثالث- التأليف:

- ‌المصادر والمراجع

- ‌المصادر المخطوطة:

- ‌المصادر المطبوعة:

- ‌المراجع:

- ‌الفهرس التفصيلي (عام)

- ‌ حرف الألف

- ‌ حرف الباء

- ‌ حرف التاء

- ‌ حرف الثاء

- ‌ حرف الجيم

- ‌ حرف الحاء

- ‌ حرف الخاء

- ‌ حرف الدال

- ‌ حرف الذال

- ‌ حرف الراء

- ‌ حرف الزاء

- ‌ حرف السين

- ‌ حرف الشين

- ‌ حرف الصاد

- ‌ حرف الضاد

- ‌ حرف الطاء

- ‌ حرف الظاء

- ‌ حرف العين

- ‌ حرف الغين

- ‌ حرف الفاء

- ‌ حرف القاف

- ‌ حرف الكاف

- ‌ حرف اللام

- ‌ حرف الميم

- ‌ حرف النون

- ‌ حرف الهاء

- ‌ حرف الواو

- ‌ حرف الياء

الفصل: ‌القسم الثاني- البديع:

‌القسم الثاني- البديع:

غلبت الصنعة البديعية على معظم شعر العصر المملوكي ونثره الفني، حتى أصبحت خاصة يعرف بها أدب ذلك العصر، فقد فتن أهل ذلك العصر بزخرف كلامهم مثلما فتنوا بزخرف أبنيتهم وألبستهم وأدواتهم، وعدّ التجويد أو الاستزادة في البديع مما يتفاضل به الأدباء، ومما يدل على مهارتهم وتفوقهم.

ولم يكن شعر المدح النبوي بمنأى عن هذه الصنعة البديعية الطاغية، فظهر البديع في قصائد المدح النبوي بدرجات متفاوتة، فمن الشعراء من حاول مجاراة الأقدمين في مدحه، فلم يترك البديع على شعره إلّا ظلالا باهتة، ومنهم من اعتدل في اصطناع البديع، ومنهم من أسرف في اصطناعه إلى أن انقلبت قصائده إلى معرض لفنون البديع، لا يهمه بعد إثباتها في شعره إن جارت على أسلوبه ومعانيه جميعها، وأتت على حساب دقة المعنى وتدفق الشعور وصدق العاطفة ورونق الصياغة والشاعرية.

وقد أطلقت تسمية البديع على قسم من علم البلاغة الذي يشمل مباحث المعاني والبيان والبديع، ويراد به تحسين الكلام وتنميقه، ومعرفة أسرار جماله ومعانيه، أو كما قال الحلي:«إن أحق العلوم بالتقديم، وأجدرها بالاقتباس والتعليم، بعد معرفة الله العظيم، ومعرفة كلامه الكريم، وفهم ما أنزل في الذكر الحكيم، لتؤمن غائلة الشك والتوهيم.. ولا سبيل إلى ذلك إلا بمعرفة علم البلاغة وتوابعها من محاسن البديع اللتين بهما يعرف وجه إعجاز القرآن..» «1» .

وفنون البديع معروفة منذ القدم في الكلام العربي، أخذ الأدباء يهتمون بها مع تقدم الزمن، ويقصدون إليها قصدا، بعد أن كانت تقع في كلام العرب عفو الخاطر، إلى أن جاء ابن المعتز، ووضع كتابه (البديع) ، فدلّ على بعض أنواعها وحدّدها، وفتح بابا

(1) الحلي: شرح الكافية البديعية ص 51.

ص: 506

للتأليف، اتسع شيئا فشيئا إلى أن وصل إلى أقصى اتساع له على يد ابن أبي الإصبع، الذي أوصل أنواع البديع إلى التسعين في كتابه (تحرير التحبير)«أصح كتاب ألّف في هذا العلم» «1» .

وعلى الجانب الآخر كان الشعرآء يزدادون ولعا بفنون البديع واصطناعها في شعرهم، إلى أن أدخلوا معها الضّيم على الشعر.

وقد مرّت معنا أمثلة كثيرة على ولع الشعراء بفنون البديع، الذين حرصوا على إيرادها في شعرهم، والإكثار منها، ولا يهمهم بعدها كيف يأتي شعرهم، ومن ذلك قصيدة طويلة لابن سيد الناس في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي أقرب للنظم منها إلى الشعر، وزاد في جفافها اصطناع البديع دون توفيق، تكلّف إيراد فنونه تكلّفا، فقال:

لو لم أر الموت عذبا في الغرام بكم

ما شاقني لحسام البرق تقبيل

ولا بدا الصّبح إلا قال قد سفرت

سعاد يا كعبها لم أنت متبول

وفي انشقاق أخيه البدر حين بدا

فرقين واختلفت فيه التّعاليل «2»

والقصيدة كلها تجري على هذا النحو، والشاعر يظن أنه يأتي بالعجائب، لذلك أطالها إلى أن قاربت مئة وتسعين بيتا، فأين لفظ عنترة وأين موقعه الذي أثمر صورته الجميلة، من تقبيل حسام البرق؟

وأين غزل كعب المتقن وبلاغته من سؤال ابن سيد الناس له؟ وأين معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا التعبير الذي اختلفت فيه التعاليل؟

ومن البديع المتكلف التوراة بأسماء سور القرآن الكريم التي لم تزد التعبير عمقا أو

(1) الحلي: شرح الكافية البديعية ص 53.

(2)

المجموعة النبهانية 3/ 60.

ص: 507

جمالا، ومنه كذلك القيود التي كبّل بها الشعراء أنفسهم، مثل التزامهم بعدد من الأبيات، أو ابتداء أبيات قصائدهم بحرف القافية، فيزيدون قصائدهم ثقلا على ثقل، مثل قول الفازازي:

سلام كعرف الرّوض أخضله النّدى

على خير مخلوق من الجنّ والإنس

سليل خليل الله خاتم رسله

وفي الختم منع للزيادة في الطّرس

سبوق بلا أين قريب بلا مدى

عليم بلا خطّ حفيظ بلا درس

سلوني كيف الحال دون لقائه

فحزني في طرد وصبري في عكس «1»

ولننظر كيف قرّب لنا معنى اختتام النبوة، حين أورد لنا صورة الكتاب الذي يمهر بالختم، فلا يستطيع أحد الزيادة عليه بعد ذلك، وكيف ألجأته الصنعة إلى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سبوق لا يتعب، وعليم دون أن يعرف الخط، وحفيظ دون أن يدرس ويستظهر، أما وصف شوقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو جاف لا يناسب الحديث عن المشاعر الحارة، فما هو الحزن المطرد، والصبر المنعكس؟

ووصلت الصنعة بشعراء المدح النبوي إلى نظم الألغاز ببعض الأسماء التي ترد فيها، فالشاعر النواجي كتب إلى الشاعر المنصوري، وكلاهما نظما المدح النبوي، ملغزا باسم مدينة النبي (طيبة)، فقال:

«ما اسم على أربعة وهو مفرد، علم وكم فيه من إشارة تعهد.. حوى أفضل الخلق والخلق، وأفصح القول والنطق، فأفصح عن غيبه، ولذ بطيبه» «2» .

وكان من نتائج الإغراق في الصنعة البديعية عند شعراء المدح النبوي ظهور لون

(1) المجموعة النبهانية 2/ 264.

(2)

النواجي: التحفة البهية ص 208.

ص: 508

خاص من المدائح النبوية، هو البديعيات التي جمعت بين المدح النبوي وفنون البديع، وعدت فنا جديدا من فنون الشعر العربي.

والبديعيات قصائد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحوي كل بيت من أبياتها نوعا من أنواع البديع التي عرفها أهل ذلك العصر، ويكون البيت شاهدا على هذا النوع البديعي.

إن احتفال أهل العصر المملوكي بالبديع كان كبيرا، يتدارسونه ويزيدون عليه، ويؤلفون ويصنفون، ويختصرون ويشرحون، وعلى عادة أهل ذلك العصر بتقييد العلوم بالشعر، ونظم العلوم في منظومات شعرية يسهل على شداة العلم وطلبته حفظه ودرسه، فقد نظم بعض علماء العصر وشعرائه بعض القصائد التي تجمع فنون البديع، لكنهم لم ينظموا قواعد العلم كما كان سائدا، بل نظموا قصائد ذات مضامين متنوعة، وجعلوا أبياتها أمثلة على فنون البديع، مثل علي بن عثمان السليماني الإربلي «1» ، الذي نظم قصيدة في الغزل، وجعل كل بيت من أبياتها شاهدا على نوع من أنواع البديع، وبدأها بقوله:

بعض هذا الدّلال والإدلال

حالي الهجر والتّجنّب حالي جناس

حرت إذ حزت ربع قلبي وإذ لا

لي صبر أكثرت من إذلالي

جناس خطي

رقّ يا قاسي الفؤاد والأجفا

ن قصار أسرى ليال طوال

طباق

شارحات بدمعها مجمع البح

رين في حبّ مجمع الأمثال

استعاره

نفت النّوم في هواك قصا

صا حيث أدّى منها خداع الخيال

مقابلة «2» والقصيدة تظهر ولع الشاعر بفنون البديع واستخدام مصطلحات العلوم، وحرصه على إقامة شواهده في قصيدته وإن كان ذلك على حساب المعنى والصياغة.

(1) أمين الدين الإربلي، كان من أعيان شعراء الناصر بن العزيز، وكان جنديا فتصوف، توفي سنة (670 هـ) . فوات الوفيات 3/ 39.

(2)

ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 39.

ص: 509

وهذه الطريقة في نظم البديع تختلف عن الطريقة التي سار عليها (يحيى بن عبد المعطي الزواوي «1» في نظمه لبديعية سمّاها (البديع في علم البديع)، قال فيها:

وبعد فإنّي ذاكر لمن ارتضى

بنظمي العروض المجتلى والقوافيا

أتيت بأبيات البديع شواهدا

أضمّ إليها في نظيمي الأساميا «2»

فهو يشير إلى أنه في منظومته البديعية يأتي بالشاهد على النوع البديعي، واسم هذا النوع، وهاتان الطريقتان في نظم البديع، طريقة الإربلي، وطريقة الزواوي، كان لهما أثر واضح في البديعيات التي ظهرت فيما بعد.

ولما انتشر المدح النبوي الانتشار العظيم الذي تحدثنا عنه، ولاقى إقبالا شديدا من الناس، مثل إقبالهم على فنون البديع، رأى أصحاب البديع أن يجمعوا بين البديع والمدائح النبوية، وأن يحملوا المدائح النبوية بديعهم، لينتشر بانتشارها، وتعرف فنونه بمطالعتها وإنشادها، فجمعوا في فن واحد أكثر الظواهر الأدبية انتشارا في عصرهم.

ومثلما كان شعراء المدح النبوي يدرجون في قصائدهم العقائد والدعوات الأخلاقية والاجتماعية، وغير ذلك ممّا يريدون نشره بين الناس، عمد بعض الشعراء إلى إدراج البديع في قصائدهم، لينشر وتعرف فنونه.

ويظهر أنهم أرادوا أن يظهروا مقدرتهم البديعية للناس، ليحصلوا على مجد أدبي من ناحية، وأرادوا مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم أملا بالمغفرة والثواب من ناحية ثانية، فكأنهم أرادوا أن يخرجوا بخيري الدنيا والآخرة.

(1) ابن المعطي الزواوي: يحيى بن عبد المعطي بن عبد النور، فقيه أديب لغوي، ناظم ناثر، له منظومات في العروض والقراآت، وله ديوان شعر وديوان خطب، توفي بالقاهرة سنة (628 هـ) . الحموي: ياقوت: معجم الأدباء 20/ 35.

(2)

السيد، فؤاد: فهرس المخطويات المصورة 1/ 409.

ص: 510

ويتضح هذا الأمر من دوافع صاحب أول بديعية (صفي الدين الحلي) ، الذي كان يعد العدة لتأليف كتاب جامع شامل في فنون البديع، لكن المرض أقعده عن إتمام مقصده، فعدل عن تأليف الكتاب، ونظم قصيدة، مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضمّنها أنواع البديع التي أراد تقييدها في كتابه، وقال عن ذلك:

«فعرضت لي علّة طالت مدتها، وامتدت شدتها، واتفق لي أن رأيت في المنام رسالة من النبي عليه أفضل الصلاة والسلام يتقاضاني المدح، ويعدني البرء من السقام، فعدلت عن تأليف الكتاب إلى نظم قصيدة تجمع أشتات البديع، وتتطرز بمدح مجده الرفيع» «1» .

فالحلي أراد أن يؤلف كتابا في البديع، وعزم على نظم قصيدة يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتقت في نفسه الرغبتان، وألّف بينهما بنظم قصيدة يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينظم فيها أنواع البديع التي هيأها لكتابه المنشود، فكانت البديعية.

وحين بحث الحلي عن شكل لقصيدته، كان أوّل ما تبادر إلى ذهنه أشهر مدحة نبوية آنذاك، وهي بردة البوصيري، فعارضها، أو أن قصة تأليفه لبديعيته المشابهة لقصة نظم البوصيري لقصيدته، هي التي أوحت إليه بأن يجعل قصيدته المنشودة على غرار بردة البوصيري أو برأته، التي شفي إثر نظمها من المرض، عسى أن يشفى هو أيضا من مرضه، فكانت بديعيته معارضة لقصيدة البوصيري، حملت وزنها وقوافيها وموضوعها وبعض عباراتها، وأضاف إليها فنون البديع، فكان الشكل الذي عرفت عليه البديعيات، إذ إن كل الذين جاؤوا بعده، ونظموا البديعيات، لم يخرجوا إلا نادرا عن هذا الشكل. فمعظم البديعيات مدح نبوي، ومعظمها على البحر البسيط وقافية الميم المكسورة، قافية البردة ووزنها.

(1) الحلي: شرح الكافية البديعية ص 54.

ص: 511

وقد أطلق الحلي على بديعيته اسم (الكافية البديعية في المدائح النبوية)، وبدأها بقوله في براعة المطلع:

إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم

واقرا السّلام على عرب بذي سلم

فقد ضمنت وجود الدّمع من عدم

لهم ولم أستطع مع ذاك منع دمي

أبيت والدّمع هام هامل سرب

والجسم في إضم لحم على وضم

من شأنه حمل أعباء الهوى كمدا

إذا همى شأنه بالدّمع لم يلم

من لي بكلّ غرير من ظبائهم

عزيز حسن يداوي الكلم بالكلم

بكلّ قدّ نضير لا نظير له

ما ينقضي أملي منه ولا ألمي

وكلّ لحظ أتى باسم ابن ذي يزن

في فتكه بالمعنّى أو أبي هرم «1»

فبعد أن جاء البيت الأول شاهدا على براعة الاستهلال والتجنيس المركّب والمشتبه في قوله (سلعا فسل عن) وكذلك في البيت الثاني الذي سمّاه التجنس الملفق في قوله (من عدم، منع دمي) ، وضرب في البيت الثالث مثلا على التجنيس المذيل واللاحق (هام، هامل) و (اضم، وضم) ، وجعل البيت الرابع شاهدا على الجناس التام والمطرف في قوله (شأنه، شأنه) و (ولم، يلم) . أما البيت الخامس فأورد فيه مثالا على الجناس المصحّف والمحرف في قوله (غرير، عزيز) و (الكلم، الكلم) . وفي البيت السادس شاهد على الجناس اللفظي والمقلوب في (نضير ونظير) و (أملي وألمي) . والبيت السابع جاء شاهدا على الجناس المعنوي في قوله (ابن ذي يزن) واسمه (سيف) و (أبو هرم) واسمه (سنان) .

(1) ديوان الحلي ص 685.

ص: 512

وتمضي القصيدة على هذا النحو، ظاهرها مدح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وباطنها عناية بالبديع، وإيراد لشواهده، فكأن الشاعر يريد نشر فضائل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته ومعجزاته، ونشر فن البديع بين الناس سواء بسواء.

وتابع الشعراء الحلي في صنيعه هذا، ولم يخرجوا عن الصورة التي وضعه بها، ومنهم ابن جابر الأندلسي الذي نظم بديعية سمّاها (الحلة السيرا في مدح خير الورى)، قال في مقدمتها:«فأنشأت في مدحه صلى الله عليه وسلم قصيدة وشيّت بألقاب البديع بردها، وتوخيت فيها من موارد الثناء، ما يجد المؤمن على قلبه بردها» «1» وبدأها بقوله:

بطيبة انزل ويمّم سيّد الأمم

وانشر له المدح وانثر أطيب الكلم

وابذل دموعك واعدل كلّ مصطبر

والحق بمن سار والحظ ما على العلم

سنا نبيّ أبيّ أن يضيّعنا

سليل مجد سليم العرض محترم

جميل خلق على حقّ جزيل ندى

هدى وفاض ندى كفّيه كالدّيم «2»

وهذه الأبيات شواهد على براعة الاستهلال والجناس بأنواعه.

ثم أتى عز الدين الموصلي «3» ، فتابع صاحبيه، ونظم بديعية مماثلة لبديعيتيهما، لكنه زاد عليهم ذكر اسم النوع البديعي الذي يدرجه في البيت، فزاد الأمر تعقيدا على تعقيد، واقترب بالبديعيات أكثر نحو المنظومات التعليمية الصرفة، فقال فيها:

براعتي تستهلّ الدّمع في العلم

عبارة عن نداء المفرد العلم

ملفّق ظاهر سرّي وشان دمي

لمّا جرى من عيوني إذ وشى ندمي

يذيّل الدّمع جار جارح بأذى

كلاحق ماحق الآثار في الأكم «4»

(1) ابن جابر: الحلة السيرا ص 27.

(2)

المصدر نفسه ص 28.

(3)

عز الدين الموصلي: علي بن الحسين بن علي، أديب شاعر، أقام في حلب وانتقل إلى دمشق، وفيها توفي سنة (789 هـ) . الدرر الكامنة: 3/ 112.

(4)

ابن حجة: خزانة الأدب ص 12 وما بعدها.

ص: 513

وجاء بعد الموصلي شعراء كثيرون، نظموا بديعيات نبوية، ومنهم ابن حجة الحموي الذي نظم بديعية، سمّاها (تقديم أبي بكر) ، ذكر في أبياتها اسم النوع البديعي الذي يستشهد عليه، فقال:

لي في ابتدا مدحكم يا عرب ذي سلم

براعة تستهلّ الدّمع في العلم

بالله سر بي فسربي طلّقوا وطني

وركّبوا في ضلوعي مطلق السّقم

ورمت تلفيق صبرى كي أرى قدمي

يسعى معي، فسعى لكن أراق دمي

وذيّل الهمّ همل الدّمع لي فجرى

كلا حق الغيث حيث الأرض في ضرم «1»

وكثر بعد ذلك نظّام البديعيات كثرة مفرطة، فكل شاعر أحب أن تكون له مشاركة في هذا الفن الذي يدل على براعة ومقدرة كانت موضع احترام وتقدير في ذلك الوقت، فتباروا في تطويلها وزيادة أنواع البديع التي يوردونها فيها، ومنهم السيوطي الذي نظم بديعية، أطلق عليها اسم (نظم البديع في مدح خير شفيع)، ومطلعها:

من العقيق ومن تذكار ذي سلم

براعة العين في استهلالها بدم «2»

وللباعونية بديعيتان، الأولى أطلقت عليها اسم (بديع البديع في مدح الشفيع)، ومطلها:

في حسن مطلع أقمار بذي سلم

أصبحت في زمرة العشّاق كالعلم «3»

والثانية سمّتها (الفتح المبين في مدح الأمين)، ومطلعها:

عن مبتدأ خبر الجرعاء من إضم

حدّث ولا تنس ذكر البان والعلم «4»

(1) ابن حجة: خزانة الأدب ص 12 وما بعدها.

(2)

السيوطي: شرح نظم البديع ص 2.

(3)

ديوان الباعونية: ورقة 2.

(4)

المصدر نفسه: ورقة 15.

ص: 514

وظل الشعراء بعد العصر المملوكي ينظمون هذا اللون من المدح النبوي.

وبذلك يتضح لنا أن الهدف الأول من البديعيات هو نشر فنون البديع، وأنهم جعلوا المدح النبوي حاملا لبديعهم، ولم يجدوا وسيلة أكثر انتشارا لتعميم فنون البديع من المدح النبوي.

وقد اتسمت البديعيات بالتصنع والتكلف، لأن الشاعر يبذل جهدا عظيما في الملاءمة بين معاني المدح النبوي وبين إيراد النوع البديعي وسبك شاهده، وهذا جهد عقلي محض يذهب بالشاعرية والرواء الشعري. ويدخل الشاعر في المعاظلة والضرورات الشعرية، ويحيل القصيدة إلى معان جامدة، تفتقد حرارة العاطفة، وإن وجدت التعابير الجامدة التي تشير إلى وجود عاطفة مشبوبة عند الناظم.

وإلى جانب ذلك تحجرت البديعيات على شكل معين، يندر أن يخرج عليه أصحابها، وهو الشكل الذي جاءت عليه أول بديعية، وهي بديعية صفي الدين الحلي، التي عارض بها بردة البوصيري، فأصبح المدح النبوي أحد لوازم البديعيات الذي لا تحيد عنه، وأصبح البحر البسيط وزن البديعيات الموحد، وأضحت قافية الميم المكسورة هي القافية التي لا يدعها أصحاب البديعيات، فماذا بقي للمتأخر ليضيفه إلى المتقدم؟

ولذلك ظهرت منذ البداية نظرات نقدية للبديعيات من أصحابها أنفسهم، فابن حجة الحموي، صاحب إحدى البديعيات، والذي شرح بديعيته بكتابه الكبير (خزانة الأدب) ، وقارنها بالبديعيات التي سبقته، أكثر من انتقاد من سبقوه إلى نظم البديعيات، وأخذ عليهم ماخذ عدة، فحين تطرق إلى أبيات البديعيات التي تنظم أنواع الجناس، عقّب على بيتي الجناس في بديعية ابن جابر بقوله:

«ولكن لم يخف ما في البيتين من الثقل مع خفة الالتزام» «1» .

(1) ابن حجة: خزانة الأدب ص 26.

ص: 515

وقال عند إيراد بيت عز الدين الموصلي:

لقد تفيهقت بالتّشديق في عذلي

كيف النّزاهة عن ذا الأشدق الخصم

«هذا البيت، شموس إيضاحه آفلة في غيوم العقادة

إن ألفاظ عز الدين في بيته، ينفر منها الجان» «1» .

فإلى هذا الحد وصل التعقيد، ووصل التصنع والتكلف الذي أدى إليه ربط المدح النبوي بالبديع في قصيدة واحدة.

وأعاد ابن حجة كلامه هذا عن قصيدة الموصلي، فقال:«ولكن ما أسكن بيته قرينة صالحة لبيانه، ولا غرّدت حمائم الإيضاح على أفنانه» «2»

وقال عن الغموض الذي وقع به عز الدين الموصلي، نتيجة لتكلفه تلفيق المعنى بين المدح النبوي والبديع: نظم المغايرة، ولكن غاير بها الأفهام، وما أرانا من عقادة بيته غير الإبهام» «3» .

وتساءل مستغربا في حديثه عن أحد أبيات بديعية الحلي، بقوله:«وعجبت للشيخ صفي الدين، كيف استحسن هذا البيت، ونظمه في سلك أبيات بديعيته، مع ما فيه من الركة والنظم السافل» «4» .

وأحسن ابن حجة حين عقّب على بيت لابن جابر بقوله: «استسمن من وجه هذا البيت ذا ورم، ونفخ من نفسه في غير ضرم، وهذا لعمري جهد من لا جهد له» «5» .

(1) ابن حجة: خزانة الأدب ص 77.

(2)

المصدر نفسه: 97.

(3)

المصدر نفسه: ص 109.

(4)

المصدر نفسه: ص 130.

(5)

المصدر نفسه: ص 133.

ص: 516

إن كثيرا من البديعيات أتت على هذا النحو من التكلف والتصنع، ومع ذلك نجد أصحابها يشيدون بها ويدلّون على أهل الأدب بإبداعها، وهم لم يزيدوا الأدب شيئا، ولا أضافوا إلى البديع مفيدا، ولكنه التصنع الذي أدار رؤوس القوم، فظنوا الإغراق فيه الإبداع الذي ما بعده إبداع، وهذا ما جعل بعض أصحاب البديعيات يتبرمون بكثير مما نظم في هذا الباب، فقال ابن حجة عن بديعية ابن جابر:

«البديعية غالبها سافل على هذا النمط» «1» .

ولم يسلم ابن حجة نفسه من الانتقاد، فألّفت الكتب التي ترد عليه انتقاده للآخرين، وتظهر عيوب بديعيته وخطل ما يذهب إليه في شرحها، ومن ذلك كتاب (إقامة الحجة على ابن حجة) ، تعقّب صاحبه فيه ابن حجة في بديعيته وشرحها، فقال عن شواهد ابن حجة على الاطراد:«وكلها والله من سقط المتاع، الذي لا يباع والله أعلم» «2» .

وأظهر صاحب الكتاب كيف جارت الصنعة البديعية على المعنى في بديعية ابن حجة، حين قال عن بيت ابن حجة:

إبداع أخلاقه إيداع خالقه

في زخرف الشّعرا فاسمع بها وهم

«معنى هذا البيت مختل اختلالا ظاهرا، لأنه أراد بقوله في زخرف الشعراء، السورتين الكريمتين، فليس لإضافة الزخرف إلى الشعراء معنى بوجه من الوجوه، ولا مجاورة بينهما في الترتيب التوفيقي، وإن أراد به كلام الشعراء وقولهم، فالأمر أعظم خطرا، وإنني لأعجب أشد العجب من أمرين: أحدهما، سكوت أهل الأدب عند إيراد

(1) ابن حجة: خزانة الأدب ص 399.

(2)

ابن شهاب الحضرمي: إقامة الحجة ص 29.

ص: 517

هذا البيت عمّا فيه من الخلل، والثاني، أن الناظم لم يلبث مع اختلال بيته أن ادعى له الجمع بين اثني عشر نوعا من البديع، مع أن الأمر بخلاف ما ادعاه» «1» .

صحيح أن الناقد بالغ وقسا، وحمّل الكلام أكثر مما يحتمل، إلا أن هذا يدل على أن الأدباء كانوا لا يرتاحون تماما إلى هذا اللون من النظم، وأن الإشادة به كانت نابعة من موضوعه السامي، وهو المدح النبوي، ومن اشتماله على فنون البديع التي فتنت أدباء ذلك العصر وأهله، وأن المزاوجة بين المدح النبوي والبديع لم تكن ناجحة، ولم تضف جديدا إلى أدب ذلك العصر وبديعه، وإن أرضت الذوق العام السائد في تلك الأيام.

فالبديعيات يمكن أن تعد مرحلة وسطى بين الشعر والنظم، هي شعر لأنها تحوي موضوعا شعريا هو المدح النبوي، ولأنه تتخللها بعض مظاهر الشعر من فن كلامي وعاطفة وخيال، وهي نظم علمي، لأنها ذكر لفنون البديع، وإيراد الشواهد عليها، وقلما نجح شاعر في إقامة هذا التوازن، وتحقيق المعادلة الصحيحة بين المدح النبوي والبديع، وغالبا ما كان الجانب البديعي يطغى على الجانب الشعري في البديعيات، وقد يكون هذا عائدا إلى أن معظم الذين شاركوا في نظم البديعيات كانوا من العلماء، وحتى الشعراء الذين نظموا البديعيات، والذين أحسنوا نظم المدح النبوي، كانت شاعريتهم تضمحل حين ينظمون البديعيات، ويبدو أنهم فهموا البديعيات على أنها منظومات تعليمية، طعمت بموضوع سام، ولذلك لا مجال لإظهار الشاعرية فيها، وأن المهم فيها أن يكمل الناظم في بديعيته أصناف البديع، وأن يمثّل لها وأن يلائم بين ذلك وبين التعبير عن معاني المدح النبوي.

فالبديعيات كانت نهاية ازدياد استخدام البديع في المدح النبوي.

(1) ابن شهاب الدين الحضرمي: إقامة الحجة ص 54.

ص: 518