الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الأول- الشكل الشعري:
ذكر الأماكن:
أول ما نجده في مضمون المدحة النبوية هو المقدمة أو التمهيد، وهي سنّة قديمة في قصائد المدح العربية، أخذها مدّاح النبي الأمين وغيّروا فيها لتتلاءم مع مدحهم لسيد الخلق.
والمقدمة تحتوي مواضيع متنوعة، منها الوقوف على الأطلال، وهو تقديم قديم، يراد منه إثارة مشاعر المتلقي، وخلق الجو النفسي الذي يهيّئه لسماع مضمون القصيدة، ويشدّه لمتابعة ما يأتي به الشاعر، ويجعله أقرب إلى التأثر بما يريده.
وكانت مقدمات المدائح النبوية في بداية أمرها تقليدية خالصة، لأن شعراء المديح النبوي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن أمامهم مثال يحتذونه، فلم يخرجوا في مدحهم له عمّا عرفوه في مدح غيره، إلا بإضافة بعض المعاني الإسلامية إلى مديحهم.
فظلوا يقدمون لمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتادوا على تقديمه في مدح غيره، لأنه لم ترسخ المفاهيم الإسلامية في صنعتهم الشعرية، ولم يتح لهم الوقت الكافي ليجسّدوا مفهوم النبوة شعريا، وظلوا على تقاليدهم الشعرية التي رسخت في وجدانهم.
ومن العجب أن نجد شعراء المدح النبوي في العصر المملوكي يقلدون الشعر الذي مدحه به الشعراء القدامى في الوقوف على الأطلال ويفتتحون به مديحهم النبوي، وربما لم يروا طللا، لكنها سنة الشعراء التي تعطي الشاعر شيئا من الأصالة التي يريد أن يدلّ بها على غيره.
فالصرصري مثلا، يقدّم لإحدى مدائحه النبوية بقوله:
لمن طلل دون الرّبا والتّنائث
…
يعفّى بأيدي العاصفات العوائث
ومنخرق السّربال يخترق الفلا
…
ويقدم إقدام الشّجاع الدّلاهث
فقلت له إن رمت أمنا وعزّة
…
فعذ من عوادي النّائبات الكوارث
بأفضل مبعوث إلى خير أمّة
…
بخير كتاب جاء من خير باعث «1»
وبعد أن وقف الصرصري على أطلاله المزعومة، التي أذكت شوقه وحنينه على طريقة الشعراء القدامى، تحدث عن رحلته وراحلته التي أوصلته إلى الحجاز، وأوصله الحديث عنها إلى مديحه.
وأخذ شعراء المديح النبوي يستعيضون شيئا فشيئا عن ذكر الأطلال والديار التي درج عليها الشعراء بذكر الأماكن الحجازية، والتشوق إليها، لأنها الأنسب للمديح النبوي، فهذه الأماكن مقدسة عند المسلمين، تهفو إليها أفئدتهم، وهي التي شهدت ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشأته وبعثته وجهاده وانتقاله إلى جوار ربه، وضمّت جسده الطاهر، فذكرها يوصل إلى ذكر من شرفت به، إضافة إلى أنه يهيّئ المتلقي لسماع المديح النبوي، بعد أن يذكر له هذه الأماكن التي تثير حنينه، وتشيع في نفسه القداسة والصفاء.
وكان شعراء العصر السابق للعصر المملوكي قد فتنوا بالتشوق للأماكن المقدسة، وجعلوه فنا شعريا مستقلا، لما أشاعه المتصوفة في شعرهم من وجد وهيام بهذه الأماكن، وقد وردت معنا أمثلة وافية عند الحديث عن شعر التشوق إلى الأماكن المقدسة. والملفت للنظر في ذكر المقدسات، تغزل شعراء المديح النبوي بالكعبة المشرفة،
(1) ديوان الصرصري، ورقمه 19.
وبثها الأشواق والحنين، ومخاطبتها مخاطبة المحبوبة، فالصرصري يسميها ربّة الستور، ويرمز لها باسم حبيبته، فيقول:
تهت يا ربّة السّتور على الصّ
…
بّ دلالا وعزّ منك اللّقاء
آه لو بلّغت إليك على بع
…
د مغانيك جسرة وجناء «1»
ويصفها العزازي بذات الخال، فيقول مفتتحا إحدى مدائحه النبوية:
دمي بأطلال ذات الخال مطلول
…
وجيش صبري مهزوم ومفلول «2»
ويصرّح ابن الزملكاني «3» بحبه للكعبة ربّة الأستار بقوله:
أهواك يا ربّة الأستار أهواك
…
وإن تباعد عن مغناي مغناك
وأعمل العيس والأشواق ترشدني
…
عسى يشاهد معناك معنّاك
يا ربّة الحرم العالي الأمين لمن
…
وافاه من أين هذا الأمن لولاك
وقد حططّت رحالي في حماك عسى
…
تحطّ أثقال أوزاري بلقياك «4»
وهكذا أصبح ذكر الأماكن المقدسة تقليدا ثابتا في مقدمة المدحة النبوية، تثير لدى الشعراء والمتلقين معا مشاعر الوجد الديني، والحنين إلى مهبط الوحي، وتشيع في حنايا نفوسهم دفء الطمأنينة والقداسة فإظهار الشوق إلى الأماكن المقدسة، يكاد لا تخلو منه مقدمة مدحة نبوية، وهو الذي يظهر عواطف الشاعر، ويجلو مشاعره، ويحرّك المشاعر
(1) ديوان الصرصري: ورقة 12.
(2)
ابن تغري بردي: المنهل الصافي 1/ 341.
(3)
ابن الزملكاني: محمد بن علي بن عبد الواحد الأنصاري، فقيه انتهت إليه رئاسة الشافعية في عصره، تولّى عدة أعمال. له كتاب (عجالة الراكب في أشرف المناقب)، توفي سنة (727 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 4/ 7.
(4)
الصفدي: الوافي بالوفيات: 4/ 217.
الدينية في نفوس السامعين، لذلك افتتح به كثير من شعراء المدائح النبوية قصائدهم، متجاوزين الوقوف على الأطلال، مظهرين براعتهم في استمالة النفوس إلى نفثات أرواحهم، وإلى إجادتهم للنسيب الرمزي الذي ترتاح إليه القلوب، ويزداد هذا الشوق حرقة وتأججا، حين يجد الشاعر موانع قاسية تحول بينه وبين الوصول إلى الحجاز، وخاصة حين يكون بلده بعيدا جدا عنه، مثل المغاربة الذين كانوا يكابدون مشقات جمّة للوصول إلى الحجاز، فابن سعيد «1» وصل بعد جهد وعناء إلى الإسكندرية، لكنه تعذّر عليه الحج، فنظم فيها مدحة نبوية أودعها شوقه وحنينه، وافتتحها بقوله:
وارحمة لمتيّم ذي غربة
…
ومع التّغرّب فاته ما يقصد
قد سار من أقصى المغارب قاصدا
…
من لذّ فيه مسيره إذ يجهد
لا طاب عيشي أو أحلّ بطيبة
…
أفقا به خير الأنام محمّد «2»
وإن كان ابن سعيد قد لمّح إلى سبب شوقه ووجده، وتجشمه المصاعب، فإن النواجي «3» قد بدأ مدحته النبوية ببيان سبب الشوق، ودواعي الرحيل، فقال:
إليك رسول الله جبنا الفلا وخدا
…
ولولاك لم نهو العقيق ولا الرّندا
ولولا اشتياقي أن أراك بمقلتي
…
لما كنت أشتاق الغوير ولا نجدا «4»
(1) ابن سعيد: علي بن موسى، ورد من المغرب وجال في الديار المصرية والعراق والشام، جمع وصنّف ونظم، وهو صاحب كتاب (المغرب في أخبار المغرب) و (المرقص والمطرب) توفي بدمشق سنة (673 هـ) . ابن شاكر: فوات الوفيات 3/ 103.
(2)
المقري: نفح الطيب 2/ 313.
(3)
النواجي: محمد بن حسن بن علي بن عثمان، عالم بالأدب، نقّاد، له شعر، مولده ووفاته بالقاهرة؛ له كتاب (حلية الكميت) وكتاب (المطالع الشمسية في المدائح النبوية، توفي سنة (859 هـ) . السخاوي: الضوء اللامع 7/ 229.
(4)
المجموعة النبهانية: 2/ 41.